إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 256 ـ 270
(256)
التوقف عليه.
    2. أن تكون المقدمة منحصرة به ، ولكن لم يكن الابتلاء بها عن سوء الاختيار ، فلو كان الواجب أهمّ من حرمة المقدّمة ليطرأ عليها الوجوب ، كالمحبوس في مكان مغصوب إذا أُطلق سراحه فيكون الخروج واجباً على فرض وجوب ترك البقاء.
    3. تلك الصورة ولكن كان الابتلاء بسوء الاختيار كما في المقام ، فلا توصف المقدّمة بالخروج شرعاً وإن كان الواجب أهمّ من المقدمة ، غير أنّ العقل يحكم بالخروج حذراً من أشدّ المحذورين.
    وثانياً : لو قلنا بوجوب المقدمة ( الخروج ) في هذه الحالة يلزم أن تكون حرمة الخروج ووجوبها ، معلّقة على إرادة المكلّف ، فلو لم يدخل ، يبقى الخروج على حرمته ، لكونه من مصاديق الغصب ؛ وإن دخل ، صار واجباً بحكم كونه مقدّمة للواجب. (1)
    والأولى أن يجاب بأنّ أصل الدليل باطل ، لأنّه مبني على وجوب « ترك البقاء » الذي مقدّمته الخروج ، مع أنّ الحكم الشرعي في المقام هو حرمة الغصب ، لا وجوب ترك البقاء ، اللّهم إلا إذا قلنا بأنّه إذا حرم الشيء ( البقاء بما أنّه من مصاديق الغصب ) ، وجب تركه أخذاً بالقاعدة المعروفة من أنّ حرمة الشيء تستلزم وجوب ضدّه العام ـ أي الترك ـ وقد عرفت في مبحث الضدّ عدم صحته.
    الثاني : انّ التصرّف في أرض الغير حرام دخولاً وبقاءً ، وأمّا التصرّف الخروجي فليس بحرام ، أمّا قبل الدخول فلعدم التمكّن منه ، وأمّا بعده فلكونه
1. كفاية الأُصول : 1/264 ـ 265.

(257)
مضطرّاً إليه لانّه سبب للتخلص ، فحاله حال من يشرب الخمر للتخلص عن الوقوع في التهلكة.
    وأجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة :
    1. بالنقض بالبقاء فانّه غير مقدور قبل الدخول ، مع أنّه حرام ، وبالنقض بالأفعال التوليدية ـ كالإحراق ـ المترتّبة على الأفعال المباشرية ـ كالإلقاء ـ فإنّ تركها بتركها وإيجادها بإيجادها.
    2. بالحل فانّ التصرّف الخروجي مقدور ، غاية الأمر انّه مقدور بالواسطة ، فتركه بترك الدخول ، والمقدور بالواسطة مقدور أيضاً ، وكون ترك الخروج بترك الدخول من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع لا يضرّ في صدق المقدورية.
    وإلى هذا الوجه أشار بقوله : « ضرورة تمكّنه من ( ترك الخروج ) قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره ، وبالجملة كان قبل ذلك متمكّناً من التصرّف خروجاً كما يتمكّن منه دخولاً غاية الأمر يتمكّن من الدخول بلا واسطة ، ومن الخروج بالواسطة ، ومجرّد عدم التمكّن منه إلا بالواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً.
    3. انّ قياس الخروج بشرب الخمر لأجل التخلّص من الهلكة قياس مع الفارق ، لأنّ اضطراره إلى شرب الخمر لم يكن بسوء الاختيار ، كما إذا لسعه العقرب فاضطرّ إلى شرب الخمر بتجويز الطبيب ، بخلاف المقام.
    وإلى هذا الوجه أشار بقوله : « ومن هنا ظهر حال شرب الخمر ... ».
    ونشير في المقام إلى نكتتين :
    الأُولى : انّ الاستدلال والإجابة مبنيّان على أنّ كلا ًمن الدخول والبقاء ، والخروج متعلّقات للحرمة بعناوينها ، فعندئذ يُوجَّه استدلال الشيخ بأنّه كيف يكون الخروج حراماً ، مع أنّه غير مقدور ؟ كما يوجّه إجابة المحقق الخراساني بأنّه


(258)
مقدور بالواسطة.
    ولكن الحقّ أنّ هنا حكماً واحداً متعلّقاً بموضوع واحد ، وهو حرمة التصرف في مال الغير إذا كان بسوء الاختيار ، فكلّ من الدخول والبقاء والخروج ، حرام لأجل انّها من مصاديق التقلّب في مال الغير والتصرّف فيه ، لا بما أنّه دخول ، أو بقاء ، أو خروج ، فوصف التصرّف بهذه العناوين إنّما هو من جانب المكلّف لا من جانب الشارع ، وعندئذ يسقط البرهان ، ومع سقوطه لا يبقى مجال للإجابة.
    الثانية : انّ الشيخ شبّه المقام بمن يضطرّ إلى شرب الخمر للنجاة من الهلكة ولكنّه في غير موقعه ، إذ في مورد الخمر حكمان شرعيان.
    أ. وجوب حفظ النفس من الهلكة.
    ب. حرمة شرب الخمر.
    فإذا كان الأوّل أهمّ في نظر الشارع يقدّم حكمه على حرمة المقدّمة ( الخمر ). بخلاف المقام ، إذ ليس فيه إلا تكليف واحد وهو حرمة التصرّف في مال الغير ، وأمّا وجوب التخلّص من الغير ، أو ردّه إليه ، أو الخروج من المغصوب فكلّها أحكام عقلية مشتقة من حكم الشارع بحرمة الغصب ، فليس في المقام حكمان شرعيان يكون أحدهما أهمّ من الآخر.
    الثالث : كيف يكون مثل الخروج ممنوعاً عنه شرعاً ومعاقباً عليه عقلاً ، مع بقاء ما يتوقّف عليه ( ترك البقاء أو التخلّص من الغصب ) على وجوبه ، لوضوح سقوط وجوب ذي المقدّمة مع امتناع المقدّمة المنحصرة ولو كان بسوء الاختيار ، والعقل قد استقل فانّ الممنوع شرعاً كالممنوع عادة أو عقلاً ؟
    أقول : هذا هو الوجه الثالث الذي استدلّ به الشيخ على وجوب الخروج ، وأساسه هو تسليم وجوب « ترك البقاء » أو « التخلّص من الغصب » ومع فرض


(259)
وجوب ذيها ، لا تعقل حرمة المقدّمة ، تنزيلاً للممنوع الشرعي منزلة الامتناع العقلي.
    وأجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :
    1. إنّما يكون الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً إذا لم يكن هناك إرشاد من العقل إلى لزوم الأخذ بأقل المحذورين والخروج ليتخلّص عن أشدّهما ، ومع حكم العقل بالخروج ، لا يكون الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً.
    يلاحظ على هذا الجواب : هو وجود التناقض بين ايجاب ذي المقدّمة شرعاً ( وجوب التخلّص ) وتحريم مقدّمتها ، فانّ إيجاب ذيها ، يلازم إيجاب مقدّمتها ، أو لا أقل من عدم تحريم المقدّمة ، فإيجاب ذيها مع تحريم مقدّمته ممّا لا يجتمعان.
    2. انّ الخروج عن هذا المأزق ـ لا يصحّ إيجاب الشيء مع تحريم مقدّمته ، وانّ ارشاد العقل إلى الخروج غير كاف ـ كما يتحقّق بتحليل المقدّمة ( الخروج ) ، يتحقّق بنحو آخر أيضاً وهو سقوط وجوب ذيها ، أعني : « وجوب ترك البقاء » أو « التخلّص من الغصب » ، وبكلمة جامعة سقوط « حرمة الغصب » بعد الدخول للعصيان فانّه أحد أسباب سقوط التكليف ويتبعه عدم وجوب المقدّمة ، مع بقاء حكم العقل بالخروج حذراً من أشدّ المحذورين كما حقّقناه.
    إلى هنا تمّت دراسة القول الثاني ، وإليك دراسة القول الثالث وهو قول صاحب الفصول.
    القول الثالث : مأمور به ، ومنهي بالنهي الساقط
    ذهب المحقّق صاحب الفصول إلى قول ثالث مركّب من جزءين :


(260)
    1. الخروج مأمور به وواجب شرعاً.
    2. انّه منهيّ عنه بالنهي السابق الساقط.
    فقد وافقه الشيخ الأنصاري في الجزء الأوّل ، كما وافقه المحقّق الخراساني في الجزء الثاني ، فلو كان هنا ردّ عليه من المحقّق الخراساني ، فلابدّ أن يتوجّه إلى الجزء الأوّل دون الثاني ولذلك ردّ على الأوّل بأُمور :
    أ : ما قد مرّ في دراسة نظرية الأنصاري أنّه لا وجه لوجوب الخـروج شرعاً.
    ب : انّه يستلزم اتصاف فعل واحد ( الخروج ) بعنوان واحد بالوجوب والحرمة.
    فإن قلت : إنّه لا مانع من اجتماع حكمين مختلفين ، لاختلاف زمان تعلّقهما ، لأنّ زمان تعلّق الحرمة هو قبل الدخول ، وزمان تعلّق الوجوب بعد الدخول والتصرف في الأرض.
    قلت : لا ينفع اختلاف زمان التعلّق ، مع اتّحاد زمان الفعل المتعلّق به ، وإنّما المفيد ، اختلاف زمان الفعل ولو مع اتحاد زمانهما ، فلو نهى يوم الأربعاء عن صوم يوم الجمعة ، وأمر يوم الخميس بصوم ذلك اليوم ، لزم التكليف بالمحال ، وإن كان زمان التعلّق مختلفاً ، بخلاف ما لو أمر ونهى ـ ولو في آن واحد ـ بصوم يوم الخميس ونهى عن صوم يوم الجمعة ، والمقام من قبيل القسم الأوّل ، لأنّ الدخول منهي عنه بالنهي السابق على الدخول ومأمور به بالأمر اللاحق بعد الدخول فزمان التعلّق وإن كان مختلفاً ، لكن زمان الفعل والامتثال واحد.
    فإن قلت : إنّ النهي مطلق يعم الحالات الثلاث : الدخول والبقاء والخروج ، والأمر بالخروج مشروط بالدخول ، فلا منافاة بينهما.


(261)
    قلت : كيف لا منافاة بينهما ، مع أنّ المأمور به ، قسم من المنهي عنه ، وشمول إطلاق المنهيّ عنه لخصوص الخروج بعد الدخول ، ينافي كونه واجباً بالخصوص.
    هذا توضيح مقالة المحقّق الخراساني ، حول نقد القول الثالث لصاحب الفصول.
    أقول : ما أفاده من أنّه لا دليل على وجوب الخروج حق لا غبار عليه ، إنّما الكلام فيما ذكره من امتناع كون الخروج محرّماً بالنهي السابق الساقط وواجباً بعد الدخول لاستلزامه طلب المحال. ذلك لأنّه إنّما يلزم طلب المحال لو كان النهي باقياً في ظرف امتثال الأمر بالخروج ، وأمّا إذا كان ساقطاً في نفس ذلك الظرف فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.
    وما ذكره من أنّ الميزان في الصحة والامتناع اختلاف زمان الفعل والامتثال ووحدتهما وإن كان صحيحاً ، لكن وحدة المتعلّق إنّما تكون سبباً للامتناع إذا كان كلا الحكمين باقياً إلى زمان الامتثال ، دونما إذا كان أحدهما ساقطاً بالعصيان ـ كما في المقام ـ أو بالنسخ كما في غيره.
    والمقام نظير ما لو أمر يوم الأربعاء بصوم يوم الجمعة ، ونهى عنه يوم الخميس ، ومع ذلك نَسخ أحد الحكمين قُبيل ظرف الامتثال.
    وجريان حكم المعصية ، ليس بمعنى بقاء الخطاب والحكم ، بل بمعنى انّه كان قبل الدخول قادراً على امتثال « لا تغصب » بأقسامه الثلاثة ، ولماعصى باختياره ، يعاقب على الخروج لأجل أنّه بالدخول ، أعجز نفسه عن امتثال الخطاب في مورد هذا المصداق ، وهذا غير بقاء الخطاب والحكم في حال الخروج.


(262)
    فإن قلت : انّ الخروج إن كان مشتملاً على المفسدة امتنع تعلّق الأمر به ، وإن كان مشتملاً على المصلحة امتنع تعلّق النهي به.
    قلت : قد مرّ أنّ المصالح والمفاسد ، ليست من الأعراض القائمة بالفعل حتّى يمتنع اجتماعهما في الموضوع كالبياض والسواد ، وإنّما هي جهات خارجية راجعة إلى حياة الفرد والمجتمع ، ولا مانع من أن يكون الشيء ذا مصلحة من جهة ومفسدة من جهة أُخرى.
    إلى هنا تبيّن حال القول الثالث ، فلندرس القول الرابع وهو قول أبي هاشم الجبائي والمحقّق القمي.
    القول الرابع : انّه مأمور به ومنهيّ عنه
    ذهب أبوهاشم الجبائي ( المتوفّى 321 هـ ) والمحقّق القمي ( المتوفّى 1231 هـ ) إلى أنّ الخروج مأمور به ومنهي عنه وكلاهما فعليان.
    وقد استدلّ لهذا القول ـ كما نقله المحقّق الخراساني في آخر كلامه حول هذا القول ـ بأنّ الأمر بالتخلّص ، والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما ، ولا موجب للتقييد عقلاً ، لعدم استحالة كون الخروج واجباً وحراماً باعتبارين مختلفين ( التخلّص والغصب ).
    إذ منشأ الاستحالة :
    إمّا لزوم اجتماع الضدين ، وهو غير لازم مع تعدّد الجهة.
    وإمّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهو ليس بمحال إذا كان مسبباً عن سوء الاختيار.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه :


(263)
    أوّلاً : من لزوم التقييد وتقديم أحدهما على الآخر ، فيما إذا تعدّد العنوان ، والجهة حقيقة ، كما إذا تعلّق الأمر بعنوان الصلاة ، والنهي بعنوان الغصب ، وإلا يلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد وهو الفعل الخارجي لتعلّق الأحكام بالمصاديق دون العنوانين.
    ثانياً : لو قلنا بالجواز هناك فلا نقول بالجواز في المقام لعدم تعدد الجهة ، وذلك لأنّ عنوان التخلّص ليس عنواناً تقييدياً حتّى يتعلّق الأمر به والنهي بالغصب وإنّما هو عنوان انتزاعي ، ينتزع من خروج الغاصب عن أرض الغير ، وهو علّة غائية وليس بموضوع للحكم ، كأنّ الشارع يقول أخرج لأجل التخلّص من الغصب فيلزم اجتماع الأمر والنهي في موضوع واحد وهو الخروج.
    وثالثاً : انّ التكليف بالمحال محال حتى وإن كان بسوء الاختيار ، وما ربّما قيل من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فالمراد به انّه لا ينافي عقاباً وملاكاً ، لا انّه لا ينافي خطاباً وحكماً ، لوضوح قبح خطاب العاجز وإن كان السبب للعجز هو نفسه.
    ورابعاً : انّ القاعدة لا صلة لها بالمقام ، وقد وردت في ردّ الأشاعرة حيث أنكروا القاعدة الفلسفية ، أعني : « الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، بأنّه يستلزم الجبر ، لأنّ تحقّق المعلول لو كان رهن وصوله إلى حالة الوجوب ، يخرج عن اختيار الفاعل ويستلزم الجبر.
    فأُجيب بأنّ إيجاب المعلول ووصوله إلى حدّ اللزوم والوجوب لما كان باختيار الفاعل فلا يكون هذا النوع من الإيجاب والامتناع أمراً غير اختياري ، لأنّ الفاعل هو الذي أضفى على الممكن ـ عند إيجاده أو إعدامه ـ وصفَ الوجوب والامتناع باختياره فالفاعل ، فاعل موجِب ( بالكسر ) لا موجَب ( بالفتح ).


(264)
    القول الخامس : ليس محكوماً بحكم فعلاً مع جريان المعصية
    وهذا القول هو مختار المحقّق الخراساني وخيرة شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ وقد مرّ تفصيلاً فلا نعيده.
    القول السادس : انّه منهي عنه ومأمور به بالترتّب
    نقل السيد المحقّق البروجردي هذا الوجه في درسه الشريف ، وهو انّه منهي عنه ومأمور به بالترتّب ، فكأنّه قال : لا تغصب وهو يشمل الأقسام الثلاثة ، ثمّ قال : فإن عصيت بالدخول فأخرج.
    يلاحظ عليه : بوجود الفرق بين الترتّب والمقام ، وذلك : انّ في الترتّب أمرين يتعلّق أحدهما بالأهم والآخر بالمهم مقيّداً بعصيان الأوّل ولو تركهما يعاقب على كلا العصيانين.
    وأمّا المقام فليس هنا إلا تكليف واحد وهو النهي عن التصرّف في ملك الغير ، بدون إذنه ، وأمّا الأمر بالخروج فهو حكم العقل ، ليدفع أشد المحذورين بأخفّهما ، دون أن يكون هنا حكم من الشرع متعلّق به.
    تمّ الكلام في مسألة من توسط أرض الغير بلا إذن ، أو مع النهي ، في الموردين :
    1. حكم الدخول ، 2. حكم الخروج.
    بقي الكلام في المورد الثالث وهو حكم العبادة حين الخروج ، وإليك دراسته :


(265)
    المورد الثالث : حكم العبادة حين الخروج
    إذا صلّى حال الخروج جامعة لسائر الشرائط فالمشهور هو القول بالصحّة عند ضيق الوقت والبطلان عند سعته.
    ولكنّه لا ينطبق على القواعد ، لأنّه لو قلنا بجواز الاجتماع أو بالامتناع لكن قدّمنا الأمر فمقتضى القاعدة هو الصحة مطلقاً ، ولو قدّمنا النهي فاللازم هو البطلان من دون فرق بين سعة الوقت وضيقه ، وعندئذ لا محيص من ذكر الصور المتصوّرة مع بيان مقتضى القاعدة فيها.
    1. إذا قلنا بجواز الاجتماع وإمكان تمشّي القربة فالصلاة في الأرض المتوسطة مطلقاً دخولاً وبقاء وخروجاً صحيحة ، سواء كان بسوء الاختيار أو لا ، وإلى هذه الصورة أشار في الكفاية : « لا إشكال في صحة الصلاة مطلقاً في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع ».
    2. إذا كان الوقوع فيها لا بسوء الاختيار فالصلاة فيها صحيحة ، سواء أقلنا بجواز الاجتماع أم لا ، أمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني فلأجل سقوط النهي لأجل الاضطرار.
    وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « وأمّا على القول بالامتناع فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب لا لسوء الاختيار ».
    3. إذا قلنا بالامتناع وكان الاضطرار بسوء الاختيار ، وقلنا بمقالة الشيخ من أنّ الخروج واجب ، وليس بحرام ، ولا يجري عليه حكم المعصية ، فالصلاة صحيحة لوجود الأمر وعدم النهي.
    وإلى هذه الصورة أشار بقوله ومعه ( أي مع القول بالامتناع ) ولكنّها وقعت


(266)
في حال الخروج على القول بكونه مأموراً ، بدون إجراء حكم المعصية.
    4. إذا قلنا بالامتناع وقدّمنا الأمر فمقتضى القاعدة الصحة ، وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي ... مع ضيق الوقت وأمّا السعة ففيها وجهان ».
    إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المحقّق الخراساني حاول أن يطبِّق فتوى المشهور على التفصيل بين ضيق الوقت وسعته على هذه الصورة قائلاً :
    بإمكان امتثال الأمر بالصلاة في الأرض المباحة في سعة الوقت ، دون ضيقه بل ينحصر امتثال الأمر بالصلاة في الأرض المغصوبة.
    توضيحه : انّ مصلحة الصلاة في الأرض المغصوبة ـ على فرض تقديم الأمر على النهي ـ وإن كانت غالبة على ما فيها من المفسدة ، لكن الصلاة في غير تلك الدار خالية عن المفسدة ، فيكون أهمّ من الواجد لها ، وبما انّهما ضدّان يتوجّه الأمر الفعلي إلى الفاقد للمفسدة ، ويكون الواجد لها منهيّاً عنه ، بحجّة انّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، فتكون الصلاة في الأرض المغصوبة منهياً عنها ، ومحكومة بالبطلان لوجود النهي.
    وهذا بخلاف الصلاة فيها مع ضيق الوقت فانّ انحصار الامتثال بالصلاة في الدار المغصوبة ينفي توجّه الأمر إلى الضدّ الأهم الفاقد للمفسدة ، فلا يكون هناك أمر بالضد الفاقد لها حتى يتولّد منه النهي عن الضد المهم.
    يلاحظ عليه : أنّ المراد من تقديم الأهم على المهم في باب التزاحم ، هو تقديم الأقوى ملاكاً ، على الأضعف ملاكاً ، كما إذا دار الأمر بين إنقاذ النبي والرعية ، فالعقل حكم بتقديم الأوّل ، وأمّا المقام فالمفروض أنّ الفردين ـ في سعة الوقت ـ متساويان في الملاك ، غير أنّ أحدهما يشتمل على المفسدة دون الآخر ،


(267)
والخلو عن المفسدة ، غير كون الخالي أهم من المشتمل عليها.
    بل يمكن أن يقال : انّ المفروض هو تقديم ملاك الأمر على ملاك النهي وكون مصلحة الأوّل غالبة على مفسدة الآخر ، ولأجله لا تؤثر المفسدة لوجود المصلحة الغالبة ، وعندئذ تكون الصلاة في الدار المغصوبة ، مثل الصلاة في غيرها فلا مفسدة مؤثرة ، حتّى يجعل الفرد المشتمل عليها ، أضعف والخالي عن المفسدة أقوى.
    5. ويمكن أن يقال انّ تفصيل المشهور راجع إلى صورة خامسة لم يذكرها المحقّق الخراساني ، وهي إذا قلنا بالامتناع وكون الخروج منهيّاً عنه بالنهي السابق الساقط ، أو الحاضر وقلنا بتقديم ملاك النهي ، فالصلاة باطلة في سعة الوقت وضيقه ، لتقديم النهي على الأمر. وهذه الصورة لم يذكرها في الكفاية ، فإذا قدّم النهي تكون المفسدة غالبة على المصلحة ومن المعلوم انّها في سعة الوقت وأمّا في ضيقه ، فيقدّم الأمر ، لأجل قوله : « لا تسقط الصلاة بحال » فيقدّم على حرمة التصرّف في مال الغير لقوّة لسان دليل الأمر
    وهذا بخلاف سعة الوقت ، إذ لا دليل ثالث حتّى يكون مؤثراً في تقديم الأمر على النهي فتكون التصرّفات المتّحدة مع الصلاة أمراً مبغوضاً ومنهيّاً عنه فلا أمر كما هو المفروض من القول بالامتناع وتقديم النهي.
    حكم الخروج إذا تاب بعد الدخول
    لو تاب العبد ـ بعد الدخول ـ وحاول أن يخرج من أقرب الطرق للتخلّص عن المعصية لا للتنزّه كالدخول ، فقد ذهب السيد البروجردي إلى عدم كونه منهياً عنه وصادراً عن معصية ، وذلك لأنّه إذا تاب عن تصرّفاته السابقة تكون تصرفاته


(268)
اللاحقة الاضطرارية بعد التوبة ، تصرفات غير مسبوقة بالمعصية المؤثرة ، فيصير حاله بالنسبة إلى التصرّفات الخروجية لأجل التخلّص كمن اضطرّ إلى الدخول ، فاختار الخروج ـ بعد رفع الاضطرار ـ للتخلّص من البقاء المحرم.
    والحاصل : أنّ الخروج بما انّه من توابع الدخول فلو عدّ الدخول عصياناً وظلماً وتمرّداً على المولى تكون توابعه محكومة بحكمه ، وأمّا إذا تقلّب حكمه ـ بحكم انّ التائب من ذنبه كمن لا ذنب له ـ فتكون توابعه أيضاً محكومة بحكمه. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتصوّر فيما إذا عصى اللّه في حقوقه ، دونما إذا عصاه في حقوق الناس ، وأمّا إذا عصاهم وتجاوز على حقوقهم ، فلا تكفي التوبة والندامة مالم يُحصِّل رضاهم ، ومع تحصيله لا يبقى موضوع للبحث.
1. لمحات الأُصول : 246 ؛ نهاية الأُصول : 249.

(269)
    قد ذكر المحقّق الخراساني في هذا التنبيه أُموراً ثلاثة :
    1. لا تعارض ولا تزاحم بين خطابي : صلّ ولا تغصب على القول بجواز الاجتماع ، وأمّا على القول بالامتناع فهما من قبيل المتزاحمين يقدّم منهما الأقوى ملاكاً ، وليسا من قبيل المتعارضين كي يقدّم الأقوى دلالة ( الجمع الدلالي ) أو الأقوى سنداً ، وقد أفاض المحقّق الخراساني الكلام في ذلك في الأمر التاسع فلا وجه للتكرار هنا ، وقد أشبعنا الكلام فيه كما قلنا : إنّ التزاحم في مصطلح المحقّق النائيني ـ الذي اخترناه ـ غير المصطلح في لسان المحقّق الخراساني.
    2. لو قلنا بالامتناع ، وقدّمنا النهي فلا يلازم بطلانَ الصلاة في موارد الأعذار ، كما إذا صلّى في المغصوب جاهلاً به ، وقد أفاض الكلام فيه في الأمر العاشر ، وقد أوضحنا حاله.
    وحاصل ما قلنا هناك : إنّه فرق بين أن يقول من أوّل الأمر « لا تصلّ في الدار المغصوبة » فيخرج الصلاة فيها عن إطلاق قوله : « أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل » ، فلا تصحّ الصلاة عند طروء الأعذار كالنسيان ، لأنّ التقييد أو التخصيص آية عدم وجود الملاك في مورد فقد القيد أو في الخارج عن العام ؛ وبين أن يقول : « صلّ » و « لا تغصب » فالصلاة على الإطلاق وفي كلّ مكان ، مشتملة على الملاك ، مثل الغصب في كلّ مكان ، وعند ذاك يطرأ التزاحم على المقتضيين المؤثّرين عند الامتثال فيقدم الأقوى منهما ملاكاً ، لو كان الخطابان


(270)
متكفّلين لحكم فعلي وإلا فلابدّ من الأخذ بالفعلي منهما.
    ويترتّب عليه أنّه لو لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثراً لها ، لاضطرار أو جهل ، أو نسيان كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثّراً لها فعلا.
    نظير المقام :
    1. إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى.
    2. أو لم يكن واحد من الدليلين دالاً على الفعلية.
    وبالجملة : وزان المقام ـ تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب ـ وزان التخصيص العقلي الناشئ من تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلاً ، والتقديم مختص بما إذا لم يمنع مانع عن تأثير المقتضي للنهي عنه كما في مورد الاضطرار ، أو مانع عن فعلية التأثير كما في صورة الجهل والنسيان ، فعندئذ تصح الصلاة ـ مع الأمر ـ وأُخرى بملاكه.
    3. إذا قلنا بالامتناع ودار الأمر بين تقديم أحد الحكمين ، فهل يقدّم النهي أو الأمر ؟ وقد ذكروا لتقديم النهي وجوهاً ثلاثة ذكرها المحقّق الخراساني ، وهذا هو اللازم بالبحث في المقام ، وإليك تلك الوجوه :
    الأوّل : النهي أقوى دلالة من الأمر
    إنّ هذا المرجّح ـ أقوائيّة الدلالة ـ مرجّح في مقام الإثبات والدلالة ، كما أنّ المرجح الثاني ـ أي دفع المفسدة المترتبة على النهي أولى من جلب المنفعة المترتبة على الأمر ـ مرجِّح في عالم الثبوت والملاك ، وكان على المحقّق الخراساني تقديم الثاني على الأوّل حفظاً للترتيب الطبيعي للبحث ولكنّه قدّم الأوّل ، أي عالم الإثبات على عالم الثبوت ، ونحن نتبع أثره حفظاً لنظام البحث.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس