إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 271 ـ 285
(271)
    وتقرر قوّة الدلالة بالنحو التالي :
    إنّ دليل النهي أقوى دلالة من دليل الأمر ، لأنّ مفاد النهي شمولي بخلاف مفاد الأمر فانّه بدلي.
    أمّا كون الأوّل شمولياً فلانحلال النهي بانحلال موضوعه إلى أحكام فيكون كلّ تصرّف عصياناً مستقلاً لا صلة له بالتصرّف الآخر ، وهذا بخلاف الأمر فانّه بعث إلى الطبيعة ويكفي في وجودها وجود فرد واحد.
    وعلى ضوء ذلك يتعيّن التصرف في جانب الأمر بإخراج الصلاة في الدار المغصوبة من تحته وإبقاء الصلاة في غيرها تحته من دون تصرّف في جانب النهي.
    وأورد على الاستدل بأنّه لا فرق بين الدلالة الشمولية والدلالة البدلية إذا كان الدال عليهما هو الإطلاق الذي هو نتيجة جريان مقدّمات الحكمة فلا وجه لترجيح إحداهما على الأُخرى ، فكما يصلح النهي للتصرّف في الأمر ويكون الشمول قرينة على تقييد الأمر وإخراج ذلك الفرد من تحته ، فهكذا الأمر يصلح للتصرّف في النهي ويكون طلب فرد ما ، قرينة على إخراج فرد ما من الصلاة ، من تحت النهي.
    وردّ الإشكال بأنّ الدلالة البدلية هو مفاد الإطلاق حيث إنّ المولى أمر بالطبيعة دون أن يعيّن الخصوصية فيكفي في مقام الامتثال الإتيان بفرد ما ، وأمّا الدلالة الشمولية فليست مستندة إلى الإطلاق ، وذلك لأنّه لو كانت مستندة إلى الإطلاق لكان استعمال « لا تغصب » في بعض أفراد الغصب حقيقة ، لعدم جريان مقدّمات الحكمة لأجل القرينة ، فلا يكون هناك دالّ على الشمول ، وبالتالي لا يكون استعماله في بعض الأفراد استعمالاً له في غير ما وضع له. مع أنّ كون استعماله فيه حقيقة واضح الفساد.


(272)
    بل الشمول مستند إلى دلالة العقل ، وهي انّ الطبيعة لا تنعدم إلا بانعدام جميع أفرادها ، فعندئذ تقدّم الدلالة الشمولية على البدلية لقوّة الدلالة العقلية على الدلالة الإطلاقية.
    ثمّ إنّ المحقق الخراساني نصر المستشكل الأوّل وردّ الإشكال عليه بما هذا توضيحه : إنّ دلالة النفي أو النهي على العموم والاستيعاب أمر لا ينكر إلا أنّ سعة العموم والشمول تابع لما يراد من مدخولهما ومتعلّقهما ، وعندئذ تختلف سعة الشمول حسب اختلاف المتعلّق.
    فلو أُريد من المتعلّق الطبيعة المطلقة فيدل النفي والنهي على سعة دائرة الشمول ، وأمّا إذا أُريد من المدخول الطبيعة المقيّدة فيتوجه النفي والنهي على الطبيعة المقيّدة ، فالسعة والضيق في جانب النفي والنهي رهن سعة المتعلّق وضيقه وهما فرع جريان مقدّمات الحكمة فيه.
    ويتّضح الأمران في المثالين التاليين :
    1. لا رجل في الدار.
    2. لا رجل عادل في الدار.
    فتجد أنّ النفي في الأوّل أوسع دائرة من النفي في الثاني ، ويعود ذلك إلى سعة المتعلّق وضيقه ، فإذا اتّضح ذلك ، نقول : إنّه لا فرق بين الدلالة البدلية والشمولية في الأقوائية ، لأنّ البدل كما هو نتيجة الإطلاق فهكذا الشمول هو نتيجة إجراء مقدّمات الحكمة ، حيث أخذ المولى الطبيعة المطلقة متعلّقة بالنهي من دون قيد ولو كان المراد هو الطبيعة المقيّدة لكان عليه الإتيان بالقيد.
    هذا ما أفاده في الكفاية.


(273)
    ثمّ إنّه ( قدس سره ) احتمل احتمالاً ضعيفاً أشار إلى ضعف الاحتمال بقوله : « اللّهم ». (1)
    وحاصل الاحتمال : أنّ المخاطب في استفادة الشمول لفي غنى عن إجراء مقدّمات الحكمة ، وذلك لأنّ مكانة النهي والنفي في لغة العرب كلفظة كلّ في كلّ رجل ، فكما أنّ استفادة الشمول في الثاني غير موقوف على إجراء مقدّمات الحكمة في متعلّقه ( رجل ) بل السامع ينتقل إلى السريان والشمول لأجل لفظة كلّ ، فهكذا المقام ، حيث إنّ دلالة النفي والنهي على الشمول والاستيعاب تُغني المخاطب عن اجراء مقدمات الحكمة ، وهذا هو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله :
    اللّهمّ إلا أن يقال : إنّ في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أنّ المراد من المتعلّق هو المطلق كما ربّما يدعى ذلك في مثل « كلّ رجل » وانّ مثل لفظة « كل » يدلّ على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة ، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة. (2)
    ومع أنّ المحقّق الخراساني ـ حسب ما أفاده أخيراً ـ قوّى ( الأمر الثالث ) أي الإشكال ، على الإشكال ، لكنّه لم يقبل دليله من أنّه لو كان الشمول مستفاداً من الإطلاق لكان استعمال مثل « لا تغصب في بعض الأفراد حقيقة ... » بل اعترف بكونه حقيقة على جميع المباني ، سواء قلنا بأنّ الشمول مستند إلى مقدّمات الحكمة فواضح ، لعدم جريانها مع وجود القرينة ولا على القول بأنّ دلالته على الشمول بالالتزام أو بالوضع ، لأجل تعدّد الدال والمدلول بمعنى انّ الخصوصية مستفادة من القرينة لا من استعمال قوله : « لا تغصب » في بعض الأفراد كما
1. وقد أيّده المحقّق البروجردي في درسه الشريف ، لاحظ لمحات الأُصول : 307.
2. كفاية الأُصول : 1/276.


(274)
سيوافيك توضيحه في فصل « انّ العام بعد التخصص حقيقة وليس بمجاز ».
    وأنت خبير بضعف ما احتمله ، إذ لا فرق بين النفي والنهي ولفظة « كلّ » في أنّ استفادة السعة والضيق تابع لسعة المتعلّق وضيقه ، هذا من جانب.
    ومن جانب آخر : انّه كان في وسع المكلّف تقييد المتعلّق في جانب النفي والنهي ، ومع التقييد تضيق دائرة الشمول ، والدالّ على عدم القيد هو الإطلاق بإجراء مقدّمات الحكمة ، فالاشكال على الاستدلال متوجّه.
    نعم يرد على الاستدلال بأنّه انّما تقدّم الدلالة الشمولية على البدلية إذا كانت الأُولى وضعية والثانية إطلاقية ، فإذا قال المولى : لا تكرم الفسّاق ، وقال : أكرم عالماً ، فبما أنّ دلالة الأوّل على الشمول بالدلالة اللفظية ، أعني : الجمع المحلّى باللام ، ودلالة الثاني على كفاية فرد من أفراد الطبيعة ، بالدلالة العقلية ، فلا مناص من تقديم الدلالة الوضعية على الدلالة العقلية عند التّعارض في العالم الفاسق ، لأقوائية الوضعية وعدم توقّف تمامية دلالتها على شيء ، بخلاف الدلالة العقلية ، فانّها فرع عدم ما يصلح للقرينيّة ، والوضعية صالحة لها ، وأمّا الشمولي والبدلي الإطلاقيان كما في المقام ، فكلّ منهما يصلح للتصرّف في الآخر ، فلا مرجّح للتقديم.
    الثاني : دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة
    وحاصل هذا الدليل أنّ في امتثال الأمر جلب المصلحة وفي مخالفة النهي وجود المفسدة ، فإذا دار الأمر بين كون شيء واجباً أو حراماً فقد دار الأمر بين حيازة المصلحة ودفع المفسدة ، فترك الفعل لأجل دفع المفسدة المحتملة أولى من امتثاله لجلب المصلحة المحتملة.


(275)
    أقول : الدليل مؤلّف من صغرى وكبرى.
    أمّا الصغرى : فهي عبارة عن اشتمال الأمر على المصلحة دون أن يكون في تركه مفسدة ، واشتمال النهي على المفسدة.
    وأمّا الكبرى : وهي أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة كذلك ، ولكن كلاً من الصغرى والكبرى ليسا بتامّين.
    المناقشة في الصغرى
    وقد ناقش المحقّق القمّي في الصغرى بأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعيّن.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الواجب ولو كان معيّناً ليس إلا لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة ، كما انّ الحرام ليس إلا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه. (1)
    وحاصل الإيراد : انّ الواجب يشتمل على المصلحة من دون أن يكون في تركه مفسدة والحرام على العكس.
    يلاحظ على كلام المحقّق الخراساني بأنّ المراد من المصالح والمفاسد هو الأعم من الفردية والاجتماعية ، وعلى ذلك فربّما يكون في ترك الواجب مفسدة عظمى كما في ترك الجهاد فانّه يوجب الذُّلّ والهوان وسيطرة العدو على النفوس والأموال ، وأيّ مفسدة أعظم من ذلك ؟!
    قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « فواللّه ما غُزِي قوم في عُقِرَ دارهم قط إلا وقد ذلّوا ». (2) ، ومثله ترك الزكاة فانّ في تركها إيجاد الفوضى واتّساع دائرة الفتنة وفقدان
1. كفاية الأُصول : 1/277.
2. نهج البلاغة : الخطبة 27.


(276)
الأمن المالي.
    قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « ما جاع فقير إلا بما متِّع به غني ». (1)
    إلى هنا تبيّن أنّ الصغرى ليست بتامّة ، وانّ المفسدة موجودة في كلا الطرفين : فعل الحرام وترك الواجب ، والحقّ مع المحقّق القمي ( قدس سره ).
    المناقشة في الكبرى
    وحاصل الكبرى : انّ دفع المفسدة المتيقّنة والمحتملة أولى من جلب المنفعة المتيقنة والمحتملة ، وقد ناقشها المحقّق الخراساني بوجوه ستة نذكرها بتوضيح :
    1. انّ الواجبات والمحرّمات ليست على وزان واحد فربّ واجب يكون في تركه أشد المجازات كالفرار من الزحف ، وربّ حرام لا يكون مثل ذلك كالنظر إلى الأجنبية ، فلو دار الأمر بين الفرار من الزحف ، والنظر إلى الأجنبية فلا يصحّ أن يقال : انّ ترك المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فليس في المقام ضابطة كلية.
    2. انّ القاعدة أجنبية عن المقام ، فانّه فيما إذا دار الأمر بين الواجب والحرام [ الحتميّين ] كما إذا دار الأمر بين ركوب الطائرة المغصوبة ، والحجّ ، ففي مثله يرجع إلى القاعدة ، لا في المقام الذي ليس هنا إلا أحد الحكمين إمّا الوجوب أو الحرمة ، فلا موضوع للقاعدة. هذا حسب ما في الكفاية ، ولكنّه أوضحه في الهامش بقوله : إنّ الترجيح بهذه القاعدة إنّما يناسب ترجيح المكلّف واختياره للفعل أو الترك بما هو أوفق بغرضه لا المقام وهو مقام جعل الأحكام فانّ المرجع هناك ليست إلا حسنها أو قبحها العقليان لا موافقة الأغراض ومخالفتها.
    توضيح كلامه : أنّ ملاكات الأحكام على قسمين :
1. نهج البلاغة ، قصار الحكم ، برقم 328.

(277)
    أ. ملاك التشريع ومناط جعل الحكم فهو ينحصر بالحسن والقبح فيحكم بوجوب الأوّل وحرمة الثاني.
    ب. المصالح والمفاسد التي ترجع إلى المكلفين. ولكلّ من الملاكين مقام خاص ، فلو كان الشك راجعاً إلى نفس الحكم الشرعي وما هو المجعول كما هو الحال في المقام حيث إنّ الشكّ مركز على أنّ المجعول في الصلاة في الدار المغصوبة هو الوجوب أو الحرمة ففي مثله لا يرجع إلى القاعدة ( دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ).
    نعم لو كان الحكم الشرعي معلوماً ودار الأمر بين ترك الواجب وفعل الحرام ففي مثل ذلك يتمسّك بالقاعدة كما إذا دار الأمر بين الحجّ وركوب الطائرة المغصوبة ، فعندئذ يقال : « ترك المفسدة أولى من جلب المنفعة ».
    إلى هنا تمّت المناقشة الثانية ، وإليك سائر المناقشات التي أوردها في « الكفاية ».
    3. ولو سلّم فإنّما يجدي لو حصل القطع.
    أي انّ مورد القاعدة فيما إذا قطع بالأولوية لا ما إذا ظن ، وليس في المقام أيُّ قطع بالأولوية ، لما عرفت من أنّه ربما يكون جلب المنفعة المحتملة أولى من دفع المفسدة كذلك.
    4. ولو سلّم انّه يجدي ولو لم يحصل اليقين فإنّما تجري فيما يكون العلم الواقعي فعلياً على كلّ تقدير ولا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعينيين لا فيما يجري كما في المقام لأصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته.
    توضيحه : انّ مصب القاعدة هو ما إذا كان الحكم الواقعي المردد بين


(278)
الوجوب والحرمة فعلياً على كلّ تقدير ، بحيث نعلم أنّ المولى يطلب امتثاله ، ففي مثله لا موضوع للبراءة للعلم القطعي بوجود الحكم الفعلي على كلّ تقدير كما في المرأة المرددة بين كونها زوجة على رأس أربعة أشهر أو أجنبية ، فتصل النوبة إلى القاعدة فيؤخذ بما فيه دفع المفسدة ويترك ما فيه جلب المنفعة.
    وأمّا المقام فتجري البراءة في أحد الطرفين ، أعني : الحرمة دون الوجوب محال ، أمّا عدم جريانها في جانب الوجوب للعلم القطعي بعدم سقوط وجوب الصلاة ، ولو في ضمن المكان المباح ، وأمّا جريانها في جانب الحرمة فبما انّه تُحتمل مساواة الملاكين ، فلا يكون هنا علم بالحرمة الفعلية ، لأنّ احتمال تساوي الملاكين يلازم احتمال عدم فعليتها فيصلح لأن تقع مجرى لها.
    5. ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشكّ في الأجزاء والشرائط فلا يلزم القول بالاشتغال في المقام فانّه لا مانع عقلاً إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً ونقلاً.
    توضيحه : انّه لو قيل إنّ الأصل عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ـ ككون السورة جزءاً من الصلاة أو لا ـ هو الاشتغال وبطلان الصلاة بدونها ، لما كان دليلاً على القول بالاشتغال وبطلان الصلاة في المقام ، وذلك لوجود المقتضي للصحة في المقام وهو الأمر وليس المانع إلا الحرمة المرفوعة بأصل البراءة ، بخلاف الشكّ في كمّية الأجزاء والشرائط فلا علم بالصحة لاحتمال وجوب الشيء المشكوكة جزئيته.
    وحاصل الفرق بين المقام : هو وجود العلم بتمامية المأمور به من حيث الأجزاء والشرائط في المقام وإنّما الشكّ في مانعية الغصب ، وهي مرفوعة بالأصل ، فالمقتضي موجود ، والمانع مرفوع.


(279)
    وهذا بخلاف الشكّ في الجزئية والشرطية فليس هناك علم بتمامية المأمور به من حيث الأجزاء والشرائط ، بل يحتمل كون السورة جزءاً ، فيكون المأتي به ناقصاً من حيث كونه جامعاً للأجزاء والشرائط ، وتوهم أنّ أصل البراءة رافع للجزئية على فرض ثبوتها مدفوع بأنّ الرفع الظاهري لا ينافي الجزئية الواقعية على فرض ثبوتها في الواقع فتكون الصلاة ناقصة. فتأمّل.
    فإن قلت : إنّ الشكّ في المانعية والجزئية من باب واحد ، فأصل البراءة رافع للمانعية والجزئية في الظاهر دون الواقع ، فلو كان المشكوك مانعاً واقعاً ، يكون المأتي به ناقصاً من حيث اقترانه بالمانع.
    قلت : المفروض انّ المانع هو المبغوضية المحرزة لا المبغوضية الواقعية ، كما أشار إليه بقوله : « فانّه لا مانع عقلاً إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عقلاً أو نقلاً » ، فإذا لم تكن محرزة يكون عدم المبغوضية قطعياً ، بخلاف جزئية الجزء أو شرطية الشرط ، فالجزء بما هو جزء والشرط بما هو شرط مأخوذان في المتعلّق ، فأصالة البراءة لا تؤثر في انقلاب الواقع على فرض وجوده.
    6. نعم لو قلنا بأنّ المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن الغلبة محرزة فأصالة البراءة غير مجدية ، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب ـ لو كان عبادة ـ محكّمة حتّى لو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشرائط ، لعدم تأتي قصد القربة مع الشكّ في المبغوضية.
    حاصله : انّ التفكيك بين المقام والشك في الجزئية والشرطية ، مبنيّ ـ كما تقدم ـ على أنّ المفسدة الغالبة المحرزة مانعة من الصلاة ، فعدم إحرازها يكفي في الحكم بصحّة الصلاة ، وعدم اقترانها بالمانع واقعاً ، وأمّا إذا قلنا بأنّ المفسدة بوجودها الواقعية الغالبة مانعة وإن لم يعلم بها المكلّف ، فعندئذ ، تكون النتيجة


(280)
معكوسة ، فلا يجدي الأصل في المقام وإن قلنا به في الشك في الجزئية والشرطية.
    وذلك لأنّها لو كانت المفسدة الواقعية مطلقاً مانعة فبما أنّها محتملة في المقام ، فلا يتمشّى قصد القربة ، إذ كيف يمكن التقرّب القطعي بشيء يحتمل أن يكون مبغوضاً للمولى ؟! فتكون أصالة الاشتغال محكّمة.
    هذه هي الوجوه الستة التي أوردها صاحب الكفاية على القاعدة أوردناها بإيضاح لقصور عبارة الكفاية في المقام في إفادة المقصود.
    المرجّح الثالث : الاستقراء
    استدلّ القائل بتقديم جانب الحرمة بأنّ الاستقراء يشهد على أنّ الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب فيما إذا دار الأمر بين المحذورين وأشار إلى موردين :
    1. أيّام الاستظهار ـ بعد تمام العادة وقبل العشرة ـ حيث أمر الشارع بترك العبادة مع أنّ الأمر يدور بين الوجوب والحرمة.
    2. إذا كان الإنسان محدثاً ، وابتلى بإنائين مشتبهين فقد أُمِر بإهراقهما والعدول إلى التيمم ، مع دوران الأمر بين وجوب الوضوء مقدّمة للصلاة وحرمة التوضّؤ بالماء النجس.
    يلاحظ على الاستدلال :
    إنّ الاستقراء كما يستفاد من تعريفه ، تصفح الجزئيات حتّى ينتقل الباحث منه إلى الحكم الكلّي وإفادته الظن أو القطع تابع لمقدار التتبع وكثرته ، وأمّا تتبع مورد أو موردين فلا يفيد الظن ، فكيف القطع ؟! مضافاً إلى أنّ ترجيح جانب الحرمة في هذين الموردين ، لوجود دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي ذلك الجانب.


(281)
    أمّا الأوّل : فلأنّ الاستظهار ـ أيّ ترجيح جانب الحرمة ـ لأجل الدليل الحاكم على أنّ الدم المشكوك ، دم حيض ، والدليل إمّا الاستصحاب ، أو قاعدة الإمكان وانّ كلّ دم أمكن أن يكون حيضاً فهو حيض.
    هذا كلّه حول المورد الأوّل ، وأمّا المورد الثاني أي عدم جواز الوضوء من الإنائين المشتبهين فقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :
    1. تقديم النهي فيه تعبّدي يختصّ بمورده
    إنّ فرض المورد من قبيل دوران الأمر بين المحذورين إنّما يتم إذا قصد بالتوضّؤ بالماء الذي لم تحرز طهارته امتثالَ الأمر الواقعي فيوصف التوضّؤ بالحرمة التشريعية ، فيدور أمر الوضوء بين الحرمة لأجل التشريع ، والوجوب لكونه مقدّمة للصلاة.
    وأمّا إذا توضأ بكلّ من الماءين رجاء ومن باب الاحتياط فلا يحرم ، وبالتالي يخرج المورد عن باب دوران الأمر بين المحذورين ، فتقديم النهي في هذه الصورة لأجل النصّ تعبديٌّ يختص بمورده.
    2. تقديم النهي لأجل عدم الابتلاء بالنجاسة
    وحاصل الجواب انّه لو توضّأ بالماءين المشتبهين ربّما تحصل له الطهارة من الحدث ، في بعض الصور (1) ، لكنّه يبتلي بالنجاسة الخبثية القطعية ، والمقرر في محلّه انّه إذا دار الأمر بين الطهارة الحدثية والنجاسة في البدن أو الثوب ، تُقدّم الطهارةُ من الخبث على الطهارة من الحدث ، مثلاً إذا كان محدثاً وكان بدنه أو ثوبه الساتر
1. كما في الصورة الثانية في الصورة الآتية ، عن قريب.

(282)
أيضاً نجساً وكان الماء الموجود لا يكفي إلا لواحد منهما ، يُقدّم تطهير البدن والثوب على الوضوء والغسل ، وما هذا إلا لأنّ للطهارة من الحدث بدلاً وهو التيمم دون الأُخرى أي الطهارة من الخبث ، وقد قُرِّر في باب التزاحم أنّه إذا دار الأمر بين أمرين لأحدهما بدل دون الآخر يقدّم الثاني على الأوّل.
    ومثله المقام فانّ الوضوء بماءين مشتبهين وإن كان ربّما يحصّل الطهارة من الحدث ولكنه يورث نجاسة البدن للقطع بنجاسة الأعضاء عند صبّ الماء الثاني إمّا بالماء الأوّل أو بالثاني ـ كما سيوافيك تفصيله ـ فعند الدوران تقدّم الطهارة من الخبث ، على الطهارة من الحدث ، فيترك الوضوء ويتيمّم ، فتقديم جانب النهي لأجل هذا الدليل المقرّر في محلّه لا من باب أنّه إذا دار الأمر بين الأمر والنهي يقدّم النهي مطلقاً مع غض النظر عن الدليل كما هو المدّعى.
    هذا هو الجواب الواقعي ، وقد أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله : « من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً ... ».

    دراسة أقسام التوضّؤ بماءين مشتبهين
    ثمّ إنّ للتوضّؤ بالماءين المشتبهين صوراً ثلاثاً أشار إليها في « الكفاية » ، وإليك إيضاحها على ضوء ما في الكفاية.
    الأُولى : ما أشار إليه بقوله : « أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضّأ من الإناء الثاني ، إمّا بملاقاته ، أو بملاقاة الأُولى وعدم استعمال مطهر بعده ».
    توضيحها : إذا توضّأ بكلا الماءين من دون أن يتخلّل بين الوضوءين تطهير الأعضاء بالماء الثاني ، فعند صب الماء الثاني على الوجه يقطع بنجاسة الوجه واقعاً


(283)
تفصيلاً إمّا لأجل استعمال الماء الأوّل وعدم استعمال مطهر بعده ، أو باستعمال الماء الثاني.
    نعم يحصل القطع بالنجاسة بصب الماء الثاني ، قبل انفصال الغسالة ، وقبل حصول تعدد الغسل فيما يحتاج إليه ، ثمّ يزيل القطع بها إلى الشك فيها ـ بعد الانفصال وحصول التعدد ـ لاحتمال كون الماء الثاني طاهراً فيحكم على العضو ـ بفضل الاستصحاب ـ بكونه نجساً ظاهراً فلا منافاة بين العلم بالنجاسة الواقعية ، ثم الظاهرية ، لتعدد زمان العلم والشك.
    الثانية : ما أشار إليه بقوله : « ولو طهّر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى ».
    توضيحها : انّ قوله « لو » في كلامه وصلية لا شرطية حاصله اشتراك الصورتين في العلم بالنجاسة الواقعية ، ثمّ الشكّ في بقائها ، والفرق بينهما هو انّه في الصورة الأُولى لا يطهر الأعضاء بخلاف هذه الصورة فانّه يطهرها ، وبالتالي يحصل العلم بالطهارة من الحدث في خصوص هذه الصورة كما أشرنا ، وذلك كما إذا توضّأ أوّلاً بأحدهما ثمّ غسل مواضع الوضوء بالماء الثاني ، ثمّ توضّأ بالماء الباقي في الإناء ، فعندئذ يحصل العلم بالنجاسة الظاهرية بحكم الاستصحاب ، وذلك لأنّه عند تطهير الأعضاء بالماء الثاني وصب الماء عليها قبل انفصال الغسالة الذي هو شرط التطهير بالماء القليل ، يحصل له العلم التفصيلي بالنجاسة ، إمّا لأجل استعمال الماء الثاني ، أو الأوّل ، واستعمال الماء الثاني وإن كان مطهراً لكن المفروض عدم حصول شرط التطهير ، أعني : انفصال الغسالة أو التعدد ، وبعد الانفصال يطرأ الشك في بقاء النجاسة ، لأنّه كما يحتمل أن يكون النجس هو الماء الثاني ، يحتمل أن يكون النجس هو الأوّل الذي ترتفع نجاسته باستعمال الماء الثاني وانفصال الغسالة ، وحيث إنّ الحالة غير معلومة يحكم ببقاء


(284)
ما علم عند الصب وقبل انفصال الغسالة ، فيكون العضو محكوماً بالنجاسة الظاهرية لأجل الاستصحاب. نعم يحصل العلم بالطهارة من الحدث ، مقرونة بالنجاسة الظاهرية.
    الثالثة : ما أشار إليه بقوله : نعم لو طَهُرتْ على تقدير نجاستها بمجرّد الملاقاة بلا حاجة إلى التعدد ، وانفصال الغسالة ، كما لو كان كلّ منهما كرّاً ولكن كان أحدهما نجساً ، فلا يعلم تفصيلاً بنجاستها في وقت معين وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الأُولى أو الثانية إجمالاً ولا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكّمة.
    توضيحها : انّه إذا كان الماء الثاني قليلاً يحصل العلم التفصيلي بالنجاسة حين صب الماء الثاني وإن كان يطرأ الشكّ في ثباتها بعد انفصال الغسالة ، وأمّا إذا كان الماءان كرّين ولا يتوقف التطهير بهما على التعدّد أو انفصال الغسالة ، فلا يحصل العلم التفصيلي بالنجاسة حين الملاقاة بالماء الثاني ، بل يعلم إجمالاً بأنّه صار نجساً إمّا بالملاقاة الأُولى أو بالثانية فلا مجال لاستصحابها.
    وظاهر العبارة أنّ عدم جريان الاستصحاب لأجل عدم العلم تفصيلاً بنجاسة العضو في وقت معيّن ، بخلاف الصورة الأُولى والثانية ، حيث يعلم عند الصب وقبل انفصال الغسالة ، بنجاسة العضو ، فلو كان الاستصحاب غير جار في المقام تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة ، لأنّه مشكوك الطهارة والنجاسة ، فلو كان النجس هو الماء الثاني فهو نجس قطعاً ، ولو كان الماء الأوّل فهو طاهر كذلك ، وعند الجهل بحال الماءين ، يكون الملاقى مشكوك الطهارة والنجاسة فيحكم عليه بالطهارة حسب القاعدة.
    يلاحظ عليه : بأنّ الظاهر انّه يحكم في الجميع بضد الحالة السابقة قبل توارد


(285)
الماءين عليه وبالتالي يحكم في المقام بنجاسة الأعضاء في عامّة الصور ، وذلك لأنّه يشترط في تأثير العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، بأن يكون الماء الطاهر ، مطهراً سواء تقدّم استعماله أو تأخّر ، والماء النجس منجِّساً كذلك ، وعندئذ يؤثر العلم الإجمالي ، لكن هذا الشرط موجود في استعمال الماء النجس دون استعمال الماء الطاهر واقعاً ، أمّا الأوّل فواضح فهو ينجس العضو سواء استعمله قبل الماء الطاهر أو بعده ، بخلاف الماء الطاهر فلو استعمله قبل الماء النجس ، لا يؤثر في العضو ، لأنّ المفروض طهارة العضو ، ولو استعمل بعد الماء النجس فهو وإن كان يؤثر في طهارة العضو لكن يكون محدثاً للتكليف على فرض دون فرض لا على جميع الفروض ، فالعلم بطروء الطهارة على العضو دائر بين كونه مؤثّراً وغير مؤثر ، محدثاً للطهارة ، وغير محدث ، فليس هنا علم بالطهارة المؤثرة المزيلة للنجاسة ، لاحتمال كون الطاهر هو الماء الأوّل ، بخلاف النجاسة فهناك علم تفصيلي بطروء النجاسة المؤثرة المزيلة للطهارة ، المشكوك بقاؤها فتستصحب.
    ولذلك قلنا : إنّه يؤخذ بضد الحالة السابقة ، ومنه يعلم حال عكس المسألة ، أعني : إذا كان العضو نجساً واستعمل الماءان ، فيحكم بطهارة العضو بنفس البيان في المقام السابق ، فانّ الماء النجس غير مؤثر في كلتا الصورتين بل يؤثر استعماله إذا كان بعد استعمال الماء الطاهر ، وأمّا لو كان قبله فلا يؤثر في نجاسة العضو ، لأنّ المفروض كونه نجساً ، بخلاف الماء الطاهر فهو رافع للنجاسة ومؤثر في رفع النجاسة ، سواء استعمله قبل الماء النجس ، أو بعده.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس