إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 601 ـ 615
(601)
العام لكن بالإرادة الاستعمالية. فإذا علم من الخارج عدم مطابقة الإرادة الاستعمالية مع الجدية في ناحية الضمير تُخصّص الإرادة الجدية في مورد الضمير من دون أي محذور. ولا يلزم من ذلك تخصيص المرجع أبداً ، وذلك لأنّه لو كان مستعملاً في الخاص لكان للتوهم المذكور مجال ، وأمّا إذا كان مستعملاً في العموم كالمرجع بالإرادة الاستعمالية ولكن قام الدليل على عدم شمول الحكم لعامة أفراد المرجع ، فمثل هذا لا يكون دليلاً على التصرف في العام ، بل العام قائم على ظهوره حتّى يثبت الخصوص.
    والحاصل : انّه لو كان الضمير مستعملاً بالإرادة الاستعمالية في بعض المرجع لكان للتوهم المذكور مجال ، وأمّا إذا استعمل في نفس المعنى الذي استعمل فيه لفظ العام ـ وإن علم بدليل خارجي مخالفة الجد مع المراد استعمالاً ـ فلا يصير سبباً لتخصص العام ، لا استعمالاً ولا جداً.
    وبذلك يعلم أنّ ما اختاره المحقّق الخراساني من طروء الإجمال على الكلام ليس بتام ، إذ ليس شيئاً صالحاً للقرينية إلا استعمال الضمير في بعض مفاد المرجع والمفروض انتفاؤه.


(602)
    الفصل الثاني عشر
في تخصيص العام بالمفهوم
    وقبل الدخول في الموضوع نقدّم أُموراً :
    الأوّل : انّ الغاية من عقد هذا الفصل هو دفع توهم انّ دلالة العام منطوقية ، ودلالة المفهوم غير منطوقية ، والأُولى أقوى من الثانية ، فلا يخصص الأقوى بالأضعف ، من غير فرق بين أن يكون المفهوم ، مفهومَ موافقة أو مفهوم مخالفة.
    فلدفع هذا التوهم عقد الأُصوليون هذا الفصل قائلين بأنّ كون الدلالة مفهومية لا يكون سبباً لضعفها ، بل ربما تكون دلالة المفهوم أقوى من دلالة المنطوق.
    الثاني : انّ النزاع في هذا الفصل كبروي لا صغروي بمعنى انّ هنا عاماً ومفهوماً قطعيين ولا شكّ في وجودهما إنّما الكلام في أنّه هل يقدّم العام على المفهوم لتكون النتيجةُ الغاءَ المفهوم رأساً أو يُقدّم المفهوم على العام حتّى ينتهي الأمر إلى تخصيصه.
    هذا هو نطاق البحث ومحوره.
    الثالث : لمفهوم الموافقة إطلاقات نأتي بها :


(603)
    1. إلغاء الخصوصية وإسراء الحكم لفاقدها ، كقول زرارة : أصاب ثوبي دم رعاف. (1)
    وقول القائل : رجل شكّ بين الثلاث والأربع. فالموضوع في نظر العرف في الأوّل هو الدم لا دم رعاف ولا دم زرارة ، وفي الثاني هو الشكّ لا شكّ الرجل.
    2. المعنى الكنائي الذي سيق لأجله الكلام مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق ، نظير قوله سبحانه : ( فلا تَقُلْ لَهُما أُفّ ولا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) (2) بناء على عدم حرمة التأفيف وانّ الحرام هو مفهومه الموافق ، أي الضرب والشتم.
    3. تلك الصورة ولكن المنطوق محكوم بحكم المفهوم أيضاً ، كالآية المتقدّمة بناء على حرمة التأفيف.
    4. الأولوية القطعية ، فإذا قال : لا تأكل ذبيحة الكتابي فيدلّ بالأولوية القطعية على حرمة ذبيحة المشرك.
    5. الحكم المستفاد من العلّة المنصوصة ، كما إذا قال : الخمر حرام لأنّه مسكر ، فيفهم منه حرمة كلّ مسكر.
    وبما انّ المفهوم هو الحكم غير المذكور لموضوع مذكور الحكم في هذه الموارد غير مذكور وإنّما يفهم بإحدى الطرق الخمسة ، أطلق المفهوم على الجميع ، وبما انّ حكمه موافق مع الحكم الوارد في المنطوق وُصِفَ بالموافقـة.
    إذا عرفت هذه الأُمور فنقول : يقع الكلام في مقامين :
1. الوسائل : 2 ، الباب 41 من أبواب النجاسات ، الحديث 1.
2. الإسراء : 23.


(604)
    الأوّل : تخصيص العام بالمفهوم الموافق
    إذا كان في مورد عام ومفهوم موافق ، فهل يقدّم العام على المفهوم ويلغى الثاني ، أو يقدّم المفهوم على العام ويخصص الثاني ؟ مقتضى القواعد هو التخصيص لا الإلغاء ، لأنّ كلاً منها دليل شرعي يجب إعماله حسب ما أمكن عرفاً ؛ ففي الأوّل إلغاء للحجة الشرعية من رأس ، وفي الثاني إعمال لهما ، ويقدّم الثاني على الأوّل.
    وأيضاً لو كان مكان المفهوم دلالة منطوقية كانت مقدّمة على العام ومخصّصة له ، فهكذا الدلالة المفهومية إذ لانتقص الثانية عن الأُولى وليس إحداهما أقوى من الأُخرى ، بل ربما يكون المفهوم أقوى ولا يُساق الكلام إلا لإفهامه.
    نعم ربما يشترط كون المفهوم أخص مطلقاً لا عموماً من وجه وهو شرط زائد ، لأنّه ليس من شرائط كون المفهوم مخصصاً ، بل هو من شرائط كلّ مخصص ، سواء أكان لفظياً أو مفهومياً.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ادّعى الاتّفاق في تخصيص العام بالمفهوم الموافق ، وعلّله السيد الحكيم ( قدس سره ) في تعليقته على الكفاية بأنّ إلغاء المفهوم الموافق ينتهي إلى إلغاء المنطوق أيضاً ، وذلك لاشتراكها في الحكم ، بل ربما يكون ثبوت الحكم في المفهوم أقوى من ثبوته في المنطوق ، فإذا ألغى الحكم في جانب المفهوم يصبح الإلغاء في جانب المنطوق أولى.
    يلاحظ على ما ذكره المحقّق الخراساني بعدم وجود الاتفاق ، وهذا هو الشارح العضدي يظهر منه كون المسألة غير اتفاقية حيث قال : الأظهر هو التخصيص به. (1)
1. شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 275.

(605)
    وأمّا ما ذكره السيد الحكيم في شرحه على الكفاية فلا يتمّ في عامة الصور لما عرفت من أنّ الأولوية القطعية أحد الموارد التي يستعمل فيها مفهوم الموافقة ، وأمّا الموارد الباقية فربما لا يكون الحكم في المفهوم أولى من المنطوق ، كما إذا قال : الخمر حرام لأنّه مسكر ، فإسراء الحكم إلى النبيذ والفقاع من باب مفهوم الموافقة مع أنّ الحكم فيه ليس بأولى من المنطوق ، فلا يلزم من العمل بالعام في مقابل المفهوم ، طرح المنطوق.
    المقام الثاني : التخصيص بمفهوم المخالفة
    إذا كان هناك عام ومفهوم مخالف ، فهل يجوز تخصيص العام بمفهوم المخالفة أو لا ؟ فيه أقوال :
    1. جواز التخصيص مطلقاً.
    2. عدم جوازه كذلك.
    3. التفصيل بين استفادة المفهوم من لفظة « إنّما » ، فيقدم على العام وبين غيره.
    4. ما أفاده المحقّق الخراساني من التفصيل ، وحاصله : انّ العام وماله المفهوم على أقسام ثلاثة :
    أ. ان يردان في كلام واحد.
    ب. أو في كلامين ولكن على نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر إمّا بتخصيص العام ، أو بإلغاء المفهوم ، كما هو الحال في آية النبأ ، وسيوافيك بيانه.
    ج. أو في كلامين ليس بينهما ذلك الارتباط والاتّصال ، كما إذا ورد في كلام


(606)
إمامين ( ولكن يصلح التصرّف في أحدهما بالآخر ) كما هو الحال في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : الماء إذا بلغ كرّاً لم ينجسه شيء ، بالنسبة إلى رواية البزنطي عن الرضا ( عليه السَّلام ) ، أو مرسلة السرائر كما سيوافيك.
    وكل من هذه التقادير على أقسام ثلاثة :
    1. أن يكون كلّ من العموم والمفهوم مستفادين من مقدّمات الحكمة.
    2. أن يكون كلّ منهما مستفادين من الدلالة الوضعية.
    3. أن يكونا مختلفين من غير فرق بين كون العام لفظياً وضعياً والمفهوم إطلاقياً أو بالعكس.
    فعندئذ تصبح الأقسام تسعة باحتساب المختلفين قسماً واحداً.
    ثمّ إنّه ( قدس سره ) قال بطروء الإجمال على كلّ من الدليلين فيما إذا كان كلّ من العموم والمفهوم إطلاقياً أو لفظياً وضعياً ، غاية الأمر لا ينعقد الظهور إذا كانا مستندين إلى الإطلاق وينعقد الظهور ولا يستقر إذا كانا مستندين إلى الدلالة اللفظية الوضعية.
    أمّا عدم انعقاده إذا كان كلّ إطلاقياً ، فلأنّ عدم القرينة من مقدّمات الحكمة ، والمفروض انّ كلّ واحد من العموم والمفهوم يصلح أن يكون قرينة على الآخر بأن يكون المفهوم قرينة على عدم العموم ، والعموم قرينة على عدم المفهوم.
    وأمّا عدم استقرار الظهور فيما إذا كانا مستندين إلى الدلالة اللفظية الوضعية ، فلأنّ دلالة الشيء على العموم أو المفهوم دلالة مطلقة وليست معلّقة ، غاية الأمر عند الاجتماع يكون كلّ مزاحماً للآخر وموجباً لعدم استقرار الظهور ، كما


(607)
هو الحال في كلّ حجّتين شرعيتين بينهما صلة.
    نعم في القسم الثالث ، أعني : إذا كان أحدهما وضعياً والآخر إطلاقياً فالوضعي سواء كان عاماً أو مفهوماً أظهر من الآخر ، فلو كان العام وضعياً يكون دليلاً على إلغاء المفهوم ، بل عدم انعقاده ، ولو كان المفهوم وضعياً والعموم إطلاقياً ، فهو يكشف عن عدم تمامية مقدّمات الحكمة في جانب العموم.
    هذا هو التفصيل الرابع وسيوافيك ضعفه.
    الخامس : ما عن المحقّق النائيني من التفصيل بين كون النسبة بين العام والمفهوم هي العموم وخصوص المطلق فيخصص به العام ، وما إذا كانت النسبة هي العموم من وجه فلا يخصص به العام.
    هذه هي الأقوال في المسألة ، والثلاثة الأخيرة خارجة عن نطاق البحث ، وذلك لما عرفت في الأمر الثاني من الأُمور المذكورة في صدر الفصل انّ محور البحث ونطاقه هو كونه كبروياً لا صغروياً مع أنّه يصبح البحث على القول الثالث والرابع صغروياً.
    أمّا الثالث ، فلأنّ تقديم المفهوم المستفاد من لفظة « إنّما » على العام دون سائر المفاهيم يدلّ على وجود الحجّة ( المفهوم ) في مورد « إنّما » دون القضية الشرطية والوصفيّة ، وقد مرّ انّ البحث كبروي بمعنى انّ الفقيه مذعن بوجود العام والمفهوم قطعاً وإنّما الشكّ في تقديم أيّهما على الآخر.
    وأمّا الرابع ـ أعني : تفصيل المحقّق الخراساني ـ فهو أيضاً خارج عن نطاق البحث ، وذلك لأنّه قال : إذا كان العموم والمفهوم مستفادين من الإطلاق فالظهور غير منعقد ، وإذا كانا مستفادين من الظهور الوضعي فالظهور غير مستقر ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدم الإذعان بوجود العام أو المفهوم


(608)
حيث إنّ مقدمات الحكمة في كلّ تنهار بالآخر ومع عدمها لا يكون هناك إذعان بالعام وبالمفهوم ، ومثله إذا كان كلّ من العموم والمفهوم مستفاداً من الدلالة الوضعية ، فالظهور وإن كان منعقداً لكنّه يكون غير مستقر ، لأنّ كلاً قابل للتصرف في الآخر ، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدلّ على كون الشكّ في وجود الصغرى ، وهو خارج عن نطاق النزاع ، ويكون البحث مركّزاً على صورة واحدة وهو أقوائية أحدهما وأضعفية الآخر بأن يكون الأقوى وضعياً والأضعف إطلاقياً.
    وأمّا التفصيل الـذي اختـاره المحقّق النائيني من شرطية كون المفهوم أخصّ مطلق من العام ، فهذا ليس شرطاً في مخصصية المفهوم ، بل هو شرط في مخصصية الخاص سواء أكان مفهوماً أو منطوقاً.
    إلى هنا تبين انّ الأقوال الثلاثة الأخيرة خارجة عن نطاق البحث ، فالأولى أن يركز على شيء واحد وهو انّ كون الدلالة مفهومية هل يوجب الأضعفية وان الدلالة المنطوقية توجب الأقوائية أو لا ؟ وقد عرفت عدم الفرق بينهما ، بل ربما يكون المفهوم أقوى من الآخر ، ولذلك لامانع من تخصيص العام بالمفهوم إذا حاز سائر الشرائط ، فالقول الأوّل هو المختار.
    نظرية المحقّق البروجردي في المقام
    ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي قال : يتقدّم المفهوم على العام لأجل انّ التعارض يرجع إلى اختلاف المطلق والمقيد ، فإنّ قوله في العام : « خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غيّر لونه وطعمه أو رائحته » يعطي أنّ تمام الموضوع لعدم الانفعال هو الماء ، ولكن قوله : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء » يعطي أنّ الماء بعض الموضوع وأمّا تمام الموضوع للاعتصام فهو الماء بقيد الكرية ، فيقدّم


(609)
ماله المفهوم على العام تقدّم المقيد على المطلق. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره تغيير لعنوان البحث ، إذ ليس البحث في تقديم المقيد على المطلق ، بل في تقدّم المفهوم على العام بما هو هو من غير دخل لعنوان آخر.
    و ربما لا يجري ما ذكره في بعض الموارد ، أي لا يكون هناك حديث عن الإطلاق والتقييد. كما إذا قال : أكرم العلماء ثمّ قال : أكرم فسّاقهم إذا أحسنوا إليك ، فعلى فرض عدم إحسانهم يكون المفهوم عدم وجوب إكرام فسّاقهم فيتعارضان في العالم الفاسق ، فلو قدّم العام يجب إكرامه ، ولو قدّم المفهوم لا يجب ، وليس هناك حديث عن الإطلاق والتقييد. نعم يمكن إرجاع البحث بنوع إلى الإطلاق والتقييد ولكن بتكلّف وتعسّف.
    تطبيقات
    قد عرفت أنّ النزاع في المقام كبروي ، وانّه هل يجوز تخصيص العام بالمفهوم ، مع تسليم وجودهما ، لا صغروي وانّه هل هنا ، مفهوم أو لا ؟
    كما عرفت أنّ الضابطة تقديم المفهوم على العام بحجة انّ فيه الجمع العرفي بين الدليلين لا طرح المفهوم ، ومع ذلك ربّما يكون قوة دلالة العام مانعاً عن التخصيص ، ونأتي بأمثلة :
    1. آية النبأ والتعارض بين المفهوم والتعليل
    قال سبحانه : ( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا انْ تُصِيبُوا
1. نهاية الأُصول : 324.

(610)
قَوْماً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمين ). (1)
    إنّ صدر الآية مشتمل على المفهوم وهو عدم لزوم التبيين إذا جاء العادل بالنبأ ، سواء قلنا بأنّه مقتضى مفهوم الشرط أو الوصف ، لكن الذيل مشتمل على تعليل يعم نبأ العادل والفاسق ، وهو قوله سبحانه : ( ان تصيبُوا قَوماً بجهالة ) ، فلو كانت الجهالة بمعنى عدم العلم القطعي بالواقع فهو مشترك بين نبأ العادل والفاسق ، وقبح إصابة القوم بجهالة ، لا يختص بقوم دون قوم.
    وعند ذاك فقد اختلفت كلمات المتأخرين في تقديم واحد منهما على الآخر لا اختلافاً في الكبرى ، بل اختلافاً في قوة دلالة العام.
    فالشيخ الأعظم ، على تقديم التعليل العام على المفهوم لقوة دلالته لعدم اختصاص قبح الإصابة بمورد دون مورد ، ولكن المحقّق النائيني على العكس ـ أي تقديم المفهوم على العام ـ لأنّ خبر العدل بعد صيرورته حجّة ، يخرج عن كونه إصابة قوم بجهالة ، وتكون القضية المشتملة على المفهوم حاكمة على عموم التعليل. (2)
    يلاحظ عليه : بأنّه مبني على تفسير الجهالة في الآية بمعنى « عدم العلم » فيعمّم ـ عندئذ ـ كلا الخبرين ، وأمّا إذا كان المراد بها ، ضد الحكمة ، فلا يعمّ خبر العادل ، إذ لا يعد العمل بقول الثقة ، أمراً على خلاف الحكمة ، مثل قوله سبحانه : ( انَّهُ مَنْ عَمِلَ سُوءاً بِجهالَة ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيم ). (3)
    كما يرد على المحقّق النائيني أنّ الحكومة أمر قائم بلسان الدليل على نحو
1. الحجرات : 6.
2. فوائد الأُصول : 2/172.
3. الأنعام : 54.


(611)
يعدّ الدليل اللفظي مفسراً للدليل الآخر ، والمفهوم ليس دليلاً لفظياً فيكون فاقداً للسان ، ومعه كيف يكون حاكماً على التعليل.
    ومع ذلك كلّه فمن المحتمل إجمال الكلام ، لورودهما في كلام واحد أو منزلته ، ويصلح كلّ لرفع الآخر ، فالمفهوم صالح لتخصيص العام ، كما انّ العام المتصل الظاهر بصورة التعليل ، صالح لإلغاء المفهوم وإخلاء القضية عنه.
    2. حديث « قدر كرّ » وقوة العام في حديث ابن بزيع
    روى محمد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) وسُئل عن الماء تبول فيه الدوابّ ، وتلغ فيه الكلاب ، ويغتسل فيه الجنب ؟ قال ( عليه السَّلام ) : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء ». (1) فذيل الحديث يشتمل على المفهوم وهو انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ، ينجسه شيء ، والمراد من « شيء » هو عناوين النجاسات.
    وروى محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا ( عليه السَّلام ) قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شيء ، إلا أن يتغير ريحه ، أو طعمه ، فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادة ». (2)
    إنّ قوله : « ماء البئر واسع لا يفسده شيء » ، عام يعمّ القليل من ماء البئر وكثيره ، فهل يصحّ تخصيصه بالمفهوم المستفاد في صحيحة محمد بن مسلم أو لا ؟
    إنّ النسبة بين المفهوم والعام ، هو العموم من وجه ، لأنّ المفهوم أعمّ من حيث كون الموضوع مطلق الماء ، لا ماء البئر ، وأخص من حيث اختصاصه بالماء غير الكرّ ، وحديث البزنطي عام لاشتماله الكرّ وغيره ، وخاص لاختصاصه بماء
1. الوسائل : 1 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 1.
2. الوسائل : 1 ، الباب 14 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 6.


(612)
البئر ويجتمعان في ماء البئر القليل. ومقتضى القاعدة ، هو رفضهما والرجوع إلى دليل ثالث ، ـ ومع ذلك ـ فالذوق الفقهي يأبى ذلك ، ويرجح تقديم العام على المفهوم لقوّة دلالته بالتعليل الوارد في ذيله ، أعني : « لأنّ له مادة » وإلا يلزم لغوية التعليل ، لأنّه لو كان كثيراً لكان عدم الانفعال مستنداً إلى كرّيته لا إلى كونه له مادة ، ولو كان قليلاً ، فإن قلنا بعدم انفعاله ، لنفس العلّة الواردة في الرواية فهو ، وإلا تلزم لغوية التعليل.
    2. حديث « قدر كرّ » ورواية السرائر
    روى ابن إدريس في « السرائر » والمحقّق في « المعتبر » ـ والظاهر منهما انّ الرواية معتبرة ـ انّه ( عليه السَّلام ) قال : « خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء ، إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه ». (1) والنسبة بينه وبين رواية محمّد بن مسلم ، عموم وخصوص مطلق.
    وفي المقام يقدّم المفهوم المستفاد من صحيحة محمد بن مسلم على العام الوارد في هذه الرواية ، لأنّه أخصّ من العام ، والخاص مقدّم على العام.
1. الوسائل : 1 ، الباب 1 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 9.

(613)
    الفصل الثالث عشر
الاستثناء المتعقِّب للجمل
    إذا كان هناك جمل متعدّدة حقيقة أو حكماً وتعقّبها استثناء فهل يرجع الاستثناء إلى الجميع أو إلى الأخيرة ، أولا ظهور له في أحدهما وإن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقناً ؟
    ولعلّ السبب لعقد هذا الفصل هو قوله سبحانه في حقّ القاذف ، قال : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَربَعَة شُهداءَ فاجْلِدُوهُمْ ثَمانينَ جَلْدةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادةً أَبداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُون * إِلاّ الَّذينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصلحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيم ). (1)
    فوقع الكلام في أنّ الاستثناء في قوله سبحانه : ( إِلاّ الّذينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلك ) هل يرجع إلى الحكم الأخير ـ أعني : ( أُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) ـ أو يرجع إلى الجميع ، يعني الأحكام الثلاثة : من الحكم بالجلد وعدم قبول الشهادة والحكم بالفسق ؟
    ثمّ إنّ المراد من « المحصنات » في الآية العفائف ، فانّ تلك اللفظة تطلق تارة ويراد بها إحصان العفة ، فيعم كلّ مرأة عفيفة ، سواء أكانت مجردة أم متزوّجة ،
1. النور : 4 ـ 5.

(614)
وقد تطلق ويراد بها إحصان التزوّج حيث إنّ المتزوّجة تُحْصِن نفسها ، والمراد كما عرفت هو الأوّل ، وذلك لأنّ الميزان في حرمة القذف هو كون المرأة متعفّفة لا متزوّجة ، وإن كان مورد نزول الآية هو المتزوّجة.
    نعم للإحصان في القرآن الكريم إطلاقات.
    فتارة يطلق ويراد منه احصان التزوّج ، كما في قوله : ( والمُحْصناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم ) (1) أي حرّمت عليكم ذوات الأزواج إلا من سُبيت في الحرب منهم.
    وأُخرى : إحصان الحرية ، كقوله سبحانه ( ومَنْ لم يَستَطِعْ مِنْكُم طَولاً أن يَنكِحَ المُحْصَناتِ المؤمِناتِ ). (2) أي الحرائر المؤمنات.
    وثالثة : إحصان التعفّف كما في الآية المتقدّمة ، كقوله سبحانه : ( ولا تُكْرِهُوا فَتياتِكُمْ على البِغاءِ إِن أَردْنَ تَحَصُّناً ) (3) ، أي إذا أردن العفة وصيانة النفس عن الفجور.
    إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّه يقع الكلام في مقامين :
    أحدهما في مقام الثبوت ، والآخر في مقام الإثبات. ويراد من الأوّل إمكان الرجوع إلى الجميع ، ومن الآخر استظهار ظهور الجملة في أيّ واحد منهما. وإليك الكلام فيهما.
    الأوّل : في مقام الثبوت وإمكان الرجوع إلى الجميع
    هل رجوع الاستثناء إلى عامّة الجمل المتقدّمة أمر ممكن أو لا ؟ يظهر من
1. النساء : 24.
2. النساء : 25.
3. النور : 33.


(615)
المحقّق الخراساني أنّ إمكان الرجوع إلى الجميع أمر مسلّم ، غير أنّ الاختلاف في مقام الإثبات ، قال ما هذا حاصله :
    إنّ كلمة الاستثناء وضعت للإخراج بالمعنى الحرفي من غير فرق بين تعدّد المستثنى منه ووحدته ، أو تعدّد المستثنى ووحدته ، فتعدّدهما ووحدتهما غير مؤثر في استعمال كلمة الاستثناء في معناه ، وتعدّد المخرَج منه أو المخرَج لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوماً. (1)
    وذهب سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى امتناع الرجوع إلى الجميع قائلاً : بأنّ معاني الحروف معان فانية ومندكَّة في المستعمل فيه ، فإذا رجع إلى الأخيرة فيندك فيها ومعه كيف يرجع إلى غيرها قال :
    إنّ الحروف آلة للحاظ المعاني الاسمية وفانية فيها ، ولا يمكن فناء واحد في أُمور كثيرة ، ولا يقاس ذلك بالاستثناء المتعدّد ( جاء القوم إلا زيداً وعمراً وبكراً ) ، فانّ حروف العطف فيها رابطة فيُخرَجُ الأوّل بـ « إلا » ويرتبط الثاني به بحرف العطف ، بخلاف الاستثناء الواحد من الجمل الكثيرة ( أكرم العلماء ، وأهن الفساق ، وسلّم على الطلاّب ) فانّه من قبيل استعمال اللفظ الواحد في معاني متعددة. (2)
    وإن شئت قلت : إنّ لحاظ المعنى الحرفي بلحاظ طرفيه ، وحيث إنّ تعدّد الأطراف هنا بتعدّد المستثنى منه صار مرجع استعمال أداة واحدة في الإخراج في جميعها إلى لحاظ حقيقة واحدة ربطية بنحو الاندكاك والفناء في هذا الطرف تارة ، وذاك الطرف أُخرى ، ومقتضى ذلك كون حقيقة
1. كفاية الأُصول : 1/365.
2. لمحات الأُصول : 314.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس