إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 376 ـ 390
(376)
    ب. شخص الحكم وجزئيّه.
    وهذا إنّما يتصوّر فيما إذا كان الجزاء جملة خبرية كما إذا قال : إن جاء زيد فيجب إكرامه ، فقال : إن جاء زيد فإكرامه واجب ، فالجزاء يمكن أن يكون حكاية عن حكم جزئي مقيّد بالمجيء وعن حكم غير مقيّد به.
    وأمّا إذا كان الجزاء جملة إنشائية من شأنها إيجاد المعاني في عالم الاعتبار فليس هناك وراء شخص الحكم حكم آخر ، لأنّ المفروض انّ شأن الجملة الإنشائية إيجاد المعنى لا حكايته عن الخارج والإيجاد نفس الوجود وهو نفس التشخص ، فيكون الجزاء غير مشتمل على وجوب وراء شخصه.
    وبعبارة أُخرى : انّ الجمل على قسمين : حاك عن الخارج كما يقول : زيد قائم أو يقول : يجب إكرامه أو إكرامه واجب بشرط أن يكون جملة خبرية غير مستعملة في الإنشاء موجد للمعنى على نحو ليس وراء عالم الإنشاء شيء يحكي عنه اللفظ فالمعنى الذي هذا شأنه يكون جزئياً شخصياً لا غير ولا يتصوّر فيه نوع المعنى وراء الشخص.
    هذا هو الإشكال والأولى أن يجاب عن كلا التقريرين بجواب واحد ، وهو :
    إنّ الوجوب وإن كان مقيّداً بالشرط ، أو انّ الشرط وقع شرطاً للحكم المذكور في الجزاء ـ حسب تقرير العلمين ـ أو انّ مفاد الجزاء معنى إيجادي وجزئي حقيقي حسب تقرير السيد البروجردي لكن تعلّق الوجوب بمادة الجزاء عند وجود الشرط تحكي عن مناسبة بين الشرط ( التسليم ) والجزاء ( الإكرام ) فإذا تمت دلالة القضية على انحصار العلّة ، دلّت على فقدان المقتضي للإكرام عند فقدان الشرط ، وهو نفس القول بالمفهوم ، لأنّ عدم المقتضي له ، يلازم عدم كونه مطلوباً ، لا بهذا الطلب المختص أو الجزئي ولا بطلب آخر.


(377)
    ولك أن تقول : إنّ الهيئة وإن كانت جزئية لكن تناسب الحكم والموضوع يوجب إلغاء الخصوصية ، وجعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب وطبيعيّه ، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب.
    جواب آخر :
    ويمكن أن يقال : انّ الحكم الشخصي وإن كان جزئياً حسب أفراده ، ولكنّه حسب حالاته أمر قابل للتقييد ، مثلاً : إذا قلنا أكرم زيداً ، فالبعث وإن كان جزئياً لكنّه حسب حالاته قابل للتقييد كأن يقول : أكرم زيداً إذا كان عادلاً لا فاسقاً ، عالماً لا جاهلاً بإرجاع القيود إلى مفاد الهيئة وسوف يوافيك انّه لايشترط في جريان مقدّمات الحكمة كون الموضوع كلياً ذا أفراد ، بل يكفي كونه جزئياً ذا أحوال.
    وعلى ضوء ذلك فالبعث الجزئي وإن كان متشخّصاً لكنّه قابل للتقييد بالتسليم كما يمكن أن يكون مطلقاً عنه.
    فالبعث المقيد بالتسليم شخص الحكم فينتفي بانتفاء التسليم ولحاظه غير مقيد به هو سنخ الحكم ، فعندئذ انتفاء الحكم الشخصي لا يكون دليلاً على انتفاء سنخ الحكم ، بل يمكن أن يكون نفس الشخص باقياً ضمن شرط آخر.
    نعم وصف البعث الجزئي باعتبار شخص الحكم ، وباعتبار آخر سنخ الحكم لأجل تقريب المطلب إلى الذهن ، وإلا فالأمر الجزئي ، بهما معاً.


(378)
    التنبيه الثاني
إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء
    إذا ورد : إذا خفي الأذان فقصّر ، وورد أيضاً إذا خفيت الجدران فقصّر ، فلو قلنا بخلوّ الجملة الشرطية عن المفهوم فلا تعارض بين الدليلين ويؤخذ بظهورهما في انّ كلّ واحد سبب تام ، وليس سبباً ناقصاً فيكفي خفاء واحد منهما في وجوب التقصير.
    ولو قلنا بظهور الجملة الشرطية في المفهوم يقع التعارض بين مفهوم كلّ مع منطوق الآخر.
    وذلك لأنّ مفهوم قوله : إذا خفي الأذان فقصّر : انّه إذا لم يخف الأذان لا تقصّر الصلاة ، سواء أخفيت الجدران أم لا ، فهذا المفهوم يعارض منطوق القضية الثانية التي تحكم بوجوب القصر عند خفاء الجدران.
    ومثل القضية الأُولى القضية الثانية فانّ مفهومها انّه إذا لم تخـف الجـدران فلا تقصّر ، سواء أخفي الأذان أم لا ، فيعارض مفهومُها منطوق القضية الأُولى التي مفادها انّه إذا خفي الأذان ، فقصّر ، فلابدّ من علاج التعارض بين القضيتين.
    وقد ذكر المحقّق الخراساني في رفع التعارض وجوهاً خمسة ، والمقبول منها هو الأوّل والثالث والبعيد هو الثاني ، والمردود هو الرابع والخامس. فنحن نذكر


(379)
المقبول أوّلاً ، ثمّ نذكر البعيد ، ثمّ المردود.
    أمّا المقبول فوجهان :
    1. تخصيص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر
    وحاصل هذا الوجه : انّه يخصص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر ، فإذا كان مفهوم قوله : « إذا خفي الأذان فقصّر » انّه إذا لم يخف الأذان فلا تقصر ، فيُخصّص النهي عن التقصير عند عدم خفاء الأذان بقوله : « إذا خفي الجدران فقصّر » إذا لم تخف ومثلها ، القضية الثانية فمفهوم قوله : إذا خفيت الجدران فقصّر ، انّه إذا لم تخف الجدران لا تقصر ، فيُخصص النهي عن التقصير عند عدم خفاء الجدران بقوله : « إلا إذا خفي الأذان » ، فتكون النتيجة كفاية خفاء واحد من الأمرين ، فكأنّه قال : إذا خفي الجدران أو الأذان فقصر ، فما في عبارة « الكفاية » من قوله : « عند انتفاء الشرطين » بمعنى كفاية انتفاء واحد من الشرطين وحاصل هذا الجمع ، هو عطف الجملة الثانية على الأُولى بلفظة « أو » العاطفة.
    2. تقييد منطوق كلّ بالآخر
    وحاصل هذا الوجه : انّه يقيد إطلاق الشرط في كلّ من القضيتين بمنطوق الآخر ، فيكون الشرط عندئذ هو خفاء الأمرين معاً ، فتكون النتيجة بعد التقييد هو انّه إذا خفيت الجدران والأذان فقصّر ، خلافاً للتصرف الأوّل فانّ النتيجة تكون « إذا خفي الأذان أو الجدران فقصّر ».
    وإن شئت قلت : إنّ ظاهر القضية الشرطية ـ على القول بالمفهوم ـ انّ للشرط وصفين :
    1. انّه سبب تام لاناقص.


(380)
    2. انّه سبب منحصر ليس له بديل.
    فالتصرف في مفهوم كلّ بمنطوق الآخر بمعنى سلب الانحصار عن كلّ مع حفظ سببية كلّ ، للقصر ، كما أنّ التصرف في منطوق كلّ هو التصرف في تمامية السبب ، وانّ كلّ واحد ليس سبباً تاماً ، بل سبب ناقص لا يتمّ إلا بضمّ جزء آخر إليه.
    وهذان الوجهان معقولان ، وأمّا انّ الترجيح بأي واحد منهما فهو رهن قرينة خارجية.
    وذهب المحقّق النائيني إلى عدم الترجيح وبالتالي صيرورة القضيتين مجملتين ، فتصل النوبة إلى الأُصول العملية ، قال :
    إنّ كلا من القضيتين ظاهر في العلّة المنحصرة ولكن تعدّدها ينافي ذلك ، فلابدّ إمّا من رفع اليد عن كونه علّة تامة وجعله جزء العلة فيكون المجموع من الشرطين علة تامة منحصرة ينتفي الجزاء عند انتفائهما معاً ، فتكون القضيتان قضية واحدة ، مثلاً يكون قوله : إذا خفي الأذان فقصّر وإذا خفي الجدران فقصّر بمنزلة قوله : إذا خفي الأذان والجدران فقصّر.
    وإمّا من رفع اليد عن كونه علّة منحصرة مع بقائه على كونه علّة تامّة فيكون الشرط أحدهما تخييراً وتكون القضيتان بمنزلة قوله : إذا خفي الأذان أو خفي الجدران فقصّر ، ويكفي حينئذ أحدهما في ترتب الجزاء ، وحينئذ لابدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين : إمّا ظهور الشرط في كونه علة تامة وإمّا ظهوره في كونه علّة منحصرة.
    وحيث لم يكن أحد الظهورين أقوى من ظهور الآخر ولا أحدهما حاكماً على الآخر لمكان انّ كلا من الظهورين إنّما يكون بالإطلاق ومقدّمات الحكمة كان


(381)
اللازم الجري على ما يقتضيه العلم الإجمالي من ورود التقييد على أحد الإطلاقين. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّه إذا كان أحد الظهورين أقوى من الظهور الثاني فيؤخذ بالأقوى ويتصرف في الأضعف.
    هذه هي الضابطة وأمّا تطبيقها على المقام ، فبيانه :
    إنّ دلالة القضية الشرطية على السببية التامة أظهر من دلالتها على السببية المنحصرة ، والدلالة الأُولى مورد اتفاق إذا كان المتكلّم في مقام البيان ، بخلاف الدلالة الثانية فقد عرفت إنكار جمع المحقّقين لها ، والتصرف في مفهوم كلّ من القضيتين بمنطوق الآخر تصرف في الدلالة الثانية ( أي دلالتها على انحصار العلّية والسببية في واحد من الشرطين ).
    بخلاف التصرف في منطوق كلّ بالآخر فانّه تصرف في سببية كلّ للجزاء ودلالة القضية الشرطية للسببية التامة أقوى وأظهر من دلالتها على الانحصار ، ومع دوران الأمر بين أحد التقييدين يتصرف في الأضعف دون الأقوى.
    أضف إلى ذلك انّا نعلم علماً وجدانياً بزوال الانحصار إمّا بزواله وحده أو في ضمن زوال الاستقلال ، فعند ذلك ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي ، وهو زوال الانحصار وشك بدوي وهو الشك في زوال الاستقلال.
    وربما يؤيّد ما ذكرنا من أنّ اللازم رفع اليد عن الانحصار دون السببيّة بأنّ مصب التعارض وإن كان هو المفهوم من جانب والمنطوق من جانب آخر إلا أنّه يستحيل التصرف في المفهوم نفسه ، لأنّه مدلول تبعي ولازم عقلي للمنطوق ، فلابدّ من رفع اليد عن ملزوم المفهوم بمقدار يرتفع به التعارض ، ولا يكون ذلك إلاّ
1. فوائد الأُصول للكاظمي : 1/487 ـ 488.

(382)
ذبتقييد المنطوق ورفع اليد عن انحصاره ، دون كونه علة تامة ، لعدم الحاجة إلى التصرف في تمامية كل واحد من الشرطين بعد إلغاء الانحصار. (1)
    يلاحظ عليه : كيف يقول باستحالة التصرف في المفهوم بحجّة انّه مدلول تبعي ولازم عقلي للمنطوق ، لأنّه إذا صار حجة فيكون كالمنطوق في قابلية كلّ للتقييد.
    نعم صار المنطوق واسطة في الثبوت في ظهور هذه الحجة ، وعندئذ لا مانع بعد ظهورها أن يكون طرفاً للمعارضة بينه وبين المنطوق الآخر.
    هذا كلّه حول الوجهين الأوّلين المقبولين ، وقد عرفت أنّ الجمع الأوّل أظهر من الجمع الثاني.
    والقول بأنّ كلّ واحد سبب مستقل أظهر من القول بأنّهما معاً سبب مستقل.
    بقي الكلام في الوجوه الثلاثة.
    الثالث : رفع اليد عن المفهوم منهما
    وحاصل هذا الوجه هو سلب المفهوم عن القضيتين وانّهما لا تدلاّن وراء المنطوق على شيء آخر حتّى يخصص منطوق كلّ بمفهوم الآخر.
    يلاحظ عليه : أنّ إنكار الموضوع ليس علاجاً للمشكلة فانّ المفروض في البحث اشتمال القضيتين على المفهوم ولولا الاشتمال لما كان للبحث ملاك.
    أضف إلى ذلك : انّ هذا ليس وجهاً مستقلاً ، بل يتحد نتيجة مع الوجه الأوّل ، غاية الأمر انّ القائل بالجمع الأول يقول بدلالته كلّ على المفهوم غاية الأمر
1. أجود التقريرات : 1/424 ـ 425 ، قسم التعليقة.

(383)
يخصص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر.
    وأمّا القائل بهذا الوجه فهو ينفي أساس التعارض ، وهو الاشتمال على المفهوم ويأخذ بظهور كلّ قضية في استقلال سببها.
    الرابع : جعل الشرط هو القدر المشترك
    وحاصل هذا الوجه ، هو جعل الشرط القدر الجامع المشترك بين الخفاءين ، فليس الميزان خفاء الأذان بما هو هو ولا خفاء الجدران كذلك ، بل الميزان في وجوب القصر ، هو البعد عن الوطن أو محل الإقامة بمقدار خاص يلازمه خفاء الأذان والجدران ، فخفائهما أمارتان للموضوع أي الابتعاد بمقدار خاص وطريقان إليه ، وليس لهما موضوعيّة.
    ثمّ استدلّ على ذلك بوجهين :
    1. انّ وحدة المعلول ـ أي وجوب القصر ـ كاشف عن وحدة العلّة لامتناع صدور الواحد عن الكثير بما هو كثير من دون جامع بينهما ، فهذه القاعدة تجرّ الباحث إلى القول بأنّ هنا علّة واحدة وهي البعد عن الوطن أو محل الإقامة للمعلول الواحد أي وجوب القصر.
    يلاحظ عليه : أنّ مصب القاعدة على فرض الصحة هو الأُمور التكوينية لا الاعتبارية وفي التكوين ، الواحد البسيط الذي لا كثرة فيه ، كالعقل الأوّل بناء على كونه وجوداً بلا ماهية فهو لا يصدر إلا عن البحث البسيط وهو اللّه سبحانه ، وأين هذه الضابطة من الوجوب الاعتباري النوعي ( وجوب القصر ) الذي يتكثر بتكثر أفراده ؟!
    2. انّ الشارع لمّا لم يجوز بالإفطار والتقصير في البلد حفظاً لكرامة الصيام


(384)
بين الحاضرين ، وكرامة الصلاة الرباعية بين الأهل والعيال وإنّما جوز إذا ابتعد المسافر عن البلد على قدر يلازمه خفاء الأذان والجدران.
    وهذا الوجه لا بأس به غير أنّه يثير إشكالاً ، وهو كيف يكون خفاء الأذان والجدران أمارة على البعد المعين مع أنّ الأذان يخفى بكثير قبل خفاء الجدران ، فانّ خفاء الثاني يتوقّف على قطع طريق كثير.
    ويمكن دفعه بأنّ الأمارة هي تواري المسافر عن البيوت لا تواريها عن المسافر كما في الحديث (1) ، ولمّا كان تواري المسافر عن البيوت غير معلوم للمسافر جعل تواري البيوت عن المسافر طريقاً إلى الطريق ( تواري المسافر عن البيوت ) والأمارتان الواقعيتان ( خفاء الجدران ، وتواري المسافر عن أهل البيوت ) متقاربتان جداً.
    الخامس : رفع اليد عن مفهوم إحدى القضيتين
    وحاصل هذا الوجه : انّه يرفع اليد عن خصوص إحدى القضيتين ويؤخذ بمفهوم القضية الأُخرى ، وهذا هو المنقول عن ابن إدريس الحلي فزعم انّه يُلغى مفهوم قوله : « إذا خفي الأذان فقصّر » ويؤخذ بمفهوم القضية الأُخرى ، فعندئذ يرتفع التعارض.
    يلاحظ عليه : مع أنّه ترجيح بلا مرجح ، انّ التعارض باق على حاله أيضاً ولم يقلع من الأساس ، وذلك لأنّ القول بعدم اشتمال القضية الأُولى على المفهوم وإن كان يعالج التعارض في جانب مفهوم تلك القضية ، ولكنّه باق على حاله في الجانب الآخر ، فإذا كان مفهوم قوله : « إذا خفيت الجدران فقصّر » هو انّه إذا لم
1. الوسائل : ج 5 ، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث 2.

(385)
تخف الجدران فلا تقصر ، وعندئذ يقع التعارض بين هذا المفهوم ومنطوق القضية الأُولى ، فعلى المفهوم لا يجوز القصر ، وعلى منطوق القضية الأُولى يجب القصر وبذلك ظهر انّ الطريق منحصر في الأوّلين ، أي إمّا تقييد مفهوم كل بمنطوق الآخر ، أو تقييد منطوق كلّ بالآخر ، فمقتضى الصناعة هو الأوّل كما عرفت ، غير أنّ الفتاوى على الثاني.


(386)
    التنبيه الثالث
تداخل الأسباب والمسببات
    وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :
    الأوّل : قد جعل المحقّق الخراساني عنوان البحث في التنبيهين : الثاني والثالث أمراً واحداً ، وهو قوله : « إذا تعدّد الشرط واتحد الجزاء » وجعل وجه التمايز بينهما الغرض والجهة المبحوثة عنها ، فكأنّ الغاية من عقد التنبيه الثاني معالجة التعارض الواقع بين مفهوم كلّ قضية مع منطوق القضية الأُخرى ، ولكن الغرض من عقد التنبيه الثالث البحث عن تداخل الأسباب في مقام التأثير وعدمه ، وعلى فرض عدم التداخل ، البحث عن تداخل المسببات في مقام الامتثال وعدمه ، وعلى ذلك فالبحث في التنبيه الثاني لفظي وفي الثالث عقلي حيث يقع البحث تارة في أنّ كلّ سبب هل يقتضي مسبباً مستقلاً أو لا ؟ فإذا قال : إذا بلت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ ، فهل يقتضي كلّ من البول والنوم مسبباً مستقلاً ، أي إيجاباً متعدّداً أو لا ؟ وعلى فرض اقتضائه وجوباً متعدداً ، يقع الكلام في كفاية الوضوء الواحد لامتثال الوجوبين أو لا ، فيعبر عن الأوّل ( اقتضاء كلّ سبب وجوباً مستقلاً وعدمه ) بعدم التداخل في الأسباب وتداخله كما يعبر عن الثاني ( كفاية وضوء واحد عن امتثال وجوبين أو لا ) بالتداخل في المسببات وعدمه.
    والأولى تغيير العنوان ، ولذلك جعلنا العنوان عند تعدّد الشرط تداخل


(387)
الأسباب والمسببات لأنّ المسألتين متمايزتان جوهراً وذاتاً ، ومع هذا لا تصل النوبة إلى التمايز بالأغراض والمقاصد.
    الثاني : قد ظهر ممّا ذكرنا المراد من تداخل الأسباب والمسببات فمرجع التداخل في الأسباب وعدمه إلى اقتضاء السببين وجوباً واحداً أو اقتضائهما وجوبين مختلفين ، فالأوّل هو التداخل في الأسباب والثاني هو عدم التداخل فيها.
    ومرجع التداخل في المسببات وعدمه ـ بعد القول بعدم تداخل الأسباب وانّ كلّ سبب يقتضي إيجاباً مستقلاً ـ إلى لزوم تعدّد الامتثال وعدمه ويعبر عن الأوّل بعدم تداخل المسببات وعن الثاني بتداخلها.
    وإن شئت قلت : إنّ مرجع التداخل السببي وعدمه إلى دعوى عدم اشتغال الذمة إلا بوجوب واحد أو بوجوبين ، كما أنّ مرجع التداخل المسببي وعدمه بعد القول بعدم التداخل في الأسباب إلى دعوى صدق الامتثال بالإتيان بفرد واحد عند تعدّد التكاليف والاشتغالات وعدمه ، فالتداخل في المسببات لا يعني تداخل الوجوبين ، بل المراد تداخلهما في مقام الامتثال ، وبذلك اتّضح انّ البحث في مورد الأسباب ـ تداخلاً وعدمه ـ يرجع إلى مقام الدلالة وظهور القضية في تعدد الوجوب وعدمه ، كما أنّ البحث في مورد المسببات ـ تداخلاً وعدمه ـ يرجع إلى مقام الامتثال وانّه هل يكفي الإتيان بفرد واحد في امتثال الوجوبين أو لا ؟
    الثالث : انّ النزاع في التداخل وعدمه فيما إذا كان الجزاء أمراً قابلاً للتكرار كالوضوء والغسل ، وأمّا لو كان غير قابل له كالقتل فيما إذا ارتد وزنى بالإحصان ، فهو خارج عن محطّ البحث.
    الرابع : انّ الشرط للجزاء ـ وجوب الوضوء ـ تارة يختلف نوعاً كالنوم والبول بالنسبة إلى وجوب الوضوء ، ومسّ الميت والجنابة بالنسبة إلى الاغتسال ، وأُخرى


(388)
يتحد نوعاً ويتعدد مصداقاً ، كما إذا بال مرتين أو نام أو وطأ الحائض كذلك فيقع الكلام تارة في مقام الدلالة ، وأُخرى في مقام الامتثال ، فلو كان الكلام في الأُولى فيقال : هل ظاهر القضية الشرطية انّ كلّ شرط يطلب جزاء ـ وجوباً ـ خاصاً أو لا ؟ ولو كان الكلام في مقام الامتثال فيقال ـ على القول بعدم التداخل في الأسباب ـ : هل يكفي الإتيان بمصداق واحد ، في امتثال الوجوبين أو لا ؟
    الخامس : انّ النزاع كما يجري في القضايا الشرطية ، يجري في القضايا الخبرية ، كما إذا قال : الحائض تغتسل ، والجنب يغتسل ، نعم يمكن إرجاع القضايا الخبرية إلى الشرطية بأن يقال : إذا حاضت تغتسل كما يمكن العكس.
    السادس : انّ الأقوال في المسألة ثلاثة :
    1. عدم التداخل مطلقاً ، وهو المشهور وإليه ذهب الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني ، إلا ما خرج بالدليل.
    2. التداخل مطلقاً ، وهو خيرة المحقّق الخونساري والسيد البروجردي.
    3. التفصيل بين اختلاف الشرطين ماهية أو اتحادهما كذلك وتعدّدهما مصداقاً ، فالأوّل ـ كما مرّ ـ كالنوم والبول ، والجنابة ومس الميت والزيادة والنقيصة في الصلاة فانّ زيادة الركوع ، غيرزيادة السجود ، وكذلك نقيصتهما ؛ وأمّا الثاني فمعلوم.
    فذهب ابن إدريس إلى عدم التداخل في الأوّل ، والتداخل في الثاني ، ولذلك أفتى بعدم تكرر الكفّارة ، لو تكرر وطء الحائض.
    السابع : انّ المحقّق الخراساني قد خلط بين البحثين : التداخل وعدمه في الأسباب ، والتداخل وعدمه في المسبّبات ولم يفصّل بينهما بالعنوان ، وقد أوجب


(389)
ذلك إغلاقا في فهم عبارات الكتاب.
    إذا عرفت ذلك ، فلندخل في صلب الموضوع. اعلم أنّ التنبيه الثالث يقع في موضعين :
    الموضع الأوّل
حكم الأسباب من حيث التداخل وعدمه
    قد عرفت أنّ المقصود من تداخل الأسباب وعدمه ، هو اقتضاء كلّ سبب وجوباً مستقلاً ، وعدمه. وبعبارة أُخرى : تأثير كلّ شرط في حدوث وجوب خاص ، غير تأثير الشرط الآخر فيه ، ولا ملازمة بين عدم التداخل في الأسباب ( وحدوث وجوبين مستقلين ) ، وبين عدم التداخل في المسببات ، أي عدم كفاية مصداق واحد في امتثال الوجوبين ، بل ربّما يمكن القول بعدم التداخل في الأسباب ، ومع ذلك يكتفى في امتثال السببين ، بالإتيان بمصداق واحد ، فلو مسّ الميت أو أجنب ، يكفي الاغتسال الواحد لامتثال وجوبين. نعم القول بعدم التداخل في المسببات فرع القول بعدم التداخل في الأسباب ، أي فرع القول بتعدّد الوجوب.
    إذا عرفت ذلك فلنذكر دليل القائل بعدم التداخل :

    إطلاق الشرط يقتضي عدم التداخل
    استدلّ القائل بعدم التداخل في الأسباب ، ( اقتضاء كلّ شرط وجوباً مستقلاً ) بظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء ( الوجوب ) عند حدوث الشرط ، سواء أقلنا إنّه هو السبب أو كاشف عن السبب الواقعي ولازم ذلك تعدّد


(390)
الوجوبين.
    وبعبارة أُخرى : انّ ظاهر كلّ قضية شرطية أنّه علّة تامة لحدوث الجزاء ، سواء أوجد الشرط الآخر أم لا ، وعلى فرض الوجود ، سواء وجد معه أو قبله ، أو بعده.
    هذا هو دليل القائل بعدم التداخل فيها.
    دليل القائل بالتداخل إطلاق الجزاء
    فإذا كان ظهور كلّ من الشرطين في كلّ من القضيتين في الحدوث عند الحدوث دليل القائل بعدم التداخل ، فإطلاق متعلّق الوجوب وهو « الوضوء » أو « الاغتسال » دليل القائل بالتداخل ، لأنّ ظاهر إطلاق الجزاء ، انّ الوضوء مثلاً هو الموضوع التام ، ومن المعلوم أنّ الطبيعة الواحدة لا يمكن أن تقع متعلّقاً ، لوجوبين ، لاستلزامه اجتماع المثلين ، وهو محال كاجتماع الضدين.
    فتلخّص انّ إطلاق الشرط وتأثيره في الحدوث عند الحدوث مطلقاً ، دليل القائل بعدم التداخل ، كما أنّ إطلاق الجزاء وانّ الموضوع لكلا الوجوبين ، هو الوضوء لا غير دليل القائل بالتداخل ولا يمكن الأخذ بكلا الظهورين ولابد من التصرف في أحدهما.
    تخلّص القائل بالتداخل عن الإشكال
    ثمّ إنّ القائل بالتداخل يتصرف في ظهور الشرط في الحدوث عند الحدوث ، بأحد الوجهين :
    1. منع دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث ، بل على الثبوت
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس