إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 361 ـ 375
(361)
    1. بيان كمال السبب وعدم نقصه.
    2. بيان وحدة السبب وعدم تعدّده.
    والسائد على المتكلّمين في مقام الإطلاق هو الأوّل ، وأمّا كونه واحداً لا متعدّداً فخارج عن مصب الإطلاق غالباً ، إلا أن يحرز انّه أيضاً في مقام البيان لهذه الجهة.
    إلى هنا تمّ بيان التمسّك بالإطلاق لإثبات الانحصار بوجهين.
    بقي الكلام في الوجه الثالث للإطلاق ، وهو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله : « وأمّا توهم انّه قضية إطلاق الشرط ... » وإليك بيانه :
    الوجه الثالث : التمسّك بإطلاق الشرط بتقريب انّ مقتضى إطلاقه ، انحصارُه كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر كون الوجوب تعيينياً لا تخييرياً. (1)
    وهذا الوجه ليس شيئاً جديداً وإنّما أخذ من الأوّل شيئاً ومن الثاني شيئاً آخر ولفّقهما وصار بصورة تقريب ثالث للإطلاق المفيد للانحصار ، فقد أخذ من التقريب الثاني كون مصب الإطلاق هو الفعل لا مفاد هيئة الجملة الشرطية ، كما أخذ من التقريب الثاني التشبيه غاية الأمر شبّه المقام بتردد صيغة الأمر بين التعييني والتخييري ، وقد شبّه المقام في التقريب الأوّل بتردّد الصيغة بين النفسي والغيري ، وإليك توضيحه :
    إذا كانت العلّة والمؤثر على قسمين : قسم منحصر يؤثر مطلقاً سواء أكان هناك شيء آخر أو لا ، وقسم غير منحصر وإنّما يؤثر إذا لم يكن هناك مؤثر آخر متقدّم عليه ، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان واقتصر على بيان مؤثر واحد ، فمعناه انّه يؤثر مطلقاً حتّى وان تقدّم عليه شيء ، إذ لو لم يكن كذلك لزم المتكلّم تقييد
1. الكفاية : 1/306.

(362)
تأثيره بما إذا لم يكن هناك شيء آخر ، فسكوته دليل على أنّه من قبيل القسم الأوّل ، نظير الواجب التعييني والتخييري حيث إنّ المتكلّم إذا اقتصر على بيان واجب واحد فمعناه انّه واجب مطلقاً أتى بشيء آخر أو لا ، وإلا كان عليه تقييد وجوبه بما إذا لم يأت بشيء آخر ، فإذا سكت فهو دليل على أنّه واجب تعييناً ، إذ لو كان واجباًتخييرياً كان عليه بيان العِدْل.
    فخرجنا بتلك النتيجة : انّ بيان الجامع بين المنحصرة وغير المنحصرة ، وبين الواجب التعييني والتخييري كاف في بيان الشق الأوّل من الشقين ـ أي العلّة المنحصرة والواجب التعييني ـ وليس بواف لبيان الشقين الآخرين : غير المنحصر ، والتخييري.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على هذا البيان ، ما هذا حاصله :
    إنّ الفرق بين المقيس والمقيس عليه ظاهر فانّ التعيين والتخيير وصفان داخلان في ماهية الوجوبين ، وكأنّهما بالنسبة إلى الوجوب فصلان منوِّعان فكلّ من التعييني والتخييري نوع من الوجوب.
    حيث إنّ الوجوب التعييني وجوب على كلّ تقدير أتى بشيء أو لا ، بخلاف الثاني فانّ التخييري وجوب على تقدير عدم الإتيان بشيء آخر.
    وهذا بخلاف الانحصار وعدمه فانّهما غير داخلين في ماهية العلّة ، فانّ تأثير العلّة المنحصرة مثل تأثير غير المنحصرة من دون تفاوت بينهما ثبوتاً في نحو التأثير ، بل الانحصار وعدمه من المشخصات الصنفية حيث يكون الفرق بين العلّة المنحصرة وغيرها كالفرق بين الإنسان الأبيض والأسود.
    ويترتّب على ذلك الفرق هو انّ بيان الجامع كاف لبيان الفرد من الواجب التعييني ، وليس كذلك في مورد العلة المنحصرة ، ووجهه هو انّ الاختلاف في القسم الأوّل يعود إلى مقام الثبوت ، لما عرفت من أنّ نسبة الوجوب التعييني و


(363)
التخييري كنسبة نوع إلى نوع كالإنسان بالنسبة إلى الفرس ، فإذا أطلق ولم يذكر عدلاً يحمل على بيان خصوص الوجوب التعييني ، وإلا يلزم أن لا يكون في مقام البيان ، بل في مقام الإهمال والإجمال وهذا خلاف المفروض.
    وهذا بخلاف العلّة المنحصرة وغير المنحصرة ، لأنّهما لمّا كانا في مقام الثبوت محددين جوهراً وإنّما الاختلاف في مقام الإثبات إذا أُطلق ولم يقيد بشيء يكون الكلام مجملاً لا محمولاً على الفرد المنحصر ، وإلى ما ذكرنا أخيراً يشير المحقّق الخراساني بقوله : واحتياج ما إذا كان الشرط متعدداً إلى ذلك إنّما يكون لبيان التعدّد لا لبيان نحو الشرطية فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف كان هناك شرط آخر أم لا ، حيث كان مسوقاً لبيان شرطيته بلا إهمال ولا إجمال بخلاف إطلاق الأمر فانّه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني فلا محالة يكون في مقام الإهمال والإجمال. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ هذا البيان مع طوله غير واف في التفريق ، لأنّه إذا افترضنا انّ نسبة التعيين والتخيير إلى الوجوب نسبة الفصلين المنوعين إلى الجنس ، ونسبة الانحصار وغير الانحصار إلى العلّة نسبة المصنّفات ، ومع ذلك فكلّ من المشبه والمشبه به يشتركان بوجود الاختلاف في الثبوت والإثبات وإلا لأصبح القسم مقسماً ، وذلك لأنّ الواجب التعييني ثبوتاً يختلف مع التخييري ، فالأوّل هو الواجب مطلقاً سواء أتى بشيء أو لا ، والثاني واجب فيما إذا لم يأت بشيء ، فكما أنّ هذه القيود معتبرة في مقام الثبوت ليجعلها نوعين من الوجوب ، فهكذا معتبرة في مقام الإثبات ، لأنّ الإثبات هو المعبر عن الثبوت بالتمام ، فإذا كان القيد مأخوذاً في الثبوت يكون مأخوذاً في مقام الإثبات ، وعندئذ لا معنى للقول بأنّ بيان الجامع
1. الكفاية : 1/307.

(364)
كاف في إثبات أحد النوعين دون النوع الآخر ، لما عرفت من أنّ النوعين يتميزان ثبوتاً وإثباتاً بقيدين ، فلا يكون بيان الجامع بياناً لأحد من النوعين لا ثبوتاً ولا إثباتاً ، وكون المتكلّم في مقام البيان لا يُلزمنا بالأخذ بالوجوب التعييني ، بل يمكن أن يكشف ذلك عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان ، بل هو في مقام الإهمال والإجمال ، بحجة انّ المتكلّم لم يشر إلى أحد القيدين المتنوعين.
    ومنه يظهر حال العلّة المنحصرة وغير المنحصرة فهما متميزان في مقام الثبوت بقيدين كما أنّهما متميزان في مقام الإثبات بقيدين أيضاً ، فلا يكون بيان الجامع بياناً لأحد الفردين لا في مقام الثبوت ولا في مقام الإثبات.
    فإن قلت : قد تقدّم في الجزء الأوّل في مبحث دوران أمر الصيغة بين النفسي والغيري والتعييني والتخييري ، والكفائي والعيني انّه يحمل على النفسي والتعييني والعيني.
    قلت : ما ذكرناه هناك مبني على بيان آخر مذكور في محله ، لا على هذا الأصل الذي بنى عليه حمل الأمر على التعييني. (1)
    إلى هنا تمّت الوجوه الخمسة التي ذكرها المحقّق الخراساني وهناك وجه آخر ، وهو الوجه السادس : الذي سمعناه من السيد المحقّق البروجردي في درسه الشريف عام 1367 هـ وحاصله :
    إنّ مقتضى الترتّب العلّي على المقدّم ، أن يكون المقدّم بعنوانه الخاص علّة ، وهو محفوظ عندما كانت العلّة منحصرة ولو لم يكن كذلك لزم استناد الثاني إلى الجامع بينهما لامتناع استناد الواحد إلى الكثير ، وهو خلاف ظاهر الترتّب على المقدّم بعنوانه. (2)
1. إرشاد العقول : 3/341 ، طبعة بيروت.
2. نهاية الدراية : 322.


(365)
    ثمّ إنّا وقفنا على ذلك التقريب في تعليقة المحقّق الاصفهاني ، ولعلّ البيانين من قبيل توارد الخاطرين أو انّ المحقّق المحشّي أخذه من السيد المحقّق البروجردي ، وذلك لأنّ السيد البروجردي قال : عرضت ذلك التقريب على المحقّق الخراساني ، فأجاب عنه بالنحو التالي :
    إنّ المفهوم رهن الظهور العرفي ، والظهور العرفي لا يثبت بهذه المسائل الفلسفية البعيدة عن الأذهان العرفية ، وأنّى للعرف دراسة هذا الموضوع « انّه لو كان للجزاء علل مختلفة يجب أن يستند إلى الجامع وحيث إنّه خلاف ظاهر القضية فهو مستند إلى شخص الشرط وتصير نتيجته انّه علة منحصرة ».
    السابع : ما ذكره المحقّق النائيني على ما في تقريراته ، وحاصله :
    إنّ الشرط المذكور في القضية الشرطية إمّا أن يكون في حدّ ذاته ممّا يتوقف عليه عقلاً ، وجود ما هو متعلّق الحكم في الجزاء ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، وعلى الأوّل لا يكون للقضية مفهوم لا محالة ، كما في قولنا : إن رزقت ولداً فاختنه ، وبما انّ كلّ قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية يكون مقدّمها وجود الموضوع ، وتاليها ثبوت المحمول له ويكون التعليق عقلياً لايكون هناك مفهوم.
    وأمّا القسم الآخر في أنّ الحكم الثابت في الجزاء ليس بمتوقّف على وجود الشرط عقلاً ، فلا يخلو إمّا أن يكون مطلقاً بالإضافة إلى وجود الشرط ، أو يكون مقيّداً به ، وبما انّه رتب في ظاهر القضية على وجود الشرط ، يمتنع الإطلاق فيكون مقيّداً بوجود الشرط وبما انّ المتكلّم في مقام البيان قد أتى بقيد واحد ولم يقيده بشيء آخر ، سواء أكان التقييد بذكر عدل له في الكلام أم كان بمثل العطف بالواو ليكون قيد الحكم في الحقيقة مركباً من أمرين ، كما في قولنا : إذا جاءك زيد وأكرمك فأكرمه ، يستكشف من ذلك ، انحصار القيد بخصوص ما ذكر في القضية


(366)
الشرطية ، وبالجملة فكما أنّ إطلاق الشرط وعدم تقييده بمثل العطف بالواو ، يدلّ على عدم كون الشرط مركباً ، كذلك إطلاقه وعدم تقييده بشيء مثل العطف ، يدلّ على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضية. (1)
    يلاحظ عليه : ـ مضافاً إلى أنّه ليس تقريباً جديداً ، بل هو نفس التقريب الثالث للمحقّق الخراساني للإطلاق ـ وجود الفرق الواضح بين كون الشرط ذا جزء وبين كونه ذا عدل ، فلو تعلق الشكّ بالأوّل لكان مقتضى الإطلاق هو كونه تاماً في السببية والشرطية لا ناقصاً ، وأمّا إذا تعلّق الشكّ بأنّ له عدلاً أو لا فلا يكفي الإطلاق ، وقد عرفت فيما سبق انّ الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع لا انّه لا موضوع له بغير ما ورد في متعلّق النص.
    فلو شككنا في أنّ للكرّيّة شرطاً أو لا ، يتمسّك بإطلاق الدليل ، وامّا أنّ له عدلاً أو لا ، كجريان الماء وإن لم يكن كرّاً فلا يدلّ على نفيه.
    إلى هنا تمت أدلّة القائلين بالمفهوم ، وقد عرفت أنّ الأدلّة غير وافية.

    نظرية المحقّق البروجردي
    ثمّ إنّ المحقّق البروجردي فصل في القضايا المشروطة بين كون سوقها لأجل إفادة كون المشروط علّة للجزاء ، وسوقها لأجل إفادة انّ الجزاء ثابت للمشروط بهذا الشرط ، فالأوّل كقول الطبيب : إن شربت السقمونيا فيسهل الصفراء.
    والثاني : كقوله ( عليه السَّلام ) : إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء.
    فإن سيقت لإفادة العلّية فلا مفهوم لها ، لأنّ المتكلّم لم يأت في كلامه بقيد زائد ، بل أفاد انّ السقمونيا مثلاً علّة لإسهال الصفراء.
1. أجود التقريرات : 1/418.

(367)
    وبالجملة كلّما كان إتيان الشرط لإفادة علّيته للجزاء ، ولا يكون فيه قيد زائد لا يكون له مفهوم.
    وإن سيقت على النحو الثاني ، يكون له مفهوم إن تم ما ذكر من أنّ القيود الزائدة في الكلام تفيد دخالتها على نحو ينتفي الحكم عند انتفائها.
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره ( قدس سره ) نقض لما أبرمه في السابق ، وهو انّ غاية ما يدلّ عليه أخذ القيد في الكلام ان له دخلاً فإذا ارتفع ارتفع شخص الحكم ، وأمّا أنّه لاينوب هنا به شيء آخر فلا يدلّ عليه إلا أن يكون المتكلّم في مقام البيان لهذه الجهة. اللّهمّ إلا إذا كان التفصيل على مبنى القوم كما يعرب عنه قوله ـ إن تمّ ما ذكر ـ.

    ما هو المختار في المقام ؟
    قد عرفت عدم كفاية التقريبات السبعة لإثبات كون الشرط سبباً منحصراً للجزاء و ـ مع ذلك ـ يمكن القول بدلالة القضية الشرطية على المفهوم في موردين :
    الأوّل : إذا كان الشرط من الأضداد التي لا ثالث لها ، وبالتالي لا يكون للموضوع إلا حالتين لا غير ، وإليك بعض الأمثلة :
    1. السفر والحضر فيها من الأوصاف التي تعرض الإنسان ولا ثالث لهما ، إذ الإنسان الذي هو الموضوع إمّا حاضر أو مسافر ، فإذا قال : إذا سافرت فقصِّر أو إذا سافرتَ فأفطر ، يفهم منه انّ التقصير والإفطار ، من أحكام المسافر دون الحاضر ، فهو يتم ويصوم. والمراد من الحاضر ، هو المتواجد في الوطن بما هو هو مع قطع النظر عن العوارض ككونه مريضاً ، أو شيخاً مطيقاً.


(368)
    2. انّ الاستطاعة والعجز من الأضداد التي لا ثالث لها ، والإنسان الذي هو الموضوع ، إمّا مستطيع أو غير مستطيع ، فإذا قال : « إن استطعت فحجّ » يدلّ بمفهومه على سلب الوجوب عن غيره. إذ لو كان الحكم ثابتاً عند وجود الشرط وعدمه ، يكون التعليق لغواً ، ولا يتصور فيه قيام سبب آخر مكان الشرط المنتفي ، إذ المفروض انّهما من الأضداد التي لا ثالث لهما.
    3. انّ الظلم والعدل من الأضداد التي لا ثالث لهما ، فإذا قال : « ليس لعرق ظالم حق » (1) فالوصف يدلّ على أنّ عرق غير الظالم له حقّ ، فلو كان الحكم عاماً ، للظالم والعادل يلزم اللغوية ، ولذلك فرّع الفقهاء على القول بالمفهوم في الحديث فروعاً :
    1. ما لو زرع أو غرس المفلس في الأرض التي اشتراها ولم يدفع ثمنها ، وأراد بائعها أخذها ، فإنّه لا يقلع زرعه وغرسه مجاناً ولا بأرش ، بل عليه إبقاؤه إلى أوان جذاذ الزرع ، وفي الغرس يباع ويكون للمفلس بنسبة غرسه من الثمن.
    2. لو انقضت مدّة المزارعة ، والزرع باق. ولم يعلما تأخّره عن المدّة المشروطة وقت العقد ، فإنّ الزرع حينئذ لا يقلع أيضاً ، لأنّه ليس بظالم ، نعم يجمع بين الحقّين بالأُجرة. والفرق أنّ المشتري دخل على أن تكون المنفعة له مباحة بغير عوض ، بخلاف العامل.
    3. لو أخذ الشفيع الأرض بالشفعة بعد زرع المشتري. ونظائر ذلك كثيرة. وادّعى بعضهم الإجماع أيضاً على العمل بمفهوم الحديث هنا ، وإن منع من العمل بمفهوم الوصف. (2)
1. صحيح البخاري : 3/140 ، كتاب المزارعة.
2. تمهيد القواعد : 112.


(369)
    الثاني : إذا كان المتكلّم بصدد بيان حكم الموضوع بعامة صوره ، كما إذا سئل السائل وقال : ما هو الماء الذي لا ينجس ، حيث تعلّق السؤال بعاصمية مطلق الماء ، سواء أكان ماء غدير ، أو بئر ، أو جار ، أو غير ذلك فإذا أُجيب بأنّ الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء ، بقيد انّ السبب المنحصر للعاصمية ، هو الكرية على نحو لو دلّ الدليل على عاصمية ماء المطر أو الجاري المتصل بالنبع ، أو الماء الواقع تحت المطر عند إصابة النجاسة ، لوقع التعارض بين المفهوم والدليل الدالّ على عاصمية غير الكرّ بخلاف ما إذا سئل عن عاصمية ماء خاص ، كما إذا سئل عن ماء الغدير الذي تلغ فيه الكلاب ، فأجيب : الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء ، فانّ السؤال والجواب قرينة على أنّ السؤال تعلّق ببيان ما هو العاصم للماء الخاص وهو ماء الغدير ، فيكون الجواب مشيراً إلى الموضوع الذي جاء في سؤال السائل ، فعاصمية ماء الغدير وعدمها تدور مدار الكرّيّة وعدمها ، من دون نظر إلى عاصمية مطلق الماء الذي يعم ماء البئر والجاري وما يقع عليه المطر.
    هذه هي الضابطة ومع ذلك فاستنباط المفهوم وعدمه من القضية رهن قرائن أُخرى أيضاً ربما تؤيد اشتمالها عليه ، هذا وانّ الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) استدلّ على حرمة لحم الشاة التي ذبحت ولم تتحرك وأُريق منها دم عبيط بمفهوم كلام الإمام علي ( عليه السَّلام ).
    ففي صحيحة أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير عبيط فقال : لا تأكل انّ عليّاً ( عليه السَّلام ) كان يقول : إذا ركضت الرِّجْلُ أو طرفت العين فكُلْ. (1) فكلام علي ( عليه السَّلام ) إنّما يدلّ على الحرمة بمفهومه لا بمنطوقه ولولا كون المفهوم حجّة ، كيف استدلّ الإمام به على حرمة
1. الوسائل : 16 ، الباب 12 من أبواب الصيد والذباحة ، الحديث 1.

(370)
أكله.
    فعلى المستنبط أن يتحرى في القرائن الحافّة حتى يعرف موقف المتكلم من الكلام.
    ثمّ إنّ نفاة المفهوم استدلوا بوجوه ذكرها في « الكفاية » ونحن في غنى عن دراستها ، إذ لم نقل بدلالة القضايا الشرطيّة على المفهوم مطلقاً ، حتّى ندرس أدلّة المخالف ، بل ألمعنا إلى مواضع خاصّة لا أظن انّ المخالف ينفي وجود المفهوم فيها فلنرجع إلى البحث في تنبيهات الفصل التي عقدها المحقّق الخراساني.


(371)
    التنبيه الأوّل
المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم لاشخصه
    إنّ نزاع المثبت والنافي للمفهوم إنّما هو في انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط وعدم انتفائه ، لا انتفاء شخصه ضرورة انتفائه بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده ، والنزاع في اشتمال القضية على المفهوم فرع ثبوت مرحلتين للحكم :
    1. شخص الحكم الذي ينتفي قطعاً بانتفاء شرطه باتفاق من المثبت والنافي.
    2. سنخ الحكم ونوعه الذي يحتمل الانتفاء وعدمه.
    فلو كان للجزاء مرحلة واحدة من الحكم وهو شخص الحكم لما يبقى وجه للنزاع ، لأنّه منتف على كلّ حال ، سواء قلنا باشتمال القضية على المفهوم أو لا.
    توضيح المقام رهن بيان أمرين :
    1. ما هو الفرق بين سنخ الحكم وشخصه ؟
    2. لماذا لا يجري النزاع إذا لم يكن للجزاء إلا مرحلة واحدة وهو شخص الحكم ؟
    أمّا الأوّل فبيانه : انّه إذا قلنا : زيد ـ إن سلّم ـ أكرمه ، فهناك حكمان :


(372)
    الف : الوجوب الجزئي المتعلّق بإكرام زيد بقيد تسليمه.
    ب : الوجوب الكلّي المتعلّق بإكرام زيد ، غير مقيّد بتسليمه ، بل يعمّ تلك الحالات وسائر حالاته ، كما إذا لم يسلم ، ولكنّه أطعم اليتيم وغير ذلك.
    ونظيره قوله ( عليه السَّلام ) : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء » ، فهناك مثل السابق ، حكمان :
    1. إنشاء العاصمية للماء بقيد كونه كرّاً.
    2. إنشاء العاصمية له غير مقيد بالكرية بل يعمّ تلك الحالة وسائر الحالات الطارئة له ، ككونه جارياً ، نابعاً من الأرض ، أو ماء بئر فالحكم الجزئي المقيّد بالشرط ينتفي بانتفاء شرطه عقلاً ، لأنّ المعلّق ينتفي بانتفاء المعلّق عليه ، فلو لم يسلِّم أو لم يكن كرّاً ، فالإنشاء المقيّد بهما ، بكونه منتفياً بالاتّفاق ، سواء قلنا بالمفهوم أو لا.
    والذي يصلح للنزاع هو البحث في انتفاء سنخ الحكم ونوعه ، أي وجوب الإكرام غير المقيد بالتسليم ، أو إنشاء العاصمية غير المحدد بالكرّيّة ، فهل يحكم بانتفائه كانتفاء شخص الحكم ـ كما عليه القائل بالمفهوم ـ أو لا يحكم عليه بل يحتمله الانتفاء وعدمه ؟
    ثمّ إنّ المحقّق البروجردي أنكر وجوب سنخ الحكم ونوعه ، وراء شخص الحكم وانّه لا يعقل لسنخ الحكم وراء شخصه مفهوم معقول ، فقال ما هذا حاصله : إنّا لا نتعقّل وجهاً معقولاً لسنخ الحكم لوضوح أنّ المعلّق في قولك : إن جاءك زيد فأكرمه هو الوجوب المحمول على إكرامه ، والتعليق يدلّ على انتفاء نفس المعلّق عند انتفاء المعلّق عليه فما فرضته سنخاً إن كان متّحداً مع هذا المعلّق ، موضوعاً ومحمولاً فهو شخصه لا سنخه ، إذ لا تكرّر في وجوب إكرام زيد


(373)
بما هو هو وإن كان مختلفاً معه في الموضوع كإكرام عمرو أو محمولاً كاستحباب إكرام زيد ، فلا معنى للنزاع في أنّ قوله : إن جاءك زيد فأكرمه يدلُّ على انتفائه أو لا يدلّ. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ سنخ الحكم متّحد مع شخصه موضوعاً ( زيد ) ومحمولاً ( وجوب الإكرام ) لكن يختلف في الشرط فهو شرط لشخص الحكم دون سنخه لكن اتحادهما ليس بمعنى كونهما متساويين كالإنسان ، والحيوان الناطق بل اتحادهما كاتحاد الكلي ومصداقه ، والطبيعي وفرده ، فالوجوب المنشأ بقيد التسليم وجوب جزئي ، والوجوب المنتزع عنه غير المقيد بالشرط ، كلي يعم الفرد المنشأ ، وغيره.
    هذا كلّه حول الأمر الأوّل.
    وأمّا الأمر الثاني وهو انّ مدار النزاع هو إمكان اشتمال القضية وراء شخص الحكم على سنخه ، حتّى يحكم على السنخ أيضاً بالانتفاء كالشخص كما عليه القائل بالمفهوم أو لا يحكم عليه ، بل يكون الانتفاء والبقاء احتمالين متساويين وأمّا لو اشتملت القضية على الحكم الجزئي ، ولم يكن فيها صلاحية للحكم الكلي وسنخه ، فارتفاع الحكم وعدم ثبوته ، عند انتفاء القيد ليس من باب المفهوم ، بل لأجل عدم القابلية في المحل ، وذلك فيما إذا وقف داره للفقراء أو أوصى بتمليك ماله لهم ، أو نذر كونها لهم ـ إذا قضيت حاجته الشرعية ـ أو حلف بالتمليك لهم فانّ سلب الملكية عن الأولاد الأغنياء ، ليس من باب المفهوم ، بل من باب عدم وجود المرحلتين للملكيّة الشخصية والسنخيّة سنخ الحكم ، وذلك : لأنّ المال الخارجي إذا صار وقفاً أو نذراً أو وصية فقد صار ملكاً أو وقفاً لهؤلاء ،
1. نهاية الأُصول : 1/273.

(374)
ولا يتصور عندئذ ملكية كلية ، للمال ، حتّى يبحث عن ارتفاعها ـ عند ارتفاع الفقر ـ وعدمه ، لأنّ المال الواحد ، لا يصلح أن يكون وقفاً أو ملكاً إلا لواحد ، وعندئذ يكون الارتفاع عن غير مورده عقلياً لا من باب المفهوم ، ففرق بين إنشاء وجوب الإكرام وانشاء الملكية ، إذ يصحّ إنشاء وجوبين طوليين أحدهما في ظرف التسليم وثانيهما في ظرف آخر ، وهذا بخلاف إنشاء الملكية للعين فلا يمكن نقلها مرّتين تارة للأولاد الفقراء ، وأُخرى لأولاده الأغنياء.
    ومنه يظهر ما في كلام الشهيد الثاني في تمهيد القواعد حيث زعم انّ انتفاء الحكم في هذه الموارد من باب المفهوم فقال : لا إشكال في دلالة الشرط والرهن في مثل الوقف والوصايا والنذور والأيمان ، كما إذا قال : وقفت هذا على أولادي الفقراء ، أو إن كانوا فقراء ، ونحو ذلك. (1)
    إشكال وإجابة
    أمّا الإشكال فقد حكاه الشيخ الأنصاري في تقريراته عن بعضهم ، وقال : وقد يستشكل في المقام ( مطلق القضايا الشرطيّة ) نظراً إلى أنّ الشرط المذكور إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الإنشاء الخاص ، الحاصل بذلك الكلام دون غيره فأقصى ما تفيده الشرطية انتفاء ذلك وأين ذلك ، من دلالته على نوع الوجوب ؟! (2)
    وإلى هذا الإشكال يشير في « الكفاية » بقوله : إنّ المناط في المفهوم هو سنخ الحكم لا نفس شخص الحكم في القضية ، وكان الشرط في الشرطية إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره فغاية قضيتها انتفاء ذاك
1. تمهيد القواعد ، القاعدة 25 ، ص 110.
2. مطارح الأنظار : 177.


(375)
الحكم بانتفاء شرطه لا انتفاء سنخه. (1)
    ثمّ إنّه أجاب بأنّ الخصوصـية غير مأخوذة في المستعمل فيه وذلك لوجهين :
    1. الخصوصية الإنشائية كالخصوصية الاخبارية غير مأخوذة في المعنى ، مثلاً كلمة بعت وقعت لنسبة البيع إلى المتكلم ، وأمّا كونه موجداً للبيع أو حاكياً عنه في الخارج فهو يستفاد من القرائن ويعد من طوارئ الاستعمال.
    2. انّ اللحاظ الآلي في الحروف والاستقلالية في الأسماء ليس جزءاً للمعنى الموضوع له والمستعمل فيه ، وإنّما تعرضه الآلية عند الاستعمال كما يعرضه الاستقلال عنده.
    يلاحظ عليه : أنّه لو كان الإشكال هو ما يتبادر من ظاهر « المطارح » و « الكفاية » من أنّ الجزاء مقيّد بالشرط حيث إنّ الظاهر انّ الشرط ، شرط للحكم الحاصل بإنشائه دون غيره فبانتفاء الشرط ينتفي شخص الحكم دون سنخه ، فيصح الذب عنه بما اختاره المحقّق الخراساني من أنّ الخصوصيات غير مأخوذة لا في الإخبار ولا في الإنشاء ، لا في الأسماء ولا في الحروف.
    وأمّا لو قرر الإشكال حسب ما قرره السيد المحقّق البروجردي في درسه الشريف ، ويستفاد من بعض مواضع المطارح أيضاً ، وهو انّ شأن صيغة الأمر في جانب الجزاء هو إيجاد البعث والوجوب ، فإذاً المنشأ أمر جزئي ، لا نوعي فليس هنا دال على سنخ الوجوب ، فعندئذ لا يصلح ما في « الكفاية » ردّاً له.
    توضيحه : انّ القول بالمفهوم فرع تصوّر وجود حكمين في جانب الجزاء.
    أ. سنخ الحكم ونوعه.
1. كفاية الأُصول : 1/310.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس