إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 481 ـ 495
(481)
    السادس : الفرق بين العام والمطلق
    إنّ العام كما عرفت ينقسم إلى شموليّ ومجموعيّ وبدليّ ، والمطلق أيضاً ينقسم إلى شمولي وبدلي ، أمّا الشمولي فكقوله سبحانه : ( أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ ) (1) ، فانّ اللام للجنس ومع ذلك تفيد العموم لجريان مقدّمات الحكمة حيث إنّ المتكلّم في مقام البيان ولم ينصب قرينة على فرد خاص فيفيد الشمولي.
    وأمّا البدلي كقوله : « اعتق رقبة » بمعنى كفاية فرد ما ، نظير قوله في العام « اعتق أيّ رقبة » وعندئذ يطرح السؤال التالي : ما الفرق بين العام والمطلق ؟
    والجواب المعروف هو انّ دلالة العام بالوضع فكأنّ الشموليّة والبدلية داخلان في مفهوم العام ولكن دلالة المطلق عليهما بالعقل وبفضل مقدّمات الحكمة كما قررنا.
    ومع أنّ هذا الجواب متين ولكن يمكن الإجابة بوجه آخر ، وحاصله :
    حقيقة الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم لا جزأه ، سواء أكان الموضوع أمراً طبيعياً أو فرداً شخصياً ، مثلاً :
    قولنا : اعتق رقبة نظير قولنا : أكرم زيداً في أنّ كلاً من اللفظين تمام الموضوع للحكم لا جزؤه ، بخلاف ما إذا قلنا : « اعتق رقبة مؤمنة » أو قلنا : « أكرم زيداً قائماً » حيث يعود اللفظ فيهما جزء الموضوع ، فإذا كان هذا ( كون الشيء تمام الموضوع للحكم ) حقيقة الإطلاق ، فالشمول والبدلية ، والجزئية لا صلة لها بواقع الإطلاق.
    نعم يختلف مفاد ما وقع تحت دائرة الطلب من حيث المضمون ، فتارة تكون نتيجة الإطلاق الشمولية وأُخرى البدلية وثالثة الجزئية ، فهذه الأُمور الثلاثة نتائج الإطلاق لا نفس الإطلاق ، وهذا بخلاف العام فانّ الشمولية والبدلية داخلان في جوهر الموضوع.
1. البقرة : 275.

(482)
    السابع : حكم العشرة وأمثالها
    لمّا عرّف المحقّق الخراساني المفهوم العام بقوله : شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، خرج بالنتيجة التالية : انّ مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم ، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها. (1)
    وبعبارة أُخرى : قوله في تعريف العام « انطباقه لكلّ ما يشمله » يُخرج العشرة لأنّها وإن كانت تشمل الآحاد ولكنّها لا تنطبق عليها ، فليس الشمول كافياً في صدق العموم ، بل يحتاج وراءه إلى الانطباق.
    يلاحظ عليه : أنّ قيد الانطباق وإن أخرج العشرة عن تحت العموم ولكنّه يوجب خروج الجمع المحلّى باللام عن تعريف العام ، فانّ « العلماء » شامل لكّل فرد فرد لكنّه لا ينطبق على واحد منهم فلا يقال : زيد العلماء.
    والأولى إخراج العشرة عن تحت العام بقيد آخر ، وهو انّ العام في مصطلح الأُصوليّين ما دلّ على الكثرة المبهمة من حيث الكمية والمقدار ، كما هو الحال في الجمع المحلّى باللام والنكرة الواقعة في سياق النفي.
    وأمّا العشرة فهي محدودة قلّة وكثرة.
    نعم يمكن عدّها من ألفاظ العموم إذا أُريد منها مجموعات من العشرة كالعشرات بحيث يكون لكلّ عشرة مصداق وفرد فلاحظ.
    إذا عرفت هذا فلندخل في صلب الموضوع ، ويأتي الكلام فيه ضمن فصول :
1. الكفاية : 1/332.

(483)
    الفصل الأوّل
للعام صيغة تخصّه
    اختلفت كلمتهم في الصيغ المعروفة بصيغة العام إلى أقوال ثلاثة :
    1. انّها وضعت للعموم.
    2. انّها وضعت للخصوص.
    3. انّها مشتركة بين العموم والخصوص.
    والمعروف هو الأوّل ، واستدلّ له بوجهين :
    1. تبادر العموم من كلمة « كلّ » و « الجمع المحلّى باللام » وما يعادلهما في سائر اللغات.
    2. انّ الحاجة كما تمسُّ لبيان الخصوص ، تمسُّ لبيان العموم أيضاً فلابدّ للواضع من وضع لفظ أو ألفاظ لبيانها. نعم ربما يستعمل في الخصوص مجازاً وبالعناية يقال : جاء العلماء ، أو حضر الصاغة ، إذا جاء أعيانهم وأكابرهم ومن يعتدّ بهم وذلك لا يصير دليلاً على كونها موضوعة للخصوص ، ومع ذلك فهناك ألفاظ وضعت للخصوص كما سيوافيك.
    واستدلّ للقول الثاني أيضاً بوجهين :
    1. انّ إرادة الخصوص في مقام الاستعمال أمر متعيّن إمّا بنفسه أو في


(484)
ضمن العام ، وجعل اللفظ حقيقة فيه أولى من جعله حقيقة في المشكوك. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الأولوية في مقام الاستعمال لا يكون دليلاً على الأولوية في مقام الوضع ، لأنّ لكلّ ملاكاً خاصاً ، إذ الملاك في مقام الوضع ، هو الحاجة لبيان العموم فلابدّ من وضع لفظ أو ألفاظ لبيان هذا المقصد ، والملاك لتعيين المستعمل فيه هو كونه متيقناً ، لا مشكوكاً ، فلا يستدلّ بأحدهما على الآخر ، مع كون مقام الوضع متقدّماً والاستعمال متأخراً.
    2. انّ الخاص أكثر من العام حتّى اشتهر : ما من عام إلا وقد خُصّ ، فلو كانت حقيقة في الخصوص لزم تقليل المجاز بخلاف العكس. (2)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه دليل على ضد المقصود ، لأنّ تخصيص العام آية انّه موضوع له ، لكن ورد عليه التخصيص ، ولولا ذلك ، لما كان للتخصّص معنى محصل.
    وثانياً : أنّه مبني على أنّ التخصيص مستلزم كون العام مجازاً مستعملاً في غير ما وضع له ، وسيوافيك انّ الحقّ خلافه ، وانّ العام ـ مطلقاً ـ مستعمل في معناه ، سواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً ومراد بالإرادة الاستعمالية التي هي مناط الحقيقة والمجاز.
    لكن ما تتعلّق به الإرادة الاستعمالية على صنفين :
    1. يكون متعلّقاً للإرادة الجديدة أيضاً.
    2. ما لا يكون كذلك.
1. قوانين الأُصول : 1/193 ؛ الفصول : 161.
2. قوانين الأُصول : 1/196.


(485)
    والمتكلّم يشير بالمخصص إلى القسم الثاني وانّ الفساق مما لم تتعلّق به الإرادة الجدية وإن تعلّقت به الإرادة الاستعمالية.
    وأمّا ما هو الداعي لاستعمال اللفظ في معنى وسيع تعلّقت به الإرادة الاستعمالية دون الجدية فسيوافيك بيانه.
    وأمّا القول بالاشتراك فلم نقف على دليل له ، ولعلّه جعل الاستعمال في كلا المعنيين دليلاً على وضع الألفاظ لهما ، لكن الاستعمال أعمّ من الوضع كما هو واضح.
    ثمّ إنّ للخصوص أيضاً ألفاظاً ، كلفظة « بعض » أو « قسم » أو « فئة » أو « طائفة » ، أو ما يقوم مقام هذه الألفاظ.
    ثمّ إنّهم ذكروا للعام صيغاً نشير إليها :
    1. وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي.
    2. لفظة « كل » و « الجميع » أو ما يعادلهما.
    3. الجمع المحلّى باللام ، كالعقود في قوله تعالى : ( أَوفُوا بالعُقُود ). (1)
    4. المفرد المحلّى باللام كقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ ). (2)
    ولندرس الجميع واحداً بعد الآخر :
    الأوّل : النكرة في سياق النفي أو النهي
    إنّ من أدوات العموم وقوع النكرة في حيز النفي والنهي ، يقول ابن مالك في مورد « لا » النافية للجنس.
1. المائدة : 1.
2. البقرة : 275.


(486)
عمل إنّ اجعل للا في النكرة فانصب بها مضافاً أو مضارعة مفردة جاءتك أو مكررة وبعـد ذاك ـ الخبر ـ اذكر رافعة
    ولا النافية للجنس غير « ما » و « لا » و « لات » المشبهات بليس فانّها ترفع الاسم وتنصب الخبر ولا تفيد العموم.
    وعلى كلّ تقدير فاتّفقوا على إفادته العموم ، توضيحه :
    إنّ رجلاً مع قطع النظر عن اللام والتنوين له وضع ، فهو مع التنوين يدلّ على الوحدة ، ومع اللام يدلّ تارة على الجنس وأُخرى على العهد ، فإذا جُرّد اللفظ عن كليهما دلّ على الماهية لا بشرط شيء.
    وقد نقل المحقّق القمي عن السكاكي انّه نقل إجماع أهل العربية على أنّ المصادر الخالية من اللام والتنوين موضوعة للماهية لا بشرط شيء. (1)
    ولا يختصّ هذا بالمصادر ، بل يعمّ الأسماء فالمجرّد من اللام والتنوين يدلّ على الطبيعة ، فإذا وقعت تحت النفي أو النهي يدلّ على نفي الطبيعة وهو يتحقّق في ضمن نفي تمام الأفراد.
    ويؤيد دلالته على العموم أنّه لايجوز أن يقال : لا رجل في الدار بل رجلان ، أو : وما من رجل في الدار بل رجلان ، بخلاف ليس وما ولا ولات المشبهات بها حيث يصحّ : ليس في الدار رجل بل رجلان ، وما في الدار رجل بل رجلان ، حيث إنّ التنوين إشارة إلى الوحدة العددية المعينة ويكون النفي راجعاً إلى الوحدة.
    يلاحظ عليه بأمرين :
    الأوّل : انّ القول بأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد ما وتنعدم بانعدام جميع
1. القوانين : 1/202.

(487)
الأفراد غير تام على الأُصول الفلسفية ، لأنّ الطبيعة لا واحدة ولا كثيرة ، بل مع الواحد واحدة ومع الكثير كثيرة ، فكما لها وجودات حسب الافراد ، فهكذا لها اعدام بحسبها.
    نعم تصحّ القاعدة في نظر العرف وذلك لقرينة خارجية خصوصاً في النواهي ، لأنّه إذا قال : لا تشرب الخمر ، فالمفسدة قائمة بكلّ واحد واحد من أفراد الخمر ، فترك فرد من أفرادها مع استعمال سائر الأفراد لا يؤمّن غرض المولى ، فصار ذلك قرينة على أنّ المراد هو نفي الطبيعة بنفي جميع أفرادها.
    الثاني : انّ العموم عبارة عمّا تدلّ على الكثرة والافراد بالدلالة اللفظية لا بالدلالة العقلية ، فانّ استفادة العموم في المورد مستند إلى الدلالة العقلية العرفية لا إلى الدلالة اللفظية ، ومع ذلك كلّه فلا شكّ في أنّ هيئة لا رجل تدلّ على نفي عامة الأفراد ولو بقرينة عامة عرفية ، وهي انّ نفي الطبيعة بنفي عامة أفرادها والتبادر أفضل دليل له.
    هل استفادة العموم رهن مقدّمات الحكمة ؟
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ استفادة العموم رهن أخذ الطبيعة مرسلة لا مبهمة ، قابلة للتقييد وإلا فسلبها لا يقتضي إلا استيعاب السلب لما أُريد منها يقيناً لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها ، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية ، فانّها بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها لا الافراد التي تصلح لانطباقها عليها. (1)
    توضيحه : انّه يشترط في استفادة العموم أخذ الطبيعة مرسلة سارية في جميع
1. كفاية الأُصول : 1/334.

(488)
أفرادها ، وأخذ الطبيعة كذلك من مقدّّمات الحكمة الذي يعبّر عنه بكون المتكلّم في مقام البيان لا في مقام الإجمال والإبهام.
    إذا عرفت ذلك فالذي يدلّ على لزوم إحراز هذا الشرط انّه لولاه لما أمكنت استفادة العموم ، لأنّ لفظة « لا » وضعت لنفي المدخول ، وأمّا كون المدخول عبارة عن كلّ ما يصلح انطباقه عليه فهو رهن أخذ الطبيعة مرسلة لا مبهمة ولا مجملة ، وإلا فيمكن أن تكون لا لنفي ما أُريد من الطبيعة وإن كان المراد قسماً منها.
    وبعبارة أُخرى : انّه لا دور للفظة « لا » إلا السلب وهو يحتمل أحد أمرين :
    1. استيعاب السلب لكلّ ما تنطبق الطبيعة عليه ، أو لكلّ ما يراد منها ؛ والأوّل يفيد العموم دون الثاني ، وإحرازه فرع جريان مقدمات الحكمة.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من احتمال استيعاب السلب لما أُريد منها لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها مبني على أنّ العام عند التخصيص يستعمل في غير معناه الحقيقي ، ولذلك يدور الأمر بين الاحتمالين أي استيعاب السلب لما أُريد من الطبيعة يقيناً إذا كان مخصصاً أو استيعاب ما يصلح انطباقه عليه من أفرادها.
    وأمّا على القول بأنّ العام ـ سواء خص أم لم يخصّ ـ يستعمل في المعنى اللغوي العام ، أي ما يصلح انطباقه عليه من أفرادها (1) ، فلا يكون هناك إلا احتمال واحد ، وهو استيعاب كلّ ما يصلح انطباقها عليه ، وعلى ضوء ذلك فلا حاجة إلى أخذ الطبيعة مرسلة في مقابل كونها مبهمة أو مجملة.
    نعم لو احتملنا انّ للموضوع قيداً آخر وراء الطبيعة فيمكن دفعه بجريان مقدّمات الحكمة.
1. سيوافيك بيانه في الفصل القادم.

(489)
    وحصيلة الكلام : انّ المحقّق الخراساني خلط بين استفادة العموم ودفع احتمال مدخلية قيد آخر في الموضوع ؛ فالأوّل يكفي فيه نفي الطبيعة بمعناها اللغوي من دون حاجة إلى إرسال وغيره ، وأمّا الثاني ـ أي احتمال دخالة قيد في الموضوع ـ فدفعه رهن مقدّمات الحكمة.
    الثاني : لفظة كلّ أو ما يعادلها
    المتبادر من لفظ كلّ أو ما يعادله هو الاستيعاب والعموم ، غير أنّ سعة الدلالة تتبع سعة المدخول وضيقه ، فهو على كلّ تقدير بصدد إفادة العموم ، سواء أقال : أكرم كلّ عالم أو قال : أكرم كلّ عالم عادل. فإطلاق الموضوع وتقييده لا يضرّ بدلالة كلّ الموضوع للشمول والاستيعاب.
    وبذلك يعلم أنّا لا نحتاج في استفادة الشمول والعموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة ، لأنّ لفظة كلّ موضوعة للشمول ومعه لا حاجة لشيء آخر.
    نعم لو احتملنا انّ للموضوع قيداً سقط من كلام المتكلّم يصحّ نفيه بمقدّمات الحكمة ، فالخلط السائد في القسم الأوّل جار في المقام ، فنحن في استفادة العموم مستغنون عن إجراء مقدّمات الحكمة ، وأمّا في نفي احتمال تقيد الموضوع بقيد آخر فيدفع بمقدّمات الحكمة.
    الثالث : الجمع المحلّى باللام
    وممّا عدّ من أدوات العموم ما اتّفق الأُصوليون على إفادتها للعموم (1) ، كقوله سبحانه : ( أَوفُوا بالعُقُـود ) (2) ، وقوله سبحـانه : ( وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِين
1. القوانين : 1/197.
2. المائدة : 1.


(490)
كافـَّةً ) (1) ، وقوله : كافة تأكيد للعموم المستفاد من الجمع المحلّى ، وقوله سبحانه : ( وَبَشِّرِ الصّابِرين ). (2)
    والدليل على إفادته العموم ، هو تبادر العموم كما هو الحال في تلك الآيات ، وتؤيده كثرة استعماله في العموم في المحاورات ، كقول القائل : إن كنت جاهلاً سل العلماء ، وإن كنت مريضاً راجع الأطباء ، وإن كنت غنياً واس الفقراء.
    نعم تردد المحقّق الخراساني في إفادته العموم بذاته ، وقال : إنّما يفيده إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أُخرى ، وذلك لأنّ الدالّ عليه أحد الأُمور الثلاثة :
    1. اللام ولا دلالة لها بشهادة عدم دلالتها في المفرد المحلّى به.
    2. الجمع المجرد ، ولا دلالة له لصدقه على الاثنين وما فوقه.
    3. المركّب من اللام والجمع ، فلا دلالة له ، لعدم الوضع.
    وأجاب سيّدنا الأُستاذ ( قدس سره ) عنه ، بأنّ استفادة العموم لازم كون اللام لتعريف الجمع ، والقابل للتعريف ، هو أقصى المراتب ، دون غيره ، لأنّ له عرضاً عريضاً ومراتب متعددة ، لا يمكن الإشارة إلى واحد منها.
    فإن قلت : إنّ أقلّ الجمع ، متعيّن كالثلاثة.
    قلت : إن أُريد من التعيّن مفهومها فصحيح لكنّه لا يفيد في المقام ، وإن أُريد تعيّنها مصداقـاً ، فغيـر تام ، لتردّده بين مصاديق مختلفة ، كهـذه الثـلاثة أو تلك الثلاثة ، ولـذلك لـو قلت جاءني ثلاثة أشخاص ، فللمخاطب أن يسـأل عن مصاديقها ، ويقول : أي ثلاثة هل هي زيد وعمر وبكر ، أو رعد
1. التوبة : 36.
2. البقرة : 155.


(491)
وخالد وحيدر. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ طريق إثبات اللغة وتعيين مفاد الألفاظ ومعانيها ، هي التبادر وصحّة الحمل والاطراد لا الدقائق العقلية التي لا يلتفت إليها إلا طبقة خاصة ، وإلا فيجب أن يقول بالعموم في المفرد المحلّى باللام ، لجريان نفس البيان فيه مع أنّه ( قدس سره ) لا يقول به فيه.
    والأولى التمسك بالتبادر الحاسم للنزاع.
    والكلام في استفادة العموم نفس الكلام في استفادة العموم من وقوع النكرة في سياق النفي أو لفظ « كلّ » طابق النعل بالنعل بمعنى انّه لا حاجة في فهم العموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة. نعم دفع احتمال مدخلية قيد في الموضوع رهن جريانها.
    الرابع : المفرد المحلّى باللام
    وقد عدّ من ألفاظ العموم ، المفرد المحلّى باللام واستدلّ له بوجوه قاصرة ، كوصفه بالجمع في المثل الدارج : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، وصحّة ورود الاستثناء عليه كقوله سبحانه : ( إِنّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْر * إِلاّ الّذينَ آمَنُوا ) (2) ، وانّ اللام للتعريف والمعرّف هو أقصى المراتب.
    والظاهر انّ استفادة العموم في الموردين الأوّلين بالقرينة الخارجية ، أمّا الأوّل فلأنّه لا فرق بين دينار ودينار ودرهم ودرهم في أنّه يغرّ الإنسان ، وأمّا الثاني فبما انّ الإنسان طبيعة واحدة ، فيكون تمام أفرادها في خسر ، لأنّ أفراد الطبيعة فيما يجوز
1. تهذيب الأُصول : 1/467.
2. العصر : 2 ـ 3.


(492)
وما لا يجوز واحد.
    والوجه الثالث دليل عقلي لا يركن إليه في باب الدلالات كما مرّ في الجمع المحلّى باللام. والتبادر لا يساعد العموم في جميع الموارد.
    نعم يمكن استفادة العموم من قوله سبحانه : ( أَحلَّ اللّهُ البَيْع ) (1) بجريان مقدّمات الحكمة ببيان انّ المولى في مقام التشريع والتقنين ، فإن أراد بيعاً خاصاً كان عليه البيان ، وإلا فيكون مطلق البيع حلالاً ونافذاً ، وعلى ذلك يخرج من باب العموم ويدخل في باب المطلق.
1. البقرة : 275.

(493)
    الفصل الثاني
تخصيص العام لا يوجب المجازية
    عقد المحقّق الخراساني فصلاً في أنّ العام المخصَّص بالمتّصل أو المنفصل حجّة فيما بقي تحت العام ، ولمّا كان القضاء الحاسم في هذا الموضوع مبنيّاً على مسألة أُخرى ، وهي كون التخصيص ، موجباً لمجازية العام ، واستعماله في غير ما وضع له ، وعدمه ، عدلنا عن النظام الموجود في الكفاية وعقدنا فصلاً مستقلاً لهذه المسألة التي هي المبنى لحجّية العام فيما بقي ، وبعد الفراغ منه ، نعقد فصلاً جديداً للحجّية فيما بقي وعدمها.
    فنقول : إنّ الأقوال في المسألة كثيرة ربما تناهز الثمانية (1) : والمعروف منها ثلاثة :
    1. حقيقة مطلقاً.
    2. مجاز مطلقاً.
    3. التفصيل بين المخصّص المتّصل والمنفصل فهو حقيقة في الأوّل ومجاز في الثاني.
    والحقّ هو الأوّل وهو الذي نصره المحقّق الخراساني ببيانين : أحدهما خاص بالمخصص المتصل ، والآخر بالمخصص المنفصل ، وربما تكون روح البيانين في الموردين واحداً وإن كان التعبير مختلفاً.
1. الفصول : 198 ـ 199 ، الطبعة الحجرية.

(494)
    1. المخصص المتّصل وتعدد الدال والمدلول
    إنّ المجاز في اصطلاح المشهور عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، ولكن أدوات العموم كـ « كل » مستعمل في معناه الحقيقي ، الذي يعادله في اللغة الفارسية لفظة « هر » من غير فرق بين أن يكون مدخوله وسيعاً ، مثل « أكرم كلّ رجل » ، أو مضيقاً نحو : « أكرم كلّ رجل عادل » ، فكون المدخول موسّعاً أو مضيّقاً لا يؤثر في استعمال أداة العام فهو مطلقاً مستعمل في معناه وإنّما تعلم السعة والضيق ، ممّا يأتي بعده من « رجل » أو « رجل عادل » لا انّ لفظة « كلّ » تستعمل في الأوّل في المعنى الوسيع للسعة ، وفي الثاني في المعنى المضيق ، بل هو في كلا المقالين « كلّ رجل » ، « كلّ رجل عالم » مستعمل في العموم وإن كانت افراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر قليلاً.
    وإن شئت قلت : إنّ المورد من قبيل تعدّد الدالّ والمدلول ، فكلّ لفظ مستعمل في معناه الحقيقي فلفظ « كل » مستعمل في الشمول ، كما أنّ كلاً من الرجل والعالم مستعمل في معناه ، وكلّ لفظ يحكي عن مدلوله ، لا عن مدلول الآخر.
    نظير ذلك في المطلق والمقيد ، فإذا قال : أعتق رقبة مؤمنة ، فالرقبة مستعمل في نفس معناها المجرد عن كلّ خصوصية ، أعني : الإيمان ، وإنّما دلّ على شرطية الإيمان ومدخليته في المكلّف به ، هو لفظ « مؤمنة » فلكلّ لفظ رسالة خاصة يؤدّيها ، دون أن يتدخل واحد منه في رسالة الآخر.
    ويكفي في ثبوت ذلك ، ملاحظة المحاورات الدارجة بيننا والقيود اللاحقة للعمومات والمطلقات في كلماتنا ، فإذا قلنا : تجب الصلاة على كلّ إنسان بالغ ، عاقل ، نستعمل كلّ لفظ في مفهومه اللغوي ، دون أن نستعمل الإنسان في الإنسان


(495)
البالغ وهكذا.
    وعلى ضوء ما ذكرنا فلا تخصيص واقعاً ، إذ لم ينعقد للعام ظهور في العموم ، حتّى يخصص ، بل تولد العام من لدن صدوره مخصصاً ومضيقاً ، ولو يوصف بالمخصص ، فإنّما هو لأجل وجود نتيجة التخصيص فيه ، لا نفسه ، نظير قول القائل : « ضيّق فم الركيّة ».
    2. المخصص المنفصل والإرادة الاستعمالية
    ما ذكر من البيان يرجع إلى المخصص المتصل ، وأمّا المخصص المنفصل كما إذا قال : أكرم العلماء ، وقال بعد فترة : لا تكرم فسّاق العلماء ، فهذا أيضاً لا يوجب مجازية العام ، أي استعمال العلماء في المثال الأوّل في العلماءغير الفسّاق ، بل العام فيه استعمل في نفس معناه اللغوي الوسيع ، بالإرادة الاستعمالية ، وإن كانت الإرادة الجدية متعلّقة بالعلماء غير الفساق ، وملاك الحقيقة والمجاز هي الإرادة الأُولى دون الثانية. وإليك توضيحه :
    إنّ للمتكلّم إرادتين :
    1. إرادة استعمالية ، وهي إطلاق اللفظ وإرادة معناه ، سواء أكان هازلاً ، أو غير هازل ، مختبراً بكلامه مدى استعداد المخاطب لامتثال أمره ، أو غير مختبر ، مجداً في طلب المأمور به أو غير مجد.
    ففي مورد الهازل والمختبر ، توجد الإرادة الاستعمالية دون الجدية ، بخلاف المتكلّم لا عن هزل ولا عن اختبار ، فالإرادة الاستعمالية ترافق الجدية.
    كلّ هذا يدلّ على وجود الإرادتين ، فتارة يتفارقان كما في الهازل والمختبر ، وأُخرى يرافقان كما في الأوامر الجدية.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس