إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 436 ـ 450
(436)
    المقام الثاني     قد عرفت أنّ البحث في أنّ الغاية داخلة في المغيّى أو لا ، بحث منطوقي مثلاً إذا قال : اغسل يدك إلى المرفق ، فهل المرفق الذي هو عبارة عن مكان رفق العظمين ، داخل في حكم اليد فيجب غسله أو لا ؟
    أو إذا قال : سر من البصرة إلى الكوفة ، فهل نفس الدخول في الكوفة ولو بجزء منها واجب حتّى يكون حكم الغاية نفس حكم المغيّى أو لا ؟
    اختلفت كلمة القوم على أقوال ، وقبل أن نذكر الأقوال نركّز على أمر أدبي ، وهو انّ بيان الغاية يتحقّق غالباً بأحد اللفظين :
    لفظة « إلى » ولفظة « حتّى » ولما كانت اللفظة الثانية تستعمل في معان مختلفة يجب تعيين ما يستعمل في بيان الغاية عن غيره.
    اعلم انّ كلمة حتّى تستعمل على ثلاثة أوجه :
    1. حرف جر.ّ
    2. حرف عطف.
    3. حرف ابتداء.
    أمّا الجارّة فهي مثل قوله سبحانه : ( سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطلَعِ الْفَجْر ).


(437)
    وأمّا العاطفة فهي بمنزلة الواو مثل قوله : « أكلتُ السمكة حتّى رأسها ».
    وأمّا الابتدائية فهي حرف يبتدأ بها الجمل مثل قول الفرزدق :
    فوا عجبا حتّى كليب يسبني كأنّ أبـاها نهشل أو مجاشـع (1)
    إذا علمت هذا فاعلم أنّ حتّى الغائية هي حتّى الجارّة لا العاطفة ولا الابتدائية.
    وبذلك تعرف ضعف بعض الأقوال التي نشير إليها.
    ثمّ إنّ البحث عن دخول الغاية في حكم المغيّى وعدمه ، إنّما يتصوّر إذا كان هناك قدر مشترك أمكن تصويره داخلاً في حكم المغيّى تارة وفي حكم مابعد الغاية أُخرى كالمرفق ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا موضوع للبحث ، كما إذا قال : اضربه إلى خمس ضربات ، فالضربة السادسة ، من أفراد بعد الغاية ، والضربة الخامسة داخلة في أجزاء المغيّى حسب التبادر ، فليس هنا شيء آخر يبحث عن دخوله في حكم المغيّى وعدمه.
    وبعبارة أُخرى : انّ محلّ البحث ما إذا كانت الغاية ذات أجزاء ، كسورة الإسراء في المثال ، أو الكوفة في قولنا : سر من البصرة إلى الكوفة ، دون ما لم يكن كذلك ، كما في الضربة الخامسة في المثال المذكور ، أو كقولك : اقرأ سورة يس إلى آخرها.
    إذا عرفت ذلك فنسرد الأقوال :
    1. الخروج مطلقاً ، وهو خيرة المحقّق الخراساني وسيّدنا الأُستاذ ( قدس سره ).
    2. الدخول مطلقاً.
1. كليب رهط جرير الذي هجاه الفرزدق بشعره هذا. و « نهشل » و « مجاشع » أبناء دارم رهط الفرزدق. فالشاعر يفتخر بآبائه.

(438)
    3. التفصيل بين ما إذا كان ما قبل الغاية ومابعدها متّحدين بالجنس فتدخل وإلا فتخرج ، نظير قوله سبحانه : ( فاغْسِلُوا وُجوهكُمْ وَأَيديكُمْ إِلى الْمَرافِق ) (1) ، بخلاف قوله : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيام إِلى اللَّيْل ) فتدخل في الأوّل دون الثاني.
    4. التفصيل بين « حتّى » و « إلى » ، فالدخول في الأوّل كما في قولك : « جاء الحجاج حتّى المشاة » ، و « مات الناس حتّى الأنبياء » وعدم الدخول في الثاني.
    5. عدم الدلالة على الدخول والخروج وإنّما يُتبع في الحكم القرائن الدالة على واحد منهما. (2)
    وإليك دراسة سائر الأقوال.
    استدلّ نجم الأئمة على القول الأوّل بأنّ حدود الشيء خارجة عن الشيء وما يتراءى من الدخول في بعض الموارد كالمرافق في الوضوء فلقرينة خارجية ، وتبعه المحقّق الخراساني في البرهنة.
    واستدلّ للقول الثاني بأنّ الغاية بمعنى النهاية وهي الأمر المنتزع من الجزء الأخير للشيء المفروض امتداده ، كما أنّ الابتداء ينتزع من الجزء الأوّل للشيء ، فإن كانت الغاية نهاية الشيء فتكون داخلة في الشيء وتشاركه في الحكم.
    يلاحظ على الاستدلالين : بأنّ الظهور لا يثبت بالدليل العقلي ، والمرجع في هذه المباحث هو التبادر ، وأمّا القول بأنّ حدّ الشيء خارج عنه كما في الدليل الأوّل ، أو انّ نهاية الشيء داخلة فيه كما في الدليل الثاني ، إثبات للظهور بأمر عقلي فلا يعتد بهما.
1. المائدة : 6.
2. لاحظ المغني ، باب الحروف ، حرف حتّى.


(439)
    وأمّا الوجه الثالث : فقد نقله المحقّق القمي ، وقال : إنْ كان المغيّى والغاية من جنس واحد كقولك بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف فتدخل ، وإلا فلا كقول القائل صوموا إلى الليل.
    ثمّ ذكر انّ الظاهر انّ دليلهم في ذلك عدم التمايز فيجب إدخاله من باب المقدمة كما في إدخال المرفق في الغَسل ، بخلاف ما لو اختلفا في الماهية وتميّزا في الخارج.
    وأمّا التفصيل الرابع : فمبناه الخلط بين حتّى العاطفة والخافضة ، فانّ البحث في الثانية دون الأُولى ، وما مثله من قوله : « جاء الحجاج حتّى المشاة » فاللفظ فيه عاطفة لا جارة.
    وأمّا الخامس : فلأنّ القائل لما وقف على كلا الاستعمالين ولم يرجّح أحدهما على الآخر توقّف في الحكم وقال بأنّه إنّما تتبع القرائن.
    وأمّا التفصيل السادس : فذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري وهو التفصيل بين كون الغاية قيداً للفعل كما في قولنا : « سر من البصرة إلى الكوفة » وبين كونها غاية للحكم مثل قولنا : « صم من الفجر إلى الليل » فيدخل في الأوّل ، لأنّ الظاهر دخول جزء من السير المتخصص بالكوفة ، كما أنّ الظاهر منه دخول السير المتخصص بالبصرة أيضاً في المطلوب ، دون الثاني فانّ المفروض أنّها موجبة لرفع الحكم فلا يمكن بعثه إلى الفعل المتخصص بها. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ البحث فيما إذا كان هناك أُمور ثلاثة :
    1. الحكم.
    2. المغيّى.
1. درر الأُصول : 1/170.

(440)
    3. الغاية.
    وعندئذ يقع الكلام في كون الغاية جزءاً من المغيّى أو لا ، فعلى الأوّل يشمله حكمه دون الثاني ، وهذا يقتضي أن تكون الغاية قيداً للموضوع لا غاية للحكم ، وإلا يكون الحكم والمغيّى أمراً واحداً كما في قولنا : « كلّ شيء حلال ، حتّى تعلم انّه حرام » فالتفصيل بين كون الغاية قيداً للفعل أو للحكم خارج عن مصبّ البحث ، بل البحث مركّز على ما إذا كانت الغاية قيداً للفعل.
    والظاهر عدم الدخول مطلقاً ، إلا إذا دلّ الدليل على الدخول ، أخذاً بالمتبادر :
    1. إذا قال : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فهو صادق في إخباره إذا انتهى في سيره إلى باب الكوفة وسورها ، وإن لم يدخل المدينة.
    2. إذا قال : قرأت القرآن من أوّله إلى سورة الإسراء ، فهو أيضاً صادق في إخباره إذا لم يقرأ شيئاً من سورة الإسراء.
    وقس عليه نظائره ، والظاهر انّ حكم « حتّى » أيضاً حكم « إلى » بشرط أن تكون جارّة لا عاطفة ، فإذا قلت : نمت البارحة حتى الصباح ـ بالجر ـ يصد ق إذا نمت إلى مطلع الفجر نظير قوله تعالى : ( سَلام هي حتّى مطلع الفجر ). (1)
    ومن غرائب الكلام الإشكال على هذا النوع من الاستدلال بأنّه لايثبت بذلك حكم العرف ، ولعلّ الصدق لأجل جريان أصل البراءة عن الأكثر.
    يلاحظ عليه : بأنّه إنّما يتوجّه لو كان مصب الاستدلال الأمر بالسير أو القراءة إلى الكوفة والاسراء وشك الساري والقاري في مقدار الواجب ، كان عليه
1. القدر : 5.

(441)
التمسّك بالبراءة ، ولكن محلّه هو الجملة الإخبارية ، والمتكلّم هو الذي يخبر بأنّه سار وقرأ كذلك والعرف يصدقه في كلامه ، ولا يكون لهذا التصديق منشأ عندهم إلا عدم دلالتها على إدخال الغاية في حكم المغيّى.
    ثمّ لو قلنا بأحد الأقوال في دخول الغاية في حكم المغيّى فهو ، وإلا فيصير الكلام مجملاً فينتهي الأمر إلى الأُصول العملية ، فهل المقام من مجاري الاستصحاب أو البراءة ؟ فيه خلاف ، فإذا غسل اليد دون المرفق فهل يمكن التمسّك باستصحاب بقاء الوجوب ؟ الظاهر لا ، لأنّ استصحاب الوجوب لا يثبت وجوب غسل المرفق إلا على القول بالأصل المثبت ، لأنّ بقاء الوجوب مع غسل ما سوى المرفق من اليد يلازم عقلاً وجوب غسل المرفق ، وإلا لما كان وجه لبقائه لعدم وجوب ما فوق المرفق إجماعاً.
    بل المورد مجرى البراءة لكونه من قبيل الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين.


(442)
    الفصل الرابع
مفهوم الحصر
    المشهور انّ الأُمور التالية تفيد الحصر :
    1. إلا الاستثنائية ، 2. إنّما ، 3. بل الاضرابية ، 4. تقديم ما حقّه التأخر ، 5.تعريف المسند إليه باللام.
    وإليك دراسة الكلّ واحداً بعد الآخر.
    الكلام في « إلا » الاستثنائية
    1. هـل الاستثناء مـن النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي ، أو لا هذا ولا ذاك ؟
    2. لو قلنا بالدلالة ، فهل الجملة الاستثنائية أو خصوص لفظة « إلا » تدلّ على الحصر أو لا ؟ وسيوافيك ما هو المراد من الحصر.
    3. وهل دلالتها على الحصر ، دلالة منطوقية أو مفهومية ؟
    وإليك دراسة تلك الأُمور :
    أ. الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي
    إنّ لفظة « إلا » تستعمل على وجوه :


(443)
    1. أن تكون للاستثناء نحو قوله : ( فَشَِربُوا مِنْهُ إِلاّ قَليلاً ). (1)
    2. أن تكون صفة بمنزلة « غير » ، فيوصف بها وبتاليها جمع منكَّر أو شبهه ، نحو قوله : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلهةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتا ). (2)
    3. أن تكون عاطفة بمنزلة الواو في التشريك في اللفظ والمعنى ، نحو قوله : ( لا يَخافُ لَدَيَ المرسَلُونَ * إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمّ بَدَّلَ حُسْناً ). (3)
    4. أن تكون زائدة تختص بالشعر.
    إذا عرفت ذلك فاعلم انّ المفيد للحصر هو إلا « الاستثنائية » فنقول :
    لا خلاف في أنّ الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي ، ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة.
    وقد أوضح الشيخ الأنصاري مقصود أبي حنيفة بقوله : إنّ غاية ما يُستفاد من الاستثناء انّ المستثنى غير داخل في الحكم الذي نطق به المتكلّم به ، وأمّا حكمه واقعاً فيحتمل أن يكون محكوماً بحكم المستثنى منه أيضاً ، أو يكون محكوماً بخلافه ، وبالجملة انّ المتكلّم يريد بالاستثناء أن لا يخبر عنه بالحكم المذكور (4) ، وعدم اخباره عنه بذاك الحكم لا يثبت عدم كونه محكوماً به بل يحتمل الأمرين. (5)
    واحتجّ بمثل قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لا صلاة إلا بطهور » فانّه لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً يلزم أن تكون الصلاة نفس الطهور وإن لم تكن سائر الشرائط
1. البقرة : 249.
2. الأنبياء : 22.
3. النمل : 10 ـ 11.
4. وبعبارة أُخرى : ليس محكوماً بشخص الحكم لكن من المحتمل أن يكون محكوماً بسنخه كما يحتمل أن لا يكون كذلك.
5. مطارح الأنظار : 187.


(444)
موجودة.
    يلاحظ عليه : بأنّه خلاف المتبادر منها في عامة الموارد ، وخلاف ما يتبادر ممّا يعادله في بعض اللغات كلفظة « مگر » في الفارسية فانّه يعادل « إلا » الاستثنائية ، فلو وقع بعد النفي ، يفيد الإثبات ، كما لو وقع بعد الإثبات ، يفيد النفي.
    أقول : ما استدلّ به ضعيف فانّ الحصر ناظر إلى صورة اجتماع عامّة الأجزاء والشرائط غير الطهارة ، وعندئذ تدلّ على لزوم تحصيل الطهارة أو قراءة فاتحة الكتاب ، لأنّه لا تحصل الصلاة إلا إذا كانت الأجزاء والشرائط الفعليّة المفروضة وجودها مقرونة بالطهارة ، أو بقراءة الفاتحة ، وعندئذ يصحّ أن يقال : انّ الصلاة نفس الطهارة ، أي التوأمة مع سائر الأجزاء والشرائط.
    ويؤيد ذلك ، التعبير عن ذلك « بطهور » أو بفاتحة الكتاب ، دون أن يقول إلا طهوراً أو فاتحة الكتاب ، ليفيد معنى الاقتران ، أيْ اقتران سائر الأجزاء والشرائط بهما.

    ب. دلالته على الحصر
    هذا هو الموضع الثاني ، أي دلالة « إلا » الاستثنائية على الحصر وهو مبنيّ على تسليم الأمر الأوّل أعني أنّ الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي.
    والظاهر من كلمات الأُصوليين انّ أداة الحصر هو لفظة « إلا » ولكن الظاهر من الخطيب القزويني هو « النفي والاستثناء » قال : ومن أداة الحصر : النفي والاستثناء ، كقولك في قصر الموصوف إفراداً : « ما زيد إلا شاعر » ، أو قلبا : « ما زيد إلا قائم » وفي قصرها أفراداً وقلبا : « ما شاعر إلا زيد ». (1)
1. شرح المختصر : 82.

(445)
    وعلى أيّ تقدير فالظاهر أنّ المراد من الحصر ، حصر الخارج عن حكم المستثنى منه ، في المستثنى وانّه لم يخرج عنه سواه ، وقد عبّر عن الحصر في الكفاية بقوله لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم سلباً أو إيجاباً بالمستثنى منه ولا يعمّ المستثنى. (1)
    ويدلّ على الحصر بالمعنى المختار أمران :
    1. تبادر الحصر
    يتبادر الحصر من موارد استعمالاته في الكتاب والسنّة.
    أمّا الكتاب فقوله سبحانه : ( والعَصْر * إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسْر * إِلاّ الّذِينَ آمَنُوا ... ). (2)
    إذ لو لم تدل على الحصر لما تمّ الاحتجاج على الطوائف الخارجة عن الطوائف الأربعة الواردة في نفس السورة ، إذ هي بصدد التنديد بسائر الطوائف ، فلو لم تدل على الحصر واحتمل خروج بعض الطوائف عن الحكم عليهم بالخسران ، لما تمّ التنديد ، لأنّ كلّ طائفة ـ غير الأربع ـ يتصوّر انّها الخارجة عن حكم الآية.
    وأمّا السنّة فقوله : « لا تعاد الصلاة إلا في خمسة : الطهور والوقت والقبلة ، والركوع والسجود » (3) على نحو لو دل دليل على لزوم اعادتها بفوت القيام المتّصل بالركوع ، لعدّ مخالفاً للمفهوم ، ويلزم تخصيصه به ، لأنّ المنطوق أخصّ من المفهوم.
1. كفاية الأُصول : 1/326.
2. العصر : 1 ـ 3.
3. الوسائل : 4 ، الباب 10 من أبواب الركوع ، الحديث 5.


(446)
    2. دلالة كلمة الإخلاص على الحصر
    قبول رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إسلامَ من قال : لا إله إلا اللّه ، فلو لم يكن مفيداً في حصر الالوهية في اللّه ، لما شهد القائل بالتوحيد ، وتصوّر انّ دلالته على التوحيد لأجل القرينة ـ كما في الكفاية ـ لا دليل عليه ، وعده الشيخ في المطارح كلاماً سخيفاً.
    ثمّ إنّ في كلمة الإخلاص سؤالاً وجواباً سيوافيك الكلام فيه بعد إتمام دراسة المواضع الثلاثة التي أشرنا إليها في صدر البحث.
    ج. هل الدلالة على الحصر دلالة مفهومية ؟
    إذا قلنا : أكرم العلماء إلا زيداً ، فهنا أُمور ثلاثة :
    1. حكم المستثنى منه : وجوب إكرام العلماء باستثناء زيد.
    2. حكم المستثنى ، عدم وجوب إكرام زيد.
    3. حصر الخروج في المستثنى.
    أمّا الأوّل : فلا شكّ انّ دلالة الجملة عليه منطوقية ، إنّما الكلام في الأمر الثاني ، أعني : استفادة حكم المستثنى ، فهل هو بالمنطوق أو بالمفهوم ؟
    فقد فصّل المحقّق الخراساني بين كون حكم المستثنى لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه فالدلالة مفهومية وبين كونه مستفاداً من لفظة « إلا » فمنطوقية ، قال في هذا الصدد :
    ثمّ إنّ الظاهر انّ دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم وانّه لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي دلّت عليها الجملة الاستثنائية. نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق كما


(447)
هو ليس ببعيد. (1)
    توضيحه : انّه لو قلنا بأنّ حكم المستثنى مستفاد من الخصوصية الموجودة في الجملة الاستثنائية وانّ حكمه لازم الخصوصية ، فالدلالة تكون مفهومية ، والمراد من تلك الخصوصية هو « حصر المجيء في قوم غير زيد » فيفهم منه عدم مجيء زيد ، فعدم مجيئه ليس مصرحاً به في الكلام وإنّما المصرّح به هو مجيء القوم ، نعم قيد القوم بغير زيد.
    وأمّا لو قلنا : إنّ لفظة إلا بمعنى « استثني » فاللفظ قائم مقام ذلك الفعل ، فتكون الدلالة منطوقية لاستفادة حكم زيد من لفظة « إلا ».
    يلاحظ عليه : أنّ الظاهر انّ الدلالة منطوقية ، وذلك لأنّ هيئة الجملة الاستثنائية موضوعة لإفادة معنيين :
    1. ثبوت الحكم للمستثنى منه.
    2. ونفيه عن المستثنى.
    وقد سبق تمثيل الخطيب القزويني للحصر الافرادي بقوله : « ما زيد إلا شاعراً » وفي الحصر القلبي بقوله : « ما زيد إلا قائماً » فاستفادة كلّ من الحكمين من المنطوق ودلالة الهيئة الاستثنائية على حكم كلّ من المستثنى منه والمستثنى دلالة لفظية تضمنية.
    وبذلك يسقط الاحتمال الثاني ، أعني : كون إلا بمعنى « استثنى ».
    وأما الثالث ، أعني : دلالة الجملة الاستثنائية على حصر الخروج في المستثنى فهو محتمل الأمرين ، وبما انّه لا يترتب على تعيين ذلك ثمرة عملية فلا نخوض فيه.
1. كفاية الأُصول : 1/328.

(448)
    وربما يتصوّر وجود الثمرة ، وهي انّ الدلالة المنطوقية أقوى من المفهومية ، فتعيين إحدى الدلالتين غير خالي عن الثمرة.
    يلاحظ عليه : أنّ تقديم الدلالة المنطوقية على المفهومية ليس لأجل كونها أقوى من المفهومية دائماً ، بل ربما يكون المفهوم أقوى من المنطوق ، بل الحكم في كلّ مورد يتبع أقوى الدلالتين.

    بحث حول كلمة الإخلاص
    لا شكّ انّ « لا » النافية للجنس تعمل عمل « ان » كقولك : « لا رجل قائم » ويكثر حذف خبرها كقوله سبحانه : ( قالُوا لا ضَْير إِنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُون ) (1) وقوله : ( ولَوْ تَرى إذ فَزِعُوا فلا فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مكان قَرِيب ). (2) وعندئذ يقع الكلام في تعيين الخبر ، لقوله : « لاإله إلا اللّه » فان قدر « ممكن » كان اعترافاً بإمكان المستثنى ، لا لوجوده ، وإن قدر « موجود » كان اعترافاً بنفي وجود الآلهة ، لا نفي إمكانه وكلا الأمرين خلاف المقصود ، فانّ المطلوب من هذه الكلمة أمران :
    1. الاعتراف بوجود المستثنى فعلاً هو رهن تقدير « موجود » لا « ممكن ».
    2. إنكار إمكان الآلهة وامتناعها وهو رهن تقدير « ممكن » لا « موجود » فكلّ من الخبرين صالح من جهة وغير صالح لجهة أُخرى.
    وقد أُجيب بوجوه :
    1. انّ لفظ « لا » اسميّة غنية عن الخبر
    إنّ لفظ « لا » النافية للجنس ، اسمية غنية عن الخبر ، فقولك : « لا رجل » و « لا
1. الشعراء : 50.
2. سبأ : 51.


(449)
مال » ، كلام تام غني عن الجواب ، وهذا هو الذي نقله الشيخ الأنصاري عن بعضهم وحاصله : انّ العدم كالوجود ، فكما أنّ الوجود منه رابط ، مثل قوله : « زيد قائم » ومنه محمول مثل : « زيد موجود » ، فكذلك العدم ، فمنه رابط مثل قولك : « زيد ليس قائماً » ، ومنه محمول مثل قولك : « زيد معدوم ». والأوّل يحتاج إلى الطرفين لامتناع تحقّق الرابط بدونهما بخلاف الثاني ، فالعدم المستفادمن كلمة « لا » على طريقة التميميّين عدم محمول ولا يحتاج إلى تقدير خبر ، والمعنى نفي عنوان الالهية مطلقاً إلا في اللّه كأنّه يقول : « الإله معدوم إلا اللّه » كما في قولك : لا مال ولاأهل ، ويراد منه نفي المال والأهل. (1) وكان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي يرتضيه في درسه الشريف في مبحث العام والخاص كما سيوافيك.
    فإن قلت : إنّ القضية لابدّ لها من جهة وهي لا تخلو من الإمكان والفعلية ، وعلى كلّ تقدير يعود المحذور ، فإن كانت الجهة هي الإمكان يكون الاستثناء اعترافاً بإمكان المستثنى ، وإن كانت « الفعلية » التي هي مساوقة بالموجود ، كان نفياً لوجود الآلهة لا لإمكانها.
    قلت : إنّ الجهة لا هذا ولا ذاك ، بل الجهة عبارة عن الضرورة فكأنّه يقول : « الإله معدوم إلا اللّه بالضرورة » ونفي الإله بالضرورة يساوق امتناعه ، كما أنّ إثباته بالضرورة يلازم وجوب وجوده.
    وصحّة الجواب مبنية على ثبوت « لا » الاسمية ، وإلا يلزم تركيب الكلام من حرف واسم ، ونقل الشيخ في المطارح انّه لغة التميميّين لكن تفسير الجملة الذائعة بين العرب كلّهم بلغة طائفة خاصة ليس صحيحاً.
1. مطارح الأنظار : 192.

(450)
    2. الإله بمعنى واجب الوجود
    المراد من « الإله » هو واجب الوجود ، ونفي ثبوته ووجوده في الخارج وإثبات فرد منه وهو « اللّه » يدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره تبارك وتعالى ضرورة انّه لو لم يكن ممتنعاً لوجد ، لكونه من أفراد الواجب. (1)
    وعلى هذا فالمقدر هو « موجود » فهو يدلّ بالدلالة المطابقية على فعلية وجوده سبحانه ولكن يدلّ بالملازمة على نفي إمكان غيره ، إذ لو كان ممكناً بالإمكان العام لكان موجوداً بالضرورة لضرورة وجوده ووجوبه.
    يلاحظ عليه : أنّ الإله إمّا بمعنى المعبود ، ـ كما هو المشهور ـ أو يساوق مفهومه مفهوم لفظ الجلالة ، غير أنّ الأوّل كلّي ، والآخر علم شخصي فما يتبادر من لفظ « اللّه » هو المتبادر من لفظ « الإله » بحذف التشخّص ، وأمّا كونه بمعنى واجب الوجود فلم يثبت. نعم هو من لوازم وجود الإله الواقعي.
    3. المقصود حصر العبادة في اللّه لا إثبات وجوده
    إنّ العرب الجاهليّين كانوا موحّدين في المراتب الثلاثة التالية :
    1. التوحيد الذاتي : واحد لا ثاني له.
    2. التوحيد الخالقي : لا خالق سواه.
    3. التوحيد الربوبي : لا مدبر في الكون سواه.
    وإنّما كانوا مشركين في العبادة ، وكانوا يعبدون الأصنام بذريعة انّهم عباد اللّه المكرمين حتّى يتقربوا بعبادتهم إلى اللّه زلفى ، فجاء النبي لردّ هذه العقيدة وانّ
1. كفاية الأُصول : 1/227 ـ 228.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس