إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 421 ـ 435
(421)
    فقد نسب إلى بعض الشافعية صحّةُ الاحتجاج وهو كما ترى ، لأنّه يشترط في صحّة الاحتجاج وحدة الموضوع في جانبي المنطوق والمفهوم ، والاختلاف في وجود الوصف وعدمه ، وأمّا إذا كان الموضوع مرتفعاً كالإبل ، فسائمتها ومعلوفتها خارجتان عن موضوع الكلام.
    قال في « القوانين » : إنّ دليل الخطاب نقيض المنطوق ، فلمّا تناول المنطوق سائمة الغنم كان نقيضه مقتضياً لمعلوفة الغنم دون غيرها. (1)
    نعم نقل عن بعض الشافعية انّه استدلّ بمفهوم قولنا : في الغنم السائمة زكاة على عدم الزكاة في معلوفة الإبل ، ولعلّ وجهه هو إحراز انّ السوم يجري مجرى العلة المنحصرة فيثبت الحكم بثبوتها وينتفي بانتفائها ، غير أنّ الكلام في فهم العلّية المنحصرة ولعلّها إحدى العلل.
    الرابع : ما هو المراد من الوصف ؟
    المراد بالوصف مطلق القيد الوارد في الكلام الأعم من الوصف الأُصولي ـ أي المشتق ـ أو الوصف النحوي التابع لموصوفه ، ولذلك يعمّ القيود الزمانية والمكانية.
    إذا عرفت هذه الأُمور فلندخل في أدلّة القائلين في حجّية مفهوم الوصف.
1. القوانين : 1/186.

(422)
أدلّة القائلين بحجّية مفهوم الوصف
    ذكر المحقّق الخراساني تبعاً للمحقّق القمي وغيره وجوهاً لإثبات حجّية مفهوم الوصف مع نقدها ، فنحن نقتفي أثر صاحب الكفاية.
    1. التبادر
    يتبادر من الهيئة الوصفية ، الانتفاءُ عند الانتفاء وهو آية الوضع.
    يلاحظ عليه : أنّه يتبادر رفع الحكم الشخصي عند رفع الوصف ، وأمّا انتفاء أصل الحكم وسنخه بأن لا يخلفه شيء آخر فهو ممنوع ، وسيوافيك بأنّ القول بالمدخلية لا يلازم كونه دخيلاً منحصراً.
    2. لزوم اللغوية
    لو لم يكن للوصف مفهوم يلزم اللغو في كلام الحكيم فلو لم يفد انتفاء الحكم عند انتفائه لعرى الوصف عندئذ عن الفائدة ولعدّه العقلاء مستهجناً ، مثل قولك : الإنسان الأبيض لا يعلم الغيب مع أنّ مطلق الإنسان لا يعلمه.
    يلاحظ عليه : أنّه إنّما يلزم لو لم يكن له دخل في الحكم أبداً ، وأمّا إذا كان له دخل ولو بنحو العلّة التامّة وإن كان يخلفه وصف آخر أحياناً فلا تلزم اللغوية وتخصيص ذاك الوصف بالذكر دون غيره لكونه مورد السؤال أو الابتلاء للمخاطب أو التأكيد ، نحو قولك : « إياك وظلم الطفل اليتيم » مع أنّ الظلم قبيح


(423)
على اليتيم وغيره ، لكن لمّا كان المخاطب مبتلى به خاطبه بقوله : إياك وظلم اليتيم.
    وربّما يكون الوجه هو دفع توهم عدم الحرمة في مورد الوصف ، كقوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَولادكُمْ مِنْ إِمْلاق ) (1) مع أنّ قتل الأولاد حرام ، سواء أكان لغاية الإطلاق أو لا.
    وأمّا ما مثّل به المستدلّ فوجه الاستهجان فيه ، عدم مدخلية البياض في الحكم ، لا بنحو العلّة الناقصة ، ولا التامّة ولا المنحصرة ، بخلاف سائر الأمثلة.
    3. الأصل في القيد أن يكون احترازياً
    احتجّ القائل بالمفهوم بما اشتهر في الألسن من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً ، ولعلّ هذا الدليل من أتقن أدلّة القائل بالمفهوم ، غير أنّه خلط بين القيد الاحترازي والقيد المفهومي ، والقيد الاحترازي عبارة عن مدخلية القيد في الحكم في مقابل القيد الغالبي ، وأمّا كونه دخيلاً على وجه الانحصار ولا يقوم مقامه شيء فهو ممّا لا يفهم من كون القيد احترازياً ، ولأجل إيضاح حال القيود في الكلام نقول : إنّ القيود الواردة في الكلام على أقسام ستة :
    1. القيد الزائد ، كقولك : الإنسان الضاحك ناطق ، فانّ الإنسان ناطق ، سواء كان ضاحكاً أو لا. ومثله المثال السابق : الإنسان الأبيض لا يعلم الغيب.
    2. القيد التوضيحي وهو القيد الذي يدلّ عليه الكلام وإن لم يذكر ، كقوله سبحانه : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتياتِكُمْ عَلى البِغاء إِنْ أَردن تَحَصُّناً ) (2) ، فقوله : ( إِنْ أَردن تحصّناً ) قيد توضيحي ، إذ لا يصدق الإكراه إلا معه ويغني عن ذكره قولُه : ( ولا
1. الأنعام : 151.
2. النور : 33.


(424)
تكرهوا ) ومع ذلك جيء به لنكتة خاصة ، كما هو الحال في كلّ قيد توضيحي في كلام البلغاء.
    3. القيد الغالبي : وهو القيد الوارد مورد الغالب ، ومع ذلك لا مدخلية له في الحكم ، كقوله سبحانه : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاّتي في حُجُوركُمْ مِنْ نِسائِكُمْ اللاّتي دَخَلْتُمْ بِهِنّ ) (1) ، فكونهن في حجور الأزواج قيد غالبي ، لأنّ المرأة التي توفّي عنها زوجها إذا تزوجت مرّة أُخرى تأتي مع أطفالها إلى بيت زوجها الثاني ، فلذلك تكون الربائب غالباً في حجر الزوج الثاني ، ولكن الربيبة محرمة سواء أكانت في حجره أم لا.
    4. القيد المحقّق للموضوع ، مثل قولك : إن رزقت ولداً فاختنه.
    5. القيد الاحترازي ، وهو القيد الذي له مدخلية في الحكم ولا يحكم على الموضوع بحكم إلا معه كالدخول في الآية المتقدّمة فانّ الدخول بالأُمّ شرط لحرمة الربيبة فلو لم يدخل بها وطلقها يتوقّف في الحكم. فلا يحكم عليه لا بجواز التزويج ولا بعدمه.
    6. القيد المفهومي : أو القيد ذات المفهوم ، وهو ما يدلّ على ثبوت الحكم عند وجوده وعدمه عند انتفائه ، وهذا النوع من القيد يُثبت أكثر ممّا يثبته القيد الاحترازي ، فانّ الثاني يثبت الحكم في مورد القيد ويسكت عن وجوده وعدمه في غير مورده ، ولكن القيد المفهومي يثبت الحكم في مورده وينفيه عن غيره.
    إذا وقفت على أقسام القيد وآثاره المختلفة ، فاعلم أنّ أقصى ما يدلّ عليه القيد هو كونه قيداً احترازياً بالمعنى الذي مرّ عليك ، وأمّا الزائد عليه أي الانتفاء لدى الانتفاء فلا دليل عليه ، وإلى ما ذكرنا أخيراً يشير المحقّق الخراساني بقوله : إنّ
1. النساء : 23.

(425)
الاحترازية لا توجب إلا تضييق دائرة الحكم في القضية مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد فلا فرق بين أن يقال جئني بإنسان أو بحيوان ناطق.
    4. فهم أبي عبيدة وهو من أهل اللسان
    إنّ أبا عبيدة البصري فهم من قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لي ّالواجد يحل عقوبته وعرضه » ، انّ ليّ غير الواجد لا يحل عرضه ، وفهم أهل اللسان حجّة.
    يلاحظ عليه : أنّ القول بالمفهوم في الحديث لا يخلو من إشكال ، لأنّ الليّ فرع الوجدان ، فإذا لم يكن واجداً فلا يطلق عليه الليّ ، مثل قولك : إن رزقت ولداً فاختنه ، ومثله التعبير عن اللي بالمطل ، ففي « مجمع البحرين » : المطل والليّ والتسويف ، التعلّل في أداء الحقّ وتأخيره من وقت إلى وقت ، وعلى هذا فليس للحديث مفهوم حتّى يبحث عن حجّيته وعدمه.
    5. لو لم يكن للوصف مفهوم لما صحّ حمل المطلق على المقيّد
    لو لم يكن للوصف مفهوم لما صحّ حمل المطلق على المقيّد ، إذ لا تنافي بينهما إلا من جهة دلالة القيد على سلب الحكم عن غيره.
    يلاحظ عليه : بمثل ما فسرنا به كون القيد احترازياً ، فانّ معنى حمل المطلق على المقيد في المورد الذي يجب الحمل ، هو تخصيص الحكم بالموضوع المقيّد ، وقصره عليه ، فكأنّ الحكم ورد على المقيد من أوّل الأمر ، وأمّا دلالته على ارتفاع الحكم عن مورد انتفاء القيد ، فلا وهذا بخلاف القول بالمفهوم فانّ معناه دلالة الوصف على انتفاء سنخ الحكم عن غير مورد الوصف ، وشتّان بين قصر الحكم على موضوع مقيد والسكوت عن انتفائه عن غير مورده ، وبين دلالة الشيء على


(426)
قصر الحكم على المقيد ودلالته على انتفائه عن غير مورده.
    ومنه يعلم حال التخصيص فانّه كالتقييد في لزوم حمل العام على الخاص ، ودخالته في الحكم دون أن يدخل على أنّه يخلفه غيره.
    6. ظهور الجملة في مدخلية الوصف بما هو هو لا بجامعه
    قد استند المحقّق الإصفهاني إلى الدليل التالي : وهو انّ ظاهر القضية الوصفية يقتضي كون الحكم مستنداً إلى نفس العنوان الوصفي دون غيره ، أعني : الجامع ، فلو فرض كونه علّة منحصرة ، لزم الأخذ بالظهور ، وإلا لزم استناد الحكم إلى الجامع بين ذلك الوصف والوصف الآخر ، وهو خلاف الظاهر. (1)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ لزوم كون الحكم مستنداً إلى الجامع عند تعدد العلّة لقاعدة : « لا يصدر الواحد إلا عن واحد » أمر في غير محلّه ، لأنّ موردها هو المعلول التكويني لا المعلول الاعتباري ، أعني : الوجوب ، بل لا مطلق التكوين ، بل المعلول البحت البسيط الذي ليست فيه كثرة أبداً ، وأين ذلك ممّا نحن فيه ؟ وعلى هذا فظهور القضية محفوظ وإن كانت العلّة غير منحصرة ، فالوجوب معلول لكلّ سبب بشخصه بلا حاجة إلى إرجاع السببين إلى الجامع ، لأنّ الأُمور الاعتبارية لا تخضع للقانون الفلسفي أعني : لا يصدر الواحد عن الكثير بل هنا يصدر الواحد عن الكثير.
    وثانياً : أنّ البحث في المقام في الاستظهارات العرفية وهو غير مبنيّ على هذه التدقيقات الصناعية التي لا يلتفت إليها. وقد مرّ نظيره في مبحث المفهوم.
1. نهاية الدراية : 1/330.

(427)
    تفصيل المحقّق النائيني
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصّل بين رجوع القيد إلى الحكم ورجوعه إلى متعلّقه وموضوعه ، فاختار الدلالة على المفهوم في الصورة الأُولى دون الصورة الثانية ، فقال : انّ التقييد إذا رجع إلى نفس الحكم كان لازم ذلك هو ارتفاعه بارتفاعه ، إذ لو كان الحكم ثابتاً عند عدم القيد أيضاً لما كان الحكم مقيّداً به بالضرورة ، ففرض تقييد الحكم بشيء يستلزم فرض انتفائه بانتفائه ، وأمّا إذا كان القيد راجعاً إلى الموضوع فغاية ما يترتّب على التقييد هو ثبوت الحكم على المقيّد ، ومن الضروري انّ ثبوت شيء بشيء لا يستلزم نفيه عن غيره ، وإلا لكان كلّ قضية مشتملة على ثبوت حكم على شيء دالاً على المفهوم ، وذلك واضح البطلان. (1)
    وسوف يوافيك نفس هذا التفصيل من المحقّق الخراساني في « مفهوم الغاية » فانتظر.
    إلى هنا تمّ ما عرفت من أدلّة القائل بالمفهوم ونقدها ، بقي هنا دراسة أدلّة النافي.

    دراسة أدلّة النافي للمفهوم
    استدلّ نفاة المفهوم للجملة الوصفية بوجهين :
    الأوّل : ما نقله المحقّق القمي من قولهم : إنّه لو دل لدلّ بإحدى الدلالات الثلاث وكلّها منتفية.
    أمّا عدم الدلالة بالمطابقة أو التضمّن فظاهر وإلا لكان منطوقاً ، وأمّا
1. أجود التقريرات : 1/435.

(428)
الالتزام فلعدم اللزوم الذهني لا عقلاً ولا عرفاً.
    وقد توقّف المحقّق القمي في المسألة واستظهر انّه لا يخلو من إشعار وذلك لأنّ التعليق بالوصف مشعر بالعلّيّة.
    أقول : إنّه لا يخلو عن إشكال ، لأنّ المتبادر من قولهم : « مشعر بالعلّية » هو المدخلية ، وأمّا الانحصار فلا ، وقد أوضحه السيّد المرتضى في ذريعته بأنّ نيابة علّة مكان علّة أُخرى شائع في الشريعة الإسلامية حيث إنّ الشاهد الواحد والمرأتين يقومان مقام الشاهدين ، كما أنّ الشاهد الواحد مع اليمين يقوم مقام الشاهدين وأمثاله يصدنا عن القول بالملازمة الذهنية.
    الثاني : الاستدلال بقوله سبحانه : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاتي في حُجُوركم منْ نِسائِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهنَّ ). (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ القائلين بحجّية مفهوم الشرط والوصف خصّوا وجود المفهوم بما إذا لم يكن القيد وارداً على طبق الغالب ، ففي مثله يسقط الاستدلال بالآية وأمثالها.
    ومثله قوله سبحانه : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذينَ كَفَرُوا ). (2)
    فالتقصير في الآية قيّد بالخوف من فتنة الكفّار ، وقد كان الضرب في الأرض يوم نزول الآية مقروناً بالخوف غالباً ، ولذلك كان القيد غالبياً.
    وعلى كلّ تقدير فالضابطة هو عدم الاشتمال على المفهوم إلا إذا دلّت القرائن على كونه علّة منحصرة.
1. النساء : 23.
2. النساء : 101.


(429)
    الفصل الثالث
في مفهوم الغاية
    البحث في دلالة الغاية يقع في موردين :
    الأوّل : هل الغاية تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية بناء على دخول الغاية في المغيّى ؟ أو عنها وعن مابعدها بناء على خروجها ؟ فهذا النوع من البحث ، بحث في وجود الدلالة المفهومية وعدمها.
    مثلاً إذا أمر المولى عبده بقوله : « سر من البصرة إلى الكوفة » فهل يدلّ على ارتفاع وجوب السير عن الكوفة ومابعدها ـ بناء على خروج الغاية ( الكوفة ) عن حكم المغيّى ( وجوب السير ) ـ أو عن ما بعد الكوفة فقط بناء على دخولها فيه ؟ أو لايدلّ فهذا النوع من البحث بحث في وجود المفهوم للقضية.
    الثاني : هل الغاية محكومة بحكم المغيّى أو لا ؟
    بمعنى أنّ السير في نفس الكوفة أيضاً متعلّق للوجوب ، أو خارج عنه ، وهذا بحث في سعة الدلالة المنطوقية.
    وإليك الكلام في مقامين :
    الأوّل : هل للقضية المغيّاة دلالة على المفهوم وارتفاع الحكم عن الغاية ومابعدها ، أو عن مابعدها فقط ، أو لا ؟ هنا أقوال ثلاثة :


(430)
    1. ذهب المشهور إلى الدلالة وانّ دلالة القضية المغيّاة على المفهوم أوضح من دلالة القضية الشرطية عليه.
    2. ذهب السيد المرتضى في الذريعة (1) والشيخ في العدّة (2) إلى عدم الدلالة.
    وفصّل المحقّق الخراساني بين كون الغاية قيداً للحكم وكونها قيداً للموضوع فتدل القضية على الارتفاع في الأوّل دون الثاني ، وإليك توضيحه :
    إذا ورد قوله : « كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام » أو ورد « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » فالغاية ( حتّى تعرف ـ حتّى تعلم ) حسب القواعد العربية قيد ، للحكم ، أي كونه حلالاً أو طاهراً ، فيدلّ على ارتفاع الحكم عند حصول الغاية ( العلم والعرفان ) فلا حلّية ولا طهارة بعد انكشاف الواقع و « ليس وراء عبادان قرية » وذلك لوجهين :
    1. انسباق ذلك من القضية.
    2. انّ مقتضى تقييد الحكم بالغاية ، هو ذلك ، أي ارتفاعه عند حصول الغاية وإلا لما كان ما جعل غاية له ، بغاية.
    هذا كلّه حال ما إذا كانت الغاية ، غاية للحكم.
    وأمّا إذا كانت الغاية غاية للموضوع ومحدّدة له ، كما إذا قال : سر من البصرة إلى الكوفة ، حيث إنّ الابتداء والانتهاء من خصوصيات السير ، وكأنّه قال : السير المقيّد من البصرة إلى الكوفة واجب ، وعندئذ حال الغاية حال الوصف في عدم الدلالة ، حيث إنّ إثبات الحكم لموضوع محدد ، لا يدلّ على انتفاء ذلك عن موضوع آخر.
1. الذريعة : 1/407.
2. العدة : 2/24 ، ط الهند.


(431)
    وبعبارة أُخرى : انّ السير المحدّد بالابتداء من البصرة ، والانتهاء إلى الكوفة تعلّق به الطلب ولا دلالة له إلا على ثبوت الحكم على المحدّد ، وأمّا نفيه عن غيره فلا دلالة له بوجهين :
    1. عدم ثبوت الوضع لذلك.
    2. عدم قرينة ملازمة للقضية دلّت على اختصاص الحكم بالمغيّى وعدم ثبوته في غيره.
    فإن قلت : لو كان الحكم ثابتاً لغير المغيّى ، فما فائدة التقييد بالغاية ؟
    قلت : إنّ الفائدة غير منحصرة بدلالتها على ارتفاع الحكم ، بل لها فوائد كسائر أنحاء التقييد على ما مرّ في مفهوم الوصف.
    هذا وقد اختاره المحقّق النائيني (1) والمحقّق العراقي (2) والسيّد المحقّق الخوئي (3) كلّ بتعابير متقاربة.
    هذا وإنّ تردد رجوع القيد إلى الحكم أو الموضوع أمر ذائع في الفقه ، مثلاً كون السفر سائغاً لا حراماً ، فهل هو قيد لوجوب القصر ؟ فكأنّه قال : قطع المسافة الشرعية موجب للقصر إذا كان السفر سائغاً ، أو قيد للموضوع ، أعني : المسافة ، فكأنّه قال : قطع المسافة الشرعية إذا كان سائغاً موجب للقصر ؟ فالسيد الطباطبائي في عروته على الأوّل ، والشيخ الأنصاري على الثاني. ولكلّ أثر شرعي خاص مذكور في محلّه.
    أقول : إنّ ما أفاده المحقّق الخراساني وإن كان صحيحاً إلا أنّ الكلام في
1. أجود التقريرات : 1/437.
2. نهاية الأفكار : 1/497 ـ 498.
3. المحاضرات : 5/ 137 ـ 140.


(432)
تمييز أحد الأمرين وليس هنا ضابطة تعيّن أحد الأمرين.
    وقد حاول المحقّق الخوئي ( قدس سره ) أن يضع ضابطة لتمييز ما يرجع إلى الحكم ، عمّـا يرجع إلى غيره ، وحاصل ما أفاده في المقام وما أوضحه في « المحاضرات » : هو انّ الحكم ، أي الوجوب ، لو كان مستفاداً من الهيئة فالغاية تارة ترجع إلى المتعلّق وأُخرى إلى الموضوع ولا ترجع إلى مفاد الهيئة أي الحكم.
    أمّا الأوّل : فمثل قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلى اللَّيْلِ ) (1) فانّ المتبادر أنّ الصيام محدد بالليل ، كأنّه يقول : « الصيام إلى اللّيل ، يجب ».
    و أمّا الثاني ، فكقوله سبحانه : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (2) ففيه أُمور ثلاثة :
    1. الوجوب الذي هو مفاد الهيئة.
    2. الغسل ، وهو متعلّق الوجوب.
    3. الموضوع وهو اليد ، فالمتبادر من الآية كون الغاية قيداً للثالث ، كأنّه يقول : اليد المحدّدة بالمرافق ، يجب غسلها.
    ونظير ذلك إذا قال : « اكنس المسجد من الباب إلى المحراب » ، فانّ المتبادر من الكلام كون الغاية قيداً للموضوع ( المسجد ) ، لا للوجوب ، ولا للكنس الذي يعبّر عنه بالمتعلّق.
    ومثله قوله سبحانه : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَين ) فانّ المتبادر أنّ الغاية قيد للأرجل ، لا للوجوب ولا للغسل.
1. البقرة : 187.
2. المائدة : 6.


(433)
    ففي هذه الموارد يكون حكمها حكم الوصف فانّ التقييد بالغاية من إحدى صغريات التقييد بالوصف ، وقد عرفت أنّ التقييد بالوصف ساكت عن وجود الحكم وعدمه.
    وأمّا لو كان الوجوب مستفاداً من غير الهيئة كالجملة الفعلية فهي على قسمين : تارة يكون متعلّق الحرمة محذوفاً ، كما في قولك : « يحرم الخمر إلى أن يضطرّ المكلف إليه » فانّ متعلّق الحرمة محذوف وهو شربه أو بيعه أو غير ذلك ، فالغاية فيها باعتبار حذف المتعلّق ، قيد للحكم ، فالحكم مرفوع عند طروء الاضطرار.
    وأُخرى يكون مذكوراً كما إذا قال : « يجب الصيام إلى الليل » ففيه وجهان فيحتمل أن تكون الغاية قيداً للوجوب ، وكأنّه قال : « الصيام يجب إلى الليل » كما يحتمله أن تكون قيداً للصيام ، فكأنّه قال : « الصيام إلى الليل يجب » فعلى الأوّل تشتمل القضية على المفهوم دون الآخر. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ انتزاع ضابطة كلّية من مورد أو موردين ، غير صحيح ، وذلك لوجود القرينة على رجوع الغاية إلى الموضوع في بعض الأمثلة ، وإلى الحكم في البعض الآخر.
    أمّا الأوّل : أعني قوله سبحانه : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرافِقِ ) فلأنّ رجوع الغاية في الآية إلى الموضوع لأجل انّها بصدد بيان حد المغسول ، لا حد الوجوب ، وذلك لأنّ اليد ربّما تطلق ويراد بها أُصول الأصابع ، وأُخرى هي إلى الزند ، وثالثة إلى المرفق ، ورابعة إلى المنكب ، فصارت الآية بصدد بيان ما هو المغسول في الآية وقالت : إلى المرافق ، أي المقصود بها هو العضو إلى نهاية المرافق.
1. لاحظ أجود التقريرات : 1/437 ، قسم التعليقة ؛ المحاضرات : 5/137 ـ 139.

(434)
ومثله قوله سبحانه : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَين ) ، وقوله : ( ثُمَّ أَتِمُوا الصِّيامَ إِلى اللَّيل ) فانّ الغاية لحد الممسوح ، والزمان الذي يمسك فيه.
    وأمّا الثاني : فلأنّ رجوع القيد إلى الحكم ليس لأجل حذف المتعلّق ، بل لوجود قرينة خارجية على أنّ الأحكام الشرعية محددة بالضرر ، والحرج والاضطرار ، فكلّ ما اضطرّ إليه ابن آدم فهو مرفوع عنه أي مرفوع حكمه.
    وأمّا المثال الثالث فالاحتمالان ـ كما أفا د ـ سواء.
    والحاصل : انّ التفريق بين رجوع القيد إلى الحكم أو الموضوع والمتعلّق ، بارتفاع الحكم في الأوّل ، دون الثاني كلام متين ، لكن الإشكال في الضابطة التي يتميّز على ضوئها ما يرجع إلى الحكم عمّا يرجع إلى الموضوع.
    وربّما يتصوّر انّ مقتضى القاعدة رجوع الغاية إلى الحكم ، لأنّ أداة الغاية أعني : إلى وحتّى من أدوات الجر والجار والمجرور يتعلّقان بالفعل ، وبهذا اللحاظ تكون الغاية قيداً للحكم بلا واسطة في جميع الموارد.
    يلاحظ عليه : بأنّ تعلّق الجار والمجرور بالفعل لا يكون دليلاً على رجوع الغاية إلى الحكم الوارد في القضية ، بل الفعل المتعلّق به الجار أعم من الحكم المستفاد من الهيئة ، وذلك لأنّ الظرف على قسمين مستقر ولغو ، ففي الأوّل يتعلّق بالمعنى الحدثي المقدر مثل : « كائن » و « موجود » ، وفي الثاني يتعلّق بالفعل ، لا مفاد الهيئة ففي سر من البصرة إلى الكوفة ، فالظرف متعلّق بالسير ، لا الوجوب ، فلا ملازمة بين تعلّق الظرف بالفعل ، وكونه قيداً للوجوب كما لا يخفى.


(435)
    نظريتنا في الموضوع
    فلو خرح الباحث عن حيطة الاصطلاحات ، ورجع إلى ما هو المتبادر من التقييد بالغاية لوقف على أنّ المتفاهم العرفي منه هو ارتفاع الحكم عند ارتفاع الغاية ، على نحو لو صرّح بعد ذلك ببقاء الحكم بعدها لعد كلامه بداءً.
    فإذا قال : « احفر إلى هذا الخط » ينتقل العرف إلى تحديد الوجوب بالحد الخاص ، من غير فرق بين كون الغاية قيداً للوجوب المستفاد من الهيئة في « احفر » أو لمتعلّق الوجوب أي الحفر ، وإن كان ظهور القضية في المفهوم في الصورة الأُولى أوضح.
    ويدلّ على ما ذكر ملاحظة الآيات التالية :
    ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ). (1)
    2. ( كُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسود ). (2)
    3. ( وقاتِلُوهُمْ حتَّى لا تكُونَ فِتْنَة ). (3)
    فانّ لفظة « حتّى » في الآية جارة تحدد الوظيفة بأنّها بين هذا وهذا لا أزيد ولا أنقص.
1. البقرة : 222.
2. البقرة : 187.
3. البقرة : 193.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس