إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 301 ـ 315
(301)
أو أعراض أو انتزاعيات ، بخلاف الأُمور الاعتبارية فانّ قوامها بإعطاء حدّ التكوين لشيء آخر ، اعتباراً ، كإعطاء حد الرأس الذي شأنه الإدارة للرئيس ، فهو رأس اعتباراً ، والآخرون بمنزلة الأعضاء فأين الثاني من الأوّل ؟!
    وللبحث حول الأُمور الانتزاعية والاعتبارية مجال آخر والغرض أنّ الجمع بينهما خلاف الاصطلاح.
    وثانياً : انّ الصحّة على مسلك المتكلّمين ليست من الأُمور الانتزاعية ولا الاعتبارية وإنّما هي من الأُمور الواقعية كسائر الواقعيات التي يدركها العقل ، فانّ حصول الامتثال بتطابق المأتي به للشريعة ، من الأُمور الواقعية كتطابق الخطين وتساويهما ، فالصحة عندئذ ليست أمراً انتزاعياً ولا اعتبارياً ولا مجعولاً بنفسه ولا مجعولاً بتبع أمر آخر ، ولا من الأحكام العقلية المستقلة كحسن الإحسان وقبح الظلم أو الملازمة بين الوجوبين ، بل واقعية يدركها العقل.
    نعم ما أفاده من أنّ الصحّة على مسلك الفقهاء ، من الأحكام العقلية ، إذ هو الحاكم بسقوط الإعادة والقضاء إذا أتى بالمأمور على ما هو عليه ، وعدمه إذا لم يأت كذلك.
    وثالثاً : أنّه ( قدس سره ) حكم بأنّ الصحّة والفساد مجعولين شرعاً فيما إذا كان المأتي به غير واف بمصلحة الواقع فيما كانت الإعادة أو القضاء حرجيّاً فيكون سقوطهما ( الصحة ) مجعولين وإلا كان ثبوتهما ( الفساد ) مجعولين ، مع أنّ الظاهر منه في مبحث الإجزاء ، أنّ الإجزاء وعدمه في الصورتين أمر عقلي (1) ، ومع ذلك يمكن تصحيح كونهما مجعولين لكن باعتبار منشأ انتزاعهما حيث إنّ العمل لا يوصف
1. كفاية الأُصول : 1/129.

(302)
بالصحة ، إلا برفع اليد عن جزئية الجزء وشرطية الشرط ، كما لا يوصف بالفساد إلا بإثباتهما ، فالمجعول رفع الشرط أو الجزء أو إثباتهما ، فيتبعهما جعل الصحة والفساد.
    إكمال
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أفاد في آخر التنبيه الذي عقده في ذيل الأمر السادس بأنّ الصحّة والفساد في الموارد الخاصّة لا يكاد يكونان مجعولين ، بل إنّما هي تتصف بهما بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ معنى ذلك أنّ الموصوف بالصحّة والفساد هو العناوين الكلّية من الصلاة والبيع ، واتّصاف الفرد الخارجي منهما إنّما هو بانطباق المفهوم الكلّي عليه ، ولكنّه كما ترى ، لأنّ الصلاة الكلية لا توصف بالصحة والفساد ما لم تتحقّق في الخارج ، فانّ الأجزاء والشرائط بما هي هي لا توصف بالصحّة والفساد ، وإنّما توصف بأحدهما إذا انطبق عليها عنوان الصلاة في الخارج ، فإن كانت جامعة لهما فتوصف بالصحة ، وإلا فتوصف بالفساد. وسيوافيك الكلام في البحث التالي.
    الصحّة في المعاملات
    قد وقفت على نظرية الخراساني حول الصحّة في العبادات وتفاصيلها ، وأمّا الصحّة في المعاملات فأفاد في المقام كالتالي :
    1. انّ الصحّة في المعاملات مجعولة ، حيث كان ترتّب الأثر على معاملة إنّما
1. كفاية الأُصول : 1/290.

(303)
هو بجعل الشارع وترتيبه عليها ولو إمضاءً ، ضرورة انّه لولا جعله لما كان يترتّب عليه لأصالة الفساد.
    2. نعم صحّة كلّ معاملة شخصية وفسادها ليس إلا لأجل انطباقها على ما هو المجعول سبباً وعدمه كما هو الحال في التكليفية من الأحكام ، فاتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة ليس إلا انطباق ما هو الواجب عليه.
    يلاحظ عليه بأمرين :
    1. انّه سبحانه جعل البيع حلالاً ، فقال : ( وأَحَلَّ اللّهُ البيعَ ) (1) ، وجعل الصلح بين المسلمين جائزاً ونافذاً فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الصلح جائز بين المسلمين ». فمتعلّق الجعل في الآية والرواية ، هو الحلّية والجواز ، لا الصحة ، فلو قلنا بأنّه لا دور للشارع في مجال المعاملات ، فالمراد انّه أمضى الحلّية والجواز الرائجين بين العقلاء قبل الإسلام.
    وأمّا الصحّة فإنّما يوصف بها العنوان إذا تحقّق في الخارج ، وانطبق عليه ما أمضاه الشارع بالحلّية أو الجواز.
    والحاصل : انّ المحقّق الخراساني خلط بين متعلّق جعل الحلية والجواز ( وإن شئت قلت القانونية ) وبين متعلّق الصحّة ، فمتعلق الحلّية والجواز هو العناوين الكلية والمجعول فيها هو الحلّية والجواز ، ومتعلّق الصحّة هو المصداق الخارجي المنطبق عليه تلك العناوين.
    وعلى ذلك فما هو المجعول شرعاً ولو إمضاء ، هو الحلّية والجواز ، لا الصحّة ، بل الصحّة والفساد تنتزع من انطباق تلك العناوين الحامل للأحكام على المصداق الخارجي ، وقد أشرنا إلى ذلك في الإكمال السابق.
1. البقرة : 275.

(304)
    التاسع : ما هو الأصل المعوّل عليه عند الشكّ ؟
    إذا ثبت عند المجتهد دلالة النهي على الفساد أو عدم دلالته عليه فهو في غنى عن طرح هذا البحث ، لعدم الحاجة إليه بعد وجود الدليل الاجتهادي على أحد الطرفين. وإنّما تصل النوبة إليه إذا قصرت اليدُ عن الدليل الاجتهادي ولم يثبت أحد الأمرين ، فلا محيص من الرجوع إلى الأصل العملي عند الشكّ.
    فنقول : تارة يتعلّق الشكّ بالمسألة الأُصولية ، وأُخرى بالمسألة الفرعية.
    أمّا الأوّل : فلو كان مصب النزاع عقلياً ، أي في وجود الملازمة بين النهي والفساد عقلاً وعدمها ، فلا أصل هنا يعوّل عليه ، إذ ليست للملازمة ولا لعدمها حالة سابقة ، وعلى فرض وجودها لا شكّ في الحالة اللاحقة ، إذ لو ثبت الملازمة لكانت باقية قطعاً ، ولو ثبت عدمها فكذلك.
    فخرجنا بالنتيجة التالية : انّه إذا كان النزاع عقليّاً فليس هاهنا قضية متيقّنة أوّلاً ، وعلى فرض وجودها فليس هاهنا قضية مشكوكة.
    أضف إلى ذلك أنّ الملازمة وعدمها غير قابلة للاستصحاب ، لأنّه يشترط فيه كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، والملازمة تفتقد هذا الشرط.
    هذا إذا كان مصبُّ النزاع في المسألة الأُصولية عقليّاً ، وأمّا إذا كان لفظياً ، أي في دلالة لفظ النهي على الفساد أو عدمه ، فالأصل وإن كان موجوداً ، أعني : أصالة عدم وضع النهي للفساد ولكنّها بالنسبة إلى إثبات أنّ النهي الموجود غير موضوع له مثبت ، وقد ثبت في محلّه انّ استصحاب النفي التام لا يثبت النفي


(305)
الناقص ، كاستصحاب عدم قرشية هذه المرأة عندما لم تكن موجودة وإثبات عدم قرشيتها بعدما وجدت ، لأنّ القضية المتيقّنة صادقة بانتفاء الموضوع ، والقضية المشكوكة لا تصدق إلا بعد وجود الموضوع وانتفاء محموله ، ومثله المقام حيث إنّ عدم دلالة النهي على الفساد لأجل عدم وجود الواضع والوضع ، فكان عدم دلالتها أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، والمقصود إثبات عدم الدلالة بعد وجود الواضع وثبوت الوضع وصدور النهي من المولى ، فالقضية المتيقّنة سالبة بانتفاء الموضوع ، والقضية المشكوكة ـ إن صدقت ـ صادقة بعد وجود الموضوع والاتصاف بعدم المحمول.
    فثبت أنّه لا أصل مفيد إذا كان النزاع في المسألة الأُصولية ، إمّا لا أصل ـ كما إذا كان عقليّاً ـ أو هنا أصل ولكنّه مثبت كما إذا كان النزاع لفظيّاً.
    إذا كان الشكّ في المسألة الفرعية
    إذا كان الشكّ في المسألة الفرعية في باب المعاملات بأن شك في صحّة البيع وقت النداء ، أو صحة المضاربة مع شرط اللزوم ، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الأصل هو الفساد ، لأنّ مقتضى صحّة البيع مثلاً انتقال المبيع من ملك البائع إلى ملك المشتري والثمن على العكس ، فالأصل عدم حصول النقل والانتقال.
    هذا في المعاملات ، وأمّا في العبادات فقد أفاد المحقّق الخراساني بأنّ الأصل هو الفساد ، لأنّ تعلّق النهي مانع عن تعلّق الأمر لامتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، فصوم يوم الفطر إذا كان منهيّاً عنه يمتنع أن يتعلّق به الأمر.


(306)
    كلام للمحقّق الإصفهاني
    وأورد عليه المحقّق الاصفهاني ( قدس سره ) بأنّه لا شكّ في المسألة الفرعية حتّى يؤسس الأصل في مقام الشكّ ، لأنّ الصحّة لو كانت بمعنى موافقة الأمر فلا شكّ في الفساد لعدم تعلّق الأمر بالعبادة مع تعلّق النهي بها.
    وإن كان بمعنى موافقة المأتي به للمأمور به من حيث الملاك فهو قطعي الثبوت ، فالمنهي عنه مستجمع لجميع الأجزاء والشرائط الدخيلة في الملاك ، والشكّ في أمر آخر وهو إمكان التقرّب مع المبغوضية وعدمه ، ولا أصل يقتضي أحد الأمرين ، فكيف يقال الأصل الفساد ؟ (1)
    وحاصله : انّه لو كان ملاك الصحّة ، هو الأمر ، فالعبادة باطلة قطعاً بلا شكّ لعدم الأمر ؛ ولو كان ملاك الصحة هو وجود الملاك فهو صحيح قطعاً لكونه واجداً للملاك ، ولو طرأ الشكّ في الصحة لأجل إمكان التقرّب مع المبغوضية وعدمه فلا أصل يعيّن أحد الطرفين.
    يلاحظ عليه أوّلاً : نختار الشقّ الثاني وهو انّ الصحّة تدور حول وجود الملاك في الصلاة ، والقول بأنّه قطعي الثبوت غيرتام ، إذ لو كان الشكّ في الصحّة لأجل ابتلاء العبادة بالمزاحم كابتلاء الصلاة بإزالة النجاسة عن المسجد ، فالقول بوجود الملاك القطعي صحيح ، وأمّا إذا كان الشكّ معلولاً لأجل النهي عن الجزء كقوله لا تقرأ العزائم في الصلاة ، أو الوصف كالنهي عن الصلاة متكتفاً ، فالقول بأنّ الملاك قطعي غير صحيح ، لاحتمال أن تكون الصلاة مقيّدة بغير العزائم والتكتّف ، والشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في كون الصلاة تامّة من حيث عدم
1. نهاية الدراية : 1/310.

(307)
المانع أو لا ، فعندئذ يكون الملاك أيضاً مشكوكاً.
    وثانياً : لو افترض أنّ الشك في إمكان التقرّب مع المبغوضية وعدمه ، فقوله « لا أصل » غير صحيح ، لوجود الأصل وهو انّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، فليس للمكلّف الاكتفاء بالصلاة مع سور العزائم أو التكتّف لاحتمال مانعيتها ، فيجب عليه الإعادة أخذاً بقاعدة الاشتغال. (1)
    كلام للمحقّق النائيني
    وقد فصّل المحقّق النائيني ( قدس سره ) بين ما إذا كان الشكّ في صحتها وفسادها لأجل شبهة موضوعية ، كما إذا شكّ في أنّه ركع أو سجد في الركعة الأُولى أو لا ؟ فمقتضى القاعدة الأُولى فسادها مع قطع النظر عن القاعدة الثانية ( قاعدة الفراغ والتجاوز ).
    وأمّا إذا كان لأجل شبهة حكمية ، فالحكم بالصحّة والفساد عند الشكّ يبتني على الخلاف في جريان البراءة أو الاشتغال عند الشكّ في الجزئية أو الشرطية أو المانعية.
    وإن شئت قلت : الشكّ في اقتضاء النهي للفساد يستتبع الشكّ في مانعية المنهي عنه عن العبادة وعدمها ويندرج في مسألة الأقل والأكثر. (2)
    يلاحظ عليه : بأنّ كلاً من الشقين خارج عن محطّ البحث ، أمّا إذا كانت الشبهة موضوعية فلا نهي هناك حتّى يدخل في صلب الموضوع ، فمن يشكّ في أنّه
1. هذا وقد قرر شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ هذه المباحث على خلاف ما قرره في الدورة الثالثة ، فلو كان هناك خلاف بيننا وبين ما أفاده في تلك الدورة فهو راجع إلى اختلاف التقرير من جانب شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ.
2. أجود التقريرات : 1/394.


(308)
ركع أو سجد لا نهي هنا قطعاً حتّى يبحث في دلالته ، وأمّا إذا كانت الشبهة حكمية فالشكّ في الصحة وإن كان نابعاً من الشكّ في مانعية التكتّف أو لبس خاتم الذهب فبالتالي يدخل في مبحث الشكّ في المانعية الذي يبحث عنه في باب الاشتغال ، ولكنّه خروج عن نمط البحث في المقام ، فانّ البحث هنا مركّز على شيء واحد وهو دلالة النهي على الفساد وعدمها ، وإرجاع البحث إلى الشكّ في المانعية وإدخاله في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين خروج عن موضوع البحث.
    كلام للمحقّق الحائري
    قد فرّق شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري ( قدس سره ) بين كون النزاع لفظياً وكونه عقلياً ، إذ على الأوّل يرجع الشكّ إلى تقييد دليل العبادة بغير الخصوصية كالتختّم بالذهب والتكتّف ، ومعه إمّا تجري البراءة أو الاشتغال على الخلاف ، بخلاف ما إذا كان عقلياً ، وإنّما الشكّ في القرب المعتبر في العبادات هل يحصل بإيجاد العمل في ضمن فرد محرّم ، أو لا والأصل الاشتغال حتّى يحصل القطع. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره في الشق الثاني لا غبار عليه ، وقد أوضحناه عند نقل كلام المحقّق الاصفهاني حيث زعم « انّه لو كان مناط الصحة هو الملاك فيرجع إلى مبغوضية المنهي عنه وعدمها ولا أصل في البين » وقد عرفت أنّ الأصل هو انّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينة.
    نعم يرد الإشكال على الشقّ الأوّل حيث أرجع البحث في المقام إلى الشكّ في تقييد العبادة بغير الخصوصية ( التكتّف مثلاً ) وقد عرفت أنّ هذا خروج عن
1. درر الأُصول : 1/155.

(309)
موضوع البحث ، بل البحث مركَّز على كون النهي مانعاً عن الصحّة أو لا ، لا كون النهي سبباً للشكّ في تقييد المأمور به بعدم المنهي عنه.
    فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ الأصل في العبادات المنهية هو الفساد ، إذ الشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في حصول البراءة اليقينية ، ومعه تجب الإعادة والقضاء.

    العاشر : في أقسام تعلّق النهي بالعبادة
    إنّ النهي عن العبادة على أقسام :
    1. إمّا يتعلّق بنفس العبادة.
    2. أو جزئها.
    3. أو شرطها الخارج عنها كالتستّر.
    4. أو وصفها الملازم لها.
    5. أو وصفها غير الملازم لها.
    6. أو يتعلّق بها لا بالمباشرة ، بل لأجل تعلّق النهي بأحد هذه الأُمور.
    فقد قدّم المحقّق الخراساني البحث في تعلّق النهي بالجزء والشرط و... ، ثمّ انتقل إلى البحث عن تعلّق النهي بنفس العبادة ، وبعد إنهائه استعرض مسألة تعلّق النهي بالمعاملات ، ونحن نقتفيه أيضاً فنقول :
    1. إذا تعلّق النهي بالجزء
    إذا تعلّق النهي بالجزء كالنهي عن قراءة سور العزائم في الصلاة ، روى زرارة عن أحدهما عليهما السَّلام قال : « لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم ، فانّ السجود


(310)
زيادة في المكتوبة » (1) فقال المحقّق الخراساني : إنّ النهي يوجب بطلان الجزء لكن بطلانه لا يوجب بطلان العبادة إلا في صورتين :
    1. إذا اقتصر على الجزء المنهي عنه لا مع الإتيان بغيره ممّا لم يتعلّق به النهي بأن يقرأ سورة أُخرى من العزائم.
    2. إذا استلزم الإتيان بجزء آخر ، محذوراً كالقران بين السورتين وقد نهي عنه ، روى الصدوق عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) أنّه قال : « لا قرآن بين السورتين في ركعة ». (2)
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني أورد على نظرية المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة. وحاصل الوجوه : انّ النهي عن الجزء ، مبطل للجزء والكلّ ، أي العبادة ، وإليك الوجوه :
    الأوّل : انّ النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء ، وتكون نسبة العبادة إلى ذلك الجزء المنهي عنه « بشرط لا » لا محالة ، واعتبار العبادة « بشرط لا » بالنسبة إلى شيء ، يقتضي فساد العبادة المشتملة على ذلك الشيء لعدم كون الواجد من أفراد المأمور به ، بل المأمور به غيره ، فالآتي بالمنهي عنه غير آت بالمأموربه.
    الثاني : انّه يعد زيادة في الفريضة فتبطل الصلاة بسبب الزيادة العمدية المعتبر عدمها في صحتها ، ولا يعتبر في تحقّق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من جنس إجزاء العمل ، نعم يعتبر قصد الجزئية في صدقها إذا كان المأتي به من غير جنسه.
1. الوسائل : 4 ، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث 1.
2. الوسائل : 4 ، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث 12.


(311)
    الثالث : انّه تعمّه أدلّة مبطلية مطلق التكلّم من غير تقييد بكلام الآدمي ، والقدر الخارج عن هذا الإطلاق هو التكلّم بالقرآن والذكر الجائزين ، ويبقى الذكر والقرآن المنهي عنهما داخلين تحت الإطلاق. (1)
    والوجوه الثلاثة تهدف إلى أنّ بطلان الجزء موجب لبطلان الكلّ أي نفس العبادة ، فتارة من جهة فقدان وصف الصلاة ، أي اللا بشرط ، وأُخرى من جهة الزيادة ، وثالثة من جهة كونه تكلّماً غير جائز.
    يلاحظ على الأوّل : أنّ حرمة جزء العبادة ليست إلا بمعنى حرمته في نفسه ، وحرمته كذلك تقتضي بطلانه وعدم حصول الامتثال به ، وأمّا تقييد العبادة بعدمه ، وكون نسبتها إليه ، على نحو « لا بشرط » فهو ممّا لا تدلّ عليه حرمة الجزء.
    وإن شئت قلت : قولنا : « جزء العبادة » تعبير مسامحي ، فانّ الروايات الناهية عن قراءة سور العزائم في المكتوبة سلبت عنها وصف الجزئية ، وصارت قراءتها فيها ، كالنظر إلى الأجنبيّة في حال الصلاة ، فكما أنّ الثاني ، لا يبطل العبادة فهكذا قراءة العزائم ، وكون السورة المنهيّة من جنس سائر الأجزاء دون النظر لا يكون فارقاً ، بعد سلب عنوان الجزئية عنها بقوله « لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم ».
    وبطلان الجزء [ الشأني ] في نفسه ، يلازم بطلان العبادة إذا اقتصر به ، وأمّا إذا قرأ سورة أُخرى ، كانت الصلاة واجدة للجزء لولا المحذور الآخر ، أعني : قران بين السورتين المنهي عنه كما مرّ.
    ويلاحظ على الثاني : المفروض انّ المصلّي عالم بالحكم ، وانّ الشارع سلب عن العزائم عنوان الجزئية فيمتنع أن يقرأها بقصد الجزئية ، وإنّما يقرأها بعنوان انّه
1. أجود التقريرات : 1/397 ؛ فوائد الأُصول : 1/465 ـ 466.

(312)
قرآن ، فعندئذ كيف يكون سبباً للزيادة مع عدم قصد الجزئية ؟ والتفريق بين ما كان من سنخ العبادة وغيرها باشتراط قصدها في الثاني دون الأوّل خال عن الوجه ، وذلك للفرق الواضح بين كون شيء جزءاً تكوينياً وكونه جزءاً اعتباريّاً ، فلو زاد في المركب الخارجي شيئاً عن سهو ، صدق انّه زاد فيه سواء قصد الجزئية أم لا ، وبين كونه جزءاً اعتبارياً للمركب الاعتباري الذي هو في الحقيقة أُمور مختلفة ، متفرقة ، من مقولات متشتّة ، يجمعها عنوان اعتباري آخر كالصلاة ، ففي مثلها ، تكون جزئية الشيء رهن القصد والاعتبار فلا يصدق انّه زاد في صلاته إلا إذا أتى بالجزء بما انّه جزء منه ، والمفروض خلافه. نعم لو أتى بالجزء بما انّه جزء للصلاة وانّه لا فرق بين العزائم وغيرها صدقت الزيادة.
    فإن قلت : إنّ الإمام عدّ السجود لأجل قراءة العزائم زيادة في المكتوبة كما مرّ ، مع أنّه لم يقصد كونه جزءاً من الصلاة ، وهذا دالّ على التفصيل بين ما يكون من جنس المزيد عليه وما ليس كذلك.
    قلت : لعلّ المراد كون السجود ماحياً للهيئة الصلائية المعتبرة فيها كالأفعال الكثيرة المبطلة ، بما هي ماحية لها ، وإلا فالاستعمال أعمّ من الحقيقة ، وإطلاقها على السجود في مورد لا يكون دليلاً على صحّة إطلاقها على غيره إذا لم يقصد كونه من الصلاة.
    وعلى الثالث ، فانّ المحرّم هو التكلّم بكلام الآدمي لا مطلق التكلّم حتّى يخصص بالقرآن والذكر الجائزين ويبقى القرآن والذكر المحرّمين تحته ، ويدلّ على ذلك لسان الروايات.
    روى أبو بصير عن الصادق ( عليه السَّلام ) : « ان تكلمت أو صرفت وجهك عن القبلة فأعد الصلاة ». (1)
1. الوسائل : 4 ، الباب 25 من أبواب القواطع ، الحديث 1 و2 و4.

(313)
    أضف إلى الجميع أنّ المسألة أُصولية ، لا فقهية ، فيجب تحليلها على غرار سائر المسائل الأُصولية بأن يركّز على البحث في الملازمة أو دلالة النهي على الفساد ، وأمّا تحليله بفقدان الوصف أو الزيادة ، أو بكونه تكلّماً فهو يناسب المسائل الفرعية.
    2. إذا تعلّق النهي بالشرط
    إذا تعلّق النهي بالشرط ـ كالتستر بالحرير ـ فهل يوجب فساد العبادة أو لا ؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين أن يكون الشرط عبادة ، كالطهارات الثلاث فانّ فسادها يوجب فساد المشروط ، وما لا يكون عبادة كالتستر فانّ النهي يجتمع مع الصحة لعدم لزوم قصد القربة حتّى لا تجتمع مع الحرمة.
    يلاحظ عليه : أنّ الشرط غير العبادي إذا كان متقدّماً على المشروط صح ما ذكره كغسل الثوب النجس بالماء المغصوب ، والصلاة فيه بعد جفافه وأمّا إذا كان الشرط مقارناً مع الصلاة كالتستر ، فانّ النهي عنه كاشف عن مبغوضيته وعدم إمكان التقرّب بالصلاة المتّحدة مع الشرط المبغوض.
    وبعبارة أُخرى : انّ هنا ـ مشروطاً كالصلاة ـ وقيداً كالثوب المنسوج من الحرير ـ وتقيداً وهو الإضافة الحاصلة بين الستر والصلاة ، وذات القيد أي نفس الثوب وإن كان خارجاً عن الصلاة ، لكن التقيّد داخل فيها ، فالأمر يتعلّق بالصلاة التي تكون العورة فيها مستورة ، فإذا كان الشرط أي التستّر محرماً ، يمتنع تعلّق الأمر الصلائي به ولو بانبساط الأمر ، وقد اشتهر قولهم : « تقيّد جزء وقيد خارجي » فالتستّر جزء من الصلاة داخل فيها وإن كان نفس الستر خارجاً فالأمر النفسي المتعلّق بالمشروط ، يتعلّق بالشرط أيضاً والنهي مانع عن تعلّقه به.


(314)
    فإن قلت : إذا كان التقيّد أمراً ذهنياً ، فلا يكون متعلّقاً للأمر النفسي ولو بانبساطه إلى الأجزاء والشروط.
    قلت : المراد من كونه أمراً ذهنياً أنّ وجوده ليس من سنخ الجواهر بأن يكون عيناً من الأعيان ، وإلا يلزم أن تكون المعاني الحرفية كلّها أُموراً ذهنية فاقدة للواقعية ، مع أنّها من مراتب التكوين ، ولذلك يمكن أن يقال انّ التستّر ، كالتعمم والتقمّص من مقولة الجدة وله واقعية كسائر الأعراض النسبية.
    فإن قلت : ما الفرق بين الجزء والشرط حيث إنّ بطلان الجزء بما هو هو لا يوجب بطلان الكل ، بخلاف الشرط فانّ مبغوضية « الشرط » أي « التستّر » توجب بطلان العبادة ؟
    قلت : الفرق واضح فانّه ليس للجزء المنهي أيُّ دور في قوام الصلاة وانّما هو فعل زائد في الصلاة موصوف بالحرمة ، بمعنى أنّه لا يسري بطلانه إلى الكلّ إذا استدركه بإتيان فرد منه غير ممنوع ، بخلاف الشرط فانّ له دوراً في الصلاة ، لأنّه من توابع الصلاة ومكمّلاً لها حيث لا تصحّ الصلاة بلا تستر.
    3. إذا تعلّق النهي بالوصف اللازم
    إذا تعلّق النهي بالوصف اللازم كالجهر بالقراءة في الصلوات النهارية ، فهل يدلّ على فساد القراءة أو لا ؟
    وربّما يفسّر الوصف اللازم بما لا ينفك عن الملزوم ، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، لكن التفسير خاطئ من وجهين :
    1. انّ الجهر ليس من اللوازم غير المنفكّة ، لإمكان القراءة بالمخافتة.
    2. لو كان الوصف ممّا لا ينفك ، يمتنع تعلّق الوجوب بالملزوم والحرمة


(315)
باللازم لاستلزامه طلب الضدّين ولذلك قيل بأنّ اللاّزم وإن كان لا يجب أن يكون محكوماً بحكم الملزوم لكن يجب أن لا يكون محكوماً بحكم يضادّ حكم الملزوم كما في المقام.
    بل المراد من اللازم مالا يمكن سلبه مع بقاء موصوفه ، وفي المقام تنعدم القراءة الشخصية مع انعدام وصفها ، نعم يمكن إيجاد قراءة أُخرى في ضمن صنف آخر.
    وإن شئت قلت : أن لا يكون للموصوف وجود مغاير للوصف حيث إنّ الجهر من كيفيّات القراءة وخصوصياتها.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ النهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن القراءة لامتناع كون القراءة التي يجهر بها مأموراً بها مع كون الجهر بها منهيّاً عنه فعلاً.
    وما ذكر مبنيّ على مختاره في باب تعلّق الأحكام فانّ التحريم عنده يتعلّق بما هو مصداق الجهر خارجاً ، والمفروض انّه متّحد وجوداً مع القراءة ، ولو تعلّق بها الأمر ، يلزم أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به النهي لحديث اتحادهما في الخارج وهو محال ، ولازم ذلك خروج القراءة عن تحت الأمر فيكون ما أتى به غير مأمور به ، وما هو المأمور به ، غير مأتي به ، وهذا هو الوجه لفساد القراءة ـ عند المحقّق ـ لا ما ذكره بعض الشرّاح من « أنّه لا يمكن عند العقل أن يكون أحد المتلازمين واجباً والآخر حراماً » لما عرفت من عدم صحّة تفسير اللازم في المقام بما ذكر.
    وأمّا تفسير الفساد ، بامتناع التقرّب بهذه القراءة المنهية ، أو استلزام النهي كون القراءة فاقدة لوصفها الشرعي ، أعني : المخافتة ، كلّها خروج عن محط البحث ، لأنّ البحث أُصولي ، لا فقهي ، وما ذكر من الوجهين يناسب كون البحث
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس