إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 286 ـ 300
(286)
    هل تعدّد الإضافات كالإكرام المضاف إلى العالم والفاسق بالأمر بالأوّل والنهي عن الثاني كتعدّد العناوين والجهات أو لا ؟
    ذهب المحقّق الخراساني إلى الأوّل ، لأنّه لو كان اختلاف العناوين مجدياً مع وحدة المعنون كان تعدّد الإضافات مجدياً لأنّ المصالح والمفاسد تختلف حسب الإضافات والجهات وما يترآى من العلماء معاملة التعارض مع العموم من وجه ، لأجل البناء على الامتناع أو إحراز عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.
    و يظهر ذلك من الشيخ أيضاً قائلاً بأنّ العالم والفاسق طبيعتان متغايرتان فيلزم على المجوّز في مورد الصلاة والغصب ، التجويز فيهما.


(287)
    الفصل الثالث     قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :
    الأوّل : قد اختلفت كلماتهم في عنوان الفصل فتارة يعبّرون عنه بقولهم :
    هل النهي عن الشيء يقتضي فساده أو لا ؟
    وأُخرى :
    هل النهي يدلّ على الفساد أو لا ؟
    والأوّل غير وجيه ، إذ ليس النهي مؤثراً في الفساد ، وإنّما هو دالّ عليه أو كاشف عنه ، والثاني منصرف إلى الدلالة اللفظية ، ولا يشمل استكشاف الفساد ، من الملازمة العقلية ، والأولى أن يعبّر بما صدّرنا به البحث من كشف النهي عن الفساد.
    الثاني : يتبادر من عبارة « الكفاية » انّ المسألتين ( هذه المسألة والمسألة السابقة ) متحّدتان جوهراً ومختلفتان في الجهة المبحوث عنها ، فانّ جهة البحث في المقام هو دلالة النهي على الفساد ، وهي في المسألة السابقة ، هو انّ تعدد العنوان هل يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنهي في مورد الاجتماع أو لا ؟
1. فيه مقامان : النهي عن العبادات ، والنهي عن المعاملات.

(288)
    يلاحظ عليه : بأنّ المسألتين متميّزتان جوهراً قبل تميّزهما بالاغراض وجهـات البحث ، فأين قولنا : هل يجوز تعلّق الأمر والنهـي بشيئين مختلفين في مقـام التعلق ، ومتحدين في مقام الوجود ، أو لا ؟ من قولنا : هل النهي يكشف عن الفساد أو لا ؟ وقد مرّ أنّ لفظ الكشف جامع للدلالة اللفظية ، والملازمة العقلية.
    هذا إذا قلنا بأنّ النزاع في المسألة السابقة كبروي ـ كما هو المختار ـ وأمّا إذا قلنا بأنّ النزاع فيها صغروي ـ كما هو مختار المحقّق الخراساني ـ بأن يقال : ـ بعد تسليم امتناع الكبرى ـ هل تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون أو لا ؟ فهذا النوع من البحث غير ما هو المبحوث عنه في المقام.
    والذي يعرب عن تمايز المسألتين بجوهرهما هو لزوم وجود الأمر في المسألة السابقة ، دون هذه المسألة ، بل يكفي وجود النهي سواء أكان معه أمر ـ كما في العبادات ـ أو لا كما في المعاملات.
    نعم لو قلنا في المسألة السابقة بالامتناع ، وقدّمنا النهي على الأمر ، تكون نتيجة البحث في المسألة السابقة ، صغرى لهذه المسألة ، وأمّا لو قلنا بجوازهما ، أو قلنا بالامتناع لكن بتقديم الأمر على النهي ، فلا صلة بين المسألتين أبداً.
    الثالث : انّ البحث في المسألة السابقة عقلي محض ، كما يعلم من براهين المجوّزين والمانعين ، وأمّا المقام ، فذهب المحقّق النائيني (1) تبعاً للشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار (2) إلى أنّ البحث في المقام أيضاً عقلي ، كما أنّ المتبادر من المحقّق الخراساني أنّ البحث لفظي ، قال : لا يخفى انّ عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ إنّما هو لأجل انّه في الأقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة. (3)
1. فوائد الأُصول : 1/455.
2. مطارح الأنظار : 161.
3. كفاية الأُصول : 1/283.


(289)
    والأولى أن يقال : إنّ وصف البحث بأحد العنوانين ، تابع لكيفية البرهنة والاستدلال عليه.
    فإن قلنا بدلالة لفظ النهي على الفساد ، فيكون البحث لفظياً ، وإن قلنا بوجود الملازمة العقلية بين الحرمة والفساد ، يكون البحث عقلياً.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما استظهر كون النزاع لفظياً ، أورد إشكالاً ثمّ أجاب عنه ولما كان الإيراد والجواب مبهمين نأتي بتوضيحهما.
    أمّا الإشكال فحاصله : انّ الملازمة بين الحرمة والفساد إما ثابتة أو لا ، فعلى الوجه الأوّل يكون النزاع عقلياً ، وعلى الوجه الثاني تكون الملازمة منتفية ، فلم يبق لكون النزاع لفظياً أو عقلياً ملاك.
    وحاصل الجواب : انّ وجود الملازمة عبارة أُخرى عن دلالة النهي على الفساد عن طريق الدلالة الالتزامية وهي عند المنطقيين دلالة لفظية ، وإن كانت عند علماء البيان دلالة عقلية فالنزاع على القول بالملازمة لفظيّ أيضاً.
    يلاحظ عليه : بأنّه لم يدفع الإشكال بحذافيره وإنّما دفعه عند وجود النهي اللفظي فصار البحث لفظياً حتّى على القول بالملازمة بين الحرمة والفساد ، ولكن المورد أعمّ ، إذ ربّما لا يكون لفظ في المقام وإنّما دلّ الإجماع على التحريم دون وجود أيِّ لفظ فالفساد ثابت ومتحقّق دون أن تكون هنا دلالة لفظيّة.
    الرابع : لا شكّ أنّ المسألة أُصولية ، لأنّ نتيجة البحث تقع كبرى للاستنباط ، فلو قلنا بدلالة النهي على الفساد ، أو قلنا بالملازمة بين الحرمة والفساد أو بين النهي والفساد تكون العبادات والمعاملات المنهية فاسدة لا يترتّب عليها الأثر المقصود ، فإذا قال : « لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه » أو قال : « لا تبع ما ليس عندك » وقلنا بدلالة النهي على الفساد ، أو قلنا بالملازمة العقلية ، تكون


(290)
النتيجة فساد الصلاة والبيع ، فلا تكون الصلاة مسقطة للقضاء والإعادة كما لا يكون البيع سبباً لخروج المبيع عن ملك البائع ودخوله في ملك المشتري والثمن على العكس.
    فإن قلت : قد مرّ في المقدّمة الأُولى من مقدّمات علم الأُصول أنّ الفرق بين القاعدة الأُصولية والقاعدة الفقهية هو أنّ المحمول في الثانية حكم شرعي ، نظير قوله : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم انّه قذر » أو قوله : « لا تعاد الصلاة إلا في خمس » وأمّا المسألة الأُصولية فالمحمول فيها هو الحجّية وعدمها كالبحث عن حجية الخبر الواحد والإجماع والشهرة ، أو البحث عن الملازمات بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته.
    وعلى كلّ تقدير فالمحمول إمّا حكم عقلائي كحجية الخبر الواحد أو عقلي كباب الملازمات.
    وعلى ضوء ذلك فالمسألة في المقام قاعدة فقهية لأنّها تبحث عن فساد العبادة والمعاملة وعدمهما ، والفساد حكم شرعي كالصحة.
    قلت : إنّ الفساد والصحّة من الأُمور الانتزاعية من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدمه ، فهما حكمان وضعيّان منتزعان من قول الشارع « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » فيوصف عمل ناسي السورة بالصحّة ، بحكم الرواية ، كما يوصف بيع من باع من غير ملك بالفساد بفضل قوله : « لا تبع ما ليس عندك ».
    وعلى ذلك فليس الفساد كالصحة من الأحكام الشرعية بل من الأحكام الوضعية المنتزعة.
    نعم لو قلنا بأنّهما مجهولان فلا محيص عن كون المسألة فقهية.
    الخامس : إنّ للنهي أقساماً وإنّ أيّ قسم من الأقسام مورد للنزاع ، والأقسام كالتالي.


(291)
    ـ تحريمي وتنزيهي.
    ـ نفسي وغيري.
    ـ أصلي وتبعي.
    وقد اختلفت أنظار الأُصوليين في تعيين محط النزاع ، فذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الجميع داخل في محطّ النزاع ، فقولنا : هل النهي يدل أو يكشف عن الفساد ؟ يعم جميع الأقسام ، إمّا عنواناً أو ملاكاً ، كما سيتضح.
    وذهب المحقّق النائيني إلى اختصاص النزاع بالنهي التحريمي دون التنزيهي ، وبالنفسي دون الغيري ، ولم يذكر شيئاً حول الأصلي والتبعي.
    والحقّ مع المحقّق الخراساني ، وإليك بيان كلامه :
    إنّ النهي التحريمي داخل في محط النزاع ويشمله عنوان البحث ، وامّا النهي التنزيهي كالعبادة عند مطلع الشمس ومغربها فغير داخل في عنوان البحث ( هل النهي ... ) لانصراف النهي إلى التحريمي ولكنّه داخل فيه ملاكاً ، إذ لقائل أن يقول : إنّه يكفي عدم المطلوبية في الفساد وهو أمر مشترك بين التحريمي والتنزيهي.
    كما أنّ النهي النفسي داخل في مصب النزاع ، وأمّا الغيري كالنهي عن الصلاة عند ابتلاء المصلي بوجوب إزالة النجاسة عن المسجد فهو على قسمين : غيري أصلي ، وغيري تبعي.
    فلو قلنا بأنّ الملاك في تقسيم الأمر إلى الأصلي والتبعي إنّما هو مقام الإثبات والدلالة ، بمعنى أنّه إذا كان الوجوب مفهوماً بخطاب مستقل ومدلولاً بالدلالة المطابقية ، فالواجب أصلي ، وإن كان مفهوماً بتبع خطاب آخر ومدلولاً بالدلالة الالتزامية فالواجب تبعي ، فلو قلنا بهذا التفسير للأصلي والتبعي ،


(292)
فالغيري مطلقاً داخل في عنوان النزاع لشمول قوله : هل النهي يدلّ على الفساد للنهي المفهوم بالدلالة المطابقية أو الالتزامية.
    وأمّا لو قلنا بأنّ ملاك التقسيم إليها هو الثبوت لا الإثبات ، فلو كان الشيء متعلّقاً للإرادة على وجه الاستقلال عند الالتفات إليه بما هو عليه فهو أصلي ، وإن كان متعلّقاً بهاتبعاً لإرادة غيره من دون التفات إليه فهو تبعي ، فلو قلنا بهذا التفسير فالغيري التبعي بما انّه ليس مدلولاً للدلالة يكون داخلاً في محط البحث ملاكاً لاعنواناً.
    هذا هو توضيح ما أفاده المحقّق الخراساني. (1)
    يلاحظ عليه بأمرين :
    الأوّل : أنّ القول بانصراف النهي إلى التحريمي وخروج التنزيهي عن مدلوله غير تامّ ، لأنّ الانصراف إمّا لكثرة استعمال النهي في التحريمي ، أو لكثرة وجوده ، وكلاهما منتفيّان ، فانّ النهي استعمل في التنزيه كثيراً وله مصاديق متوفرة ، فالتحريمي والتنزيهي أمام العنوان سواء.
    الثاني : أنّه جعل الغيري التبعي تارة داخلاً في عنوان النزاع ، وأُخرى داخلاً فيه بملاك النزاع لا بعنوانه ، مع أنّ الأصلي أيضاً كذلك ، فلو فسّر الأصلي بما تعلّق به الخطاب على وجه الاستقلال ، فهو داخل في عنوان النزاع ، وان فسّر بما تعلّقت به الإرادة الاستقلالية وإن لم يتلفّظ به المولى ، فهو داخل في البحث ملاكاً ، اللّهمّ إلا أن يقال إذا كان الشيء متعلّقاً للإرادة الاستقلالية لا ينفك عن كونه متعلّقاً للنهي اللفظي مطلقاً ، فكأنّ الأصلي بكلا التفسيرين داخل في عنوان النزاع.
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني أخرج النهي التنزيهي عن محل النزاع قائلاً : بأنّ
1. كفاية الأُصول : 1/284.

(293)
النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من إطلاق الأمر فلا يكون بينهما معارضة ليقيّد به إطلاق الأمر ، نعم لو تعلّق النهي التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوى اقتضائه الفساد مجال من جهة انّ ما يكون مرجوحاً ذاتاً لا يصلح أن يتقرّب به ، إلا أنّ النواهي التنزيهية الواردة في الشريعة المتعلّقة بالعبادات لم تتعلّق بذات العبادة على وجه يتّحد متعلّق الأمر والنهي. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من عدم اقتضاء النهي التنزيهي فساد العبادة وإن كان حقاً ، لكنه لا يوجب خروجه عن محلّ النزاع ، إذ يمكن أن يتوهم أنّ النهي كاشف عن عدم المطلوبية أو الحزازة ، وهما لا يجتمعان مع التقرّب.
    والحاصل : انّ كون الفساد على خلاف التحقيق أمر ، وكونه غير داخل في محط النزاع شيء آخر ، والكلام في الدخول وعدمه إنّما هو قبل التحقيق وبيان الحال لا بعده ، وما ذكره راجع إلى ما بعد التحقيق.
    إلى هنا تمّ ما ذكره صاحب الكفاية والمحقّق النائيني ، بقي هنا أقسام لم يشر إليها المحقّق الخراساني وهي :
    1. النهي الإرشادي.
    2. النهي التشريعي.
    3. النهي التخييري في مقابل التعييني.
    أمّا الأوّل : فتارة يكون إرشاداً للفساد ، كقوله : « لا تبع ما لا يملك » ؛ وأُخرى يكون إرشاداً إلى المانعية ، كقوله : « لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه ». من غير فرق بين أن تفسّر المانعية بأخذ قيد عدمي في المأمور به ، أو بضدية الشيء المنهي عنه مع الصلاة وانّهما لا يجتمعان ، وبما أنّ النهي الإرشادي بكلا قسميه سواء كان
1. الفوائد الأُصولية : 1/455 ـ 456.

(294)
إرشاداً إلى الفساد أو إلى المانعية واضح الحكم فلا يكون داخلاً في محلّ النزاع.
    وأمّا الثاني : أي النهي التشريعي فمفاده النهي عن الاعتقاد بكون شيء مأموراً به بالخصوص ، كما إذا صلّى في مكان خاص زاعماً بتعلّق أمر خاص به مع إطلاق الأمر فصار باعتقاده وعمله مشرّعاً ، فهل هو داخل في محلّ النزاع أو لا ؟ اختار المحقّق القوجاني (1) الثاني قائلاً بأنّ مفاد النهي التشريعي هو البطلان فلا يتصوّر فيه النزاع.
    يلاحظ عليه : أنّ غاية ما يدلّ عليه النهي التشريعي هو حرمة الإتيان بالعمل الناشئ منه ، أمّا الفساد فليس من المداليل الواضحة ، فيقع البحث عن دلالته على الفساد أو ملازمته معه عقلاً أو عدمها.
    وأمّا الثالث : أي النهي التعييني والتخييري كما إذا قال : « لا تصلّ في الدار المغصوبة أو لا تجالس الفسّاق » فصلى فيها مع مجالستهم ، فالظاهر دخول القسمين في محلّ النزاع ، لكن المحرّم في الأوّل نفس العمل وفي الثاني الجمع بين العملين.

    السادس : في تعريف العبادة والمعاملة
    الغاية القصوى من عقد هذا الفصل ، هو استكشاف حال العبادة والمعاملة إذا تعلّق بهما النهي من حيث الصحّة والفساد ، فيلزم التعرّف على مفهوم العبادة والمعاملة.
    امّا العبادة : فقد عُرّفت بوجوه ثلاثة ـ وراء ما عَرَّف به المحقّق الخراساني ـ وهي :
    أ. ما أمر لأجل التعبّد به.
1. من تلاميذ المحقّق الخراساني ( قدس سره ) ومقرر بحثه وهو أُستاذ المحقّق المشكيني ( قدس سره ) توفّى سنة 1333 هـ.

(295)
    ب. ما تتوقف صحّتُه على نيّة القربة.
    ج. ما لا يعلم انحصارُ المصلحة فيها في شيء.
    وأورد عليها المحقّق الخراساني بأنّ الكلام في العبادة التي يتعلّق بها النهي ، والعبادة بهذه المعاني لا يتعلق بها النهي.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره يصحّ في التعريف الأوّل ، لأنّ ما أمر به يكون صحيحاً بالفعل ، فكيف يتعلّق به النهي ، بخلاف التعريفين الأخيرين ، فلا مانع من تعلّق النهي بما تتوقّف صحّته على الأمر ، ولكن لم يتعلّق به الأمر ، ومثله الثالث ، فلنرجع إلى ما ذكره المحقّق الخراساني من التعريف وقد عرفها بوجهين :
    1. ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى ، موجباً بذاته للتقرّب من حضرته لولا حرمته كالسجود والخضوع له وتسبيحه وتقديسه.
    2. ما لو تعلّق به كان أمره عباديّاً لا يكاد يسقط إلا إذا أتى به بنحو قربي ، كسائر أمثاله نحو « صوم العيدين » ، والصلاة في أيّام العادة. (1)
    يلاحظ على التعريف الأوّل : بأنّه لو كان السجود عبادة ذاتية ، لما جاز أمر الملائكة بالسجود لآدم ـ كما قال سبحانه : ( وإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) (2) فآدم كان مسجوداً له ، لا قبلة ، ولا مسجوداً عليه ، كالتربة الحسينية إذ معنى ذلك انّه سبحانه أمر بعبادة غيره الذي هو يساوي الأمر بالشرك المنزّه عنه سبحانه ، يقول : ( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون ). (3) والفحشاء القبيح ، أو ما اشتد قبحه والمقصود به هنا هو الشرك.
1. كفاية الأُصول : 1/286.
2. البقرة : 34.
3. الأعراف : 28.


(296)
    فالأولى أن يعرف بما ذكره ثانياً أعني : ما لو تعلّق به الأمر لا يكاد يسقط إلا إذا أتى به بنحو قربي (1) ، خرج التوصليّات فانّها لو تعلّق بها الأمر يسقط مطلقاً قصد به القربة أو لا. هذا كلّه حول العبادة.
    وأمّا المعاملة ، فقد أُريد منها في العنوان ، كلّ ما يكون قابلاً لوصفه بالصحة والفساد ، فيعمّ العقود والإيقاعات وغيرهما ، كالرضاع والاحياء من الموضوعات التي تارة يترتّب عليه الأثر المترتّب عنه ، وأُخرى لا يترتب لاختلال بعض الشرائط المعتبرة.
    فخرج الأمران التاليان :
    1. ما لا يترتّب عليه الأثر شرعاً مطلقاً ، كالغلبة في القمار.
    2. ما لا ينفك أثره عنه كالإتلاف بلا إذن ، لعدم طروء الفساد عليه.

    السابع : في معنى الصحّة والفساد
    ذكر المحقّق الخراساني في المقام أُموراً نشير إليها :
    1. انّ الصحّة والفساد ، وصفان إضافيّان يختلفان حسب الآثار والأنظار ، فربّ شيء يكون صحيحاً بحسب أثر ، دون أثر كإفساد الصوم بما يوجب القضاء دون الكفّارة ، فهو صحيح بالنسبة إلى الكفّارة وفاسد حسب القضاء ، كما ربّما يكون صحيحاً في نظر فقيه دون فقيه آخر.
    2. انّ الصحّة في العبادة والمعاملة ، بمعنى واحد وهو التمامية ، وأمّا الاختلاف فيهما فإنّما هو فيما هو المرغوب منهما من الآثار ، حيث إنّ المطلوب في
1. انّ شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ قد اختصر الكلام في تفسير العبادة ، وله بحث ضاف حولها في مفاهيم القرآن ، لاحظ الجزء الأوّل : 455 ـ 468.

(297)
العبادة حصول الامتثال أو سقوط التّضاد والإعادة ، وفي المعاملة ترتّب الأثر المطلوب كالملكية في البيع ، فتوصف الصلاة بالصحة لهاتين الغايتين ، كما يوصف البيع بالصحة لتلك الغاية ( ترتّب الأثر ) وإلا فالصحة في الموردين بمعنى التمامية.
    3. إنّ اختلاف الفقيه والمتكلّم في صحّة العبادة ليس اختلافاً مفهومياً أو اختلافاً جوهرياً ، بل الصحّة عند الطائفتين بمعنى واحد وهو التمامية ، لكن ملاك التمامية عند المتكلّم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً ، لاستحقاق المثوبة ، وملاكها عند الفقيه سقوط الإعادة والقضاء ، فكلّ ينظر إلى التمامية من منظاره الخاص ومطلوبه ، فالغاية عند المتكلّم هو تعيين موارد استحقاق المثوبة والعقوبة فيفسّر التمامية بموافقة الأمر ، أو الشريعة الملازم للامتثال الموجب عقلاً للمثوبة بخلاف الغاية عند الفقيه ، فهو بصدد تعيين موارد سقوط القضاء والإعادة فيفسّر التمامية بهما.
    4. انّ الأمر ينقسم إلى واقعي أوّلي وواقعي ثانوي وظاهري ، وقد اختلفت الأنظار في أنّ امتثال الأخيرين هل يجزيان عن امتثال الأمر الواقعي أو لا كالصلاة متيمّماً ، أو الصلاة بالطهارة الظاهرية ؟
    فلو فسّر الأمر في قوله : « امتثال الأمر ، يقتضي الإجزاء » بالأعم من الواقعي الثانوي والظاهري ، تكون النتيجة هو الإجزاء مطلقاً ، ولو فسّر بخصوص امتثال الأمر الواقعي ، تكون النتيجة عدم الإجزاء.
    وربّما يكون الملاك عند المتكلّم ، موافقة مطلق الأمر ، وعند الفقيه هو خصوص موافقة الأمر الواقعي ، فيكون مجزئاً عند الأوّل دون الثاني ، وربّما يكون الملاك على العكس ، فيكون مجزئاً عند الفقيه دون المتكلّم ، وربّما يتفقان في الملاك ، فيخرجان بنتيجة واحدة.


(298)
    فظهر انّه لا اختلاف في مفهوم الصحّة في الموارد التالية :
    1. لا في العبادات ولا في المعاملات.
    2. ولا بين الفقيه والمتكلّم.
    3. ولا في مجال امتثال الأمر الواقعي الثانوي.
    هذا توضيح ما في الكفاية :
    يلاحظ عليه أوّلاً : بما قدمناه في مبحث الصحيح والأعم (1) أنّ تفسير الصحّة بالتمام ليس تفسيراً تاماً في عامة الموارد وذلك لأنّ الصحّة تستعمل في موردين :
    1. الصحّة في مقابل المرض ، فيقال مصحّ لا مريض ، قال ابن فارس : الصحّة أصل يدل على البراءة من المرض والعيب وعلى الاستواء من ذلك ، والصحة : ذهاب السقم. وعند ذلك فالصحة كيفية وجودية في الشيء ملائمة لنوعه ، والمرض على خلافها. وبين المعنيين من التقابل تقابل التضاد.
    2. الصحّة في مقابل العيب ، فيقال صحيح لا معيب ، وإليه أشار ابن فارس في كلامه أيضاً فقال : البراءة من المرض والعيب ، فإذا كان الوجود تاماً حسب الخلقة النوعية يقال صحيح وإن كان ناقصاً يقال انّه معيب.
    وبذلك ظهر أنّ الصحّة بمعنى التمامية في خصوص المورد الثاني ، أي إذا استعملت في مقابل المعيب ، فيكون وزان الصحيح والمعيب ، وزان التام والناقص ، وبين المعنيين تقابل العدم والملكة. وأكثر استعمال الصحّة إنّما هو في المعنى المقابل للمرض.
    هذا حال اللغة : وأمّا اصطلاحاً فتطلق الصحّة تارة على الجامع للصفة
1. إرشاد العقول : 1/133.

(299)
المعتبرة في العبادة في مقابل الآخر إذا لم تكن كذلك. ككون القراءة صحيحة أو ملحونة ، فيكون بينهما من التقابل ، هو تقابل التضاد. وأُخرى على الجامع للأجزاء والشرائط وغير الجامع لهما ، فيكون بينهما من التقابل هو تقابل العدم والملكة. فالأوّل يناسب كون الصحّة في مقابل المرض ، والآخر كون الصحّة في مقابل المعيب.
    وثانياً : إنّ وصف المركبات الانتزاعية بالصحة والفساد إنّما هو بالإضافة إلى أنفسها عند تحقّقها في الخارج ( وسيوافيك أنّ الصحّة والفساد من عوارض الماهية الموجودة لا بما هي هي ) فإن كانت جامعة لما يعتبر فيها فصحيحة وإلا ففاسدة لا بالإضافة إلى الآثار والأنظار.

    الثامن : هل الصحّة والفساد مجعولان مطلقاً ؟
    هل الصحّة والفساد مجعولان مطلقاً أو ليس كذلك مطلقاً ، أو مجعولان في المعاملات دون العبادات ، أو الصحّة الظاهرية مجعولة دون الواقعية ؟ وجوه واحتمالات ، فتارة يقع الكلام في العبادات ، وأُخرى في المعاملات.
    نظرية المحقّق الخراساني حول الصحّة في العبادات
    يظهر من المحقّق الخراساني في مجعولية الصحّة في العبادات ، التفصيل التالي :
    أ. لو فسِّرت الصحّة والفساد وِفقَ مسلك المتكلّمين ( مطابقة المأتي به للشريعة ) فالصحّة والفساد وصفان اعتباريان ينتزعان من المطابقة وعدمها.
    ب. ولو فُسِّرت الصحّة والفساد وفق مسلك الفقهاء ( ما كان مسقطاً للإعادة والقضاء ) فالصحة والفساد حكمان عقليان حيث يستقل العقل بسقوط


(300)
الإعادة والقضاء جزماً أو يستقل بعدمها.
    وعلى ضوء ذلك فليست من الأحكام المجعولة مستقلة ولا من المجعولة تبعاً كما ليست أمراً اعتبارياً وانتزاعياً.
    هذا كلّه حول امتثال الأمر الواقعي ، وأمّا امتثال الأمر الاضطراري (1) فقد ذكر هنا صورة واحدة وهي ما إذا لم يكن المأتي به وافياً لمصلحة الواقع وكانت المصلحة الفائتة لازمة الاستيفاء ، فلو كان الاستيفاء حرجيّاً يكون السقوط ( الصحّة ) مجعولاً ـ شرعاً ـ تخفيفاً ومنّة على العباد مع وجود المقتضي لثبوت الإعادة والقضاء ، كما ربّما يكون وجوب الإعادة والقضاء ( الفاسد ) مجعولين كذلك.
    هذا خلاصة ما أفاده في « الكفاية » ويرجع حاصله إلى أُمور ثلاثة :
    أ. الصحة والفساد في مسلك المتكلّمين اعتباريان انتزاعيان.
    ب. وفي مسلك الفقهاء من الأحكام العقلية.
    ج. وفي امتثال الأمر الاضطراري إذا كان الفائت لازم الاستيفاء ولكن حرجيّاً تكون الصحّة مجعولة شرعاً وإلا يكون الفساد مجعولاً. (2)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الجمع بين الاعتباري والانتزاعي في الشق الأوّل على خلاف الاصطلاح ، فانّ الأمر الانتزاعي يُعدُّ من مراتب التكويني في بعض الموارد ، كما إذا كان المنشأ متحيثاً بحيثية وجودية ، كالفوقية المنتزعة من الطابق الثاني لكونه فوق الأوّل ، وهو تحته ، فلذلك قالوا إنّ الحقائق الخارجية إمّا جواهر ،
1. وقد أشار إليه بقوله : وفي غيره فالسقوط ربّما يكون مجعولاً ، والضمير يرجع إلى امتثال الأمر الواقعي الأوّلي ، فيكون المراد امتثال الأمر الواقعي الثانوي أي الاضطراري كالتيمّم.
2. كفاية الأُصول : 1/289.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس