إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 631 ـ 645
(631)
    الفصل الخامس عشر
في حالات العام والخاص
    الهدف من عقد هذا الفصل بيان حالات العام والخاص من التخصيص والنسخ وانتهى كلام صاحب الكفاية فيه إلى البحث عن النسخ والبداء ، فصارت مادة البحث في هذا الفصل ممزوجة من المسائل الأُصولية والقرآنية والكلاميّة ونحن نقتفيه حسب تناسب المقام.
    الأوّل : في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ
    إنّ للخاص والعام حالات مختلفة ، حسب تقدّم أحدهما على الآخر ووروده قبل حضور وقت العمل بالآخر أو بعده ، والصورة المتصوّرة لا تخرج عن ست صور :
    الأُولى : ورود الخاص والعام متقارنين
    إذا ورد الخاص والعام متقارنين ، سواء كانا في كلام واحد على وجه لا ينعقد للكلام ظهور أصلاً ، كما إذا قال : أكرم العلماء إلا زيداً ، أو ينعقد الظهور ، لكن ظهوراً غير مستقر ، إذ جاء المخصّص في آخر كلامه بصورة مستقلة ، والحال انّه لم يفرغ بعدُ من كلامه ومقصده ، فلا شكّ انّه يحمل على التخصيص بلا كلام.


(632)
    الثانية : ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام
    إذا ورد الخاص بعد العام وقبل حضور وقت العمل به ؛ كما إذا قال المولى يوم السبت : أكرم العلماء يوم الجمعة ، وقال يوم الأربعاء : لا تكرم فسّاقهم يوم الجمعة ، فيكون أيضاً مخصصاً ، لا ناسخاً.
    وجه ذلك : انّ النسخ عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر على وجه لولاه لكان ثابتاً ، وهو فرع ثبوت الحكم للموضوع جداً ، في برهة من الزمان ثمّ رفعه ، ولذلك قالوا : إنّ النسخ تخصّص في الأزمان ، بمعنى انّه مانع عن استمرار الحكم بعد ثبوته شرعاً ، لا عن أصل ثبوته ، كما أنّ هذا معنى قولهم : النسخ عبارة عن حضور الناسخ بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ.
    وإن شئت قلت : إذا تعلّقت الإرادة الجدية بأصل التكليف ولو في برهة من الزمان ، وكان الدليل ظاهراً في الاستمرار ، فورد الناسخ بعد العمل بالتكليف في قسم من الزمان ، يكون الدليل الثاني ناسخاً ، لكونه مانعاً عن استمرار التكليف لا عن أصله.
    وأمّا الخاص الوارد قبل حضور وقت العمل ، يكون مانعاً عن أصل التكليف وكاشفاً عن عدم تعلّق الإرادة الجدية به من أوّل الأمر ، فهو إخراج فرد ، أو عنوان عن كونه محكوماً بحكم العام من أوّل الأمر ، ولذلك يشترط وروده قبل وقت العمل بالعام لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
    الثالثة : ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام
    إذا ورد الخاص متأخراً عن العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالعام ، كما


(633)
إذا ورد العام في الكتاب والسنّة والخاص في لسان الأئمة ، مثل قوله سبحانه : ( فلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُم ) (1) وورد الخاص في لسان الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) حيث قال : « لا ترث النساء عن عقار الدور شيئاً » (2) ، فمقتضى القاعدة كون الخاص ناسخاً لا مخصصاً ، لكنّه لا يخلو عن محذورين.
    الأوّل : إجماع الأُمّة على أنّ النسخ مختص بعصر الرسول وإنّ ما لم ينسخ فهو باق مستمر إلى يوم القيامة.
    الثاني : انّ الخاص في الروايات الصادرة عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) كثيرة ، فجعل هذه الروايات من قبيل النسخ مالا يلتزم به أحد.
    وعلى هذين الوجهين لا يكون مثل هذا النوع من الخاص ، ناسخاً ، لكن عدّه مخصصاً أيضاً مشكل لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فإذا كان الحكم في مورد الخاص كالعقار في إرث الزوجة غير متعلّق للإرادة الجدية وكانت النساء محرومة من الإرث فيه ، لماذا تأخر البيان في عصر الرسالة إلى أوائل القرن الثاني.
    والحاصل : انّ عدّه ناسخاً أو مخصّصاً مقرون بالإشكال.
    نظرية الشيخ الأعظم في المقام
    لو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام فلا محيص عن كونه ناسخاً لا مخصّصاً لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا أُحرز كون العام وارداً لبيان الحكم الواقعي ، وإلا لكان الخاص أيضاً مخصِّصاً له ، كما هو الحال في
1. النساء : 12.
2. الوسائل : 17 ، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث 7.


(634)
غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات.
    وجهه : أنّه لو كان المولى بصدد بيان الحكم الواقعي ، لم يجز له تأخير البيان عن وقت العمل ، فإذا شاهدنا التأخّر فلا مناص عن جعله ناسخاً ، أي من قبيل ارتفاع الحكم من زمان ورود الخاص وكان الحكم الواقعي إلى زمان ورود الخاص هو العام ، فلم يكن هناك إلقاء في المفسدة وتفويت للمصلحة.
    وأمّا إذا كان المولى بصدد بيان الحكم الظاهري دون بيان الحكم الواقعي ، فيكون الناس مكلّفين بالحكم الظاهري دون الواقعي ما لم يصل إليهم الخاص ، فإذا وصل ارتفع الحكم الظاهري بارتفاع موضوعه ، وتصل النوبة إلى العمل بالحكم الواقعي ويكون الخاص مخصّصاً غير متأخّر عن وقت الحاجة.
    نظريتنا في المسألة
    ولكن الظاهر هو القول بالتخصيص مطلقاً من غير تفصيل ، وذلك لأنّ المصلحة أوجبت بيان الأحكام تدريجاً فالأحكام كلّها كانت مشرّعة في عصر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نازلة عليه ، غير أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيـّن ما بيـّن ، وأودع مالم يُبيّن ـ إمّا لعدم استعداد في المجتمع أو لعدم وجود الفرصة للبيان ، أو لوجود المصلحة في تأخيره ـ عند أوصيائه الأئمة المعصومين ( عليهم السَّلام ) بعده ، وليس تأخير البيان أمراًقبيحاً بالذات حتى لا يُغيّر حكمه وإنّما هو بالنسبة إلى القبح كالمقتضي نظير الكذب ، فلو كان هناك مصلحة غالبة كنجاة المؤمن كان أمراً حسناً. هذا هوالحقّ الذي يدركه من سبر حال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمجتمع الإسلامي.
    فأقصى ما في تأخير البيان وقوع المكلّف في المشقّة ، أو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، وكلّها هيّنة إذا اقتضت المصلحة الكبرى تأخير البيان.


(635)
    الرابعة : ورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص
    إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت العمل به ، كما إذا قال : لا تكرم العالم الفاسق في شهر رمضان ثمّ أمر بإكرام العلماء قبل دخول الشهر ، ففي هذه الصورة يتعيّن كون الخاص المتقدّم مخصِّصاً للعام المتأخّر ، ولا وجه للنسخ لما عرفت من عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل. أضف إلى ذلك ما سبق من أنّه يلزم لغوية حكم الخاص في المقام وهو لا يصدر من الحكيم العالم بعواقب الأُمور.
    الخامسة : ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص
    تلك الصورة ولكن ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، أي بعد حضور زمان يمكن العمل به ، فهل الخاص المتقدّم مخصّص للعام المتأخّر ، أو العام المتأخّر ناسخ للخاص المتقدّم ؟ وليست هذه الصورة كالمتقدّمة ، إذ لا تلزم لغوية الخاص من القول بناسخية العام. والثمرة بين القولين واضحة ، فعلى الأوّل يعمل بالخاص في خصوص مورده ، وعلى الثاني ينتهي أمد حكم الخاص ويجب العمل بالعام في الفاسق والعادل.
    قال المحقّق الخراساني : الأظهر أن يكون الخاص مخصِّصاً لكثرة التخصيص حتى اشتهر ما من عام إلاّ وقد خصّ مع قلّة النسخ في الأحكام جدّاً ، وبذلك يصير ظهور الخاص في الدوام ولو بإطلاقه أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع. (1)
1. كفاية الأُصول : 1/371.

(636)
    السادسة : إذا حصل تردّد بين ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، وقبل حضوره ، قال المحقّق الخراساني : الوجه هو الرجوع إلى الأُصول العملية. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه لا يترتّب على كلا القولين أثر في مقام العمل فإنّ الواجب في المقام هو العمل بالخاص في المستقبل ، سواء أكان ناسخاً للعام أم مخصّصاً ، لافتراض أنّه لوكان ناسخاً فإنّما يكون ناسخاً في مورده الخاص لا في الأعمّ منه.
    بخلاف الصورة الخامسة فإنّ الثمرة موجودة في كون الخاص مخصّصاً ، أو العام ناسخاً. فعلى الأوّل يكون ملاك العمل في المستقبل هو الخاص بخلاف الثاني فإنّه يكون ملاك العمل عندئذ هو العام.
    وهناك صورة سابعة وهو الجهل بأحوال الدليلين على وجه الإطلاق من كونهما متقارنين أو متأخرين ولم يعلم المتقدّم ولا المتأخّر ، ولا كيفيتهما.
    و بما أنّ المتعيّن في جميع الصور السابقة هو التخصيص ، فيكون حكمه أيضاً هو التخصيص لعدم خروجها عنها. فلاحظ.
    تمّ الكلام في الأمر الأوّل ، وإليك الكلام في الأمرين الآخرين :
1. كفاية الأُصول : 1/371.

(637)
    الأمر الثاني
النسخ
    قد عرفت أنّ في هذا الفصل أُموراً ثلاثة ، وقد تمّ الكلام في الأمر الأوّل ، فلنأخذ الأمر الثاني بالبحث وهو النسخ ، ويقع الكلام في أُمور :
    الأوّل : النسخ لغة واصطلاحاً
    النسخ لغة هو إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه.
    يقال : نسخت الشمسُ الظلَّ أي أذهبتْه وحلّتْ محلَّه ، وانتسخ الشيبُ الشبابَ ، والتناسخ في الفرائض والمواريث أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يُقسَّم ، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون بعد القرون الماضية.
    وربما يقال : أصل النسخ : الإبدال من الشيء غيره ، ولعلّه بهذا المعنى نسختُ الكتابَ أي استنسخته.
    وعلى هذا يكون إمّا مشتركاً لفظيّاً بين الإبطال والإبدال ، أو مشتركاً معنوياً بتصوير جامع بينهما.
    وأمّا اصطلاحاً فهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكان سائداً ، وعرّفه الطبرسي بقوله : « كلّ دليل شرعي دلّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنص الأوّل ، غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتاً بالنصّ الأوّل مع تراخيه عنه ».
    ولا تخفى وجازة التعريف الأوّل.


(638)
    الثاني : في إمكان جواز النسخ عقلاً أو شرعاً
    النسخ عندنا جائز عقلاً ، واقع سمعاً ، وأدلّ دليل على جوازه وقوعه في الشريعة الإسلامية فانّها نسخت شيئاً من الأحكام الواردة في الشرائع السابقة ، كما أنّ كلّ شريعة سماوية نسخت شيئاً ممّا ورد في سابقتها ، مثلاً : جاء في التوراة : إنّ اللّه تعالى قال لنوح ( عليه السَّلام ) عند خروجه من الفلك انّي جعلت كلّ دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلقت لذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه » (1) مع أنّه سبحانه حرّم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من اللحوم.
    ويظهر إمكان النسخ من خلال اختلاف المقتضيات الزمانية والمكانية ، فربما يكون حكماً صالحاً في ظروف معينة ، فإذا تغيرت لم يصر ذلك الحكم صالحاً في تلك الظروف ، بل لابدّ من تغيّره أيضاً.
    نعم الأحكام المتناغمة مع الفطرة الإنسانية لا تتغيّر مادامت الفطرة الإنسانية.
    وبالجملة إمكان النسخ ووقوعه أمر لا ريب فيه غير أنّ اليهود ذهبت إلى امتناعه إمّا عقلاً وشرعاً ، أو شرعاً فقط.
    وقد نقل الرازي في تفسيره استدلالهم بشكل مبسوط ، ونحن نلخّص كلامه :
    إنّ الدليل لا يخلو من حالات ثلاث : إمّا أن يدلّ على الدوام ، أو يدلّ على خلافه ، أو لايدلّ على أحدهما.
    أمّا الأوّل فيلزم من نسخه كذب الخبر الأوّل.
    وأمّا الثاني فهذا لا يعدّ نسخاً ، لأنّ المفروض انّ الأمر الأوّل كان مؤقتاً.
1. سفر التكوين ، الاصحاح التاسع ، الآية 3.

(639)
    وأمّا الثالث فبما انّ امتثال الأمر مرة واحدة مسقط ، فليس هناك دليل على لزوم امتثاله في المرة الثانية حتّى يكون الدليل الثاني ناسخاً. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ هناك قسماً رابعاً وهو ظهور الدليل في الدوام لا كونه نصاً فيه ، فإذا جاء الناسخ فيكشف عن عدم صحّة ظهور الدليل الأوّل وانّ ما فهم من استمرار الحكم ودوامه كان فهماً خاطئاً ومصب النسخ هو هذا القسم ، وإلا فما نص عليه بالدوام أو بالانقطاع أو يكون مهملاً من حيث الدوام وعدمه ، إمّا يستحيل نسخه لاستلزامه الكذب كما في القسم الأوّل ، أو يستغني عن النسخ كما في القسمين الأخيرين وذلك إمّا ارتفاعه : بانتهاء غايته ، أو عدم ظهوره في الاستمرار ، حتّى يرتفع وإنّما النسخ فيما إذا كان الدليل حسب الظاهر ظاهراً في الاستمرار ، قابلاً للدوام ، فيكون الدليل الثاني ناسخاً له ، رافعاً للحكم حسب الظاهر وإن كان في الواقع كاشفاً عن انتهاء أمد الحكم.
    ولذلك يقول الأُصوليون النسخ رفع حسب الظاهر ، وأمّا في الواقع فهو دفع وإعلام بانتهاء الحكم.
    الثالث : الفرق بين النسخ والتخصيص
    لا شكّ انّ النسخ والتخصيص يشتركان في تضييق دائرة الحكم لكن النسخ تخصيص في الأزمان ، أي مانع من استمرار الحكم بعد النسخ لا عن ثبوته قبله ، بخلاف الثاني فانّه تخصيص في الأفراد ، أي مانع من شمول الحكم لبعض أفراد العام منذ أوّل الأمر.
    وبذلك يعلم أنّه يشترط في النسخ ورود الناسخ بعد حضور العمل
1. تفسير مفاتيح الغيب : 3/228 ـ 229 بتلخيص منّا.

(640)
بالمنسوخ بفترة قصيرة أو طويلة ، وأمّا التخصيص فيشترط وروده قبل حضور وقت العمل بالحكم ، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح.
    وبذلك يعلم أنّ أمره سبحانه تبارك وتعالى بذبح إسماعيل والمنع عنه قبل ذبحه ليس من مقولة النسخ ، لما علمت من أنّ النسخ عبارة عن قطع استمرار الحكم ، وهو رهن العمل به ، ولو مدة قصيرة. يقول سبحانه : ( فَلَما بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قالَ يا بُنيَّ إِنّي أَرى فِي المَنامِ أَنّي أَذبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَل ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرين ) (1) وبما انّ رؤية الأنبياء رؤيا صادقة ، فقد أيقن إبراهيم ( عليه السَّلام ) بأنّ اللّه سبحانه قد أمره بذبح ولده ، ولمّا جاء به إلى منى ووضع السكين على حلقه وهمّ بذبحه خوطب بقوله : ( قَدْ صَدَّقتَ الرُّؤيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزي المُحْسِنين ). (2)
    فالآية تحكي انّه بإنجاز المقدّمات صدّق رؤياه ، وهذا كاشف على أنّه كان مأموراً بالمقدّمات دون الذبح ، وكان ذلك كافياً في رفع مستوى إخلاصه وتفانيه في جنب اللّه.
    وبعبارة أُخرى : كان الأمر ، اختباريّاً.
    الرابع : وقوع النسخ في القرآن الكريم
    دلّت غير واحدة من الآيات على وقوع النسخ في القرآن الكريم إجمالاً نحو :
    1. قوله سبحانه : ( وَإِذا بَدَّلْنا آيةً مكانَ آية واللّهُ أَعلَمُ بِما يُنَزّلُ قالُوا انّما أَنْت مُفتر بَل أَكثرُهُمْ لا يَعْلَمُون ). (3)
1. الصافات : 102.
2. الصافات : 105.
3. النحل : 101.


(641)
    كان المشركون واليهود يطعنون بالإسلام ويقولون : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً وغداً يرجع عنه ، فنزلت هذه الآية أو ما هو بمضمونها.
    والآية تدلّ على وقوع النسخ بشهادة قوله : ( وَإِذا بَدّلنا آية مَكانَ آية ). والآية ظاهرة في الآية القرآنيّة ، لا الآية الكونية كالمعجزة ، ويشهد على ذلك قولهم : ( إنّما أنت مفتر ).
    2. قوله : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب ). (1) والآية تعمّ المحو التشريعي والمحو التكويني الذي نعبر عنه بالبداء.
    وهناك آية ثالثة تدلّ على إمكان النسخ لا على وقوعه ، وهو قوله سبحانه : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آية أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْر مِنْها أَوْ مِثْلَها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيء قَديرٌ ). (2)
    وبما انّ هذه الآية من الآيات المشكلة في القرآن الكريم نذكر شيئاً حولها :
    1. انّ لفظة « ما » ليست نافية ولا موصولة ، بل هي ما شرطية تجزم شرطها وجزاءها ، ولذلك صار الشرط ( نَنْسَخْ ) مجزوماً وهكذا جزاؤها ( نُنْسِها ) ، لأنّ أصلها ننسيها فحذف الياء الناقصة لأجل الجزم ، فانّ علامة الجزم هو سكون آخر الفعل في الصحيح وحذف حرف العلّة في المعتل ، وقوله : « ننسها » مأخوذ من أنسي فهو ناقص يائي.
    يقول ابن هشام : إنّ « ما » الشرطية على نوعين :
    غير زمانية نحو ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (3) ( ما ننسخ من آية )
1. الرعد : 39.
2. البقرة : 106.
3. البقرة : 197.


(642)
وقد جوزت في : ( وما بِكُم مِنْ نعمة فَمِن اللّهِ ) على أنّ الأصل وما يكن ، ثمّ حذف فعل الشرط. (1)
    2. انّ في لفظة « ننسها » قراءتين :
    فقراءة عاصم برواية حفص هو « نُنْسِها » ، فيكون مشتقاً من أنسى ينسي وصيغة المتكلّم مع الغير هو « ننسي » ، فإذا ورد عليه الجزم يحذف حرف العلة ، أعني : الياء من آخرها ، فإذا أُضيف إلى مفعوله الضمير يصير « ننسها » وهو إذهاب الشيء عن الخاطر.
    وقراءة غيره « ننسئها » فهو من النسيء بمعنى التأخير ، كقوله سبحانه : ( إِنّما النَّسِيءُ زيادةٌ في الكُفْرِ يُضلُّ بِهِ الّذينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً ) (2) والمراد تأخير أشهر الحرم.
    و « النسيئة » هو البيع المتأخر ثمنه عن وقت البيع.
    3. ما هو المراد من « ننسها » على كلتا القراءتين ؟
    أمّا القراءة الأُولى فمعنى « ننسها » هو إذهاب الآية عن الأذهان وإنّما الكلام في تبيين المراد منه ، ففسّره بعض السُّذّج من العامّة ، بنسخ الحكم والتلاوة وقالوا : إنّ المراد منه إزالة الآية من ذاكرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حتّى أنّ السيوطي روى في أسباب النزول انّ الآية كانت تنزل على النبي ليلاً فينساها نهاراً ، فحزن لذلك ، فنزلت الآية!!
    ونحن لا نعلّق على هذه الرواية ولا على هذا التفسير شيئاً ، ويكفي في ذلك قول صاحب المنار :
1. المغني لابن هشام : 1/398.
2. التوبة : 37.


(643)
    لا شكّ عندي في أنّ هذه الرواية مكذوبة ، وأنّ مثل هذا النسيان محال على الأنبياء ( عليهم السَّلام ) ، لأنّهم معصومون في التبليغ ، والآيات الكريمة ناطقة بذلك ، كقوله تعالى : ( إِنّ علينا جَمعهُ وَقرآنَه ) (1) ، وقوله : ( إِنّا نَحْنُ نَزّلنا الذِّكرَ وإِنّا لَهُ لَحافِظُون ) (2). (3)
    أقول : إنّ هذه الآية مدنية ، وقد أخبر سبحانه في سورة مكية بأنّ النبي لا ينسى ، وقال : ( سنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اللّهُ إنّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَما يَخْفى ). (4)
    وقوله : ( إِلاّ ما شاء اللّه ) لا يدلّ على وقوع المشيئة ، بل هذا الاستثناء نظير الاستثناء عن خلود أهل الجنة والنار فيهما ، قال سبحانه : ( وَأَمّا الّذينَ سُعِدُوا ففِي الجنّةِ خالدينَ فيها مادامتِ السَّمواتُ والأَرضُ إِلاّ ما شاءَ ربُّك عَطاءً غَيْر مَجْذُوذ ). (5)
    والغاية من ورود الاستثناء في هذه الآية ونظائرها هو بيان انّ الحكم بخلودهما فيهما لا يعني خروج الأمر من يده سبحانه ، بل الأمر بعدُ بيده ، وهو قادر على إنجاز خلاف ما وعد أو أوعد.
    وعلى ضوء ذلك نقول : إنّ لفظ « ننسها » وإن كان بمعنى الإذهاب عن الذهن ، لكنّه كناية عن ترك الآية وعدم نسخها ، إذ كثيراً ما يطلق النسيان ويراد به الترك لا الذهول ، أي تركها على ما هي عليه بلا تغيير وتبديل حيث يصحّ أن تقول : نسيت الشيء وأنت تريد تركه على حاله ، أو تقول : نسيت الفعل الفلاني أي تركته ، فتدلّ الآية على أنّ نسخها وعدم نسخها كلاهما يتبعان المصلحة ، فلو
1. القيامة : 17.
2. الحجر : 9.
3. تفسير المنار : 1/415.
4. الأعلى : 6 ـ 7.
5. هود : 108.


(644)
اقتضت المصلحة نسخ الآية ، تُنْسخ ؛ ولو اقتضت إبقـاءها ، تترك بلا تبديل وتغيير.
    قال الرازي : إنّ إطلاق النسيان على الترك مجاز ، لأنّ المنسي يكون متروكاً ، فلمّا كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم. (1)
    ويدلّ على ما ذكرنا من أنّ النسيان يطلق ويراد به لازمه ، لفيف من الآيات نحو :
    قوله سبحانه : ( فلمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا به أَنجَينا الّذينَ ينهَونَ عَن السُّوءِ ) (2) ، أي تركوا ما أمروا به من عدم الصيد يوم السبت.
    وقال سبحانه : ( وَقيلَ اليَومَ نَنْساكُمْ كَما نَسيتُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا ). (3)
    وقال سبحانه : ( فنَسيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ). (4)
    وقال سبحانه : ( فَقال هذا إِلهكُمْ وَإِلهُ مُوسى فنسي ). (5)
    وأوضح دليل على أنّ المراد من قوله : « ننسها » هو الترك ، وجود التقابل بينه وبين « ما ننسخ » ، فلو كان الأوّّل بمعنى الإزالة ، فالفعل الثاني بمعنى الإبقاء.
    وأمّا القراءة الثانية ، فهي قراءة من قرأ بالهمز أي ننسئها ، فهي قراءة غير معروفة ، فيكون المراد هو التأخير في النزول أو النسخ ، ويؤوّل معنى الآية إلى قوله : ( ما نَنْسَخ مِنْ آية ) أو ننسئها ، أي نؤخّر نزولها أو نسخها ، فالكلّ من التقديم والتأخير تابع لمصلحة.
    فهذه الآيات تدلّ على إمكان النسخ ، بل وقوعه في القرآن.
1. مفاتيح الغيب : 3/227.
2. الأعراف : 165.
3. الجاثية : 34.
4. طه : 115.
5. طه : 88.


(645)
    الخامس : أقسام النسخ
    قسّم أهل السنّة النسخ إلى وجوه ثلاثة :
    الأوّل : ان تُنسخ الآية تلاوة وحكماً بحيث يرتفع لفظها وحكمها.
    الثاني : أن تنسخ تلاوة لا حكماً ، أي يرتفع لفظها ، ويبقى حكمها.
    الثالث : أن تنسخ حكماً لا تلاوة ، أي تثبت ، ولكن لا يؤخذ بظاهرها بعد النسخ.
    أمّا القسم الأوّل ، فلا وجود له في الخارج ، لأنّ المفروض انّ الآية رفعت بلفظها وحكمها فلم تبق بين الأُمة.
    وقال الرازي : وأمّا الذي يكون منسوخ الحكم والتلاوة فهو ما روت عائشة أنّ القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات ثمّ نسخن بخمس معلومات ؛ فالعشر مرفوع التلاوة والحكم ، والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم. (1)
    وأمّا الثاني ، ففسروه بمنسوخ التلاوة ، وهو ما رفعت تلاوته وبقي معناه ، ومثّلوا لذلك ما روي عن عمر أنّه قال : كنّا نقرأ آية الرجم : « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من اللّه واللّه عزيز حكيم ».
    وروى : « لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب اللّه على من تاب ».
    ولفظ الآيتين المزعومتين يحكي عن أنّهما ليستا من القرآن الكريم ، لأنّهما عاريتان عن البلاغة والفصاحة.
    على أنّ الآية الأُولى نسجت على منوال قوله سبحانه : ( الزانيةُ والزانيُّ
1. مفاتيح الغيب : 3/230.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس