إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 451 ـ 465
(451)
العبادة كسائر مراحل التوحيد مختصة باللّه سبحانه ، وانّه لامعبود إلا اللّه ، فالكلمة سيقت لحصر العبادة فيه لا لإثبات وجوده.
    يلاحظ عليه : بأنّ الإشكال باق بحاله لكن بصورة أُخرى ، وهو انّ الخبر امّا ممكن أو موجود ، فعلى الأوّل لم يعترف بكونه معبوداً بالفعل ، وعلى الثاني لم ينف إمكان معبودية غيره.
    4. الكلمة مشتملة على عقد واحد وهو عقد النفي
    إنّ الإشكال مبني على أنّ الكلمة الطيبة مشتملة على عقدين : عقد النفي وعقد الإثبات بمعنى نفي إلوهية غيره ، وإثبات أُلوهيّته ، وعندئذ يتوجه الإشكال ، لأنّ الغرض في العقد الأوّل نفي الإمكان ، وفي الثاني إثبات وجوده فعلاً والخبر الواحد ، أعني : « ممكن » أو « موجود » لا يفي بكلا الأمرين.
    وأمّا لو قلنا بأنّ الغرض الأقصى منها ، هو العقد السلبي ، أي سلب الأُلوهية عن كلّ ما يتصوّر سوى اللّه سبحانه ، وامّا إثبات الأُلوهية للّه سبحانه ، فليس بمقصود ، لكونها كانت أمراً مسلّماً ، فيسقط الإشكال ، ويكون الخبر المقدر ، هو الممكن.
    ويكون مفاده نفي إمكان أُلوهيّة غيره وأمّا أُلوهيته سبحانه ، إمكاناً أو فعلاً ، فليس بمقصود ، لكونها أمراً مسلماً إمكاناً وفعلية. (1)
    5. الهدف نفي الفعلية وإثباتها
    وهذا الوجه ذكره الشيخ الأنصاري ، وحاصله : انّ الغاية من كلمة
1. التعليقة على الكفاية : 159 ، للعلاّمة الطباطبائي.

(452)
الإخلاص في جانبي السلب والإيجاب ، هو نفي أُلوهية الآلهة الموجودة بين المشركين وحصر الأُلوهية في اللّه.
    وبعبارة أُخرى نفي الفعلية عنها وإثباتها له ، وأمّا نفي إمكان أُلوهيتها فليس بمطلوب في المقام وإنّما يطلب من الآيات الأُخرى نظير :
    1. ( لَوْ كانَ فِيهما آلهةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عمّا يَصِفُون ) (1) ، وقوله : ( وما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعلا بعضُهُمْ عَلى بَعْض سُبْحانَ اللّهِ عمّا يَصِفُون ) (2). (3)
    هذه هي أجوبة القوم في المقام ، والأظهر هو الجواب الرابع والخامس ، فلاحظ.

    من أدوات الحصر لفظة « إنّما »
    من أدوات الحصر كلمة « إنّما » قال الخطيب في تلخيص المفتاح : ومنها « إنّما » كقولك في قصره إفراداً « إنّما زيد كاتب » وقلنا : « إنّما زيد قائم » (4) فلو أُريد من الكلام قطع الشركة كما إذا زعم المخاطب انّ زيداً كاتب وشاعر معاً ، فيكون القصر إفراداً ، وإن أُريد قلب اعتقاد المتكلّم كما إذا اعتقد المخاطب انّ زيداً قاعد ، يكون القصر قلباً.
    واستدلّ علماء المعاني على إفادتها للحصر بوجوه :
    1. انّ لفظة « إنّما » تتضمن معنى « ما » و « إلا » بشهادة قول المفسّرين ( إِنّما
1. الأنبياء : 22.
2. المؤمنون : 91.
3. مطارح الأنظار : 192.
4. المختصر : 82.


(453)
حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ) (1) أي ما حرم ربّكم إلا الميتة وما تلاها.
    2. قول النحاة : إنّ لفظة « إنّما » لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه.
    3. صحّة انفصال الضمير معه ، كقولك : « إنّما يقوم أنا » ولا وجه لظهور الضمير إلا إفادة الحصر.
    أنا الذائد الحامي الذمار وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (2)
    واستدل ّ المحقّق الخراساني على إفادته الحصر بوجهين تاليين :
    4. تبادر الحصر منها في استعمالاتها.
    5. تصريح أهل اللغة بذلك كالأزهري وغيره. (3)
    وأورد على الأوّل من الأخيرين بأنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ولا يعلم بالدقة ، لعدم وجود ما يرادفها في عرفنا حتّى يستكشف منه بمراجعة الوجدان.
    يلاحظ عليه : بأنّه يكفي التبادر عند أهل اللسان وإن لم يكن في عرفنا ما هو مرادف لها.
    وعلى الثاني منها بأنّ قول اللغوي ليست بحجّة إلا من باب الظن المطلق.
    يلاحظ عليه : بأنّه إذا تضافر النقل من اللغويين والنحويين وعلماء المعاني على أنّه يفيد الحصر ، أفاد ذلك وثوقاً وهو علم عرفي وحجّة شرعية.
1. البقرة : 173.
2. الذمار كلّ ما يلزمك حمايته وحفظه والدفع عنه.
3. مطارح الأنظار : 192 ؛ درر الأُصول : 197.


(454)
    دليل النافي لإفادة الحصر
    ذهب الرازي في تفسير قوله سبحانه : ( إِنّما وَليُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُون ) (1) إلى أنّ لفظة « إنّما » لا تفيد الحصر ليبطل بذلك دلالة الآية على ولاية الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) ، واستدلّ على مختاره بالآية التالية :
    ( إِنّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوم يَتَفَكَّرُونَ ). (2)
    وجه الاستدلال : انّ حال الدنيا ليس منحصراً بما جاء في هذا المثل ، بل يمكن بيان حال الدنيا بتمثيلات أُخرى.
    1. ( إِنّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ). (3)
    2. ( وَمَا الحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الغُرُور ). (4)
    إلى غير ذلك من الأمثال الواردة في الكتاب والسنّة والأدب العربي بُغْية بيان حال الدنيا وهذا آية عدم الحصر. (5)
1. المائدة : 55.
2. يونس : 24.
3. محمد : 36.
4. الحديد : 20.
5. مفاتيح الغيب : 12/30 بتصرف وإيضاح.


(455)
    يلاحظ عليه : بأنّ الدنيا في التمثيلات المتقدّمة شبهت بأُمور متماثلة في الحقيقة والمعنى كما في تشبيهها بماء أنزل من السماء أو باللعب واللهو أو ببيت عنكبوت ، فالمشبه به وإن كان مختلفاً صورة ، ولكنّه واحد معنى وهدفاً ، فلو نظرنا إلى الدنيا من حيث سرعة الفناء وعدم الخلود فالدنيا أمر غير باق زائل ، كزوال طراوة الورود والأزهار والأشجار الخضراء ، أو زوال اللهو واللعب بسرعة حيث يتمّ بعد ساعة أو ساعتين ، وانخرام بيت العنكبوب بقطرة ماء أو شعلة نار أو بنسيم الصبا وأمثالها.
    فلا يصحّ أن يقال : انّ واقع الدنيا لا ينحصر في الأوّل ، إذ لا فرق بين الأوّل والثاني والثالث فالجميع إشارة إلى أمر واحد.
    فإن قلت : ما معنى الحصر في قوله سبحانه : ( قُلْ إِنّما يُوحَى إِليَّ أَنّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون ) (1) ، وقوله سبحانه : ( قُلْ إِنّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِليَّ أَنّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِك بِعِبادِةِ رَبِّهِ أَحداً ) (2) حيث إنّه أوحى إلى النبي أشياء كثيرة وراء قوله : إله واحد فلو قلنا بالحصر يجب أن يكون الموحى إليه أمراً واحداً.
    قلت : إنّ الحصر في الآية إضافي وليس بحقيقي فليست الآية بصدد بيان انّه لم يوح إليه طول رسالته إلا أمر واحد ، بل بصدد بيان أنّ الذي أُوحي إليه في مجال معرفة اللّه شيء واحد ، وهو انّه إله واحد لا اثنان كما عليه الثنوية ولا ثلاثة كما عليه المسيحية ، ولا أكثر كما عليه المشركون ، ففي هذا المجال لم يوح إليه إلا شيء واحد.
1. الأنبياء : 108.
2. الكهف : 110.


(456)
    وأظن انّ الرازي ومن لفّ لفّه كان عالماً بعدم صحّة ما تمسّك به لكن عقيدته المسبقة بتربيع الإمامة وانّ علياً رابع الخلفاء لا أوّلهم ، جرته إلى هذه المناقشات غيرا لتامة.
    وعلى كلّ تقدير درس مورد الآيات المشتملة على كلمة « إنّما » يقف على أنّه يفيد الحصر ، وإليك بعض هذه الآيات :
    1. ( إِنّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَو يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيدِيهِم وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف أَو يُنفَوْا مِنَ الأَرض ). (1)
    2. ( إِنّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِير ... ). (2)
    3. ( لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَم يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ * إِنّما يَنهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخرَجُوكُمْ ). (3)
    إلى غير ذلك من الآيات المشعرة بالحصر خصوصاً إذا كانت بعد السلب ، كما إذا قيل : ليس زيد قائماً إنّما هو قاعد.
    وعلى كلّ تقدير فلو دلت على الحصر فإنّما تدلّ بالمنطوق لا بالمفهوم ولا وجه لتسمية تلك الدلالة وما تقدّمها مفهوماً.
    3. بل الإضرابية
    ذكر النحاة والأُدباء في كتبهم القواعد التالية للفظة بل :
    1. انّ لفظة بل وضعت للإضراب والانتقال من معنى إلى معنى ، أو من
1. المائدة : 33.
2. البقرة : 173.
3. الممتحنة : 8 ـ 9.


(457)
غرض إلى غرض ، وهذه الحقيقة لا تنفك عن لفظة بل ، قال سبحانه : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَياةَ الدُّنيا ). (1)
    2.لو تلاها جملة فهي حرف ابتداء كما في الآية المتقدمة وليست بعاطفة ، وإن تلاها مفرد فهي عاطفة كما سيوافيك أمثلته.
    3. ثمّ إنّ لفظة « بل » تارة تنقل حكم المعرض عنه إلى المدخول بعينه ، وأُخرى تنقل ضدّه ، وهذا ممّا لا بدّ للفقيه من معرفة موارده.
    فإن تقدّمها جملة خبرية إيجابية أو جملة إنشائية ، فعندئذ تنقل حكم الأوّل إلى الثاني ومع السكوت عن حكم المضرب عنه فلا يحكم عليه بشيء من النفي والإثبات كقولك : اضرب زيداً بل عمراً ، وقام زيد بل عمر ، وإلى تلك الضابطة يشير ابن مالك في منظومته ويقول :
    وانقل بها للثاني حكم الأوّل في الخبر المثبت والأمر الجلي
    وإن تقدمها نفي أو نهي فهي لتقرير ما قبلها على حالته مع جعل ضدّ ما سبق لما بعدها نحو قوله : ما قام زيد بل عمرو ، أي : بل قام عمرو ، ولا تضرب زيداً بل عمراً ، أي : بل اضرب عمراً. (2)
    هذه هي القواعد الكلية في تلك اللفظة وعند ذاك تصل النوبة إلى البحث عن إفادتها الحصر فقد اختلفت الأقوال كالتالي :
    1. لا تفيد الحصر مطلقاً ، ونسب إلى الحاجبي.
    2. تفيد الحصر مطلقاً ، ونسب إلى الزمخشري.
1. الأعلى : 14 ـ 16.
2. المغني ، باب الحروف. ( حرف بل ) ، ج 1 ، ص 151 ، ط 5 ؛ بيروت 1979 م.


(458)
    3. انّ لفظة « بل » وضعت لنقل الحكم من المتبوع إلى التابع فقط مطلقاً كما عن بعضهم أو في الإثبات فقط كما عليه المشهور.
    4. التفصيل بين مورد دون مورد ، وهو خيرة المحقّق الخراساني. وحاصله : انّ الاضراب على أقسام ثلاثة :
    1. ما كان لأجل انّ المضرب عنه إنّما أُوتي به غفلة أو سبقه به لسانه فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه ، كأن يقول : جاءني زيد بل عمرو فيما إذا التفت إلى أنّ قوله : « زيد » غلط أُوتي به غفلة ، ففي مثله لا دلالة لها على الحصر.
    2. ما كان لأجل التأكيد فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه فلا دلالة له على الحصر أيضاً كقوله سبحانه : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَذَكَرَ اسمَ رَبِّهِ فَصَلّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَياةَ الدُّنيا ). (1)
    وقوله تعالى : ( وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالحَقّ وَهُمْ لا يُظْلَمُون * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَة من هذا وَلَهُمْ أَعمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُون ). (2)
    3. ما كان في مقام الردع وإبطال ما أثبت أوّلاً فيدّل على الحصر ، قال سبحانه : ( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحمن وَلَداً سُبحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُون ). (3)
    والمعنى بل هم عباد ونحوه قوله سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ بِه جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلحَقِّ كارِهُون ) (4) وهو يفيد الحصر.
    ولا يخفى انّها لو أفادت الحصر فالحصر إضافي ، أي انّه ليس شأن لملائكة
1. الأعلى : 14 ـ 16.
2. المؤمنون : 62 ـ 63.
3. الأنبياء : 26.
4. المؤمنون : 70.


(459)
اللّه في مقابلة اتهامهم بالولدية إلا أنّهم عباد مكرمون ، ومع ذلك لا ينافي أن يكون لهم شأن في غير ذلك المجال ، فانّهم كتبة الأعمال وقبضة الأرواح إلى غير ذلك من الشؤون.
    4. من أدوات الحصر تقديم ما حقّه التأخير
    اتّفق النحاة على أنّ تقديم ما حقّه التأخير كالمفعول يفيد الحصر ، كقوله سبحانه : ( إِيّاك نَعْبُدُ وإِيّاك نَسْتَعين ). (1)
    نعم لا يصحّ أن يقال انّه يفيد الحصر دائماً ، إذ ربما يكون للتقديم علل مختلفة كالأهمية وغيرها.
    5. اشتمال المسند إليه على اللام
    وقال المحقّق الخراساني ما هذا حاصله : إذا كان المسند إليه محلّى بلام الجنس وكان الحمل شائعاً لما أفاد الحصر ، كما إذا قال : الضارب زيداً ، فانّ غاية ما يفيده الحمل اتحادهما وجوداً ومصداقاً ، ومثل ذلك لا يقتضي حصر المسند إليه في المسند.
    نعم يفيد تعريف المسند إليه الحصر في موارد ثلاثة :
    1. إذا كانت اللام للاستغراق.
    2. إذا أُخذ مدخول اللام بنحو الإرسال والإطلاق.
    3. إذا كان الحمل حملاً أوّلياً ذاتياً.
    فلنرجع إلى إيضاح ما أفاده فنقول : إنّ لام التعريف على أقسام :
1. الحمد : 5.

(460)
    1. لام الجنس فيما إذا كان الحمل شائعاً
    يقع الكلام تارة فيما إذا كان الحمل شائعاً صناعياً وأُخرى حملاً أوّلياً.
    أمّا الأوّل فله أقسام خمسة :
    أ. إذا كانت النسبة بين المسند إليه والمسند التساوي نحو الإنسان ضاحك.
    ب. إذا كان المسند إليه أخصَّ مطلق من المحمول ، نحو : الإنسان ماش.
    ج. إذا كان المسند إليه أعمّ مطلق من المسند نحو : الأمير زيد.
    د. إذا كانت النسبة بينهما عموماً وخصوصاً من وجه كما في قول القائل : الحمامة بيضاء.
    فالقسمان الأوّلان يفيدان الحصر لا لجهة اللام ، بل لأجل كون النسبة هي التساوي أو كون المسند إليه أخصّ مطلق.
    فلو استفيد الحصر فإنّما يستفاد من لحاظ النسبة ، وأمّا وجود اللام فليس له دور في المقام ، وأمّا الآخران فلا يدلاّن على الحصر لافتراض انّ المسند إليه أعمّ من المسند ، أو كون النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه فلا يعقل للحصر مفهوم.
    وحاصل الكلام : انّ الذي يؤثر في الحصر وعدمه هو لحاظ واقع المسند إليه مع المسند من حيث النسبة ، ولذلك يفيد الحصر في الأوّلين دون الآخرين.
    إذا أُريد من مدخول لام الجنس الإطلاق والإرسال فهو يفيد الحصر ، كما في قوله : ( الحمد للّه ) فانّ حصر جنس الحمد للّه ، لأجل انّ كلّ ما يصدق عليه الحمد فهو للّه حتّى الحمد الموجه إلى غيره ، لانّه سبحانه مبدأ المحامد وأصلها ، فكلّ ما للغير من جمال وكمال فهو منه سبحانه.


(461)
    هذا كلّه إذا كان الحمل شائعاً صناعياً ، وإليك الكلام في الثاني ، أي فيما إذا كان الحمل أوّلياً.
    2. لام الجنس إذا كان الحمل أوّلياً
    إذا كانت النسبة بين المسند إليه المحلّى باللام والمسند هو التساوي في المفهوم لا الوجود. وبعبارة أُخرى : إذا كان الحمل أوّلياً فهو يفيد الحصر بلا إشكال ، نظير قولك : الإنسان حيوان ناطق غير أنّ الحصر مدلول وحدة الموضوع والمحمول مفهوماً وليس للام هاهنا أيّ دور.
    هذا كلّه حول لام الجنس ، وإليك الكلام في القسمين الآخرين للام.
    3. لام العهد
    إنّ لام العهد بمنزلة « هذا » والغرض الإشارة إلى ما سبق ذكره ، كما في قوله تعالى : ( كَما أَرسَلْنا إِلى فِرعَوْنَ رَسُولاً * فعَصَى فِرعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخذاً وَبِيلاً ) (1) ولا يدلّ على الحصر كما هو واضح.
    4. لام الاستغراق
    والمراد من لام الاستغراق ما يدلّ على شمول المدخول لكلّ ما يصدق عليه ، نحو قوله : ( إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْر ) (2) وهو يفيد الحصر قطعاً ، أي حصر الإنسان في الخسر على نحو لا يشذّ عنه فرد من أفراد المدخول ، إلا إذا قام الدليل على الخروج كما في قوله : ( إِنَّ الإِنْسان لَفي خُسر ).
1. المزمل : 15 ـ 16.
2. العصر : 2.


(462)
    بعض أدوات الحصر
    من أدوات الحصر توسط الضمير بين المسند إليه والمسند ، كقولك : زيد هو القائم.
    كما أنّ من أدواته أيضاً تعريف المسند نحو زيد الأمير.
    ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه في المقام ضابطة غالبية وليست ضابطة عامة ، ولذلك يجب على المحقّق الإمعان في القرائن التي يكتنف بها الكلام.


(463)
    الفصل الخامس
مفهوم اللقب
    قسّم الأُدباء الاسم الذي يعيّن المسمّى إلى أقسام ثلاثة :
    1. العلم ، 2. الكنية ، 3. اللقب.
    يقول ابن مالك :
    اسمٌ يُعَيِّنُ الْمُسَمّى مُطلقاً عَلَمُهُ كَجَعْفَر وَخِرْنَقاً
    وَقَرَن وَعَدَن وَلاحِق وَشَذْقَم وَهَيْلَة وَ واشِق
    وَاسْماً أتى وَكُنْيَةً وَلَقباً وَأَخِّرَنْ ذا إِنْ سِواهُ صَحِبا
    فإذا قلنا : اللهمّ صلّ على سيّدنا أبي القاسم محمّد رسول اللّه ، فقد جاء فيه الكنية والعلم واللقب.
    هذا هو مصطلح النحاة في لفظ اللقب ، وأمّا مصطلح الأُصوليين في اللقب هو كلّ ما يعدّ من أركان الكلام أو أحد قيوده كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر والقيود الزمانية والمكانية كلّها ألقاب حسب ذلك الاصطلاح ، والمعروف بين الأُصوليين إلا من خرج كالدقاق والصيرفي وأصحاب أحمد بن حنبل عدم المفهوم للقيود الواردة في الكلام مستدلاً بأنّ قولنا : « المسيح رسول اللّه » لا يعدّ


(464)
دليلاً على أنّ محمّداً ليس رسول اللّه ، فإذا قال : « أكرم زيداً في الدار » فالتشريع محدد بالإكرام في الدار ولا يدلّ على عدم وجوبه في غير الدار ، لأنّ إثبات الشيء لا ينفي ماعداه.
    وأمّا عدم إجزاء الإكرام في غير الدار عن الإكرام في الدار فليس لأجل كون القضية الأُولى ذات مفهوم ، بل لأجل عدم امتثال المأمور به.
    فهناك فرق بين الدلالة على العدم وبين عدم الإجزاء لأجل عدم الامتثال ، فإذا قال : نذرت للفقراء أو وقفت عليهم أو أوصيت لهم ثمار هذا البستان ، فلا يدلّ على نفي الحكم عن غير الفقراء ، بل هو ساكت عنه.
    نعم لو صرف ثماره على الأغنياء لا يجزي لا لأجل المفهوم ، بل لأجل عدم الامتثال.
    وعلى ضوء هذا ذهب الأُصوليون إلى أنّ للقيود الموجودة في الكلام لها مدخلية في الحكم على نحو لولاها لما أمكن الحكم بالموضوع ، ومع ذلك لا يدلّ على سلب الحكم عنه عند عدمه ، وذلك لأنّ إثبات الشيء لا يدلّ على نفي ما عداه.
    مع ذلك فهذه الضابطة ضابطة غالبية وربما تدلّ القرائن على الأخذ بالمفهوم ، وقد نقل رحمة اللّه الكرماني في تعليقته على الرسائل عند البحث عن مفهوم الوصف لآية النبأ ، قصة مفيدة في المقام فلاحظ.


(465)
    الفصل السادس
مفهوم العدد
    إنّ العدد المأخوذ في الموضوع أو في جانب المحمول يتصوّر على أقسام أربعة :
    1. أن يؤخذ العدد في جانبي الزيادة والنقيصة على نحو « لا بشرط » فلا تعد النقيصة مخلة ولا الزيادة كذلك. كقوله سبحانه مخاطباً النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِين ). (1)
    فانّ ذكر عدد سبعين لبيان المبالغة لا للتحديد ، فلا تكون النقيصة ولا الزيادة موجبة للغفران ، لأنّ الجميع لبيان عدم صلاحيتهم للمغفرة سواء أزاد على السبعين أم نقص منه.
    2. يؤخذ « بشرط لا » في كلا الجانبين كأعداد الفرائض.
    3. يؤخذ « بشرط لا » في جانب النقيصة دون الزيادة ، كما هو الحال في مسألة الكر فانّه عبارة عن ثلاثة أشبار ونصف ، طولاً وعرضاً وعمقاً ولا يكفي الناقص كما لايضر الزائد.
1. التوبة : 80.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس