إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 331 ـ 345
(331)
الشرط ، فنكاح العبد جامع للشرط الأوّل دون الشرط الثاني ، فإذا حاز الشرطَ الثاني يكتمل الموضوع ويصحّ.
    وبعبارة ثالثة : انّ نكاح العبد عقد فضولي صدر من أهله ووضع في محله ، ولكنّه يفقد شرطاً من شروط الصحّة الوضعية ، فإذا حاز شرطها يحكم عليه بالصحة.
    وبذلك تحيط بالاجابة عن كلا الأمرين :
    أمّا الاستدلال فقد عرفت أنّه مبنيّ على تفسير العصيان بالحرمة التكليفية التي هي محلّ البحث والنقاش ، ولكن المراد من العصيان هو الوضعية ، فالعصيان الوضعي يلازم الفساد ، لا العصيان التكليفي الذي هو المدّعى.
    وأمّا الثاني فانّ الملازمة بين عصيان السيّد وعصيانه سبحانه إنّما هو في مرحلة الحرمة التكليفية ، والمفروض أنّها غير مطروحة.
    وأمّا الحرمة الوضعية أي كون العقد مشروطاً برضا المولى فهو من خصائصه حيث أعطى له سبحانه تلك الخصيصة فله أن يجيز وله أن لا يجيز.
    وما ذكرنا من الجواب هو أوضح ما يمكن أن يقال :
    وربّما يظهر من تقريرات سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي ارتضاؤه لهذا الجواب. (1)

    تذنيب : في ملازمة النهي للصحّة
    قد عرفت أنّ الأُصوليين ركّزوا على البحث في دلالة النهي على الفساد وعدم دلالته ، ولكن أبا حنيفة وتلميذيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ،
1. لاحظ لمحات الأُصول : 259.

(332)
وحُكي عن فخر المحقّقين أيضاً انّ النهي يدل على الصحّة مكان دلالته على الفساد ، وهذا من غريب الدعاوي حيث يجتني الصحة من النهي مكان اجتناء المشهور الفساد منه.
    ثمّ إنّ ما ذكره أبو حنيفة وتلميذاه من البيان غير موجود بأيدينا ولكن المحقّق القمي نقل في المقام بيانين ... نذكر كلّ واحد على وجه الإيجاز.
    الأوّل : المنهي عنه هو الصوم الشرعي لا اللغوي
    ليس المراد دلالة النهي على الصحـة بالدلالـة المطابقيـة أو التضمنيـة ، إذ ليست الصحة نفس مفاد النهي لا عينـاً ولا جزءاً ، بل المراد انّـه يستلزم الصحـة ، فقول الشارع « لا تصم يوم النحر » وللحائض « لا تصل » يتضمن إطلاق الصوم على صومها والصلاة على صلاتها ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فلو لم يكن مورد النهي صحيحاً لم يصدق تعلّق النهي على أمر شرعي فيكون المنهي عنه مثل الإمساك والدعاء ونحو ذلك وهو باطل إذ نحن نجزم بأنّ المنهي عنه أمر شرعي. (1)
    وحاصل هذا الاستدلال : انّ المنهي عنه إمّا الصوم أو الصلاة بمفهومهما الشرعي أو بمفهومهما اللغوي ، والثاني غير منهيّ عنه ، والأوّل يلازم الصحة ، فإذا تعلّق النهي بالصوم الشرعي فقد تعلّق بالصوم الصحيح ، لأنّ كلّ صوم شرعي صحيح ، وهذا ما قلنا من أنّ النهي يدلّ على الصحة.
    يلاحظ عليه : أنّ الأمر غير دائر بين شيئين ، بل هناك أمر ثالث يعد قسماً من الشرعي ، وهو انّ الأمر تعلّق بالصوم أو الصلاة بمفهومهما الشرعي ، لكنّه أعمّ من الصحة والفساد ، فالصلاة غير الصحيحة والصوم الفاسد كلاهما من العبادات
1. القوانين : 1/163.

(333)
الشرعية الفاسدة ، فلو قلنا بأنّ ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ فهو واضح ، لأنّ الفاسد أيضاً أمر شرعي فاسد ، وأمّا لو قلنا بكونها موضوعة لخصوص الصحيح ، فاستعمال هذه الألفاظ في القسم الفاسد يكون مجازاً ولا مانع منه بعد قيام القرينة على الفساد.
    الثاني : الحرمة الذاتية لاتتعلّق بالفاسد
    هذا هو البيان الثاني لإثبات أنّ النهي يلازم الصحّة يقول : إنّ النهي عن شيء كالأمر إنّما يصحّ بعد كون المتعلّق مقدوراً ، ومن المعلوم أنّ النهي لا يتعلّق بالعبادة الفاسدة ، إذ لا حرمة لها فلابدّ أن يكون متعلّق النهي هو الصحيح ولو بعد النهي فلو اقتضى النهي الفساد يلزم أن يتعلّق النهي بشيء غير مقدور.
    وبعبارة أُخرى لو كان النهي سبباً للفساد لزم أن يكون النهي سالباً للقدرة ، والتكليف الذي يجعل المكلّف عاجزاً عن الارتكاب يكون لغواً.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن هذا الاستدلال في مجال العبادات أوّلاً والمعاملات ثانياً ، أمّا في الأوّل فقد أجاب عنه بالبيان التالي :
    « أمّا العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى فمع النهي عنه يكون مقدوراً ، كما إذا كان مأموراً به وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به ، فلا يكاد يقدر عليه إلا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد وهو محال ، وقد عرفت أنّ النهي في هذا القسم إنّما يكون نهياً عن العبادة بمعنى انّه لو كان مأموراً به كان الأمر به أمر عبادة لا يسقط إلا بقصد القربة ». (1)
1. الكفاية : 1/300.

(334)
    وحاصل بيانه : انّ العبادة على قسمين امّا الذاتي فلا تتغيّر ولا تتبدّل أوصافها فهي عبادة بالذات قبل النهي وبعد النهي ولا يؤثر النهي في حالها.
    وأمّا العبادات المجعولة التي قوام عباديتها بتعلّق الأمر بها ، فهي تنقسم إلى عبادة فعلية وعبادة شأنية أو بالتالي إلى صحيحة فعلية وصحيحة شأنية.
    والمراد من الأُولى ما يكون متعلّقاً للأمر بالفعل.
    كما أنّ المراد من الثانية ما لو تعلّق به الأمر لكان أمره عبادية ولما سقط إلا بالقصد ، فالقسم الأوّل لا يقع متعلّقاً للنهي ، لأنّ العبادة والصحّة الفعلية والصحّة عبارة عمّا تعلّق به الأمر ، وما هو كذلك يمتنع أن يقع متعلّقاً للنهي والمفروض انّه تعلّق به النهي.
    والقسم الثاني ، أي العبادة الشأنية يقع متعلّقاً للنهي ويكشف عن صحّة المتعلّق لكن صحّة شأنية ، وهو غير مطلوب المستدلّ فانّه يريد أن يستدلّ بتعلّق النهي على الصحّة الفعلية دون الشأنية ، ولكن النهي لا يكشف إلا عن الصحّة الشأنية ، أي ما لو تعلّق به الأمر يكون أمره عبادياً وفعله صحيحاً.
    فما هو المطلوب أي الصحّة الفعلية لا يعطيه النهي وما يعطيه النهي ، أي العبادة الشأنية ليس هو المطلوب.
    إجابة المحقّق الخراساني في مورد المعاملات
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الاستدلال في مجال المعاملة بالنحو التالي قال : والتحقيق في المعاملات انّه كذلك إذا كان في السبب أو التسبيب لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما كانت


(335)
المعاملة مؤثرة صحيحة ، وأمّا إذا كان عن السبب فلا لكونه مقدوراً وإن لم يكن صحيحاً. (1)
    وحاصله انّ النهي عن السبب لا يكشف عن الصحّة ، لأنّ حرمة السبب عبارة عن حرمة التلفّظ به في حال النداء والإحرام ، وهو مقدور مطلقاً قبل النهي وبعده ، نعم يكشف النهي عن الصحّة فيما إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة ، أي تملّك الكافر المصحفَ والعبدَ أو تعلّق النهي بالتسبب ، فانّ النهي كاشف عن كون المعاملة المنهية مؤثرة في حصول السبب وهو آية الصحة.
    يلاحظ عليه : بوجود الفرق بين العبادات والمعاملات فانّ الأُولى مخترعات شرعية بخلاف الثانية فانّها مخترعات عقلائية ، وقد تحقّق الاختراع والتسمية بالبيع والإجارة وغيرها قبل بزوغ شمس الرسالة ولم يتصرف الشارع فيها إلا بإضافة شرط أو جزء أو بيان مانع ، فعلى ذلك فأسماء المعاملات اسم للصحيح عند العرف والعقلاء ونهي الشارع دليل على أنّ المعاملة مؤثرة في حصول هذا النوع من الصحّة ، أي الصحّة العرفية ، ومن المعلوم أنّ الصحة العرفية لا تثبت مطلوب المستدل فانّه يريد أن يستدل بالنهي على الصحة الشرعية لا العرفية وبينها من النسب عموم وخصوص مطلق أو من وجه ، فكلّ صحيح عند الشرع صحيح عند العقلاء دون العكس ، فالبيع الربوي صحيح عند العقلاء وليس كذلك عند الشرع.
    وبعبارة أُخرى فأقصى ما يدل عليه النهي تأثير المعاملة في الصحة العرفية ، وهي ليست بمطلوبة ، وإنّما المطلوب دلالة النهي على الصحّة الشرعية.
1. الكفاية : 1/299 ـ 300.

(336)
    فروع فقهية
    ثمّ إنّ الشيخ الأعظم تعرض في تقريراته إلى بعض المسائل التي لها صلة بالموضوع ونحن نقتفيه :
    1. إذا تعلّق النهي بالإيجاب دون القبول فهل تسري الحرمة إلى القبول أو لا ؟ كما إذا كان الموجب محرماً دون القابل ؟ الظاهر ، لا لعدم الملاك إلا إذا لوحظت المسألة من باب الإعانة على الإثم ، وهو خارج عن محط البحث ، قال في « الجواهر » : ذهب جماعة إلى اختلاف حكم المتعاقدين في البيع وقت النداء إذا كان أحدهما مخاطباً بالجمعة دون الآخر ، فخصّوا المنع بمن خوطب بالسعي وحكموا بجواز البيع من طرف الآخر ، نعم رجّح جماعة آخرون عموم المنع من حيث الإعانة بالإثم. (1)
    2. إذا كانت المعاملة باطلة من جانب واحد كما إذا كانت غررية من جانب الموجب دون القابل ، فهل يسري الحكم الوضعي إلى الطرف الآخر ، أو لا ؟ الظاهر نعم ، لأنّ مفاد المعاملة أمر بسيط لا يقبل التبعض ، فالملكية المنشأة إمّا موجودة أو لا. فعلى الأوّل يلزم صحة المعاملة في كلا الجانبين ، وهو خلاف الفرض ، والثاني هو المطلوب.
    3. لو كان لنفس الإيجاب أثر مستقل وإن لم ينضم إليه القبول لترتب عليه ، كما إذا كان الموجب أصلياً دون القابل ، فما لم يردّ القابلُ الحقيقي لما كان له حق التصرف في المبيع ، لأنّه أثر للايجاب الكامل ، وهو محقّق وليس أثراً لمالكيّة القابل حتّى يقال بأنّها غير متحقّقة بعده. (2)
1. الجواهر : 29/241.
2. مطارح الأنظار : 171.


(337)
    ثمّ إنّ الثمرات الفقهية لمسألة النهي عن العبادات والمعاملات متوفرة في الفقه ، وقد ذكر شيخنا الأُستاذ ـ مد ظلّه ـ قسماً منها في الدورة السابقة ولم يتعرض لها في هذه الدورة ( الرابعة ) وأحال إلى كتاب المحصول الذي هو تقرير لدروس الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة الثالثة من دورات أُصوله بقلم زميلنا السيّد محمود الجلالي المازندراني ـ حفظه اللّه ـ فمن حاول الاطلاع فليرجع إليه.


(338)

(339)
    المقصد الثالث
المفاهيم
    1. مفهوم الشرط
    2. مفهوم الوصف
    3. مفهوم الغاية
    4. مفهوم الحصر
    5. مفهوم اللّقب
    6. مفهوم العدد


(340)

(341)
    المقصد الثالث
المفاهيم
    وقبل الدخول في صلب المقصود نقدّم أُموراً :

    الأوّل : المنطوق والمفهوم من أوصاف المدلول
    يوصف المدلول ، بالمنطوق تارة وبالمفهوم أُخرى ، يقال : مدلول منطوقي ومدلول مفهومي ، كما توصف الدلالة بهما أيضاً ويقال دلالة منطوقية ، ودلالة مفهومية ، فيقع الكلام في أنّهما من أوصاف المدلول أو الدلالة ، والظاهر انّهما من أوصاف المدلول فانّ المعنى إذا دلّ عليه شيء ، فإمّا أن يفهم من منطوق اللفظ وحاقِّه فهو مدلول منطوقي ، أو يفهم لا من منطوقه وحاقه فهو مدلول مفهومي ، فعندئذ ينقسم المعنى المدلول إلى منطوق ومفهوم.
    وبما انّ المدلول هو المعنى الذي دلّ عليه اللفظ الدالّ فتنقسم الدلالة أيضاً ـ باعتبار المدلول ـ إلى منطوقية ومفهومية.
    وإن شئت قلت : إنّ ما يدلّ عليه اللفظ ينقسم إلى ما يسمّى بالعرف بما يُنْطَق وإلى ما يُفْهم ، ووصف الدلالة بهما ليست بنفسهما ، بل بعناية انتزاعهما من المدلول ثمّ وصفها بهما. فإذا كان المدلول منطوقياً توصف الدلالة أيضاً بها ، وإذا كان مفهومياً توصف بها أيضاً.


(342)
    نعم ، ليس المنطوق ولا المفهوم من أوصاف المعنى بما هو هو ، بل من أوصاف المعنى إذا وقع في إطار الدلالة حتى صار مدلولاً ، وهذا بخلاف الكلية والجزئية فانّها من صفات المعنى بما هو هو ، وإن لم يقع في إطار الدلالة.
    ومن هنا يعلم أنّ أوصاف المفهوم على قسمين ، قسم وصف له بما هو هو ، كما مثّلنا بالكلية ، وقسم وصف له بما انّه مدلول بإحدى الدلالات فلاحظ.

    الثاني : تعريف المفهوم
    عرّف الحاجبي ( المتوفّى 642 هـ ) المفهوم ما دلّ عليه اللفظ في غير محل النطق والمنطوق ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق.
    ثمّ إنّ العضدي ( المتوفّى 757 هـ ) شارح مختصر الحاجبي قال بأنّ المراد من الموصول ( ما ) هو الحكم ، فهو إن كان محمولاً على موضوع مذكور فهو منطوق ، وإن كان محمولاً على موضوع غير مذكور فهو مفهوم. ثمّ قال : إنّ قوله : « في محلّ النطق » إشارة إلى المنطوق بما انّ الموضوع مذكور فيه ، كما أنّ قوله : « لا في محل النطق » إشارة إلى المفهوم لعدم ذكر الموضوع في محله. (1)
    يلاحظ على ذلك التفسير بأنّ الفارق بين المنطوق والمفهوم ليس هو ذكر الموضوع في الأوّل ، وعدمه في الثاني ، بل الموضوع مذكور في كلتا القضيتين ، وإنّما الاختلاف في وجود القيد في المنطوق وعدمه في المفهوم وبالتالي اختلاف القضيتين في الكيف أي الإيجاب والسلب ، فإذا قلنا : إن سلّم زيد أكرمه ، فالموضوع هو زيد لكنّه في صورة التسليم يحكم عليه بالإكرام ، وفي صورة عدمه بعدمه.
1. منتهى الوصول والأمل المعروف بمختصر الحاجبي : 147 ، ونقل الشيخ الأعظم كلام العضدي في مطارح الأنظار : 172 ، الطبعة الحجرية.

(343)
    ولمّـا كان هذا التفسير من العضدي غير صحيح عاد المحقّق البروجردي إلى تفسير كلام الحاجبي بنحو آخر وقال : ما هذا خلاصته : انّ ما يفهم من كلام المتكلّم قد يكون على نحو يمكن أن يقال انّه نطق به على نحو لو قيل للمتكلّم : أنت قلت هذا ؟ لايصحّ له إنكاره.
    وقديكون على نحو لا يصحّ أن ينسب إليه بأنّه نطق به وللمتكلّم إمكان الفرار منه ونفي صدوره عنه ، فإذا قال : « إذا جاءك زيد أكرمه » فعدم ثبوت الإكرام عند عدم المجيء وإن كان مفهوماً منه لكن للمتكلم إمكان الفرار منه وإنكار انّه مراده ، والمداليل المطابقية والتضمنية والالتزامية للجمل ممّا لا يمكن للمتكلّم أن ينكر القول بها بعد إقراره بنطقه بالكلام ، ولأجل ذلك جعلوها من المداليل المنطوقية.
    وببيان آخر : انّ المنطوق ما نطق به المتكلم بلا واسطة كما في المدلول المطابقي أو مع الواسطة كما في الأخيرين ، والمفهوم عبارة عمّا لم ينطق به لا بلا واسطة ولا معها ولكن يفهم من كلامه. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ هذا التفسير أيضاً كالتفسير السابق ، وذلك لأنّه لم يبين ضابطة لما يُنطق به المتكلّم ولما لم يُنطق به ، بل اكتفى بأنّ المداليل الثلاثة يعدّ ممّا ينطق بها وغيرها ممّا لا ينطق بها ، وذلك لأنّ الملاك في النطق وعدمه لو كان سرعة التبادر إلى الذهن فرب مفهوم أسرع تبادراً من المنطوق خصوصاً إذا كان المفهوم مفهوم الموافقة ، كالنهي عن الشتم والضرب المتبادر من النهي عن التأفيف وتبادره أسرع من تبادر جزء المعنى الذي ربما يكون مغفولاً عنه ، وعندئذ يطرح السؤال : كيف يكون النطق بالكل ( المدلول المطابقي ) نطقاً بالجزء ( الدلالة التضمنية ) ولا يكون النهي عن التأفيف نطقاً بالنهي عن الضرب والشتم ؟
1. نهاية الأُصول : 1/263.

(344)
    ولو كان الملاك كون المنطوق ممّا سيق لأجله الكلام دون المفاهيم فهو أيضاً كالشقّ السابق ، إذ ربما يكون المفهوم ممّا سيق لأجله الكلام ويتعلّق الغرض من الكلام إفادة المفهوم.
    أضف إلى ذلك ، إذا كانت الدلالة التزامية من المداليل المنطوقية فلا يبقى للمدلول المفهومي شيء ، سوى الدلالات السياقية الثلاثة كما سيوافيك.
    وعلى كلّ حال فتعريف الحاجبي بكلا التفسيرين غير خال عن الإشكال.
    تعريف المحقّق الخراساني للمفهوم
    عرّف المحقّق الخراساني المفهوم بأنّه حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصيةُ المعنى الذي أُريد من اللفظ بتلك الخصوصية ، فالمفهوم حكم غير مذكور لا أنّه حكم لغير مذكور. (1)
    إنّ ما أفاده في ذيل الكلام هو الذي أشرنا إليه في نقد كلام العضدي وقلنا : إنّ الموضوع مذكور ، والاختلاف في الحكم رهن الاختلاف في الشرط ، فعند وجوده يترتّب عليه الجزاء ، وعند عدمه يرتفع.
    ثمّ إنّ مراد المحقّق الخراساني من المعنى في لفظ « خصوصية المعنى » هو العلية ، والمراد من الخصوصية كونها منحصرة ، ومعنى العبارة : انّ المفهوم رهن كون القيد علّة منحصرة.
    ولا يخفى انّ ظاهر العبارة انّ هنا شيئين :
    1. المعنى وهو العلّية.
    2. الخصوصية وهي الانحصار.
1. كفاية الأُصول : 1/301.

(345)
    ولا يخفى انّ الخصوصية جزء من المعنى لا زائد عليه ، فمعنى قولنا : إن سلّم زيد أكرمه ، هو انّ التسليم علّة منحصرة دلّ عليها الهيئة الشرطية ، فإذا ارتفعت العلّة المنحصرة ارتفع المعلول.
    وكان على المحقّق الخراساني أن يعرّفه بتعريف أسهل وهو : حكم إنشائي أو إخباري لازم للمعنى المراد من اللفظ.

    الثالث : حصر المداليل في المنطوق والمفهوم
    إنّ ظاهر كلمات القوم حصر المداليل في المنطوق والمفهوم ولا ثالث له ، والمراد من المنطوق ما نطق به المتكلّم باعتبار كون اللفظ مرآة للمعنى ، وينحصر في الدلالة المطابقية والتضمنية باعتبار انّ النطق بالكل ، نطق بالجزء ، كما أنّ المراد من المفهوم هو الدلالة الالتزامية ، أي لازم المعنى ، من غير فرق بين لازم المفرد ، أو لازم الكلام.
    نعم ظاهر كلام المنطقيين ، انّ تقسيم الدلالة إلى مطابقية أو تضمنية أو التزامية من خصائص المفردات والكلمات ، لا الكلام والجمل ولكنّ الأُصوليين عمّموها إلى الكلام أيضاً ، فيجري فيه ما يجري في المفرد ، مثلاً إذا قال : الشمس طالعة ، فقد أخبر بالدلالة الالتزامية عن أنّ النهار موجود.
    والذي يعرب عن كون موضوع التقسيم عند أهل الميزان هو المفرد ، تعبير التفتازاني في « التهذيب » والسبزواري في منظومته.
    قال الأوّل : دلالة اللفظ على تمام ما وضع له ، مطابقة ، وعلى جزئه تضمن وعلى الخارج التزام.
    وقال الحكيم السبزواري :
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس