إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 316 ـ 330
(316)
فقهياً.
    لكن الظاهر عدم اقتضاء النهي الفساد ، لما عرفت من أنّ متعلّق الأحكام هو العناوين الفعلية ، والمصاديق ليست متعلّقة للأحكام ، وإنّما هي مصاديق لما هو الواجب ، والقراءة والجهر من المفاهيم المختلفة فلا يسري الحكم المتعلّق بالجهر إلى القراءة وهكذا بالعكس.
    4. إذا تعلّق النهي بالوصف المفارق
    إذا تعلّق النهي بالوصف المفارق ، كالغصب بالنسبة إلى الصلاة حيث إنّ الصلاة عبارة عن الأذكار والأفعال ، والغصب ، هو الاستيلاء على مال الغير عدواناً ، وهما في الخارج حقيقتان مختلفتان ، بل ربّما يحصل الاستيلاء بلا تصرّف في مال الغير ، كما إذا منع المالك من التصرّف في ماله ، وسلب سلطانه عنه من دون أن يتصرّف في الدار ، فعندئذ عدم استلزام النهي ، فساد الموصوف واضح لا يحتاج إلى البيان ، وأمّا فسادها لأجل عدم حصول التقرب وغيره فهو خارج عن محط البحث.
    5. إذا تعلّق النهي بالعبادة لأجل أحد هذه النواهي
    إذا تعلّق النهي بالعبادة وكان النهي ناجماً من تعلّق النهي بالجزء ، أو الشرط وغيرهما فهو على قسمين ، فتارة يكون النهي عن الجزء والشرط واسطة في العروض فيكون حكمه ، حكم الواسطة ، وأمّا إذا كان النهي عن أحد هذه الأُمور واسطة في الثبوت ، يدخل في باب النهي المباشر عن العبادة الذي سوف يوافيك حكمه.
    وجهه ، انّه إذا كانت الواسطة ، واسطة في العروض ، كقولك جرى الميزاب ،


(317)
فإنّ جريان الماء واسطة لنسبته إلى الميزاب ، فلا يكون ذو الواسطة ( الميزاب ) موصوفاً حقيقة بالجريان وإنّما ينسب إليه مجازاً وبالعرض ، بإعطاء حكم الحالّ للمحلّ ، فيكون النهي الناجم من هذه النواهي ، المتعلّق بنفس العبادة ، نهياً مجازيّاً لا حقيقياً ، فلا يزيد حكمه على حكم الواسطة.
    وإذا كانت الواسطة ، واسطة في الثبوت كوساطة النار لعروض الحرارة على الماء ، يكون ذو الواسطة ( الماء ) موصوفاً بالحرارة حقيقة ، لا مجازاً ، فيكون النهي المتولّد من هذه النواهي نهيّاً حقيقياً متعلّقاً بالمباشرة بالعبادة فيدخل في قسم النهي عن ذات العبادة الذي سيوافيك بيانه.
    ثمّ إنّ هذه الأقسام الخمسة متصوّرة في النهي عن المعاملة ، فتارة يتعلّق النهي بجزء المعاملة ، وأُخرى بشرطها وهكذا ... ، ولكنّها فروض لا مصداق لها في الخارج وكلّها مبتنية على كون أسماء المعاملات ، أسماء للأسباب المركّبة ، لا للمسببات البسيطة كالملكية في البيع.
    إذا عرفت ذلك فلنعد إلى ما هو المقصود من عقد هذا الفصل ، أعني :
    1. تعلّق النهي بنفس العبادة.
    2. تعلّق النهي بنفس المعاملة.
    فيقع الكلام في مقامين.
    الأوّل : تعلّق النهي بالعبادة
    إذا تعلّق النهي بالعبادة ، فهو إمّا مولوي ، وإمّا إرشادي. والمولوي إمّا ذاتي أو تشريعي ، فتصير الأقسام ثلاثة ، وإليك بيان أحكامها :


(318)
    1. النهي التحريمي المولوي الذاتي
    إذا تعلّق النهي التحريمي المولوي الذاتي بذات العبادة كصلاة الحائض في قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « دع الصلاة أيّام أقرائك ». (1) وصوم يوم الفطر في قوله : « نهى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن صيام ستة أيام يوم الفطر ، ويوم النحر ... ». (2)
    أو بذات العبادة ، ولكن بواسطة النهي عن وصفه كصوم الوصال في قوله : « لا وصال في الصوم » (3) فهل يدلّ النهي على الفساد أو لا ؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الدلالة واستدلّ بالبيان التالي :
    إنّ الصحّة إمّا بمعنى مطابقة الأمر للشريعة كما عليه المتكلّمون أو بمعنى سقوط الإعادة والقضاء.
    فعلى الأوّل الصحة فرع الأمر ، ومع النهي عن ذات الشيء لا يتعلّق به الأمر.
    وعلى الثاني فسقوط القضاء والإعادة فرع تمشّي قصد القربة ، ومع الحرمة الذاتية كيف يتمشّى قصدها ؟!
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على نفسه إشكالاً حاصله :
    إنّ النهي في الموارد المذكورة ليس نهياً تحريمياً ذاتيّاً وإنّما هو نهي تحريمي تشريعي ، وذلك لأنّ متعلّق النهي الذاتي إمّا العبادة الشأنية ، أو العبادة الفعلية.
    وإن شئت قلت : إمّا ذات الفعل بلا قصد القربة ، أو هو مع قصد القربة.
    فالأوّل ليس عبادة فلا يوصف فعلها بالحرمة ، كما إذا علّمت الحائض إقامة
1. مسند أحمد : 6/42 و262 وفي المصدر « حيضك ».
2. الوسائل : 6 ، الباب 1 من أبواب الصوم المحرم ، الحديث 4.
3. الوسائل : 6 ، الباب 4 من أبواب الصوم المحرم ، الحديث 1.


(319)
الصلاة من حضرها من النساء.
    وعلى الثاني ، أي ما يكون متعلّق النهي العبادة الفعلية والتي تعلّق به الأمر بالفعل فلا يخلو إمّا أن يقصد الأمر الواقعي أو الأمر التشريعي.
    فالأوّل أمر غير ممكن لامتناع تعلّق الأمر بالمحرّم ذاتاً ، وعلى الثاني تكون الحرمة تشريعية لا ذاتية ، ومعه يمتنع أن يتعلّق به نهي ذاتي لامتناع اجتماع المثلين.
    وإلى هذه القضية المنفصلة أشار المحقّق الخراساني بقوله : « وعدم القدرة عليها مع قصد القربة ( إذا قصد الأمر الواقعي ) إلا تشريعاً ( إذا قصد الأمر التشريعي ) وبالنتيجة يصبح النهي تشريعيّاً لا ذاتياً » والكلام في النهي الذاتي.
    ولتوضيح الحال نذكر صلاة التراويح التي نهي عن إقامتها جماعة.
    فإن أتى بها بلا قصد الأمر الواقعي فلا تكون محرّمة ، وإن أتى بها بقصد الأمر الواقعي فهو غير ممكن لامتناع تعلّق الأمر بها مع النهي.
    وإن أتى بها بالأمر التشريعي بأن ادّعى انّ الشارع أمر بصلاة التراويح جماعة فتصبح العبادة حراماً تشريعياً ويمتنع أن يتعلّق بها نهي ذاتي لامتناع اجتماعهما.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الإشكال بوجوه أربعة :
    أوّلاً : نختار الشق الأوّل وانّ المراد من العبادة ، العبادة الشأنية ، أعني : الفعل الذي لو تعلّق به الأمر يكون عبادة وإن لم يتعلّق به الأمر الفعلي كصوم يوم العيدين فانّ فيه تلك القابلية ، أعني : لو تعلّق به الأمر يكون عبادة فالإتيان به والحال هذه حرام ذاتي ، فسقط قول المعترض « من أنّه بدون قصد القربة ليس بحرام ».
    وثانياً : نختار الشق الثاني أي كون متعلّق النهي العبادة الفعلية ولكنّها


(320)
ليست رهن أمر فعلي ، بل ربّما تكون عبادة ذاتية كما في نهي الحائض عن السجود للّه فتكون عبادة محرّمة ذاتاً بلا حاجة إلى الأمر.
    وثالثاً : نمنع ما قاله من أنّه : « إذا قصد الأمر التشريعي يصير حراماً تشريعيّاً ويمتنع تعلّق النهي الذاتي به لاستلزامه اجتماع المثلين ، وذلك لاختلاف متعلّق الحرمتين ، لأنّ النهي الذاتي تعلّق بذات الفعل والحرمة التشريعية تتعلّق بعقد القلب بأنّه ممّا أمر به الشارع مع أنّه لم يأمر به.
    ورابعاً : نفترض أنّ النهي ليس ذاتياً بل نهي تشريعي فيكون دالاً على الفساد ولا أقلّ يدلّ على أنّها ليست بمأمور بها وان عمّها إطلاق دليل الأمر أو عمومه ... فيخصص به ( النهي ) أو يقيد. (1)
    يلاحظ على الأوّل بأنّ ما ذكره وإن كان صحيحاً في تعريف العبادة وقد قلنا بصحّة التعريف في أوائل البحث ، لكن عنوان البحث ، أعني قولهم : « هل النهي عن العبادة يدلّ على الفساد أو لا » ناظر إلى العبادة الفعلية لا الشأنية.
    ويلاحظ على الثاني بأنّه مبنيٌّ على وجود العبادة الذاتية كالسجود للّه ، وقد عرفت ضعفها ، لأنّه يستلزم أن يكون أمر الملائكة بالسجود لآدم أمراً بالشرك ، وهو فحشاء ، واللّه سبحانه لا يأمر بالفحشاء أتقولون على اللّه ما لا تعلمون.
    ويلاحظ على الثالث بأنّ تصوير النهيين : الذاتي والتشريعي والقول باختلاف متعلّقها صحيح على القول بإمكان التشريع وراء البدعة ، وأمّا على ما حقّقناه من امتناع التشريع بالمعنى الرائج عند العلماء وهو عقد القلب بوجوب شيء يعلم بعدم وجوبه شرعاً ، فهو غير متصوّر. إذ كيف يتأتّى عقد القلب بما
1. كفاية الأُصول : 1/295 ـ 296. قوله « فيخصص به أو يقيّد » ناظر إلى قوله : إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه ولا صلة له بقوله : « نعم لو لم يكن النهي عنها إلا عرضاً ».

(321)
يعلم خلافه ؟!
    نعم الذي يتصوّر هو البدعة ، وهو القيام العملي بنشر البدع بين الناس والقول بأنّها من الشارع ، وهو غير التشريع.
    وأمّا الرابع فهو عدول عن القول بالحرمة الذاتية وتسليم للحرمة التشريعية.
    هذا كلّه حول ما ذكره المحقّق الخراساني وما يرد عليه.
    والذي نقول به : إنّ النهي في هذه الموارد وما شابهها ليس نهياً ذاتيّاً كالنهي عن الخمر والقمار كما يدّعيه المحقّق الخراساني ، ولا نهياً تشريعيّاً كما كان يدّعيه المستشكل ، بل النهي في هذه الموارد إرشادي إلى فساد العبادة وعدم تحقّقها والذي يدلّ على ذلك هو فهم العرف في امتثال الموارد.
    مثلاً إذا كان العنوان موضوعاً لحكم ولم يكن العنوان مطلوباً بالذات وإنّما أمر به لأجل مصالح تترتّب عليه ، غير أنّ المأمور جاهل بتركيب العنوان وأجزائه وشرائطه وموانعه ، فعندئذ كلّما يصدر من الآمر أمر أو نهي فكلّها تحمل على الإرشاد إلى أجزاء الموضوع وشرائطه وموانعه ، فإذا قيل : « دع الصلاة أيّام أقرائك » فهو إرشاد إلى أنّ الحيض مانع عن صحّة الصلاة فلا يحصل ما هو المطلوب.
    والحقّ انّ المحقّق الخراساني ومن سار على نهجه أطنبوا الكلام في المقام مع انتفاء الموضوع وهو تعلّق الحرمة الذاتية بالعبادة.
    بقي الكلام في القسمين الآخرين ، وإليك الكلام فيهما.
    الثاني : النهي المولوي التشريعي
    إذا أوجب الإنسان على نفسه شيئاً لم يوجبه الشرع أو حرّم عليها ما لم يُحرّمه


(322)
فأتى به أو تركه بنيّة أمره ونهيه ، يكون الفعل والترك حراماً تشريعياً لا ذاتياً ، فالفعل والترك ربّما لايكون واجباً ولا حراماً بالذات ، لكن ادّعاء تعلّق الأمر أو النهي به شرعاً ، يصيِّره حراماً تشريعياً ، ويحكم عليه بالفساد ، سواء أقلنا بأنّ الصحة رهن الأمر ، فالمفروض انّه لا أمر له ـ وإلا لم يكن حراماً تشريعاً ـ أو رهن الملاك والمفروض عدم العلم به ، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر والمفروض عدمه. وعلى ذلك حمل النواهي المتعلّقة بصوم يوم العيدين ، وصلاة الحائض وصومها ، وقد مضى انّ الظاهر انّها من قبيل القسم الثالث الذي سيوافيك. ولعل منه ، النهي عن إقامة صلاة النوافل في ليالي رمضان بالجماعة.
    ثمّ أشار في « الكفاية » إلى قسم من النهي وأسماه بالعرضي ، وهو النهي المتولّد من الأمر بالشيء المقتضي للنهي عن ضده ( الصلاة ) عرضاً ، فهذا النهي بما انّه عرضي ، لا يوجب الفساد ، إذ ليس هنا إلا واجب واحد ، وهو الإزالة ، ونسبة النهي إلى ضده ، أعني : الصلاة ، نسبة مجازية.
    الثالث : النهي الإرشادي
    قد عرفت أنّه إذا أمر المولى بعنوان طريق لإحراز المصالح ، فالأوامر والنواهي المبيّنة ، لإجزائه وشرائطه وموانعه ، نواهي إرشادية إلى بيان الأجزاء والشرائط والموانع ، وربما يكون المرشد إليه هو الكراهة كما في النهي عن الصلاة في الحمام ، وفي البيت وهو جار للمسجد ، فانّ المتبادر ـ بعد الإجماع على الصحة ـ هو الإرشاد إلى الكراهة.
    وربّما يكون النهي المتعلّق بالعنوان ، إرشاداً إلى كونه فاسداً كما في النهي عن صوم العيدين.


(323)
    المقام الثاني
دلالة النهي على الفساد في المعاملات
    قد عرفت حكم النهي عن العبادة ولم يذكر له المحقّق الخراساني إلا قسماً واحداً وهو تعلّق النهي المولوي التحريمي بذات العبادة ، وقد أضفنا إليه قسمين آخرين وهو تعلّق النهي التشريعي بالعبادة ، أو النهي الإرشادي إلى الفساد ، وقد أشرنا إلى أنّه ليس للقسم الأوّل مصداق في الفقه ، وانّ دلالة النهي على الفساد في القسمين الأخيرين واضحة.
    وأمّا المعاملات فقد ذكر له المحقّق الخراساني أقساماً خمسة أنكر دلالة النهي فيها على الفساد إلا في القسم الرابع والخامس ، وإليك الإشارة إلى أقسامها :
    1. إذا تعلّق النهي بنفس المعاملة بما هو فعل مباشري كالعقد وقت النداء.
    2. إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة بما هو فعل بالتسبيب كالنهي عن بيع المصحف من الكافر فالمنهي عنه هو مالكيته المتحققة بالبيع.
    3. إذا تعلّق النهي بالتسبيب بها إليه وإن لم يكن السبب ولا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام ، وهذا كالتسبب إلى الطلاق بقوله : أنت خليّة ، ومثل المحقّق البروجردي بالظهار ، فانّ التلفّظ بلفظة ( ظهرك كظهر أُمّي ) ليس بحرام ، كما أنّ مفارقة الزوجة مثله ، فالمبغوض هو تحصيل المسبب بذلك السبب.
    4. رابعها أن يتعلّق النهي بما لا يكاد يحرم مع صحّة المعاملة مثل النهي عن


(324)
أكل الثمن والمثمن في بيع المنابذة ، أو بيع شيء كالخمر.
    5. ما يكون ظاهراً في الإرشاد إلى الفساد وخص الدلالة على الفساد بالعقود والإيقاعات لا مطلق المعاملات كالنهي عن غسل الثوب النجس بماء مضاف.
    وهناك قسم سادس لم يتعرّض له المحقّق الخراساني وهو :
    6. إذا ورد نهي ولم يعلم أنّه من مصاديق أيِّ قسم من الأقسام الخمسة.
    وإليك دراسة الكل.
    أمّا القسم الأوّل فإنّ تعلّق النهي بالفعل المباشري أي صدور العقد وقت النداء لكونه مانعاً من درك الفريضة لا بمضمونه ، فهو لا يلازم الفساد.
    يلاحظ عليه بوجهين :
    1. لا معنى لتعلّق النهي بنفس التلفّظ بالعقد مع كونه غير مبغوض ، بل النهي تعلّق في الواقع بالاشتغال بغير ذكر اللّه ، ولما كان البيع من أغلب ما يوجب الاشتغال بغيره ، خصّ بالذكر وقيل ( وَ ذَرُوا البَيْعَ ).
    2. انّ النهي في المقام لما لم يكن ناشئاً عن مفسدة موجودة في المتعلّق لا في لفظه ولا في معناه ، بل كان لأجل كونه مفوّتاً للمصلحة فيكون النهي في الواقع تأكيداً للأمر بإتيان الواجب لا شيئاً زائداً ، وكان الأمر ( فَاسْعَوا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) في المقام والنهي ( وَ ذَرُوا البَيْعَ ) وجهين لعُملة واحدة فتارة يعبر عنه بالأمر به وأُخرى بالنهي عمّا يزاحمه.
    والأولى أن يمثّل بإجراء العقد مُحْرِماً ، لنفسه أو غيره.
    وأمّا القسم الثاني ، أي تعلّق النهي بمضمون المعاملة ( المسبّب ) بما هو فعل تسبيبي لا مباشري. وقد ذهب الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني إلى عدم دلالته على الفساد ، لأنّ غاية ما يدلّ عليه النهي هو كونه مبغوضاً ، وأمّا كونه فاسداً فلا ، بشرط أن لايكون النهي إرشاداً إلى الفساد ، ولم يكن لسانُه لسانَ تقييد العمومات


(325)
والمطلقات.
    وذهب المحقّق النائيني إلى دلالته على الفساد بالبيان التالي :
    يشترط في صحّة المعاملة أُمور :
    1. أن يكون كلّ من المتعاملين مالكاً للعين أو بحكم المالك.
    2. أن لا يكون محجوراً عن التصرّف فيها من جهة تعلّق حقّ الغير بها أو لغير ذلك من أسباب الحجر لتكون له السلطنة الفعلية على التصرّف فيها.
    3. أن لا يكون لإيجاد المعاملة سبب خاصّ.
    إذا عرفت ذلك فاعلم إذا تعلّق النهي بالمسبب وبنفس الملكية المنشأة كالنهي عن بيع المصحف ، كان النهي معجزاً مولوياً للمكلّف ورافعاً للسلطنة عليه ، فلا يكون المكلّف مسلّطاً على المعاملة في حكم الشارع ويترتب على ذلك فسادها.
    ثمّ إنّه ( قدس سره ) استشهد على ما رامه بأنّ الفقهاء حكموا بفساد البيع في الموارد التالية لأجل فقدان هذا الشرط أي ما يكون محجوراً عن التصرّف فيها.
    1. الإجارة على إنجاز الواجبات المجّانية ، لأنّ العمل لوجوبه عليه ، خارجة عن سلطانه ومملوك للّه.
    2. بيع منذور الصدقة فانّ النذر يجعل المكلّف محجوراً عن التصرّف المنافي.
    3. شرط حجر المشتري عن بيع خاص كما إذا باع الدار ، وشرط على المشتري عدم بيعه من زيد ، فيبطل لو باعه ، لحجر المكلّف حسبَ ما التزم في هذا النوع من التصرّف فيترتّب عليه الفساد. (1)
1. أجود التقريرات : 1/404 ـ 405.

(326)
    يلاحظ عليه : أنّ الشرط الثاني لصحّة المعاملة عبارة عن عدم كون البائع محجوراً شرعاً كالسفيه ، وعدم كون مورد المعاملة متعلّقاً لحقّ الغير كالعين المرهونة التي تعلّق بها حقّ المرتهن أو ورثة الميّت ، وكأموال المفلّس التي تعلّق بها حقّ الديّان.
    وأمّا ما ادّعاه من أنّ شرط صحّة المعاملة اشتراط كون التصرّف حلالاً وغير حرام ، فلم يقم عليه دليل ، فإذا كان التصرّف مبغوضاً ، لا لأجل تعلّق حق الغير به ، ولا لأجل كون المتصرّف محجوراً ، بل لنهي الشارع عن التصرّف كالنهي عن بيع المصحف فلا دليل على كونه شرطاً في الصحّة ، نعم هو حرام لكن ليس كلّ حرام باطلاً.
    ثمّ إنّ الموارد التي استشهد بها على ما ادّعى من الشرط مورد نظر :
    أمّا الأوّل ، أعني : فساد الإجارة على الواجبات المجانية ، فإنّما هو لأجل تعلّق غرض الشارع بتحقّقها في الخارج بالمجان لا لكون العمل مملوكاً للّه سبحانه أو كون الأجير محجوراً عن التصرّف ، وذلك فان أريد من كونه مملوكاً للّه تكويناً فالكون وما فيه حتّى أفعال الإنسان مملوك للّه سبحانه مع أنّه يجوز عقد الإجارة على فعله.
    وإن أريد كونه مملوكاً للّه تعالى اعتباراً وبالتقنين والتشريع ، فاللّه سبحانه فوق هذا وفي غنى عن كونه مالكاً قانوناً بعد كونه مالكاً حقيقة.
    وأمّا قوله سبحانه : ( فَأَنَّ لِلّهِ خُمْسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (1) فاللام للاختصاص لا للملكية ، وعلى فرض كونها للملكية بعد كونه سبحانه مالكاً لأجل اقترانه بمالكية الرسول وذي القربى ، فعبّر عن الأوّل بلفظ الأخيرين وهذا
1. الأنفال : 41.

(327)
ما يوصف في علم البديع ، « بالمشاكلة » ، نظير ( وَ يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرينَ ). (1)
    وأمّا الثاني ، أعني : بيع المنذور ، فهو بين صحيح وفاسد فانّ تعلّق النذر بالفعل ، أي الالتزام بأن ينذر للّه سبحانه ، فلو لم يفعل فقد حنث نذره ولكن المنذور باق على ملكه له أن يبيع ويهب ، وهذا ما يعبّر عنه بنذر الفعل. وان تعلّق النذر بالنتيجة أي التزم أن يكون قطيع الغنم صدقة إذا قضيت حاجته ، فبعد القضاء تكون العين خارجة عن ملك الناذر ولا يجوز له البيع لعدم كونه مالكاً وهذا ما يعبّر عنه بنذر النتيجة.
    والحاصل : انّه إذا كان النذر نذر فعل فالمعاملة صحيحة وليس عليه إلا كفّارة الحنث ، وإن كان نذر نتيجة فالبيع باطل لعدم كونه مالكاً للعين عند البيع لدخولها في ملك المنذور له.
    وأمّا الثالث : أعني إذا شرط في البيع ، عدم بيعها من زيد فالظاهر انّه لو باعه منه صحّ البيع وللبائع الأوّل خيار تخلّف الشرط.
    فقد تحصّل من ذلك انّه لم يقم دليل على أنّ جواز التصرّف في المبيع من شروط الصحّة أوّلاً وإنّ ما رتّب عليه من المسائل الثلاث لا تصلح للاستشهاد ـ كما عرفت ـ ثانياً.

    إكمال : الاستدلال بصحيحة زرارة
    ربّما يستدلّ بصحيحة زرارة على الملازمة الشرعية بين النهي المولوي التحريمي والفساد نظير الملازمة المستفادة من قوله ( عليه السَّلام ) : « إذا قصّرتَ أفطرتَ » (2)
1. الأنفال : 30.
2. الوسائل : 5 ، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث 19.


(328)
وإليك الرواية.
    عن زرارة ، عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) قال : سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيّده ، فقال : « ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما » قلت : ـ أصلحك اللّه ـ إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابَهما ، يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا تُحِلُّ إجازة السيّد له ، فقال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : « إنّه لم يعص اللّه ، وإنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز ». (1)
    وجه الاستدلال : انّ ظاهر قوله : « إنّه لم يعص اللّه ... » أنّه لو كان هنا عصيان بالنسبة إليه تعالى كان فاسداً والمراد من العصيان هو العصيان التكليفي ، وبما انّه لم يكن هناك عصيان بالنسبة إلى اللّه سبحانه لم يكن فاسداً.
    فعلى ظاهر هذا الحديث كلّ ما تعلّق به النهي التحريمي فهو يدلّ على فساد متعلّقه إذا أتى به.
    ثمّ إنّ هناك سؤالاً آخر وهو أنّه كيف فرّق الإمام بين عصيان اللّه وعصيان السيد ، وقال : « إنّه لم يعص اللّه وإنّما عصى سيّده » مع أنّ عصيان السيّد يلازم عصيانه سبحانه ، لانّه تعالى أمر العبد بإطاعة مولاه. وعدم التصرّف في شيء إلا بإذنه ، فإذا خالف مولاه وسيده فهو في الحقيقة خالف أمر اللّه تعالى ، فكيف فرَّق بينهما في الحديث ؟
    أقول : إنّ الجواب عن الاستدلال بالحديث أوّلاً ، والإجابة عن وجه التفريق بين العصيانين ثانياً يظهر بالبيان التالي :
    فإنّ الاستدلال بالحديث على أنّ العصيان يلازم الفساد في النهي التحريمي ، مبنيّ على تفسير العصيان في الرواية بالعصيان التكليفي ، أي ما
1. الوسائل : 14 ، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث 1.

(329)
يستلزم العقوبةَ والمؤاخذةَ في الآخرة ، وحينئذ يدلّ على أنّ كلّ مخالفة شرعية للحكم التحريمي في مورد المعاملات ، يوجب الفساد ويثبت مقصود المستدل ، كما يوجب طرح السؤال عن التفريق بين العصيانين.
    وأمّا إذا قلنا بأنّ المراد من العصيان في المقام هو العصيان الوضعي ، أي كون الشيء موافقاً للضوابط أو مخالفاً لها ، فعندئذ يسقط الاستدلال أوّلاً ، ولا يبقى مجال لطرح السؤال ثانياً.
    توضيحه : انّ في مورد العصيان احتمالات :
    1. أن يكون المراد منه في كلا المقامين ، العصيانَ التكليفي المستتبع للعقاب.
    2. أن يكون المراد منه في كلا الموردين ، العصيانَ الوضعي المستتبع للفساد قطعاً.
    3. أن يكون المراد من العصيان في الأوّل ، العصيان الوضعي ؛ ومن الثاني العصيان التكليفي.
    4. أن يكون عكس الثالث.
    وبما انّ التفريق بين العصيانين خلاف الظاهر فيحمل على معنى واحد ، وبذلك يبطل الاحتمالان الأخيران المبنيّان على التفريق بين العصيانين ، ولكن الظاهر من الرواية والرواية التالية هو العصيان الوضعي الذي يراد منه كون الشيء غير موافق للقانون والضابطة الشرعيّة.
    والدليل على ذلك أنّ الإمام أبا جعفر ( عليه السَّلام ) فسّر العصيان في رواية أُخرى بالنكاح في عدّة وأشباهه الذي يكون نكاحها على خلاف الشريعة وقوانينها ،


(330)
وإليك الرواية :
    روى زرارة عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) قال : سألته عن رجل تزوّج عبدُه امرأةً بغير إذنه فدخل بها ثمّ اطّلع على ذلك مولاه ، قال : ذاك لمولاه إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما ... » فقلت لأبي جعفر ( عليه السَّلام ) : فإن أصل النكاح كان عاصياً ، فقال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : « إنّما أتى شيئاً حلالاً وليس بعاص للّه وإنّما عصى سيده ولم يعص اللّه إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عليه من نكاح في عدة وأشباهه ». (1)
    ترى أنّ الإمام يفسّر العصيان ـ المنفي في المقام ـ بما حرّم اللّه عليه من النكاح في العدة ، فتكون النتيجة أنّ الإمام ينفي العصيان الوضعي في المورد من غير تعرّض للعصيان التكليفي ، ومن المعلوم أنّ العصيان الوضعي يلازم الفساد ، لأنّ كون العمل غير موافق للضابطة عبارة أُخرى عن عدم إمضاء الشارع له ، وهو لا ينفك عن الفساد ، بخلاف العصيان التكليفي الذي نحن بصدد بيان حكمه فلا يلازم الفساد.
    وإن شئت قلت : إنّ صحّة نكاح العبد تعتمد على دعامتين :
    الأُولى : كون المنكوحة محللة النكاح ولا يكون بينها وبين الزوج ما يحرمه عليه من النسب والرضاع والمصاهرة.
    وبعبارة أُخرى : أن لا يكون ممّا حرّم اللّه نكاحه في قوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ ... ). (2)
    والمفروض تحقّق هذا الشرط.
    الثانية : صدور العقد من العبد عن رضا المولى ، والمفروض انتفاء هذا
1. الوسائل : 14 ، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث 2.
2. النساء : 23.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس