إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 496 ـ 510
(496)
    بل ربما تتعلّق الإرادة الاستعمالية بشيء والجدية بشيء آخر ، فإذا قلت فلان كثير الرماد ، فالاستعمالية تعلّقت بالمعنى اللغوي ـ وهو كثرة الرماد ـ والجدية تعلّقت بكونه كريماً.
    وعلى ضوء ذلك إذا قال المتكلّم : أكرم العلماء فقد تعلّقت إرادته الاستعمالية بإكرام كلّ العلماء بلا تخصيص ، فلو كانت الإرادة الاستعمالية وفق الجدّية ، لسكت عليه ولم يعقبه بشيء ، ولو كانت الجدية مخالفة معها ، لعقبه بكلام آخر يدلّ على ضيق نطاق الإرادة الجدية ويقول : لا تكرم فسّاق العلماء ، فالكلام يحكي عن ضيق الإرادة الجدية ، ولكنّها ليست ملاك الحقيقة والمجاز ، بل ملاكهما هو الإرادة الاستعمالية المتعلّقة بكلّ العلماء.
    فإن قلت : إذا كانت الإرادة الجدية مضيقة من حيث التعلّق ، فلماذا تتعلّق الاستعمالية بالأوسع منه ، أو ليس الأولى أن تتعلّق هي أيضاً بنفس ما تعلّقت به الإرادة الجدية.
    قلت : إنّ الغاية من التفريق بين متعلق الإرادتين هو ضرب القاعدة في الموارد المشكوكة ، ليتمسك الشاك بها ويحتج على عدم خروج المشكوك عن تحت العام ، باستعمال العام في معناه اللغوي.
    توضيحه : انّه إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق العلماء ، وشككنا في خروج قسم آخر ـ كالنحاة ـ منهم عن تحت العام ، فلو كان العام مستعملاً في غير معناه اللغوي لا يمكن التمسّك بالعام على عدم خروج هذا عن تحت العام لتعدّد المجازات حسب تعدد الخصوصيات ، بخلاف ما إن كان مستعملاً في معناه اللغوي ، فعند ذلك يأتي دور الأصل العقلائي ، أعني : أصالة تطابق الإرادتين ، إلا ما خرج بالدليل ، ففي مورد الفسّاق قام الدليل على المخالفة


(497)
وأمّا في غيره فأصالة التطابق هو المرجع.
    وإلى ذلك المعنى أشار المحقّق الخراساني بقوله : « قاعدة ».
    مخالف للظهور أو مخالف للحجّية
    وبما ذكرنا ظهر انّ المخصص المتصل لاقترانه بالعام يمنع عن انعقاد ظهور الكلام في العموم ، لأنّ الأخذ بالظهور إنّما يتمّ إذا فرغ المتكلّم عن كلامه ، فمادام هو يتكلّم فله أن يُلحق بكلامه من القيود ما شاء ، وعليه إذا قال : أكرم كلّ رجل فهو وإن كان ظاهراً في العموم نتيجة استعماله فيه بالإرادة الاستعمالية لكنّه ظهور بدوي غير مستقر ، ولا يستقر إلا بفراغ المتكلّم عن كلامه والمفروض انّه أتى بالقيد في كلامه بلا فصل ، وهذا ما يقال انّ المخصص المتصل يزاحم ظهور العام فيه ومعه لا تصل النوبة إلى الحجّية ، لأنّها فرع انعقاد الظهور والمفروض انّه لم ينعقد إلا في الخصوص ، وفي الحقيقة لاتخصيص فيه.
    هذا بخلاف المخصّص المنفصل ، فانّ المفروض انّ المتكلّم فرغ من كلامه ولم يأت بمخصّص فانعقد لكلامه الظهور في العموم ، وظهوره في العموم حجّة ما لم يدلّ دليل أقوى على خلافه ، فإذا قال بعد يومين : لا تكرم فسّاق العلماء ، يقدّم الثاني ، على حجّية العام في العموم لكونه أظهر من الأوّل ، وهذا ما يقال من أنّ المخصص المنفصل يزاحم حجّية العام في العموم ، لا ظهوره فيه ، وذلك لانّ الفصل بين العام والمخصص صار سبباً لانعقاد الظهور للعام في العموم ، والمخصص المنفصل لأقوائيته ، يتصرف في حجّية ظهور العام فيه لا في أصل الظهور.
    فخرجنا بالنتيجة التالية :


(498)
    إنّ العام المخصّص بالمتصل ينعقد ظهوره من أوّل الأمر في الخصوص ، أي العنوان المركّب « العلماء العدول » فلا تخصيص فيه حقيقة ، وأمّا المنفصل ، فلأجل انفصال المخصّص ينعقد ظهور الكلام في العموم ، ومجيء المخصص المنفصل لا يهدم ظهوره في العموم ، وإنّما يهدم حجّيته في مورد المخصص فترفع اليدُ عن حجّية الظهور في مورده.


(499)
    الفصل الثالث
العام المخصص حجّة في الباقي
    هل العام المخصص حجّة في الباقي ، سواء أكان متّصلاً كما إذا قال : أكرم العلماء العدول ، أم منفصلاً كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال بعد فترة قبل العمل بالعام : لا تكرم فسّاق العلماء ، فإذا شكّ في خروج غير الفسّاق من العلماء ، كخروج النحاة والصرفيين والعروضيين العدول ، فهل يكون العام حجّة في حقّهم فيجب إكرامهم إلى أن يعلم الخلاف ؟ أو يتوقّف فيها ويكون المرجع ، الأُصول العملية ـ إذا لم يكن دليل اجتهادي ـ غير العام ؟
    فيه خلاف والمشهور هو الحجية وربما نسب إلى أهل السنّة عدم الحجّية وربما يفصل بين المتصل والمنفصل بحجّيته في الأوّل دون الثاني.
    ثمّ إنّ الفرد الذي يتمسّك فيه بالعام تارة تكون فيه الشبهة حكمية وأُخـرى موضوعية ، أمّا الأُولى فكما مثلنا فإذا احتملنا خروج النحوي العادل أيضاً عن تحـت العام كالفاسق ، فهل العام حجّة في حقّه أو لا ؟ وهذا ما عبر عنه المحقّق الخراسـاني بقوله :


(500)
« فيما علم عدم دخوله في المخصص » وأمّا الثانية فكما إذا علمنا أنّ زيـداً عالم ولكن نشك في أنّه فاسق أو لا ، فهل يجوز التمسّك فيه بالعام أو لا ؟ وهـذا ما يعبـّر عنـه بالشبهة المصداقيـة للمخصص ، وسيوافيك الكلام فيـه في الفصل القـادم ، لا في هذا الفصل ، وإليه يشير المحقّق الخراساني بقوله : « وما احتمل دخوله فيه أيضاً ».
    ولا يخفى انّ الإشارة إلى هذا القسم في أوّل الفصل مع أنّه راجع إلى الفصل الآتي يوجب تشويش الذهن ، والمعروف عدم حجّية العام في الشبهة المصداقية للمخصص مطلقاً ، سواء أكان المخصص متصلاً أو منفصلاً. والأولى التركيز على القسم الأوّل وإرجاع البحث في الثانية إلى الفصل القادم.
    دليل القائل بعدم حجّية العام في الباقي
    استدلّ المخالف بعدم الحجّية بأنّ العام المخصص مستعمل في غير ما وضع له ، وبما انّ للمعنى المجازي مراتب مختلفة حسب مراتب الخصوصيات ، يكون تعيين الباقي ( عامة الأفراد سوى المخصّص ) ترجيحاً بلا مرجّح.
    وقد أُجيب عن الاستدلال بوجوه نأتي بها :
    1. انّ الباقي أقرب المجازات ، فإذا تعدّدت الحقيقة فأقرب المجازات أولى.
    يلاحظ عليه : بأنّ المراد من الأقربية هي الأقربية من حيث أُنس الذهن به لا الأقربية من حيث العدد والكثرة ، فإذا قيل : رأيت أسداً في الحمام ، وامتنعت الحقيقة ودار أمر اللفظ بين حمله على الرجل الشجاع أو الرجل الأبخر ( الرجل الذي في فمه رائحة كريهة كما هو الحال كذلك في الأسد ) ، يحمل على الأوّل ، لكثرة أُنس الذهن به في المحاورات دون الثاني ، ولذلك يقول الشاعر :
    أسد عليّ وفي الحروب نعامة
    2. ما ذكره الشيخ الأنصاري بعد تسليم مبنى المستدل ، ـ التخصيص يوجب المجازية ـ وحاصله : انّ دلالة العام في كلّ فرد من أفراده ، غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ، ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي بواسطة عدم


(501)
شموله للافراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضى للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لأنّ المانع في مثل العام إنّما هو يوجب صرف اللفظ عن مدلوله والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره فلو شكّ فالأصل عدمه.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :
    أ. حمله على الباقي ترجيح بلا مرجّح
    إذا كانت دلالة العام على كلّ فرد ، ضمن دلالته على العموم والشمول ، فإذا لم يستعمل فيه واستعمل في غيره وكان الغير ذا مراتب مختلفة ، وإرادة كلّ مرتبة أمراً ممكناً محتملاً ، فحمله على مرتبة خاصة ( الباقي كلّه ) يكون ترجيحاً بلا مرجّح.
    ب. فقد المقتضي للحمل
    إنّ ظهور العام المخصص في الباقي رهن أحد أمرين أمّا الوضع أو القرينة ، والمفروض انتفاء الأوّل لافتراض انّه ليس بموضوع للباقي ، كما أنّ الثانية أيضاً كذلك ودلالته على كلّ فرد على حدة في ضمن دلالته على العموم لا يوجب بقاء الدلالة مع انتفاء الثانية ، فانّ الدلالة التبعية فرع بقاء الدلالة الأصلية ، فإذا انتفت الثانية ، انتفت الأُولى وعلى هذا فلا مقتضي للحمل على الباقي فقوله : « لو شكّ فالأصل عدمه » صحيح لكنّه إذا كان هنا مقتض للدلالة ، وقد عرفت عدمه.
    وقد قام المحقّق النائيني بالدفاع عن مقالة الشيخ حيث قال : إنّ هناك دلالات عرضية فإذا سقطت إحداها عن الحجّية بقيت غيرها من الدلالات على حجّيتها ضرورة أنّه إذا لم تكن دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد ، دخيلة في دلالته


(502)
على ثبوته لفرد آخر ، لم يكن خروج فرد ما عن الحكم ، منافياً لبقاء دلالته على حكم الفرد الآخر ، فخروج بعض الأفراد إذا استلزم المجاز ، لا يوجب ارتفاعَ دلالته على ثبوت الحكم لبقية الأفراد التي لا يعمّها المخصِّص. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّه ماذا يريد من الدلالات العرضية ؟ هل يريد منها ، الدلالات العرضية المستلزمة للأوضاع المستقلّة كالمشترك اللفظي ؟ فهو غير صحيح جدّاً ولا يلتزم به القائل ، إذ ليس لفظ العام موضوعاً بأوضاع متعدّدة.
    وإن أراد الدلالات العرضية الضمنية ، في ضمن دلالة لفظ العام على الكل ، ففيه انّه إذا سقطت الدلالة الثانية لأجل كون العام مستعملاً في غير معنى الكلّ حسب الفرض ، تبطل الدلالات التبعية.
    إلى هنا تبيّن انّ الجوابين عن استدلال الخصم ، غير ناهضين لقلعه.
    3. إجابة المحقّق الخراساني عن الاستدلال
    انّ المحقّق الخراساني استعان في رد الدليل بما أسّسه في الفصل السابق ، من إنكار المجازية في العام المخصص ، لا في متصله ولا في منفصله.
    أمّا الأوّل : فلما عرفت من حديث تعدد الدالّ والمدلول وأنّ كلّ لفظ من ألفاظ « أكرم كلّ عالم عادل » في معناه لا أنّ لفظ « كل » استعمل في مجموع المعنى ، وعلى ضوء هذا فالعام حجّة في الخصوص ـ حسب تعبير الكفاية ـ والمراد من الخصوص أي العنوان المركب فكلّ من صدق عليه عالم عادل وإن كان نحوياً أو عروضياً أو لغوياً يجب إكرامه بحجّة هذا الدليل. ولا يعتدّ بالشكّ في النحوي العادل بعد شمول عنوان العام له.
1. أجود التقريرات : 1/452.

(503)
    وأمّا المنفصل فلما عرفت من حديث تعدد الإرادتين وأنّ العام استعمل حسب الإرادة الاستعمالية أو التفهيمية في معناه العام ثمّ أخرج عنه بعد فترة ما لم تتعلّق به الإرادة الجدية وقيل لا تكرم العالم الفاسق ، فالمخصص باعتبار انفصاله عن العام لا يزاحم ظهور العام ، بل يبقى ظهوره بحاله وإنّما يزاحم حجيّة العام لكن في مورده الخاص وهو الفسّاق ، وأمّا في غير هذا المورد فالظهور حجّة يجب الأخذ به في عامة الموارد غير الفسّاق. وذلك ببركة الأصل العقلائي وهو تطابق الإرادة الاستعمالية التي يحكي عنها ظهور العام مع الإرادة الجدية إلا ما خرج بالدليل ، فهذا الأصل السائد بين العقلاء يبعثنا على الأخذ بالظهور في كلّ مقام لم يكن قرينة على خلافه.
    فإن قلت : إنّ الإرادة الاستعمالية إنّما تكون حجّة إذا لم ينكشف خلافها ، ومع قيام الدليل الخاص ، الكاشف عن عدم تطابقهما لا اعتبار بهذه الإرادة.
    قلت : إنّ الأصل العقلائي بمعنى أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجديّة ، جار في كلّ واحد واحد من أفراد العموم التي تعلّق بها الحكم ، وليس هنا أصل واحد حتى يكون الوقوف على عدم تطابقهما في مورد أو صنف ، مانعاً عن جريانها فهناك حسب الأفراد والآحاد أُصول يدل على تطابقهما ولأجل ذلك ترى العقلاء لا يشكّون في حجّية العام في الباقي وإن عُلم خروج فرد أو صنف.
    وحاصل الكلام : انّ المخصّص المتّصل يُزاحم ظهورَ انعقاد الظهور في العموم ، ولذلك قلنا بكونه حجّة في الخصوص أي العنوان المركّب ، وأمّا المخصص المنفصل فلأجل انفصاله زماناً لا يبطل ظهور العام ، بل هو باق في


(504)
ظهوره لكنّه يبطل حجّية العام في مورد الخاص ترجيحاً للأظهر على الظاهر أو النصّ على الأظهر فإذا كان الظهور غير منثلم ، الكاشف عن وجود الإرادة الاستعمالية فالأصل الثابت بين العقلاء تطابق الإرادتين إلا ما خرج بالدليل. وتكون نتيجته هو حجّية الظهور في كلّ موضوع شكّ في خروجه عن تحت العام.


(505)
    الفصل الرابع
في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً
    إذا كان المخصّص مجملاً في مورد ، فهل يكون ذلك مانعاً عن حجّية العام في نفس ذلك المورد أيضاً أو لا ؟ وبعبارة أُخرى إذا كان إجمال المخصص مانعاً عن التمسّك به في مورد ، فهل يكون ذلك مانعاً عن حجّية العام فيه أيضاً أو لا ؟ وأمّا حجّية العام في غير ذلك المورد أو حجّية الخاص في مصداقه القطعي فلا كلام فيها ، وليست مطروحة في المقام.
    مثلاً إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال بعد فترة : لا تكرم فسّاق العلماء ، وتردد مفهوم الفسق بين خصوص مرتكب الكبيرة فقط ، أو الأعمّ منها ومن الصغيرة ، فإجمال المخصص مانع عن كونه حجّة في مورد مرتكب الصغيرة ، وهل إجماله يمنع عن حجّية العام في مورده ، حتّى تصل النوبة إلى الأُصول العملية ، أو لا يكون مانعاً عنه ، فيحتجّ في مورد مرتكب الصغيرة بالعام ويحكم بوجوب إكرامه.
    هذا هو محور البحث في المقام ، وما اخترناه في العنوان يناسب ما هو المقصود من عقد هذا الفصل.
    وفي كلمات القوم عنوانان آخران :
    1. في سراية إجمال المخصص إلى العام وعدمها.


(506)
    2. التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية للمخصص.
    وأمّا صور المسألة فلا تتجاوز عن أربع ، لأنّ المخصص إمّا متّصل أو منفصل ، وإجمال المخصص تارة يستند إلى دورانه بين الأقلّ والأكثر ، أو بين المتبائنين ، وإليك رؤوس الصور على وجه التفصيل :
    1. المخصص المتّصل ودوران الأمر بين الأقل والأكثر.
    2. المخصّص المنفصل ودوران الأمر بين الأقل والأكثر.
    3. المخصّص المتصل ودوران الأمر بين المتبائنين.
    4. المخصّص المنفصل ودوران الأمر بين المتبائنين.
    وليعلم أنّ المخصص المجمل تارة يكون لفظياً وأُخرى لبيّاً ، كما أنّ إجماله تارة يكون في المفهوم وأُخرى في المصداق ، والبحث في المقام مركّز على المخصص اللفظي ـ دون اللّبي ـ وعلى المفهومي ، دون المصداقي.
    أمّا اللبي فلم يبحث عنه المحقّق الخراساني.
    إذا وقفت على رؤوس الصور فلنذكر أحكامه :
    1. المخصص اللفظي المتصل الدائر بين الأقلّ والأكثر
    إذا كان المخصص اللفظي متصلاً بالعام ودار أمره بين الأقل والأكثر كما إذا قال : « أكرم العلماء غير الفسّاق » فيسري إجمال المخصِّص إلى العام ، ولا يحتجّ به في مورد الشكّ ( مرتكب الصغيرة ) واستدلّ عليه المحقّق الخراساني بقوله : « فلعدم انعقاد الظهور للعام أصلاً ، لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لكلّ واحد من الأقل والأكثر ». (1)
1. الكفاية : 1/329.

(507)
    تفصيله هو ما مرّ في الفصل الماضي من أنّ المخصص المتّصل ، يعارض ظهور العام ، فلا ينعقد له ظهور في العموم ، حتّى يتمسك به في مورد الشكّ ( أعني : مرتكب الصغيرة ) بل ينعقد ظهوره في الخصوص ، أي العنوان المركب ، أي : « العلماء غير الفسّاق » ، فكما يجب في مقام الاحتجاج إحراز كونه عالماً ، هكذا يجب إحراز كونه غير فاسق ، والمفروض انّه غير محرز ، لإجمال مفهوم الفاسق وتردده بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فعلى الأوّل فهو من مصاديق غير الفسّاق ، دون الثاني ، ومعه كيف يمكن أن يتمسّك بالدليل الذي لم يحرز موضوعه ؟
    فإن قلت : إنّما يصحّ هذا إذا كان المخصّص بلسان الوصف كالمثال الماضي ، وأمّا إذا كان بلسان الاستثناء كما إذا قال : أكرم العلماء إلا الفساق منهم ، فالموضوع هو العالم ، والمفروض انّه محرز بعامة أجزائه.
    قلت : إنّ الموضوع وإن كان هو العلماء ، لكن الاستثناء جعل العام حجّة في غير مورد الفسّاق ، فالعام حسب الموضوع وإن كان محرزاً ، لكنّه بما هو حجّة فيه غير محرز.
    وبعبارة أُخرى : الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية وإن كان محرزاً ، لكنّه حسب الإرادة الجدية غير محرز لتعلّقها بشهادة الاستثناء ، بغير الفسّاق من العلماء ، وإنّما يحتجّ بالإرادة الاستعمالية إذا أحرزت مطابقتها مع الإرادة الجدية ، لكنّها بعدُ غير محرزة ، إذ لو كان مرتكب الصغيرة غير معدود من الفسّاق فالتطابق في مورد مرتكب الصغيرة محقّق محرز ، دونما إذا كان معدوداً منهم.
    2. المخصص اللفظي المنفصل الدائر بين الأقل والأكثر
    إذا كان المخصص اللفظي ، منفصلاً عن العام ، بحيث لا يزاحم ـ لأجل


(508)
انفصاله ـ انعقادَ ظهوره في العموم ، وإنّما يزاحم حجّيته فيه كما مرّ ، ودار أمـره بين الأقل والأكثر ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال بعـد فترة : « لا تكرم فسّاق العلماء » فهل يسري إجماله إلى العام أو لا ؟ ذهب المحقّق الخراسـاني وتبعه السيّد الأُستاذ ـ قدّس سرّهما ـ إلى عدم سرايته إلى العام ، وأنّ العـام يكون حجّة في مورد الشكّ ، كمرتكب الصغيرة ، والفرق بينه وبين المتّصـل حيث قلنا بعدم حجّية العام فيه هو انعقاد ظهور اللفظ في العموم وبالتالي شموله لكلّ فرد حتّى مرتكب الصغيرة ، هذا من جانب ومن جانب آخر الأصـل تطابق الإرادة الاستعمالية التي يحكي عنها الظهور في مورد مرتكب الصغيرة مع الإرادة الجدية فيكون العام حجّة في الفرد المشكوك ، وأمّا المخصص اللفظي المنفصل فهو وإن كان حجّة قطعية في مورد الكبيرة ، لكنّه في مورد الصغيرة مشكوك الحجيّة ، فلا يجوز رفع اليد عن الحجّة القطعيّة بالحجّة المشكوكة.
    وإلى هذا الدليل يشير المحقّق الخراساني بقوله :
    « إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملاً بأن كان دائراً بين الأقل والأكثر وكان منفصلاً فلا يسري إجماله إلى العام لا حقيقة ولا حكماً ، بل كان العام متبعاً فيما لا يُتبع فيه الخاص ، لوضوح انّه حجّة فيه بلا مزاحم أصلاً ضرورة انّ الخاص إنّما يزاحمه فيما هو حجّة على خلافه تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر لا فيمالا يكون كذلك ». (1)
    وقال السيد الأُستاذ ( قدس سره ) : ولا يقاس ذلك بالمتصل المردد بين الأقل والأكثر ، إذ لم ينعقد للعام هناك ظهور قط إلا في المعنون بالعنوان المجمل ومرتكب الصغيرة
1. كفاية الأُصول : 1/339.

(509)
مشكوك الدخول في العام هناك من أوّل الأمر ، بخلافه هنا فانّ ظهور العام يشمله قطعاً.
    والذي يدلّ على ذلك أنّه لو كان المخصّص المنفصل المجمل حكماً ابتدائياً من دون أن يسبقه العام لما كان حجّة إلا المقدار المتيقّن دون المشكوك فكيف مع ظهور العام. (1)
    أقول : إنّ ما أسّسه المحقّق الخراساني ( قدس سره ) ، من أنّ المخصّص المنفصل لا يهدم ظهور العام ولا يعارضه فهو حجّة إلى أن يثبت خلافه ، صحيح فيما إذا شكّ في أصل التخصيص أو في التخصيص الزائد ، كما إذا شكّ في تخصيصه وراء الفسّاق ، بالنحاة أيضاً.
    وأمّا إذا شكّ في سعة المخصّص القطعي وضيقه ، فالظهور المنعقد للعام لا يحتجّ به كما هو الحال كذلك في جانب المخصص المجمل الدائر بين الأقلّ والأكثر.
    توضيحه : انّ الاحتجاج بالعام في مورد الصغيرة يعتمد على أحد أمرين :
    1. الظهور في العموم.
    2. تطابق الإرادة الاستعمالية في موردها مع الإرادة الجدية.
    وكلاهما لا ينجعان.
    أمّا الأوّل ، فلأنّ الاحتجاج به لأجل كشفه عن الإرادة الجدّية ، وإلا فالظهور بما هو ظهور ، ليس بحجّة ، وعندئذ فلو شكّ في أصل التخصيص ، كما إذا شكّ في ورود تخصيص ثان على العام ، كعدم إكرام النحاة ، فيحتجّ بعموم العام وظهوره في
1. تهذيب الأُصول : 1/473.

(510)
الشمول كشفه عن وجود الإرادة الجدية في مورد النحاة.
    وأمّا إذا كان التخصيص قطعياً وكان الشكّ في سعته وضيقه ـ كما في المقام ـ حيث شكّ في شمول « الفسّاق » لمرتكب الصغيرة وعدمه ، ففي مثله لا يحتجّ بالظهور المنعقد للعام في العموم ، لأنّه إنّما يحتجّ به إذا كان كاشفاً عن الإرادة الجدية ، وقد علم خلافه ـ بعد ورود المخصص ـ حيث إنّ المخصص كشف عن تعلّق الإرادة الجدية ، بغير الفسّاق ، والظهور كشف عن تعلّقها بمطلق العلماء ومع هذه المخالفة لا يحتج بالظهور المنهار.
    نعم لو شكّ في تخصيص زائد ـ وراء الموجود ـ يحتجّ به ، لأنّ سقوط ظهوره في مورد ( الفسّاق ) لا يصير دليلاً على سقوطه في مورد آخر لا صلة بينهما ، كما في مورد النحاة.
    وأمّا الثاني ، أعني : الاحتجاج بأصالة التطابق في الإرادتين ، فهو أيضاً كالاحتجاج بالظهور ، لأنّها ليست أصلاً تعبدياً ، بل أصلاً عقلائياً كاشفاً عن وجود الإرادة الجدية ، في كلّ مورد تعلّقت به الإرادة الاستعمالية ومع صدور المخصص المنفصل ، وتطرق الشك في دخول الصغيرة تحت العام أو المخصص به فلا يصلح الأصل المزبور ، للاحتجاج لزوال الوثوق بعموم العام خصوصاً عدم استلزام الخروج عن تحت العام ، تخصيصاً آخر ، بل هنا تخصّص واحد ، كانت الصغيرة باقية تحته أو خارجة.
    وبهذا البيان عدل شيخنا الأُستاذ ( مد ظلّه ) عمّا بنى عليه في الدورات السابقة حيث استقرّ نظره أخيراً على أنّ إجمال المخصص المنفصل يسري إلى العام حكماً.
    وممّا ذكرنا يظهر عدم تمامية ما أفاده السيّد الأُستاذ من أنّه لو كان
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس