إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 346 ـ 360
(346)
    دلالة اللفظ بدت مطابقة حيث على تمام المعنى وافقه
    وماعلى الجزء تضمنا وُسِم وخارج المعنى التزام إن لزم
    ونظير ذلك ، تقسيم اللازم إلى البيّن وغير البيّن ، وكلّ منهما إلى الأخص والأعم فانّ المتبادر ، هو تقسيم العرض ( المفرد ) إلى تلك الأقسام قال التفتازاني في « التهذيب » : وكلّ من العرض الخاص والعام إن امتنع انفكاكه عن الشيء فلازم بالنظر إلى الماهية والوجود ، بيّن يلزم تصوّره من تصوّر الملزوم أو من تصوّرهما والنسبة بينهما بالجزم باللزوم وغير بيّن بخلافه.
    توضيحه : انّهم قالوا :
    1. اللازم البيّن بالمعنى الأخص هو ما يكون تصوّر الموضوع كافياً في تصوّر اللازم ، كالأعمى بالنسبة إلى البصر. واللازم غير البيّن بخلاف حيث لا يكفي تصوّر الموضوع ، في تصوّر اللازم.
    2. اللازم البيّن بالمعنى الأعم وهو ما يكون تصوّر الموضوع غير كاف في تصور اللازم ، بل يحتاج إلى تصوّر الطرفين ولحاظ النسبة ثمّ الجزم باللزوم ، وهذا كالزوجية بالنسبة إلى الأجداد القريبة ، فانّ الإنسان لا ينتقل من مجرد تصوّر الموضوع إلى اللازم والحكم بالملازمة.
    3. اللازم غير البيّن بالمعنى الأعم ، وهو ما يحتاج وراء تصوّر الأُمور الثلاثة إلى إقامة البرهان على الملازمة ، وهذا كالحدوث بالنسبة إلى العالم الذي يحتاج بالجزم بالنسبة إلى برهان ، نظير قولنا : العالم متغير ، وكلّ متغيّر حادث ، فالعالم حادث.
    ولكنّ الأُصوليين ، قالوا بجريان مثل ذلك في لوازم الكلام والجمل ، وانّه أيضاً ينقسم إلى أقسام ثلاثة ، فلوازم المعنى مفرداً كان المعنى أو كلاماً ، بيّناً كان


(347)
اللازم أو غير بيّن من أقسام الدلالة الالتزامية.
    فاتّضح بذلك انّ المداليل إمّا منطوقية أو مفهومية ولا ثالث. لأنّ المداليل لا يخلو إمّا أن تكون مطابقية أو تضمنية أو التزامية ولا رابع. والأوّلان يشكّلان المداليل المنطوقية ، والأخير ـ بعرضها العريض ـ كما عرفت يشكّل المدلول المفهومي.
    فإن قلت : ما تقول في المداليل السياقية أهي مداليل منطوقية ، أو مفهومية ، أو لا هذه ولا تلك بل هي أُمور برأسها ، يجمع الكل انّها دلالات سياقية ، فعندئذ تنثلم كلية القضية المذكورة ، أعني : المداليل إمّا منطوقية أو مفهومية ؟
    قلت : ذهب المحقّق البروجـردي إلى أنّهـا دلالات منطوقيـة بأنّ المنطـوق منقسم إلى الصريح وغير الصريح ، والثاني ما دلّ عليه اللفظ بدلالة الاقتضـاء والتنبيه والإشارة ، لأنّ ما يدلّ عليه إن كان غير مقصود للمتكلّم فهو المدلول عليه بدلالة الإشارة كدلالة الآيتين ( البقرة : 233 ، الأحقاف : 15 ) على أقلّ الحمل.
    وإن كان مقصوداً بأن كان صدق الكلام أو صحته يتوقّف عليه فهو المدلول بدلالة الاقتضاء ، نحو رفع عن أُمّتي تسعة : الخطأ والنسيان ونحو : ( اسأل القرية ) (1) فانّهما يدلاّن على مقدّر مصحّح الكلام.
    وإن اقترن بالحكم ما فهم منه العلية فهو المدلول عليه بدلالة الإيماء والتنبيه ، كما لو قال السائل : واقعت في نهار رمضان ، فأجيب « كفّر » ، فإنّ اقتران الجواب بسؤال السائل يفهم منه ، عليّة الوقاع للكفّارة.
1. يوسف : 82.

(348)
    وأقول : يمكن عدّها من الدلالات الالتزامية حيث إنّ الجميع من لوازم المعنى ، سواء كان مقصوداً أو لا.
    وقد خصّ المحقّق النائيني المفهوم باللازم البيّـن بالمعنى الأخص ، وجعل الدلالات الثلاث من اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ وأسماها دلالة سياقية ، وظاهره انّها ليست منطوقية ولا مفهومية.
    وجود اصطلاحين في لفظ المفهوم
    وممّا يجب إلفات نظر القارئ إليه انّ في إطلاق لفظ « المفهوم » اصطلاحين مختلفين :
    1. الاصطلاح العام : وهو يعمّ جميع المداليل الالتزامية للمفرد والكلام ، البيّن وغير البيّن حتّى الأقسام الثلاثة التي أسماها المحقّق النائيني بالسياقية.
    2. الاصطلاح الخاص : وهو ما يبحث عنه هنا من ثبوت الحكم عند ثبوت القيد وارتفاعه عند ارتفاعه ، والمقصود في المقام هو الثاني ، ولعلّ النسبة بين الاصطلاحين هي العموم والخصوص المطلق.

    الرابع : مسلك القدماء والمتأخّرين في استفادة المفهوم
    ذهب السيّد البروجردي إلى أنّ مسلك القدماء في استفادة العموم من القضايا ، يختلف مع مسلك المتأخرين ، فإنّ دلالة الخصوصية المذكورة في الكلام من الشرط أو الوصف أو الغاية أو اللقب أو نحوها ليست دلالة لفظيّة ، بل هي من باب بناء العقلاء على حمل الفعل الصادر عن الغير ، على كونه صادراً لغاية ، وكون الغاية المنظورة منه ، غايته النوعية العادية ، والغاية المنظورة عند العقلاء من


(349)
نفس الكلام ، حكايته لمعناه ، ومن خصوصياته ، دخالتها في المطلوب ، فإذا قال المولى : إن جاءك زيد فأكرمه ، حَكَمَ العقلاءُ بمدخلية مجيء زيد في وجوب إكرامه قائلاً بأنّه لولا دخله فيه لما ذكره المتكلّم ، وكذا سائر القيود ، وعلى ذلك فاستفادة المفهوم ليست مبنيّة على دلالة الجملة على الانتفاء عند الانتفاء ، بل مبني على أنّ الأصل في فعل الإنسان أن لا يكون لاغياً ، بل يكون كلّ فعل منه ، ومنه الإتيان بالقيد صادراً لغايته الطبيعية وهو دخله في الحكم.
    وأمّا مسلك المتأخّرين فهو مبنيّ على دلالة الجملة وضعاً أو إطلاقاً على كون الشرط أو الوصف علّة منحصرة للحكم فيرتفع الحكم بارتفاعه ، وعلى ذلك يكون البحث عند القدماء عقلياً ، وعند المتأخّرين لفظيّاً. (1)
    إنّ ما نسبه سيّدنا الأُستاذ إلى القدماء لم أقف عليه صريحاً في كتب القدماء إلا في الذريعة للشريف المرتضى ، قال : استدلّ المخالف لنا في هذه المسألة بأشياء. (2)
    منها : انّ تعليق الحكم بالوصف لو لم يدل على انتفائه إذا انتفت الصفة لم يكن لتعليقه بالصوم معنى وكان عبثاً.
    ومع ذلك فقد استدلّ بأُمور أُخرى غالبها يرجع إلى التبادر أو قياس الوصف بالاستثناء ، أو قياس الوصف بالشرط ، ولذلك استدلّ المخالف بالوجوه التالية أيضاً :
    1. انّ تعليق الحكم بالسوم يجري مجرى الاستثناء من الغنم ، ويقوم مقام قوله : « ليس في الغنم إلا السائمة ، الزكاةُ » فكما أنّه لو قال ذلك لوجب أن تكون
1. نهاية الأُصول : 265.
2. يريد بالمخالف ، القائل بالمفهوم.


(350)
الجملة المستثنى منها بخلاف الاستثناء ، فكذلك تعليق الحكم بصفة.
    2. انّ تعليق الحكم بالشرط لمّا دلّ على انتفائه بانتفاء الشرط ، فكذلك الصفة ، والجامع بينهما انّ كلّ واحد منهما كالآخر في التخصيص ، لأنّه لافرق بين أن يقول : في سائمة الغنم الزكاة ، وبين أن يقول : فيها إذا كانت سائمة الزكاة.
    3. ما روي عن عمر بن الخطاب : أنّ يعلى بن منبه سأله ، فقال له : ما بالنا نقصر ، وقد أُمنّا ؟ فقال له : عجبتُ ممّا عجبتَ منه ، فسألتُ عنه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : « صدقة تصدق اللّه بها عليكم ، فاقبلوا صدقته » فتعجبهما من ذلك يدلّ على أنّهما فهما من تعلّق القصر بالخوف أنّ حال الأمن بخلافه. (1)
    هذا هو نصّ المرتضى من أعيان أئمّة الأُصوليين من الشيعة ( المتوفّى عام 436 هـ ) وإليك نصاً آخر من أحد أئمّة الأُصوليين من السنّة ألا وهو أبو الحسين محمد بن علي بن طيب البصري المعتزلي ، المتوفّى في نفس السنة التي توفي فيها المرتضى ، فانّه ذكر ما ذكره المرتضى بصورة أُخرى ، واستدلّ على وجود المفهوم بالقضايا الشرطية ، قال : الدليل على أنّ الشرط يمنع من ثبوت الحكم مع عدمه على كلّ حال انّ قول القائل لغيره ( أدخل الدار إن دخلها عمرو ) معناه انّ الشرط في دخولك هو دخول عمرو ، لأنّ لفظة إن موضوعة للشرط ، ولو قال له : « شرط دخولك الدار دخول عمرو » علمنا أنّه لم يوجب عليه دخول الدار مع فقد دخول عمرو على كلّ حال ، فكذلك في مسألتنا. (2)
    ترى أنّه يستدلّ بالتبادر.
    ثمّ قال : ويدلّ على أنّ المعقول من الشرط ما ذكرنا ما روي من أنّ يعلى بن
1. الذريعة إلى أُصول الشريعة : 1/402 ـ 403.
2. المعتمد : 1/142.


(351)
منبه سأل عمر بن الخطاب : ما بالنا نقصر وقد أُمنا ؟ فقال : عجبتُ ممّا عجبتَ منه فسألت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : صدقة تصدق اللّه بها عليكم فأقبلوا صدقته ، فلو لم يعقل من الشرط نفي الحكم عمّا عداها لم يكن لتعجبهما معنى.
    كما أنّ أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي الشيرازي ( المتوفّى 476 هـ ) مؤلف « التبصرة في أُصول الفقه » استدلّ ببعض هذه الوجوه مثلاً ، قال : روي أنّ ابن عباس خالف الصحابة في توريث الأُخت مع البنت واحتجّ بقوله تعالى : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) ، وهذا تعلّق بدليل الخطاب. وانّه لما ثبت ميراث الأُخت عند عدم الولد ، دلّ على أنّها عند وجوده لا تستحقه. وهو من فصحاء الصحابة وعلمائهم ، ولم ينكر أحد استدلاله ، فدلّ على أنّ ذلك مقتضى اللغة. (1)
    ترى أنّهم يستدلّون بالتبادر تارة ، وبالمقايسة ثانياً ، وليس في كلامهم شيء من بناء العقلاء على أنّ للقيد دخلاً ، كما ليس في كلامهم ما يدلّ على أنّ البحث منعقد على حجّية بناء العقلاء.
    نعم كان لسيد مشايخنا المحقّق البروجردي ( قدس سره ) اطلاع واسع على كلمات الأُصوليين قدمائهم ومتأخريهم ، ولعلّه وقف على ما لم نقف عليه.

    الخامس : النزاع صغروي لا كبروي
    إنّ النزاع في باب المفاهيم على مسلك المتأخّرين صغروي ومرجعه إلى دلالة القضية الشرطية الوصفية بالوضع أو الإطلاق على كون الشرط أو الوصف علّة منحصرة للحكم ، وعدم دلالتها ، فلو ثبت الانحصار ، ودلّ على المفهوم ، يكون
1. التبصرة في أُصول الفقه : 219.

(352)
حجّة بلا كلام ، بخلاف ما إذا لم يثبت ، فالنزاع في دلالة القضية على الانحصار ، وبالتالي في وجود المفهوم للقضية وعدمه ، الذي هو نزاع صغروي. وإلا فلو ثبت انّ للقضية مفهوماً فهو حجّة بلا كلام.
    وأمّا على مسلك القدماء فقد استظهر السيّد البروجردي بناءً على أنّ النزاع كبروي ، أنّ البحث في حجية بناء العقلاء ، لأنّه قد استقر بناؤهم على حمل الخصوصيات الموجودة في الكلام على كونها صادرة عنه بداعي غايتها النوعية ، وانّ الغاية النوعية هي دخلها في المطلوب ، وهذا البناء من العقلاء موجود والكلام في حجّيته.
    يلاحظ عليه : أنّه يمكن أن يكون النزاع على مسلك القدماء ـ لو ثبت ـ أيضاً صغرويّاً وهو النزاع في تفسير مقدار المدخلية في الحكم ، فهل على نحو لو ارتفع ارتفع ، الحكم مطلقاً ولا ينوبه شيء آخر ، حتّى يكون سنخ الحكم مرتفعاً أيضاً كشخص الحكم أو ليس كذلك.
    فإذا قال الإمام : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء » فهل مدخلية الكرّية على نحو ، يدور سنخ الحكم مدارها فيثبت بثبوتها وينتفي بانتفائها ؟ أو ليس كذلك وإنّما يرتفع شخص الحكم ، دون سنخه لإمكان إقامة علّة قيد آخر مكانه ككونه جارياً ، أو كون السماء ماطرة عليه عند ملاقاته بالنجاسة ، فالنزاع في مقدار المدخلية ، فلو ثبت مقدارها فبناء العقلاء حجّة لكونه بمرأى ومسمع من الشارع.

    السادس : في مفهوم الموافقة
    الفرق بين المفهوم المخالف والموافق هو انّ الحكم في القضيتين لو كان


(353)
مخالفاً بالنفي والإثبات ، فالمفهوم مخالف ، ولو كان موافقاً فالمفهوم موافق ، فإذا قال سبحانه : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُف ) فهو يدلّ على حرمة الضرب والسب ، فالحكم منطوقاً ومفهوماً هو الحرمة ، والقضية سالبة بخلاف ما إذا قال : إن سلّم زيد أكرمه ، فالمنطوق قضية موجبة ، والمفهوم قضية سالبة.
    السابع : في الشرط المحقّق للموضوع
    النزاع في وجود المفهوم أو حجّيته فيما إذا شملت القضية على أُمور ثلاثة متغايرة :
    1. فعل الشرط.
    2. الموضوع ، أو الفاعل
    3. الجزاء.
    فيحكم على الموضوع أو الفاعل بالجزاء عند وجود الشرط ، وبعدمه عند عدم الشرط ، وأمّا إذا كان فعل الشرط ، محقّقاً للموضوع لا أمراً زائد عليه ، كما إذا قال : إن رزقت ولداً فاختنه ، فإنّ رزق الولد ، ليس شيئاً زائد على وجود نفس الولد ، ففي مثله ، تكون القضية خالية عن المفهوم لعدم الموضوع ، لا لوجود الموضوع وعدم الشرط.
    إذا عرفت هذه الأُمور فلندخل في صلب الموضوع ، والكلام فيه ضمن فصول :


(354)
    الفصل الأوّل
مفهوم الشرط
    هل الجملة الشرطية ، تدلّ على الثبوت لدى الثبوت والانتفاء عند الانتفاء ، أو لا ؟ و القائل بالدلالة ، إمّا يدّعيها عن طريق الوضع وان هيئة الجملة الشرطية وضعت لذلك ، أو يدّعيها عن طريق الإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وانّ الاقتصار على بيان شرط واحد ، مع كونه في مقام البيان ، شاهد على أنّه السبب المنحصر ، أو يدّعيها عن طريق الانصراف.
    ثمّ إنّ القول بالدلالة على المفهوم فرع ثبوت أُمور ثلاثة :
    1. وجود الملازمة بين وجود الشرط والجزاء ، وعدم كون القضية من قبيل القضايا الاتفاقية ، مثل قولك : خرجت فإذا زيد بالباب ، فانّ المفاجأة بوجود زيد ، لدى الخروج قضية اتفاقية دون وجود أيّة ملازمة بين الخروج والمفاجأة لوجوده. (1)
    2. انّ التلازم من باب الترتّب ، أي كون الشرط علّة للجزاء ، فخرج ما إذا كان هناك تلازم دون أن يكون ترتّب علّـيّ كقولك : كلّما قصر النهار طال الليل ، أو كلّما طال النهار قصر الليل ، فانّ طول الليلة عند قصر النهار ، معلولين لعلّة
1. خرج قولهم : « إذا كان الإنسان ناطقاً ، فالحمار ناهق » لوجود الملازمة الاتّفاقية وإن لم يكن بين الحكمين ، رابطة علّية أو معلولية.

(355)
ثالثة دون أن يكون الأوّل علّة للثاني.
    3. كون الترتّب بنحو العلّة المنحصرة ، وعدم وجود علّة أُخرى تقوم مقام العلّة المنتفية ، ولعلّ ظهور القضية في الأوّلين ممّا لا ريب فيه ، إنّما الكلام في ثبوت الأمر الثالث وقد استدل عليه المحقّق الخراساني بوجوه خمسة وناقش في الجميع.
    ونحن نذكر الجميع ، مع بعض الملاحظات في كلام المحقّق الخراساني.
    الأوّل : التبادر
    المتبادر من الجملة الشرطية ، كون اللزوم والترتّب بين الشرط والجزاء ، بنحو العلّة المنحصرة.
    وناقش فيه المحقّق الخراساني بوجهين :
    1. انّ التبادر آية الوضع ، أي وضع الجملة الشرطية على ما كون الشرط علّة منحصرة ، ويترتّب على ذلك انّه لو استعملت في غير العلة المنحصرة صار مجازاً وهو كما ترى ، إذ لا يرى في استعمالها في غير المنحصرة عناية ورعاية علاقة ، بل إنّما تكون إرادته كإرادة الترتّب على العلة المنحصرة بلا عناية ، فلا ترى أي عناية في قوله : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » مع أنّ الكرّيّة ليست علّة منحصرة للعاصمية ، بل ينوب عنها كون الماء جارياً ، أو ورود المطر عليه عند ورود النجاسة على الماء.
    2. عدم صحّة التمسك بمفهوم كلام المتهم في المحاكمات والمخاصمات وأنّ له أن يعتذر بخلو كلامه عن المفهوم ، مع أنّه لو كان موضوعاً له ، لم يصحّ الاعتذار.


(356)
    الثاني : الانصراف
    وحاصل هذا الوجه : انّ المطلق ينصرف إلى أكمل أفراده ، فإذا كان السبب دالاً على الترتّب العلّي فهو ينصرف إلى أكمل الأفراد ، وهي العلّة المنحصرة.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين : أحدهما صغروي والآخر كبروي.
    أوّلاً : بمنع كون العلّة المنحصرة ، أكمل في العلّية ـ من غيرها إذ عدم قيام شيء آخر مقامه ، أو قيامه ، لا يؤثر في شؤون العلية وواقعها.
    وثانياً : لو افترضنا انّ المنحصرة أكمل أفراد العلّة ـ فلا وجه لانصراف المطلق إليه ، لأنّ الانصراف معلول أحد أمرين :
    كثرة الاستعمال ، أو كثرة الوجود. وكلاهما منتفيان في العلّة المنحصرة.
    الثالث : التمسّك بالإطلاق
    وقد قرره المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة :
    الأوّل : الانحصار مقتضى إطلاق أداة الشرط
    إنّ أداة الشرط أو هيئة الجملة الشرطية موضوعة لمطلق اللزوم الترتّبي إلا أنّ له فردين :
    1. اللزوم الترتّبي بنحو الانحصار.
    2. اللزوم الترتّبي لا بنحو الانحصار.
    ومن المعلوم أنّ المتكلّم بالقضية الشرطية لم يستعمل صرف الشرط أو هيئة الجملة الشرطية في الجامع ، أعني : اللزوم الترتبي بما هو هو ، بل أراد منه أحد


(357)
الفردين ، فمقتضى مقدمات الحكمة حملها على الفرد الذي لايحتاج إلى بيان زائد ، أعني : العلّة المنحصرة لا على الفرد الآخر ، أي العلّة غير المنحصرة ولو أراد الثاني لقيّده.
    ثمّ إنّ المستدل قاس المقام بما إذا دار الأمر بين الواجب النفسي والغيري ، فانّ الضابطة هي حمل الصيغة على الأمر النفسي دون الغيري ، وذلك لأنّ النفسي هو الواجب على الإطلاق بلا قيد ولكن الثاني هو الواجب لغيره ، أو إذا وجب الغير فمقتضى مقدّمات الحكمة حمله على ما يكون المطلق وافياً ببيانه كالنفسي دون الفرد الآخر الذي يحتاج وراء المطلق إلى وجود قيد آخر.
    وقد أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :
    الأوّل : انّ الإطلاق والتقييد من شؤون المعاني الاسمية التي تقع في أُفق النفس ، فيلاحظها تارة مطلقة وأُخرى مقيدة.
    وأمّا المعاني الحرفية كمعنى « إن الشرطية » أو هيئة الجملة الشرطية فكلّها معان حرفية آلية فلا توصف بالإطلاق ولا التقييد ، إذ لا يمكن لحاظها على وجه الاستقلال حتّى توصف بأحدهما.
    الثاني : وجود الفارق بين المقيس والمقيس عليه ، وحاصله : انّ المطلق أو الجامع بين الفردين كاف في بيان الواجب النفسي ، وليس كذلك في بيان الواجب الغيري ، وذلك لأنّ النفسي هو الواجب على كلّ حال بخلاف الغيري فانّه واجب إذا وجب الغير ، فإذا تمت مقدّمات الحكمة يحمل المطلق على النفسي لعدم حاجته إلى بيان زائد.
    وهذا بخلاف اللزوم الترتّبي فانّ له فردين وكلّ فرد يتميّز عن الفرد الآخر بقيد زائد على اللزوم الترتّبي ، أعني : الانحصار وعدم الانحصار.


(358)
    يلاحظ على نقد المحقّق الخراساني بوجوه :
    أوّلاً : أنّ ما ذكره هنا في وصف المعاني الحرفية يغاير مختاره في مقدّمات الكتاب عند البحث عن المعاني الاسمية والحرفية ، فقد ذهب هناك إلى وحدة المعنى الاسمي والحرفي جوهراً وان الاستقلالية والآلية من طوارئ الاستعمال وعوارضه ، فعندئذ تصبح المعاني الحرفية كالاسمية مصباً للإطلاق ، إذ ليس الآلية جزءاً ، كما أنّ الاستقلالية ليست جزءاً بل ذات المعنى عارية عن الآلية والاستقلالية.
    ثانياً : سلمنا انّ الآلية جزء للمعنى الحرفي ولكن كون الشيء مفهوماً آلياً ليس بمعنى كونه مغفولاً عنه من رأس حتّى يمتنع التقييد ، بل انّ كثيراً من القيود في الكلام يرجع إلى المعاني الحرفية ، فقولك : ضربت زيداً في الدار ، فالظرف قيد للنسبة ، أي كونه في الدار.
    ثالثاً : انّ التفريق بين المقيس والمقيس عليه غير تام إذا قصرنا النظر إلى مقام الثبوت ، فكما أنّ العليّة التي هي المقسم ينقسم إلى قسمين منحصرة وغير منحصرة وكلّ من القسمين يتميز عن المقسم بقيد زائد وإلا عاد القسم مقسماً ، فهكذا الواجب فانّه بما هو هو مقسم والنفسي والغيري من أقسامه ، ومن واجب القسم أن يتميز عن المقسم بقيدين ، وإلا عاد القسم مقسماً ، فالواجب النفسي ما وجب لنفسه أو ما وجب على كلّ تقدير ؛ والواجب الغيري ما وجب لا على كلّ تقدير ، بل إذا وجب الغير (1) ، فأصبح كالعلّة المنقسمة إلى المنحصرة وغير المنحصرة.
    والأولى أن يُردّ الاستدلال بوجه حاسم ، وهو انّ قوام الإطلاق كون المتكلّم
1. نعم قد ذكرنا في أوائل مبحث الأوامر انّه إذا دارت صيغة الأمر بين النفسي والغيري يحمل على الغيري بالبيان المذكور في محله.

(359)
في مقام البيان بالنسبة إلى نفي القيد الزائد ، إلا أنّ احتمال دخالة القيد الزائد يتصوّر على وجهين :
    1. دخله في الموضوع بنحو الجزئية والشرطية ، كما إذا قال : اعتق رقبة ، فاحتمال دخالة الإيمان مدفوع بالإطلاق ، وذلك لأنّ المتكلّم إذا صار بصدد بيان الموضوع كلّه كان عليه أن يقيد الرقبة بالإيمان ، فإذا خلا كلامه عن ذلك القيد يحكم عليه بعدم الدخالة.
    2. دخله في الموضوع لا بصورة الجزئية ، بل لكونه نائباً عن الموضوع ومؤثراً مثله ، كما إذا احتملنا انّ لوجوب تكريم زيد سببين أحدهما تسليمه ، والآخر إحسانه ، فإذا قال المولى : زيد ـ إن سلّم ـ أكرمه ، فمقتضى الإطلاق كون التسليم تمام الموضوع كالرقبة في المثال السابق ، وأمّا كونه سبباً منحصراً لا ينوب عنه شيء آخر فلا يثبته الإطلاق إلا أن يكون المتكلّم بصدد بيان هذه الجهة أيضاً وهو نادر.
    فإذا قال الصادق : الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء ، فمقتضى الإطلاق كون الكرّيّة تمام الموضوع للعاصمية وليس لها شرط ولا جزء وراء الكرّيّة.
    نعم وأمّا كون الكرّيّة سبباً منحصراً ـ مضافاً إلى أنّه سبب تام ـ فهو يحتاج إلى كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى هذه الجهة ، أي وراء جهة كونه سبباً تامّاً وأنّى يمكن إحرازه ، وهذا هو الإشكال المهم في المقام ، وهو يرد على عامّة التقريرات الثلاثة للإطلاق ، ولكن المحقّق الخراساني أشار إليه في التقرير الثاني من التقريرات الثلاثة للإطلاق.
    الثاني : الانحصار مقتضى إطلاق فعل الشرط
    هذا هو التقرير الثاني للإطلاق ، والفرق بين التقريرين واضح ، فإنّ مصب


(360)
الإطلاق في التقرير الأوّل هو مفاد « إن الشرطية » أو هيئة الجملة الشرطية ، بخلاف هذا الوجه فانّ مصبه هو فعل الشرط ، أعني قوله : « سلم » في قوله : « إن سلم زيد أكرمه ».
    وحاصل هذا الوجه : انّه لو لم يكن منحصراً لزم تقييد تأثيره بما إذا لم يقارنه أو لم يسبقه شرط آخر ضرورة انّه لو قارنه أو سبقه شرط آخر لما أثّر وحدة كما في عاصمية الكر فانّه إنّما يؤثر إذا لم يكن ماء جارياً عن مبدأ وإلا فلا يكون مؤثراً مع أنّ قضية إطلاقه أنّه مؤثر مطلقاً ، قارنه شيء أم لم يقارنه ، سبقه شيء أم لم يسبقه. (1)
    يلاحظ عليه : بما مرّ في نقد الوجه الأوّل من التقرير للإطلاق ، وهو انّ الإطلاق رهن كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى القيد الذي يراد نفيه ، فلو كان القيد مؤثراً في نفس الموضوع جزءاً أو شرطاً فينفى دخله بالموضوع في الإطلاق.
    وأمّا إذا كان القيد المحتمل غير مؤثر في الموضوع ، بل يحتمل أن يكون ذلك القيد سبباً مستقلاً للحكم وراء السبب الموجود في المنطوق بأن يكون للعاصمية سببان :
    1. الكرّيّة.
    2. جريان الماء متّصلاً بالنبع.
    فنفي الشك الثاني النابع عن احتمال تعدّد السبب ، وعدمه ، فرع كون المتكلّم في مقام البيان من هذه الجهة أيضاً وأنّى لنا إثبات ذلك.
    وبتعبير آخر : انّ نفي الشكّ في وحدة السبب وعدمها ، رهن كون المتكلّم يكون في مقام بيان أمرين :
1. كفاية الأُصول : 1/306.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس