إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 616 ـ 630
(616)
واحدة ربطية بنحو الاندكاك والفناء في هذا الطرف تارة ، وذاك الطرف أُخرى ، ومقتضى ذلك كون حقيقة واحدة ربطية في عين وحدتها ، حقائق ربطية متكثرة وهذا مستحيل. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّها أشبه بالشبهة في مقابل البديهة ، والشاهد عليه ورود الرواية بأنّ القاذف إذا تاب تقبل شهادته ، ومعنى ذلك انّه يرجع إلى الجملة الثانية أيضاً.
    روى قاسم بن سليمان قال : سألت أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) عن الرجل يقذف الرجل فيُجلَد حداً ثمّ يتوب ولا يعلم منه إلا خير ، أتجوز شهادته ؟ قال « نعم. ما يقال عندكم ؟ » قلت : يقولون توبته فيما بينه وبين اللّه ولا تقبل شهادته أبداً. فقال : « بئس ما قالوا ، كان أبي يقول : إذا تاب ولم يُعلم منه إلا خير جازت شهادته ». (2)
    وسواء أصحت الرواية أم لا فهي حجّة من أهل اللسان على إمكان رجوع الاستثناء إلى الجمل المتوسطة ، فلو كان أمراً محالاً لما قال به الإمام ولا أخبر به الراوي بما أنّه من أهل اللسان.
    وأمّا حلّ الشبهة فبوجهين :
    الأوّل : انّ دلالة الحروف دلالة تبعية ، وعندئذ يكون في إفادة الوحدة والكثرة تابعاً لمتعلّقه ، فإن كان المتعلّق واحداً يتحد ، وإن كان كثيراً يتكثّر. والمفروض انّ متعلّقه كثير ، حيث المستثنى منه متعدّد ، والمستثنى قابل للانطباق ، على مصاديق كلّ الجمل المتقدّمة.
    الثاني : انّ الاستثناء وإن كان مستعملاً في الاستثناء المندك لكن رجوعه إلى أكثر من واحد لا يستلزم كون المعنى الربطي الواحد حقائق ربطية متكثرة ، إذ هو في المثال المعروف أكرم العلماء والطلاب والتجار إلا الفساق استعملت في
1. نهاية الأُصول : 326 ـ 327.
2. الوسائل : 18 ، الباب 36 من أبواب الشهادات ، الحديث 3.


(617)
الاستثناء المندك في الفسّاق ، غير أنّ الذي يُصحّح رجوعه إلى أكثر من واحد ليس عروض الكثرة على المعنى الربطي الواحد ، بل لأجل وجود كثرة وسعة في متعلّقه ، أي نفس مفهوم الفسّاق حيث يشمل الفاسق من الطوائف الثلاث ، فلو كان المستثنى قابلاً للإنطباق على أكثر من واحد بالذات ، لسرت الكثرة مجازاً وبالعرض إلى نفس الاستثناء.
    وإن شئت قلت : فرق بين تعلّق المعنى الربطي الواحد ، بكلّ من العلماء والطلاب والتجار ، وتعلّقه بمفهوم واحد قابل للانطباق على أكثر من واحد ، وهو لا يوجب تصرفاً في معنى الاستثناء.
    وبذلك تبين انّ إمكان الرجوع أمر لا سترة عليه. وإليك الكلام في المقام الثاني.
    المقام الثاني : في بيان ما هو ظاهر فيه
    إذا أمكن رجوع الاستثناء إلى الأخير والجميع ، يقع الكلام في استظهار ما هو الظاهر من الأمرين ؟
    ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الكلام يصير مجملاً لا يكون ظاهراً في أحد الأمرين.
    فإن قلت : إنّ رجوعه إلى الأخير أمر متعيّن فلماذا لا يتمسّك بأصالة العموم في غير الأخيرة حتى يكون قوله : ( فَاجْلِدُوهُم ) وقوله : ( وَلا تَقْبلُوا لهم شَهادة أَبداً ) مصونان من التخصيص ؟
    قلت : أصالة العموم حجّة فيما إذا شكّ في أصل التخصيص وفي وجود القرينة ، وأمّا إذا شكّ في قرينية الأمر الموجود كما في المقام فلا يتمسّك بها. حيث إنّ الاستثناء صالح للرجوع إلى الجميع ، واكتناف الكلام بهذا النوع من القرينة التي


(618)
لها الصلاحية للرجوع إلى الجميع يمنع من جريان أصالة العموم في المورد.
    نعم لو قلنا بحجّية أصالة الحقيقة تعبداً لا من باب الظهور والاطمئنان بها ، يكون هو المرجع في غير الأخيرة لكن بشرط أن تكون استفادة العموم بالوضع لا بالإطلاق ، لما عرفت أنّ من مقدّمات الحكمة هو عدم القرينة. وبما انّ الاستثناء صالح للقرينية لعدم العموم لا تجري مقدّمات الحكمة ، فلا يحكم على الجمل بالظهور والعموم ، بالذات حتّى يعرضه الإجمال. (1)
    واعترض عليه المحقّق النائيني بأنّ سقوط أصالة العموم في الجمل السابقة يحتاج إلى دليل مفقود في المقام ، وتوهم كونه من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية غير صحيح ، لأنّ المولى لو أراد تخصيص الجميع ـ ومع ذلك اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد ـ لكان مخلاً. (2)
    يلاحظ عليه : بأنّه تصوّر انّ غرض المولى ينحصر في أحد أمرين :
    الأوّل : إرادة العموم.
    الثاني : إرادة الخصوص.
    فعلى الأوّل يثبت المطلوب في الجمل السابقة ويحكم عليها بأصالة العموم.
    وعلى الثاني يلزم الإخلال بالغرض حيث لم ينصب قرينة على الخصوص فرجوع الاستثناء إلى الكلّ متعيّن.
    بل هناك غرض آخر ربما يتعلّق به غرض المولى وهو الإجمال في الكلام ، والإهمال في البيان ، وعندئذ لا يكون عدم ذكر المخصص ـ مع كونه مراداً ـ مخلاً بالمقصود.
1. الكفاية : 1/365.
2. أجود التقريرات : 1/497.


(619)
    نظرية المحقّق النائيني
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصل في هذا المقام وجعل المحور للاستظهار تكرار عقد الوضع حيث إنّه يكون مانعاً من عود الاستثناء إلى الجمل المتقدمة عليه ، فذكر هنا صوراً ثلاثاً :
    الأُولى : أن يتكرر عقد الوضع في الجملة الأخيرة أيضاً ، كما في الآية المباركة حيث قال في صدرها : ( وَالّذينَ يَرْمُون المُحْصَنات ) وفي ذيلها : ( وَأُولئكَ هُمُ الْفاسِقُون * إِلاّ الذين تابُوا ).
    الثانية : أن يقتصر على ذكر عقد الوضع في صدر الكلام ويحيل الباقي إليه ، كما إذا قال : أكرم العلماء وأطعمهم وأحسن إليهم إلا فسّاقهم ، فعقد الوضع ، أعني : العلماء ، ذكر مرة واحدة في صدر الجمل.
    الثالثة : أن يتكرر عقد الوضع في وسط الجمل المتعدّدة ، كما إذا قال : أكرم العلماء وسلم على الطلاب ، وأضفهم إلا الفسّاق حيث ذكر الطلاب في الوسط.
    ثمّ إنّه ( قدس سره ) حكم باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة في الصورة الأُولى وبرجوعه إلى الجميع في الصورة الثانية ، ورجوعه إلى الجملة المشتملة على عقد الوضع ، والجملة المتأخرة عنها دون ما قبلها في الصورة الثالثة.
    فالمدار عنده هو عقد الوضع حيث إنّ تكراره يمنع من عود الاستثناء إلى ما قبلها وذكره وحده يوجب رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل المنتهية إليه. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره من رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجميع أو إليها حتّى تنتهي إلى عقد الوضع المذكور في وسط الجمل صحيح لا
1. أجود التقريرات : 1/497 ، بتوضيح وتلخيص منّا.

(620)
غبار عليه ، ولكن الميزان ليس تكرر عقد الوضع وعدمه ، بل الملاك استقلال الجملة وعدمه ، حيث إنّ استقلال الجملة يمنع من عود القيد إلى ما قبله بخلاف ما إذا كانت غير مستقلة ، فالقيد يرجع إليها وإلى ما قبلها ، فما ذكره من النتيجة صحيح لكن بالملاك الذي ذكرناه لا وحدة عقد الوضع وتعدّده.
    وعلى ضوء ذلك فهناك صور ثلاث أُخرى نذكرها تباعاً على ضوء ما ذكرنا من القاعدة. وربّما نختلف معه في النتيجة.
    الرابعة : إذا كرر عقد الوضع في الجمل دون عقد الحمل ، كما إذا قال : أكرم العلماء والطلاب والتجار إلا الفساق منهم فبما أنّ جميع ما ذكر قبل الاستثناء بحكم جملة واحدة ، وكأنّه قال : العلماء ، الطلاب ، التجار أكرمهم إلا الفساق ، يرجع الاستثناء إلى الجميع.
    الخامسة : ما إذا كرر عقد الوضع والحمل في كلّ جملة : أكرم العلماء ، أكرم الطلاب ، أكرم التجار ، فالظاهر رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ، لأنّ تكرر عقد الحمل قرينة على انقطاع الجمل بعضها عن بعض ، وعندئذ يأخذ الاستثناء محله في الكلام وهو الرجوع إلى الأخيرة.
    السادسة : إذا كان عقد الحمل في الجملة الأخيرة مغايراً مع ما ذكر في الجملة الأُولى ، كما إذا قال : أكرم العلماء والطلاب وجالس التجّار إلا الفساق منهم ، فإنّ تغير عقد الحمل يكون قرينة على استقلال الجملة الأخيرة عمّا تقدّمها.
    فما ذكرناه قاعدة عامة يركن إليها إذا لم يكن هناك قرينة على خلافه ، ولذلك يجب على الفقيه التفتيش عن القرائن الأُخرى فربما تكون مؤيدة للظهور وأُخرى مزيلة له.


(621)
    الفصل الرابع عشر
تخصيص الكتاب بالخبر الواحد
    هل يجوز تخصيص الكتاب العزيز بالخبر الواحد أو لا ؟ وقد اختلفت فيه كلمتهم كما سيوافيك بعد ما اتّفقت كلمتهم في الأُمور التالية :
    1. تخصيص الكتاب بالكتاب.
    2. تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة.
    3. تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المحفوف بالقرينة المفيد للعلم.
    4. تفسير مجملات الكتاب كالصلاة والزكاة والصوم بخبر الواحد ، فإنّ أجزاء العبادات تتبيّن بالخبر الواحد.
    ولم يخالف في ذلك أحد ، إذ لا يعد التفسير للإجمال مخالفاً للقرآن ولا معارضاً له.
    هذا ما اتفّقوا عليه ، نعم اختلفوا في تخصيص الكتاب بالخبر الواحد العاري من القرينة ، نظير الأمثلة التالية :
    1. ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (1) حيث تخصّص « حلية وراء ذلكم » بما ورد من أنّ المرأة لا تزوّج على عمتها وخالتها إلا بإذنهما.
1. النساء : 24.

(622)
    2. ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَولادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن ) (1) حيث خصّصت بأنّه لا ميراث للقاتل. (2)
    3. ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (3) حيث خصصت بما دلّ على جواز الربا بين الوالد والولد ، والزوج والزوجة.
    هذا والمسألة لها جذور في تاريخ أُصول الفقه ، وقد تضاربت أقوالهم في هذا الصدد.
    فذهب إلى المنع الأقطاب الثلاثة من أصحابنا ، أعني : السيد المرتضى والشيخ الطوسي والمحقّق الحلي.
    1. قال السيد المرتضى : والذي نذهب إليه أنّ أخبار الآحاد لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال ، وقد كان جائزاً أن يتعبّدنا اللّه تعالى بذلك فيكون واجباً غير أنّه ما تُعبدنا به. (4)
    2. وقال الشيخ الطوسي : والذي أذهب إليه انّه لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال ، سواء خصّ بدليل متّصل أو منفصل أو لم يخص. (5)
    3. وقال المحقّق الحلي : يجوز تخصيص العموم المقطوع به بخبر الواحد ، وأنكر ذلك الشيخ أبو جعفر ، ثمّ ذكر دليل المجيز بأنّهما دليلان تعارضا فيجب العمل بالخاص منهما لبطلان ما عداه من الأقسام. وأجاب عنه بأنّه لانسلّم انّ
1. النساء : 11.
2. الوسائل : 17 ، باب 7 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 1.
3. البقرة : 275.
4. الذريعة إلى أُصول الشريعة : 1/280.
5. عدّة الأُصول : 1/135.


(623)
خبر الواحد دليل على الإطلاق ، لأنّ الدلالة على العمل به الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة ، فإذا وجدت الدلالة القرآنية سقط وجوب العمل به. (1)
    والمشهور بين المتأخرين هو الجواز حتّى استدلّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي ( قدس سره ) بوجود السيرة المستمرة في جميع الأعصار عليه ، وانّه لولاه لما قام للمسلمين فقه ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب.
    ومع ذلك فالمسألة ذات أقوال :
    1. المنع ، كما عرفت من الأقطاب الثلاثة.
    2. الجواز ، كما عرفت من ادّعاء السيرة على التخصيص.
    3. التفصيل بين عام خُصّص بدليل قطعي ، فيخصص بالخبر الواحد أيضاً ، وغيره.
    4. التوقّف في المسألة. (2)
    استدلّ المحقّق الخراساني للجواز بوجهين :
    1. جرت سيرة الأصحاب على العمل بالأخبار الآحاد ، في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة ( عليهم السَّلام ) واحتمال أن يكون ذلك بواسطة القرينة ، واضح البطلان. (3)
    2. لولا جواز التخصيص لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب ـ لو سلم وجود مالم يكن كذلك ـ.
    يلاحظ على الأوّل : أنّ ما ادّعاه من السيرة على تخصيص الكتاب بخبر
1. المعارج : 46.
2. لاحظ للوقوف على الآراء كتاب الفصول : 214.
3. الكفاية : 1/366.


(624)
الواحد غير ثابت ، لما عرفت من مخالفة الأقطاب الثلاثة ، ـ مضافاً ـ إلى أنّ هناك من القدماء من يمنع حجّية الواحد مطلقاً ، مخصّصاً كان للكتاب أو لا ، والقدر المتيقن من السيرة ، هو أخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن ، وقد كانت في العصور الأُولى محفوفة.
    ولأجل توفّر القرائن في عصر القدماء ، قسّموا الحديث إلى قسمين معتبر وغير معتبر ، فما أيّدته القرائن الداخلية كوثاقة الراوي ، أو الخارجية كوجوده في أصل معتبر ثابت انتسابه إلى جماعة كزرارة ومحمد بن مسلم والفضيل بن يسار ، فهو صحيح ـ أي معتبر ـ يجوز الاستناد إليه ، والفاقد لكلتا المزيتين غير صحيح بمعنى انّه لايمكن الركون إليه.
    وإنّما آل التقسيم الثنائي إلى الرباعي لأجل ضياع القرائن بضياع الأُصول. (1)
    يلاحظ على الثاني : بأنّ كثيراً من أخبار الآحاد يرجع إلى تفسير مبهمات القرآن ومجملاته ، وقد عرفت أنّ حجّية خبر الواحد في هذا الباب خارج عن محط النزاع.
    فإن قلت : إنّ ما ورد ، حول النجاسات والمحرّمات ينافي قوله سبحانه : ( هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم ما فِي الأرضِ جَمِيعاً ). (2)
    قلت : لا منافاة بين مفاد الآية وبين ما دلّ على كون شيء نجساً أو محرّماً ، وذلك لأنّ المراد من الآية الانتفاع بنحو من الأنحاء ، لا خصوص الأكل والشرب ، حتّى يكون دليلاً على المخالفة. هذا دليل المجوزين ، ولندرس دليل المانعين.
1. لاحظ : كليات في علم الرجال : 59.
2. البقرة : 29.


(625)
    حجّة المانعين من التخصيص
    احتجّ المانع بوجوه :
    1. انّ الكتاب قطعي السند ، والخبر ظني السند ، والظنّي لا يعارض القطعي ، ولا ترفع اليد عن القطعي به.
    وأجاب عنه المحقّق الخراساني بما هذا توضيحه : بأنّ التعارض ليس بين السندين ، حتّى يقال بأنّ الظني لا يعارض القطعي وإنّما الدوران بين دلالة الكتاب ( أصالة العموم ) ودليل حجّية الخبر ، فأمّا أن تُرفع اليد عن دلالة الكتاب أو دليل حجّية خبر الواحد ، كآية النبأ وغيرها ، والمتعيّن هو الأوّل ، لأنّ الخبر بدلالته وسنده صالح للتصرّف في دلالة الكتاب ، حيث إنّ اعتبار الأصل المذكور موقوف على عدم قرينة على خلافه ، والمفروض انّ الخبر يصلح لأن يكون قرينة ، فترفع اليد عنها به.
    وإنّما قلنا : انّ دلالة الكتاب موقوفة على عدم ورود قرينة على الخلاف لما عرفت من أنّ السنّة الإلهية جرت على بيان الأحكام تدريجاً ، لا دفعيّاً ، وعلى ضوئه لا مانع من ورود العموم والإطلاق في الكتاب ، وورود مخصصه ومقيّده في السنّة.
    وإلى هذا الجواب يشير المحقّق البروجردي ويقول : إنّ التصرف ليس في السند بل في العموم وأصالة العموم ظنية ، فرفع اليد عن العموم به ، رفع لليد عن الدليل الظني بالدليل الظني الأقوى ، للسيرة العقلائية.
    ومراده ( قدس سره ) من كون دلالة الكتاب ظنيّاً ، هو كون عمومات الكتاب وإطلاقاته في مظنة التخصيص والتقييد لا كون كلّ الكتاب ظنّياً ، وسيوافيك شرحه عند البحث في حجّية الظواهر.


(626)
    2. انّ دليل حجّية الخبر هو الإجماع والقدر المتيقن منه هو غير هذا المورد.
    يلاحظ عليه : أنّ الدليل على حجّية الخبر الواحد ، ليس هو الإجماع ، بل الدليل هو السيرة العقلائية الجارية على الأخذ بالخبر الواحد ، سواء أكان في مقابله دليل قطعي أو لا ، مضافاً إلى سيرة الأصحاب الجارية على تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.
    3. لو جاز التخصيص بالخبر الواحد ، لجاز نسخ الكتاب به لكونهما مشتركين في أصل التخصيص ويختلفان في أنّ النسخ تخصيص في الأزمان ، والآخر تخصيص في الأفراد.
    يلاحظ عليه : بأنّ القياس مع الفارق ، فانّ النسخ رفع الحكم من رأس بخلاف الآخر ، فانّه بمعنى إخراج بعض الأفراد عن حكم الآية ، ولذلك اتّفق المسلمون على عدم جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد ، حفظاً لكرامة القرآن وصيانته عن تطرق الأهواء إليه ، بخلاف التخصيص فانّه أمر ذائع شائع فكم فرق بين قولنا : لا ميراث للقائل المخصص لقوله ( للذَّكرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثَيَيْن ) (1) فهو مخرج للقائل عن تحت العموم ، وبين نسخ حلية المتعة ، الواردة في قوله سبحانه : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة ) (2) بخبر الواحد الذي يدّعيه أهل السنّة فهو بمنزلة رفع الحكم من رأس.
    4. الأخبار الدالّة على طرح الخبر المخالف للقرآن ، والخبر المخصص مخالف له فينتج لزوم طرحه ، لا الأخذ ثمّ تخصيص الكتاب به وإن شئت ان تصبّه في قالب الشكل الأوّل تقول : الخبر المخصّص للكتاب ، مخالف للكتاب ، وكلّ خبر مخالف للكتاب ليس بحجّة ، ينتج : الخبر المخصّص للكتاب ، ليس بحجّة.
1. النساء : 11.
2. النساء : 24.


(627)
    أقول : الروايات الواردة حول كون الحديث موافقاً للكتاب أو مخالفاً له ، تُدرس في مقامين :
    1. في باب جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، بحجّة انّ المخصص مخالف أو ليس بموافق.
    2. في باب حجّية خبر الواحد ، حيث يستدلّ المانع بهذه الروايات على عدم حجّية الخبر الواحد ، مخصصاً كان أو لا.
    واعلم أنّ هذه الروايات ليست على صنف واحد ، بل على أصناف أربعة ، والمهم هو الصنف الثالث ، أعني : ما يدلّ على عدم حجّية المخالف للكتاب بناء على أنّ المخصص مخالف ، وإليك بيان الأصناف إجمالاً.
    الأوّل : ما لا يعترف بحجّية الخبر الواحد ، إلا إذا كان موافقاً للكتاب ، أو كان له شاهد أو شاهدان منه ، نظير ما رواه أيوب بن راشد عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ». (1)
    وهذا الصنف من الروايات ، لا يمكن الأخذ بظاهرها ، إذ معنى ذلك ، إلغاء حجّية الخبر الواحد من رأس ، والمفروض حجّيته وإنّما الكلام في سعتها وضيقها ، وهي محمولة على مورد العقائد حيث إنّ الغلاة يروون أحاديث في مقامات الأنبياء والأولياء حسب أهوائهم ، فلم يكن في علاجها محيص عن عرضها على الكتاب لتُعلم صحّة الرواية وفسادها.
    وأمّا الروايات الواردة حول الأحكام فيؤخذ بها وإن لم تكن موافقة ، غاية الأمر يجب أن لا تكون مخالفة له ، وأمّا الوارد في العقائد والأُصول خصوصاً فيما
1. الوسائل : 19 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 12 ، ولاحظ الحديث 11 ، 14 ، 18 ، 37 ، 47 من هذا الباب.

(628)
يرجع إلى مقامات الأولياء ، فالشرط هو الموافقة ، لا عدم المخالفة حتّى يتميّز الصحيح عن غيره.
    الثاني : ما ورد في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر ، وانّه يطرح المخالف ، نقتصر على رواية واحدة :
    روى الكليني عن العالم ( عليه السَّلام ) يقول : « اعرضوهما على كتاب اللّه عزّوجل فما وافق كتاب اللّه عزّوجل ، فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه ». (1)
    وهذا القسم من الأحاديث لا صلة له بالمقام ، لأنّ الكلام في الخبر غير المعارض ، فلو عدّ عدم المخالفة في الخبرين المتعارضين مرجّحاً فلا يكون دليلاً على اشتراطه في غيره.
    الثالث : ما يُركِّز على المخالف المجرّد عن التعارض.
    روى الكليني بسنده عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، قال : سمعت أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) يقول : « من خالف كتاب اللّه وسنّة محمد فقد كفر ». (2)
    الرابع : ما يشترط الموافقة وعدم المخالفة معاً ، وقد ورد بهذا العنوان روايات ربّما تناهز ثلاثاً ، نقتصر على رواية واحدة :
    روى السكوني عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ على كلّ حق حقيقة ، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدعوه ». (3)
1. الوسائل : 19 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 19. ولاحظ الحديث : 1 ، 10 ، 21 ، 29 وغيرهما.
2. الوسائل : 19 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 16.
3. الوسائل : 19 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 10. ولاحظ أيضاً الحديث : 15 ، 35.


(629)
    ولا يذهب عليك أنّ أحد الملاكين في الصنف الرابع خاص ( كونه موافقاً للكتاب ) والآخر عام ( عدم كونه مخالفاً ) فالأوّل رهن وجود مضمون الحديث في الكتاب ، وأمّا الثاني فيكفي عدم المخالفة ، سواء أكان موافقاً كما إذا كان المضمون موجوداً ، أم لم يكن موافقاً وفي الوقت نفسه لم يكن مخالفاً كما إذا لم يكن مضمونه وارداً في الكتاب ، مثلاً ما دلّ على عدم جواز الصلاة في عرق الجنب عن حرام ليس موافقاً للكتاب ومع ذلك ليس مخالفاً أيضاً ، ولعلّ العرف يأخذ بالملاك الأعم ، لأنّ الأخص موجود في الأعم ، فالميزان هو عدم المخالفة ، فعندئذ يرجع الصنف الرابع إلى الصنف الثالث. وتكون النتيجة عدم حجّية الخبر المخالف للكتاب والمفروض انّ المخصص مخالف للكتاب.
    إلى هنا تمّ تقرير دليل الخصم.
    يلاحظ عليه : بأنّ الروايات الناهية عن الأخذ بالخبر المخالف يفسر بأحد وجهين :
    الأوّل : أنّها محمولة على التباين الكلّي بأن يكون الحديث مخالفاً للكتاب تماماً ، وذلك لأنّ المخالفة على نحو العموم والخصوص ليست مخالفة في دائرة التقنين والتشريع ، بشهادة انّه يجوز تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة ، والسنّة المحفوفة بالقرائن ، فلو كانت المخالفة تعمّ هذا القسم يجب أن لايخصّص الكتاب بالسنّة أبداً ، لأنّ لسان هذه الروايات آب عن التخصيص.
    فإن قلت : حمل هذه الروايات على الخبر المباين يوجب حملها على الفرد النادر ، لعدم وجود الخبر المباين في الروايات ، فيكون الكلام بعيداً عن البلاغة.
    قلت : إنّ علماءنا الأبرار بذلوا جهوداً جبارة في تهذيب أحاديث الشيعة عن الموضوعات ، فلا تجد المباين في الجوامع الحديثية إلا نادراً ، وإلا فقبل دورة


(630)
التهذيب كانت الروايات المتباينة غير عزيزة.
    الثاني : حمل روايات المقام على صورة التعارض
    ويحتمل أن يكون المراد من ترك الخبر المخالف للكتاب هو صورة تعارضه مع الخبر الآخر وإن كان يؤخذ به عند عدم التعارض ويخصّص به القرآن.
    والذي يقودنا إلى هذا الحمل ، هو انّ المخالف المطرود في الخبرين المتعارضين أعمّ من التباين والعموم والخصوص المطلق ، فلو حمل ما ورد على ترك المخالف في الصنف الثالث على المبائن يلزم التفريق في لسان الروايات في البابين ، وهذا ما يبعثنا بحمل روايات المقام على باب التعارض ، ويكون المراد من المخالف هو الأعمّ من التباين والعموم والخصوص لكن يختصّ عدم حجّية المخالف بصورة التعارض دون انفراده.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس