إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 391 ـ 405
(391)
عند الحدوث ، أي ثبوت الوجوب ، أعمّ من كونه نفس الوجوب السابق أو الوجوب الجديد.
    وهذا تصرف في ناحية الشرط ، ومنع دلالته على الحدوث عند الحدوث.
    2. أو الالتزام بحدوث الأثر عند وجود كلّ شرط إلا أنّ الأثر وجوب الوضوء في المثال عند الشرط الأوّل ، وتأكّده عند الآخر.
    وهذا تصرف في ناحية الجزاء وانّ الهيئة الجزائية لا تدلّ على الوجوب التأسيسي ، بل إذا سبقه شرط آخر ، يدل على الوجوب التأكيدي. (1)
    هذان الوجهان ممّا اعتمد عليه القائل بالتداخل وتخلّص عن التعارض اللازم من الأخذ بالإطلاقين ، وإليك ما تخلّص به القائل بعدم التداخل في الأسباب.
    تخلّص القائل بعدم التداخل عن الإشكال
    وقد تخلّص القائل بعدم التداخل بوجهين آخرين :
    1. الالتزام بأنّ متعلّق الجزاء وإن كان واحداً صورة ، إلا أنّه حقائق متعدّدة حسب تعدّد الشرط ، كصلاة الفجر ونافلته فهما واحدتان صورة ومختلفتان حقيقة. وعلى ضوء ذلك نقول الوضوء لأجل النوم غير الوضوء لأجل البول. (2) وهذا تصرّف في الجزاء.
1. هذا الوجه هو الذي ذكره المحقّق الخراساني بعنوان ثالث الوجوه ، وكان الأولى أن يذكره بعد الأول ـ كما فعلناه ـ وأمّا ما ذكره بصورة الوجه الثاني ، فهو دليل القائل بعدم التداخل ، لا التداخل فقد أدخل في ضمن بيان دليل القائل بالتداخل ، دليل القائل بعدمه.
2. وما في الكفاية في ذيل هذا الاحتمال من إمكان الاجتزاء بمصداق واحد ممّا لا حاجة إليه في المقام وإنّما يناسب مسألة تداخل المسببات مع أنّ الكلام في تداخل الأسباب.


(392)
    2. ما أشار إليه في ضمن النقض والإبرام وقال : « قلت نعم إذا لم يكن المراد بالجملة فيما إذا تعدد الشرط كمافي المثال هو وجوب الوضوء مثلاً لكلّ شرط غير ما وجب بالآخر ».
    وحاصله : انّه يقيّد إطلاق الجزاء بقوله : « مرة أُخرى » وكأنّه يقول : « إذا نِمت فتوضّأ » وإذا بُلت فتوضّأ مرّة أُخرى ، ويكون الموضوع للوجوب الأوّل هو الطبيعة وللوجوب الثاني ، هو الفرد الثاني ، ويرتفع محذور اجتماع المثلين ، وهذا أيضاً تصرّف في الجزاء.
    فظهر من ذلك ، انّ كلاً من القائل بالتداخل وعدمه قد لمس الإشكال وصار بصدد دفعه ، إمّا بالتصرف في جانب الشرط كما في الوجه الأوّل ، أو في جانب الجزاء هيئة أو مادة كما في الوجوه الثلاثة المتأخّرة ، إنّما الكلام في ترجيح أحد التأويلين بكلا شقيه على التأويل الآخر كذلك ، فنقول :
    ترجيح ظهور القضية الشرطية على إطلاق الجزاء
    ثمّ إنّ القائلين بعدم التداخل في الأسباب ، ذكروا لترجيح ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث ، الذي هو الأساس لعدم التداخل وجوهاً نذكرها تباعاً.
    الأوّل : ما ذكره المحقّق الخراساني تبعاً للشيخ الأعظم وقال : « لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء ، وظهور الإطلاق ، ضرورة انّ ظهور الإطلاق ، يكون معلّقاً على عدم البيان ، وظهورها ( القضية الشرطية ) صالح لأن يكون بياناً فلا ظهور للجزاء مع ظهورها فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرف أصلاً ، بخلاف القول بالتداخل. (1)
1. كفاية الأُصول : 1/318.

(393)
    توضيحه : انّ دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث بالدلالة اللفظية الوضعية ودلالتها عليه ، لا يتوقف على شيء آخر غير نفسها ، بخلاف دلالة الجزاء ( فتوضأ ) على وحدة متعلّق الوجوبين فانّه بالإطلاق وسكوت المتكلّم عن القيد مع كونه في مقام البيان ، فدلالته على وحدة الجزاء متعلّق على عدم البيان الدالّ على القيد ، وظهور القضية الشرطية ، في الحدوث عند الحدوث كاف ، لأن يكون بياناً وانّ متعلّق الوجوب في كلّ من القضيتين شيء غير الآخر ، وانّ المحكوم في كلّ فرد غير الآخر ، فعندئذ لا ينعقد الإطلاق في جانب الجزاء لوجود البيان فلا يُعدّ تقديم ظهور الشرط على الجزاء تصرّفاً فيه ، لعدم انعقاد الإطلاق.
    يلاحظ عليه : أنّ دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث وإن كانت لفظية لكن دلالتها على أنّ الشرط في عامة الأحوال كذلك ، سواء سبقه الشرط الآخر أم قارنه أو تأخّر عنه ، إنّما هو بالإطلاق وسكوت المتكلّم مع كونه في مقام البيان ، فالمقام من قبيل تعارض الإطلاقين ، لا من قبيل تعارض الدلالة اللفظية مع الدلالة الإطلاقية ، فكما أنّ إطلاق الشرط يصلح لأن يكون قرينة على تقييد متعلّق الجزاء ، أي الوجوب ، وانّ المحكوم بالوجوب في الشرط الثاني غير الأوّل ، كذلك إطلاق الجزاء يصلح لأن يكون قرينة على أنّ الحدوث عند الحدوث فيما إذا تفرّد الشرط ، لا ما إذا سبقه الآخر أو قارنه ، فعندئذ يكون الوجوب مؤكّداً لا مؤسّساً لحكم جديد.
    وبعبارة أُخرى : انّ دلالة القضية الشرطيّة على أنّ كلّ سبب تامّ للجزاء وتعلّق الوجوب ، وإن كان بالوضع ، لكن كونه كذلك في عامة الحالات سواء كان قبله أو معه شيء أو لا ، إنّما هو بالإطلاق ببيان انّه لو كان المؤثر هو الشرط ، بشرط أن لا يسبقه شيء أو يقارنه شيء ، لكان عليه البيان ورفع الجهل ، وحيث لم يبين


(394)
يؤخذ بالإطلاق ويقال : الشرط مؤثر في عامة الأحوال.
    وهذا النوع من الإطلاق موجود في جانب الجزاء ببيان انّ الموضوع هو الطبيعة ، فلو كان الموضوع الطبيعة الموجودة في ضمن فرد آخر ، لكان عليه البيان وحيث لم يبين نستكشف انّ الموضوع هو الطبيعة ، ويستحيل تعلّق إرادتين مستقلتين بها.
    فكما أنّ إطلاق القضية الشرطية صالح للتصرّف في جانب الجزاء بإضافة قيد عليه مثل « فرد آخر » عليه ، فهكذا إطلاق الجزاء صالح للتصرّف في جانب القضية الشرطية بأحد الوجهين الماضيين : الثبوت عند الحدوث ، أو الوجوب المؤكّد.
    الثاني ما أفاده المحقّق الاصفهاني : انّ نسبة الصدر إلى الذيل نسبة ذات الاقتضاء إلى فاقد الاقتضاء حيث إنّ متعلّق الجزاء نفس الماهية المهملة ، والوحدة والتعدّد ، خارجان عنها ، بخلاف أداة الشرط فانّها ظاهرة في السببية المطلقة ولا تعارض بين المقتضي والاقتضاء. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من خروج الوحدة والتعدّد من مدلول الجزاء وإن كان صحيحاً لكن دلالة القضية الشرطية على السببية المطلقة ليس إلا كونه سبباً لحدوث الجزاء عند حدوث الشرط وهذا المقدار من الدلالة لا يكفي ، لأنّ كونه سبباً مطلقاً في جميع الأحوال ليس مدلول الدلالة اللفظية ، بل مدلول الدلالة الإطلاقية حيث إنّ المتكلّم لم يخص السببية بحال دون حال وعند ذاك تصبح السببية في عامة الأحوال مدلول الإطلاق ، فكيف يقدّم على إطلاق الجزاء ؟
    الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني وحاصله :
1. نهاية الدراية : 326.

(395)
    « إنّ ظهور القضية الشرطية في كونها انحلالية أظهر من اتحاد الجزاء في القضيتين ، وذلك لأنّه لا شبهة في أنّ القضية الشرطية ، كالقضية الحقيقية ، فكما أنّ قوله : « المستطيع يحجّ » عامّ لمن استطاع في كلّ وقت ، فكذلك قوله : « إذا استطعت فحجّ » عام لمن استطاع في وقت ولازم الانحلال ان يترتّب على كلّ شرط جزاء غير ما رتب على الآخر ، فيكون هذا قرينة للجزاء ويصير بمنزلة أن يقال : إذا بُلت فتوضأ وإذا نِمْت ثانياً فتوضأ وضوءاً آخر. (1)
    وقد وصفه تلميذه في محاضراته بأنّه في غاية الصحة والجودة وانّه يتمّ ببيان أمرين :
    أوّلهما : انّ القضية الشرطية ظاهرة في الانحلال وتعدد الطلب ، لأنّها ترجع إلى القضية الحقيقية ، ولا إشكال انّ الحكم في القضية الحقيقية ينحلّ بانحلال موضوعه إلى أحكام متعددة.
    ثانيهما : انّ مقتضى تعدّد القضية الشرطية في نفسها ، تعدّد الطلب أيضاً ، فإذا فرض تعلّق طلبين بماهية واحدة كان مقتضى كلّ ، إيجادَ تلك الماهية ، فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها مرّتين فإذا فرض ظهور القضية الشرطية في الانحلالية وتعدّد الطلب ، كان ظهور القضية في تعدّد الحكم لكونه لفظياً مقدماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب لو سلمنا ظهوره فيها ، ويكون مقتضى القاعدة عدم التداخل. (2)
    يلاحظ عليه : بأنّه لو أُريد من الانحلال ، انحلالُ قضيّة واحدة إلى قضايا كثيرة حسب عدد الموضوعات ، على نحو ، لو افترضنا انّ عبر القرون ملايين من
1. فوائد الأُصول : 1/494.
2. المحاضرات : 5/118.


(396)
المسلمين لهم القدرة والاستطاعة لحجِّ البيت لتعلّق بكلّ إرادة وإنشاء وحكم مستقل ، وبالتحليل ، فلو أُريد من الانحلال هذا ، فنحن نمنعه لشهادة الوجدان على أنّ المولى إذا أنشأ إلزاميّاً على عبيده ، أو على من تحت يده فليس هنا إلا إرادة واحدة متعلّقة بالعنوان الكلي يتلقّاه كلّ منهم حجّة على نفسه دون أن يكون هنا انشاءات وإرادات.
    وإن أُريد من الانحلال كون الحكم المتعلّق بالعنوان حجّة على كلّ منهم ، أو حجّة على ثبوت الحكم ، للموضوع كالقوم مهما وجد ، فهو صحيح ، لكن دلالته على ثبوت الحكم له ، في عامة الأحوال ، متقدماً ، أو متأخراً أو لاحقاً إنّما هو بالإطلاق وسكوت المولى عن القيد ، فعندئذ يكون ذلك الإطلاق نظير الإطلاق الموجود في الذيل.
    الرابع : ما اعتمد عليه السيد الأُستاذ
    إنّ العلل الشرعية في نظر العرف كالعلل التكوينية ، فكما أنّ كلّ علّة تكوينية تُؤثّر في معلول مستقل ، دون المعلول المشترك بينها وبين غيرها ، فهكذا العلل الشرعية يؤثر كلّ منها في معلول خاص.
    مثلاً انّ كلاً من النار والشمس ، تُولّد حرارة خاصة ، لا حرارة مشتركة ، سواء أكانت النار متقدّمة على الشمس ، أو متأخّرة وهذا هو المرتكز في أذهان العرف ، فإذا سمع العرف الذي ارتكز في ذهنه ما لمسه وشاهده في العلل التكوينية ، قوله : إذا بُلْت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ ، ينتقل ـ حسب الارتكاز السابق ـ انّ لكلّ من البول والنوم معلولاً مستقلاً ، وانّ وجوب الوضوء الناشئ من البول ، غير الوجوب الناشئ من النوم ، وظهور الصدر في هذا المعنى ليس


(397)
مستنداً إلى الإطلاق ، بل إلى الارتكاز الحاصل من ممارسة الأُمور التكوينية ، ويكون ظهوره أقوى من ظهور الجزاء في الإطلاق ، بل يصير مثل ذاك سبباً للتصرف في ذيل الجزاء على نحو يلتحم مع تعدّد الوجوب.
    نعم قد مرّ منّا انّ قياس التشريع بالتكوين ، أو الاعتبار بالحقيقة ممنوع وانّ هذا سبب لأكثر المغالطات ، ولكن ما ذكرناه لا ينافي ذلك ، لأنّ كلامنا في المقام في فهم العرف ، الذي لا يدرك هذه الأُمور الدقيقة ، فارتكازه في الأُمور التكوينية وتلقّيه العلل الشرعية أسباباً وعللاً للأحكام كالتكوين ، يصير سبباً لانعقاد ظهور أقوى في جانب القضية الشرطية على نحو يقدم على ظهور الجزاء في الوحدة. (1)
    ولعلّه إلى ما ذكرنا يرجع قول المحقّق الإصفهاني في بيان وجه عدم التداخل « انّ العرف إذا أُلقي إليه القضيتان ، فكأنّه يرى مقام الإثبات مقروناً بمقام الثبوت ويحكم بمقتضى تعدّد السبب بتعدّد الجزاء من غير التفات إلى أنّ مقتضى إطلاق المتعلّق خلافه ، وهذا المقدار من الظهور كاف في المقام ». (2)
    ترجيح إطلاق الجزاء على الشرط
    ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي ذهب إلى ترجيح ظهور الجزاء في الوحدة على ظهور الشرط في تعدّد الوجوب قائلاً : إذا قال المولى : إذا بلت فتوضأ ، وقال : إذا نمت فتوضأ ، فإمّا أن يكون متعلّق الوجوب نفس الحيثية المطلقة ، أعني : طبيعة الوضوء ، أو شيء وراء ذلك. فعلى الأوّل لا يصحّ تعلّق وجوبين على أمر واحد ،
1. تهذيب الأُصول : 1/444.
2. نهاية الدراية : 326.


(398)
وعلى الثاني فلابدّ أن يقال : إذا نمت فتوضّأ وإذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر ، وهذا لا يصحّ من وجهين :
    1. ربما يكون البول متقدّماً ، فعندئذ لا يصحّ أن يقال : إذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر.
    2. انّ هذا النوع من التقييد إنّما يصحّ إذا كان أحد الخطابين ناظراً إلى الآخر ، لا فيما إذا لم يكن كذلك كما في المقام. (1)
    يلاحظ على الأوّل : أنّ القيد لا ينحصر بلفظة « آخر » بل يمكن أن يُقيّد الطبيعة بقيد آخر ، كأن يقال : إذا بلت فتوضّأ لأجل البول ، وإذا نمت فتوضّأ وضوءاً لأجل النوم.
    يلاحظ على الثاني : بانّ المتفرقات في كلام إمام واحد بل الأئمة كحكم كلام واحد.
    فتلخّص من هذا البحث الضافي ، تقدّم ظهور القضية الشرطية الدالة على تعدّد الوجوب على ظهور الجزاء في وحدة المتعلّق ، وتكون النتيجة هو عدم تداخل الأسباب وانّ لكلّ سبب تأثيراً.
    بقيت هنا أُمور :

    الأوّل : التفصيل بين كون الأسباب معرفات أو مؤثّرات
    قد بنى فخر المحقّقين المسألة على أنّ الأسباب الشرعية هل هي معرفات وكواشف ، أو مؤثرات ؟ وعلى الأوّل الأصل التداخل بخلافه على الثاني ، وحكاه الشيخ الأنصاريّ عن المحقّق النراقي في عوائده. (2)
1. نهاية الأُصول : 278 ـ 279 ؛ لمحات الأُصول : 293.
2. مطارح الأنظار : 180.


(399)
    قال العلاّمة في القواعد : لا تداخل في السهو وإن اتّفق السبب ، على رأي.
    وقال فخر المحقّقين في شرحه : ذهب الشيخ في « المبسوط » إلى التداخل مطلقاً ... وذهب ابن إدريس إلى التداخل في المتّفق لا المختلف ، والتحقيق انّ هذا الخلاف يرجع إلى أنّ الأسباب الشرعية ، هل هي مؤثرات أو علامات. (1)
    وقال أيضاً في باب غسل الجنابة والأسباب الشرعية علامات فلا يستحيل تعدّدها. (2)
    إنّ الفرق بين تداخل الأسباب وتداخل المسببات غير منقّح في كلمات القدماء ، بل عند بعض المتأخّرين كالمحقّق الخراساني فقد خلط بينهما في الكفاية. وأوّل من نقّحه ببيان رائق هو الشيخ الأنصاري (3) والظاهر انّ كلام الفخر ناظر إلى التداخل في الأسباب وهذا هو الذي استظهره الشيخ أيضاً حيث قال : « ولا ينافي ذلك استدلالهم بأنّ العلل الشرعية معرفات فلا يمتنع اجتماعها في شيء واحد » الظاهر في دعوى تداخل الأسباب. (4)
    وحاصل كلام فخر المحقّقين انّه لو كان كلّ من البول والنوم موضوعاً للحكم ، وعلّة وسبباً له فيطلب كلّ ، حكماً ومعلولاً ـ وجوباً ـ غير ما يطلبه الآخر ، لامتناع توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد.
    وأمّا لو كان كلّ منها معرفاً لما هو الموضوع واقعاً ، فلا مانع من تعدد المعرّف لموضوع واحد ، وذلك كمبطلات الوضوء فانّ الظاهر انّ الجميع حتى الريح كاشفة عن ظلمة نفسية يُذهبها الوضوء.
1. إيضاح الفوائد : 1/245.
2. إيضاح الفوائد : 1/48.
3. لاحظ المطارح : 180 ، في أوائل الهداية.
4. مطارح الأنظار : 180.


(400)
    يلاحظ عليه أوّلاً : بعدم الملازمة بين كون الأسباب الشرعية معرّفات وبين كونها معرّفات لشيء واحد ، إذ من المحتمل أن يكون كلّ كاشفاً عن سبب مستقل ، فيكون حكم المعرِّف ، حكم كونه موضوعاً وسبباً.
    وثانياً : أنّ تعدد الأسباب الشرعية كما أفاده المحقّق الخراساني ، ليس إلا كالأسباب العرفية في كونها معرفات تارة ، ومؤثرات أُخرى.
    أمّا السبب الشرعي فتارة يكون علّة للحكم الشرعي ودخيلاً في ترتّب الحكم الشرعي ، كما في قوله : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (1) ، وقوله : إذا شككت فابن على الأكثر ؛ وأُخرى كاشفاً عن السبب ، كعبور الحمرة إلى جانب المغرب ، الكاشف عن استتار القرص كاملاً.
    ومثلها ، الأسباب العرفية فهي أيضاً على قسمين فتارة تكون علّة ـ كما في قولك : إذا طلعت الشمس كان النهار موجوداً ـ وأُخرى يكون أمارة على حدوث الموضوع وكاشفاً كما إذا قلنا : إذا كان النهار موجوداً كانت الشمس طالعة.
    فليست الأسباب الشرعية ، معرفات مطلقاً ، ولا الأسباب العرفية عللاً مطلقاً بل ينقسمان إلى قسمين. (2)

    الثاني : التفصيل بين وحدة الأسباب جنساً وعدمها
    وهناك تفصيل آخر لابن إدريس وهو التفصيل بين ما كان السبب من جنس واحد كتكرر وطء الحائض ، أو من أجناس متعددة كزيادة العمل والذكر في الصلاة ، فاختار في الأوّل التداخل دون الثاني.
1. الإسراء : 78.
2. لاحظ الكفاية : 1/318 ـ 319.


(401)
    وقد ذكر ذلك التفصيل في ضمن مسألة « ومن سها فلم يدر أربعاً صلّى أم خمساً وتساوت ظنونه في ذلك فعليه سجدتا السهو » وقال ما هذا لفظه :
    فإن سها المصلّي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرّات كثيرة ، في صلاة واحدة ، أيجب عليه بكلّ مرّة سجدتا السهو ، أو سجدتا السهو عن الجميع ؟
    قلنا : إن كانت المرّات من جنس واحد ، فمرّة واحدة تجب سجدتا السهو ، مثلاً تكلّم ساهياً في الركعة الأُولى ، وكذلك في باقي الركعات ، فانّه لا يجب عليه تكرار السجدات ، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب ؛ لأنّه لا دليل عليه ، وقولهم ( عليهم السَّلام ) : من تكلّم في صلاته ساهياً يجب عليه سجدتا السهو (1) ، وما قالوا دفعة واحدة أو دفعات.
    فأمّا إذا اختلف الجنس ، فالأولى عندي بل الواجب ، الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو؛ لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس ، بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللفظ؛ لأنّ هذا قد تكلّم مثلاً ، وقام في حال قعود ، وأخلّ بإحدى السجدتين ، وشكّ بين الأربع والخمس ، وأخلّ بالتشهد الأوّل ، ولم يذكره إلا بعد الركوع في الثالثة ، وقالوا ( عليهم السَّلام ) : من فعل كذا ، يجب عليه سجدتا السهو ، ومن فعل كذا في صلاته ساهياً يجب عليه سجدتا السهو ، وهذا قد فعل الفعلين فيجب عليه امتثال الأمر ، ولا دليل على تداخلهما ، لأنّ الفرضين لا يتداخلان بلا خلاف من محقّق. (2)
    وحاصل كلامه : أنّه إذا كانت الأسباب الشرعية من نوع واحد يمكن التمسّك بإطلاق الجزاء وهو وجوب سجدتا السهو من دون تقييد بالمرّات ، وأمّا
1. الوسائل ج 5 ، الباب 4 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2. السرائر : 1/258 ، باب أحكام السهو والشكّ في الصلاة.


(402)
إذا كانت الأسباب الشرعية من جنسين فليس هناك ما يمكن التمسّك بإطلاقه ، بل يجب امتثال كلّ على حدة ، لأنّ الفرضين لا يتداخلان.
    بل لقائل أن يقول انّ مقتضى الإطلاق في القسم الثاني هو عدم التداخل ، لأنّ مقتضى إطلاق قوله : إن تكلمت في الصلاة فاسجد سجدتي السهو ، هو وجوبها ، سواء وجبتا لأجل فعل أو لا ، كما أنّ مقتضى إطلاق قوله : « إن قمت مكان القعود فاسجد سجدتي السهو » ، هو وجوبها مطلقاً ، سواء وجبتا لأجل التكلّم أو لا ، فصارت النتيجة هي اجتماع وجوبين.
    ومن هنا يعلم أنّ ما أورد عليه في « الكفاية » تبعاً لما في « مطارح الأنظار » لا صلة له بكلامه وقد نشأ من عدم الرجوع إلى نفس الكتاب ، فالأولى أن يقال : كما سيوافيك في الموضع الثاني أنّ الضابطة فيما إذا كانت النسبة هو العموم والخصوص من وجه هو التداخل إلا إذا قامت القرينة على عدمه ، ومن هذا الباب باب الديات والحدود والغرامات والخسارات والتأديبات ، لأنّ إيجاب سجدة السهو يعد تأديباً للمصلّي فمن كثر عليه الخطأ يكثر تأديبه ، فلأجل ذلك لا فرق بين كون الفعلين من جنس واحد أو غير جنس. (1)
1. وقد أورد شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة على التفصيل الذي عليه الحلّي ما هذا حاصله : ماذا يريد الفخر من الوحدة ، فهل يريد الوحدة النوعية كتكرر الوطء فهو وإن كان صحيحاً لكن المؤثّر هو الأفراد والمفروض انّها متعددة ، وإن أراد انّ الوحدة الحقيقية فهي غير صحيحة حسب المفروض.   هذا ما أفاده في الدورة السابقة ولكنّه ـ مدّ ظلّه ـ أفاد في هذه الدورة ـ الرابعة ـ بأنّ ما ذكرناه سابقاً وإن كان صحيحاً ، لكن ليس له ولا لما في المطارح والكفاية من الإشكال على الفخر ، صلة بكلامه فانّ كلامه يدور حول وجود الإطلاق في المتحد دون المختلف ، ومقتضى الإطلاق في الأوّل هو الاقتصار على المرّة بخلاف الثاني فترديد كلامه بين الوحدة النوعية أو الشخصية ، أجنبي عن مرامه ، فلاحظ.

(403)
    الثالث : إذا شكّ في مقتضى الأدلّة الاجتهادية
    إذا شكّ في مقتضى الأدلّة وانّ مقتضاها تداخل الأسباب ( وحدة الوجوب ) أو تعدّده ، فالأصل هو البراءة عن الوجوب الواحد الزائد.
    نعم مقتضى الأصل في الموضع الثاني ، ( اجزاء الامتثال الواحد عن وجوبين ) أوّلاً ، هو الاشتغال للشك في سقوط الوجوب بالامتثال الواحد.
    الرابع : فيما إذا تكرر الجزاء من دون ذكر السبب
    إنّ محط البحث فيما إذا ذكر سببان لجزاء واحد كالنوم والبول للتوضّؤ ، وأمّا إذا تكرّر حكم واحد من دون ذكر السبب كما إذا قال : صم ، ثمّ قال بعد فترة : صم ، فهو خارج عن حريم النزاع ، وعندئذ يكون البحث مركّزاً على أنّ الأصل هو في الأمرين المتكررين هو التأسيس أو التأكيد ، وقد تقدّم في أواخر الأوامر (1) فلاحظ.
1. لاحظ هذا الجزء ، ص159.

(404)
    الموضع الثاني     قد عرفت أنّ البحث في التنبيه الثالث يقع في موضعين :
    الأوّل : في تداخل الأسباب وعدمه.
    الثاني : في تداخل المسبّبات وعدمه.
    وقد عرفت أنّ النزاع الأوّل يرجع إلى اقتضاء كلا الشرطين وجوباً واحداً ، أو اقتضاء كلّ ، وجوباً خاصاً له ، فلو قلنا بأنّ مدلول القضية الشرطية هو الأعم من حدوث الجزاء ، أو ثبوته ، عند ثبوت الشرط ، فلازمه القول بالتداخل في الأسباب ، وأمّا لو قلنا بالحدوث لدى الحدوث ، فلازمه القول بعدم التداخل فيها ، وقد مرّ انّ الثاني هو المتعيّن عند العرف.
    وأمّا النزاع الثاني ( تداخل المسببات وعدمه ) فيرجع إلى دعوى صدق الامتثال بالإتيان بفرد واحد عند تعدّد التكليف والاشتغال ، وعدم صدقه.
    وبعبارة أُخرى : هل يكفي الإتيان بفرد واحد ـ مع تعدّد التكليف ـ فلازمه تداخل المسببات ، أو لا يكفي فلازمه عدم تداخلها ؟
    ومن هنا يظهر انّ البحث في تداخل المسببات وعدمه ، فرع القول بعدم تداخل الأسباب ، وتعدد الوجوب والتكليف ، وإلا فعلى القول بتداخل الأسباب ،


(405)
وانّه ليس في المقام إلا وجوب واحد فلا موضوع للبحث عن تداخل المسببات وعدمه ، لوضوح انّ التكليف الواحد ، لا يقتضي إلا امتثالاً واحداً ، ويكون الإتيان بفرد من أفراد الطبيعة ، مسقطاً قطعاً ، فالبحث في الموضع الثاني مبنيّ على ظهور القضية الشرطية في استقلال تأثير كلّ شرط ، وانّ أثر كلّ غير أثر الآخر.
    إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقام الثبوت ، أي إمكان تداخل المسببات وعدم إمكانه ، وأُخرى في مقام الإثبات ، وما هو مقتضى الأدلّة.

    1. إمكان التداخل ثبوتاً وعدمه
    ذهب الشيخ الأعظم إلى امتناع التداخل وقال : قد قرّرنا فيما تقدّم انّ متعلّق التكاليف هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل ولا يعقل تداخل فردين من ماهية واحدة ، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضاً على ذلك التقدير إلا أن يكون ناسخاً لحكم السببية. (1)
    يلاحظ عليه : بما سبق في المقام الأوّل وهو انّ إيجاد التكثّر في جانب الجزاء ، لتصحيح تعلّق وجوبين بطبيعة واحدة ، رهن التصرّف في جانب الجزاء بأحد وجهين :
    الأوّل : تقييد متعلّق الوجوب في إحدى القضيتين الشرطيتين بلفظة « آخر » فيكون وزانُ القضيتين وزانَ قولنا : إذا نمت فتوضأ وإذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر.
    الثاني : تعلّق كلّ من الجزاء ( وجوب الوضوء ) بشرطه بأن يقال : إذا بلت فتوضّأ وضوءاً مسبباً من النوم ، أو البول.
    فما ذكره الشيخ إنّما يتمّ على الوجه الأوّل وتكون النسبة بين الموضوعين ، هو
1. مطارح الأنظار : 181.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس