إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 76 ـ 90
(76)
    وحاصل الاعتراض : انّ المراد من الموافقة الالتزامية هو الالتزام بالحكم بشخصه وعنوانه ، ومثل هذا الالتزام غير حاصل في الصورتين الأخيرتين ، لأنّه التزم فيهما بما هو الواقع دون تعيين.
    ثمّ أجاب قدَّس سرَّه عنه بوجوه ثلاثة :
    1. لو كان المراد منها هو هذا المعنى لما كانت الموافقة القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة.
    2. ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً ، فانّ محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة.
    وحاصل الجواب الأوّل : انّه لو فسرت الموافقة الالتزامية بهذا المعنى لما كان المكلّف متمكناً من امتثاله ويختص وجوبها حينئذ بالصورة الأُولى.
    وحاصل الجواب الثاني : انّ الأخذ بأحد الحكمين بشخصه لغاية حصول الموافقة الالتزامية مستلزم التشريع المحرم.
    3. انّ الموافقة الالتزامية لو قلنا بها فإنّما نقول بها لأنّها من آثار نفس التكليف ، ولوكان كذلك فهو يقتضي الالتزام به معيّناً ، وأين هو من القول بالأخذ بواحد من التكليفين مخيراً ، فانّ معناه انّ كلّ تكليف يقتضي الالتزام به أو بضده وهو غير معقول ، فلا مناص عن القول بأنّ الواجب هو الالتزام بالواقع على ما هو عليه لو قلنا بوجوبها.

    الثمرة الأُصولية
    قد ذكرنا انّ للبحث ثمرتين : فقهية وأُصولية.
    أمّا الأُولى : فقد عرفت أنّ ثمرة البحث ترجع إلى وجوب آخر وراء الالتزام العملي في الأحكام ، وقد عرفت أنّه غير واجب وإلالزم عقابان عند الترك التزاماً


(77)
وقلباً وثوابان عند القيام بهما.
    وأمّا الثانية : وهي جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي ، وانّ القول بوجوب الموافقة الالتزامية هل يمنع عن القول بجريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي أو لا ؟
    ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ القول بوجوب الموافقة الالتزامية على النحو الذي عرفت لا يمنع من جريان الأُصول في أطرافه ، لأنّ الالتزام بالواقع لا ينافي القول بالبراءة أو الحلية في أطراف العلم ظاهراً ، لأنّ أحد الحكمين واقعي والآخر ظاهري ، وإلى ما ذكرنا أشار بقوله : « ومن هنا قد انقدح انّه لا يكون من قِبَل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأُصول ... ».
    ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذهب أيضاً إلى أنّ وجوب الموافقة الالتزامية ليس مانعاً عن جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي ، لكن لا بالبيان الماضي من المحقّق الخراساني من عدم التنافي بين الالتزام بالواقع ، وإجراء البراءة ظاهراً ، بل ببيان آخر ، ذكره في رسالة القطع. وحاصله :
    لو افترضنا وجود الدليل بالالتزام بالحكم الواقعي لكن دليل الأصل يخرج المورد عن أدلّة الالتزام بالحكم الواقعي. وهذا نص كلامه : لأنّ الالتزام بالأحكام الفرعية إنّما يجب مقدمة للعمل وليست كالأُصول الاعتقادية يطلب فيها الالتزام والاعتقاد من حيث الذات ولو فرض ثبوت الدليل عقلاً أو نقلاً على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي لم ينفع ، لأنّ الأُصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي فهي كالأُصول في الشبهة الموضوعية مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم ، أعني : وجوب الأخذ بحكم اللّه. (1)
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا يدفع بها ( أي بالأُصول ) محذور عدم
1. الفرائد : رسالة القطع : 19 ، طبعة رحمة اللّه.

(78)
الالتزام أو الالتزام بخلافه ، إلابوجه دائر ، وذلك لأنّ جريان الأُصول موقوف على عدم المحذور ، أي محذور عدم الالتزام بالواقع أو الالتزام بخلافه ، والثاني موقوف على جريان الأُصول.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني حاول أن يرد الدور الذي أورده على الشيخ بقوله : « اللّهمّ إلاأن يقال انّ استقلال العقل بالمحذور الخ. وحاصله : العلم بالحكم إنّما يكون علّة لوجوب الالتزام إذا لم يكن هناك ترخيص في الاقدام والاقتحام كما في صورة العلم التفصيلي ، وأمّا إذا كان هناك ترخيص كما هو ظاهر عموم أدلّة الأُصول فلا دور ، لأنّ جريان الأُصول موقوف على عدم المحذور ، والثاني موقوف على عموم الدليل في جانب الأُصول وهو متحقّق.
    ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني كلاماً في عدم جريان الأُصول في أطراف العلم يتلخص في أُمور ثلاثة :
    أ. يشترط في جريان الأُصول العملية وجود الأثر العملي وهو معدوم لاتفاق العلماء على أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية فيجب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين ، كما يجب الإتيان بالظـهر والجمعة ، فإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في جريان استصحاب الطهارة والبراءة في الأمثلة المذكورة.
    والحقّ انّه إشكال تام.
    ب. ما نقله عن الشيخ الأنصاري وقد ذكره قدَّس سرَّه في خاتمة الاستصحاب (1) لا في رسالة القطع ، وهو انّ القول بجريان الأُصول كالاستصحاب يستلزم تناقض صدر الدليل مع ذيله ، فلو شمل قوله : « لا تنقض اليقين بالشك » كلا الاناءين الطاهرين وقد علم بوقوع النجاسة في أحدهما يلزم الحكم بطهارتهما ، ولكن بما انّ
1. الفرائد : 429 ، مبحث الاستصحاب في الأصل السببي والمسببي إذا كان الشكّ مسبباً عن أمر ثالث ، طبعة رحمة اللّه.

(79)
المكلّف عالم بوجود النجاسة في أحدهما يلزم الحكم بنجاسة الإناء الواقعي الذي حلّت فيه النجاسة ، فيلزم أن يكون الإناء الواقعي طاهراً بحكم الصدر ونجساً بحكم الذيل ـ أعني قوله : ولكن انقضه بيقين آخر ـ.
    ج. نعم تأمل المحقّق الخراساني في هذا الإشكال قائلاً بأنّه مبنيّ على أنّ المراد من اليقين في الذيل هو الأعم من الإجمالي والتفصيلي مع أنّه من المحتمل أن يكون المراد هو اليقين التفصيلي ، فعندئذيكون الإناءان محكومين بالطهارة لا بالنجاسة ، لعدم حصول الغاية.
    وفيما ذكره من التأمل ، تأمل واضح إذ لا دليل لانصراف الذيل إلى خصوص العلم التفصيلي وعدم شموله الإجمالي.


(80)
    الأمر السادس
قطع القطاع
    يطلق القطاع ويراد منه تارة : من يحصل له القطع كثيراً من الأسباب التي لو أُتيحت لغيره لحصل لهم أيضاً. وأُخرى : من يحصل له القطع كثيراً من الأسباب التي لا يحصل منها اليقين لغالب الناس.
    والقطّاع بالمعنى الأوّل زين وآية للذكاء ، وبالمعنى الثاني شين وآية التدهور العقلي ، ومحلّ البحث هو القسم الثاني لا الأوّل.
    ثمّ إنّ الوسواس في مورد النجاسات من قبيل القطّاع حيث يحصل له القطع بها من أسباب غير عاديّة ، وفي مورد الخروج عن عهدة التكاليف وسواس لا يحصل له اليقين بسهولة.
    ومنه يظهر حال الظنّان ، فله أيضاً إطلاقان مثل القطّاع حذوَ النعلِ بالنعلِ.
    إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه حُكي عن الشيخ الأكبر كاشف الغطاء عدم الاعتناء بقطع القطاع ، وتحقيق الحق يتوقف على البحث في مقامين :
    الأوّل : ما إذا كان القطع طريقيّاً محضاً.
    الثاني : ما إذا كان القطع موضوعيّاً مأخوذاً في الموضوع.
    أمّا الأوّل : فالظاهر كون قطعه حجّة عليه ، ولا يتصور نهيه عن العمل به


(81)
لاستلزامه وجود حكمين متناقضين في الشريعة ، حيث يقول الدم نجس وفي الوقت نفسه ينهاه عن العمل بقطعه بأنّ هذا دم.
    نعم لو أراد عدم كفايته في الحكم بصحّة العمل بعد انكشاف الخلاف ، كما إذا قطع بدخول الوقت وتبيّن عدم دخوله ، فيحكم عليه بالبطلان ، كان له وجه ، ولكن لا فرق عندئذ بين القطّاع وغيره.
    وأمّا الثاني : أي القطع الموضوعي ، فبما انّ القطع جزء الموضوع فللمقنن التصرف في موضوع حكمه ، فيصح جعل مطلق القطع جزءاً للموضوع كما يصحّ جعل القطع الخاص جزءاً له ـ أي ما يحصل من الأسباب المتعارفة ـ فللنهي عندئذ له مجال ، فإذا قطع بأسباب غير عادية فللشارع النهي عن العمل به ، لأنّ المأخوذ في الموضوع غيره.
    ثمّ لو وقف الإنسان على خطأ القاطع ـ قطاعاً كان أم غيره ـ في الأحكام ، والموضوعات ، فهل يجب على الغير إرشاده أو لا ؟ فالظاهر وجوبه في مورد الجهل بالأحكام بالنظر إلى أدلّة إرشاد الجاهل من غير فرق بين البسيط والمركب ، وأمّا الموضوعات فلا شكّ في عدم وجوب إرشاده إلا في مهام الأُمور كالدماء والأعراض والأموال الطائلة.
    هذا كلّه حول القطاع.
    أمّا الظنّان فيمكن للشارع سلب الاعتبار عنه من غير فرق بين كونه طريقاً محضاً إلى متعلقه ، أو مأخوذاً في الموضوع والفرق بينه وبين القطع واضح ، لأنّ حجّية الظن ليست ذاتية له وإنّما هو باعتبار الشارع ، وجعله حجّة في مجال الطاعة والمعصية ، وعليه يصحّ النهي عن العمل به مطلقاً من غير فرق بين كونه طريقيّاً محضاً أو موضوعيّاً.
    ثمّ إنّ ظنّ الظنّان يكون محكوماً بحكم الشك ، وإليك التوضيح بمثالين :


(82)
    1. لو ظن بعد الخروج عن المحل انّه ترك التشهد ، فلا يعود ، لكونه من قبيل الشك بعد المحل ، نعم لو كان ظاناً متعارفاً كان عليه الرجوع لحجّية الظن في الركعات الأخيرة وأجزاء الصلاة فعلاً أو تركاً.
    2. لو ظن قبل الخروج عن المحل ، بالإتيان فيعود ، لأنّ الشاك في المحل يعود فيحكم عليه بالرجوع والإتيان به مع أنّه لو كان ظاناً متعارفاً كان عليه عدم الرجوع.
    وأمّا الشكّاك ففيه التفصيل : ففي كلّ مورد لا يعتنى بالشك العادي لا يعتنى بشكّ الشكّاك بطريق أولى ، كالشكّ بعد المحل ؛ وأمّا المورد الذي يعتنى فيه بالشكّ العادي ويكون موضوعاً للأثر ، فلا يعتنى بشكّ الشكّاك ، كما في الشك في عدد الركعتين الأخيرتين فلو شكّ بين الثلاث والأربع ، فالشاك المتعارف يجب عليه صلاة الاحتياط بعد البناء على الأكثر ، وأمّا الشكّاك ، فلا يعتنى بشكّه ولا يترتب عليه الأثر بشهادة قوله : « لا شكّ لكثير الشكّ » فلو اعتدّ به أيضاً لم يبق فرق بين الشكّاك وغيره.


(83)
    الأمر السابع
حجّية العقل
في مجالات خاصة
    إنّ العقل أحد الحجج الأربع التي اتفق أصحابنا إلاقليلاً منهم على حجّيته ، ولأجل إيضاح الحال نقدّم أُموراً :
    الأوّل : الإدراك العقلي ينقسم إلى : إدراك نظري وإدراك عملي.
    فالأوّل إدراك ما ينبغي أن يعلم ، كإدراك وجود الصانع وصفاته وأفعاله وغير ذلك.
    والثاني إدراك ما ينبغي أن يعمل ، كإدراكه حسن العدل وقبح الظلم ووجوب ردّ الوديعة وترك الخيانة فيها ، والمقسم هو الإدراك ، فهو ينقسم إلى نظريّ وعمليّ ، وربما يتوسع فيقسم العقل إلى القسمين.
    الثاني : انّ الاستدلال لا يتم إلا بأحد طرق ثلاث : 1. الاستقراء ، 2. التمثيل ، 3. القياس المنطقي.
    والاستقراءالناقص لا يحتجّ به لأنّه لا يفيد إلاالظنّ ، وأمّا الاستقراء الكامل فلا يعدّ دليلاً ، لأنّ المستقرئ يصل إلى النتيجة في ضمن الاستقراء فلا تبقى حاجة للاستدلال بالاستقراء الكامل.
    وبعبارة أُخرى : الاستقراء الكامل علوم جزئية تفصيلية تصبُّ بعد الانتهاء


(84)
في قالب قضية كلية من دون أن يكون هناك مجهول يستدل به على العلم به.
    وأمّا التمثيل ، فهو عبارة عن القياس الأُصولي الذي لا نقول به كما سيوافيك تفصيله عند البحث عن مصادر التشريع عند أهل السنة.
    فتعيّن أن تكون الحجّة هي القياس المنطقي ، وهو على أقسام ثلاثة :
    أ. أن تكون الصغرى والكبرى شرعيتين.
    ب. أن تكون كلتاهما عقليتين ، كإدراك العقل حسن العدل وحكمه بوجوب تطبيق العمل عليه وقبح الظلم وحكمه بالاجتناب عنه ، وهذا ما يعبّر عنه بالمستقلات العقلية ، أو التحسين والتقبيح العقليين. (1)
    ج. أن تكون الصغرى شرعية والكبرى عقلية.
    توضيح القسمين الأخيرين :
    إنّ الأحكام الشرعيّة المستنبطة من الأحكام العقلية تنقسم إلى قسمين :
    الأوّل : ما يُستنبط من مقدمتين عقليّتين ، وهذا كالحكم بحسن العدل وقبح الظلم ، وحكمه بأنّه عند الشرع أيضاً كذلك ، وهذا ما يسمّى بالمستقلات العقلية ، فالدليل بعامة أجزائه عقلي ، فقد حكم بحسن العدل كما حكم بالملازمة بين العقل والشرع.
    الثاني : ما تكون إحدى المقدمتين عقلية ، وهذا كما في باب الملازمات العقلية كوجوب المقدمة فانّ العقل يحكم بثبوت التلازم بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقف عليه ، ويحكم بالحكم الإدراكي بأنّ طالب الشيء طالب لمقدماته ، أو يحكم بثبوت التلازم بين الأمر بالشيء وحرمة أضداده وانّه عند الشرع في كلا الموردين
1. في مقابل الأشاعرة الذين لا يعترفون بهما إلا من طريق الشرع ، فالحسن عندهم ما حسنه الشارع وهكذا القبيح.

(85)
أيضاً كذلك.
    و من المعلوم انّه لا يمكن التوصل بهذا الحكم الكلي إلى وجوب الوضوء إلا بعد تنصيص الشارع بوجوب الصلاة وتوقفها عليه ، فيقال إذا أُريد ترتيب القياس وأخذ النتيجة :
    الوضوء مقدمة للصلاة ، فهذه المقدمة شرعية ، ومقدمة الواجب واجبة عقلاً وشرعاً للملازمة ، فينتج القياس : الوضوء واجب شرعاً.
    الثالث : الفرق بين هذا المقام الباحث عن حجّية العقل وما مرّفي مبحث الأوامر من الملازمات العقلية بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، أو وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، هو انّ البحث السابق كان يدور حول وجود الملازمة بين الإرادتين أو الوجوبين عند العقل وعدمها. ولكن البحث في المقام يدور عن كشفه عن كون الحكم عند الشرع أيضاً كذلك.
    وبعبارة أُخرى : كان البحث السابق منصباً على وجود الملازمة العقلية بين الوجوبين وعدمه ، أو بين الوجوب وحرمة الضدّ وعدمه ، وبعد ثبوتها يبحث في المقام عن حجّية حكمه وكشفه عن حكم الشارع. ونتيجة البحث تكون وجود الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وانّ الواجب عقلاً ، واجب شرعاً أيضاً.
    الرابع : عرف الدليل العقلي بأنّه حكم يتوصل به إلى حكم شرعي ، وربما يعرّف : بأنّه ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب نظري. (1) مثلاً إذا حكم العقل بأنّ الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه ، موجب لحصول الامتثال فيستدلّ به على أنّه في الشرع أيضاً كذلك ، فيترتب عليه براءة الذمة عن الإعادة والقضاء ، أو إذا حكم العقل عند التزاحم بلزوم تقديم الأهم كالنفس المحترمة على المهم كالتصرف في مال الغير بلا إذنه ، فيستدل به على الحكم الشرعي وهو
1. القوانين : 2/2 ؛ مطارح الأنظار : 233.

(86)
وجوب إنقاذ الغريق وجواز التصرف في مال الغير ، كلّ ذلك توصل بالحكم العقلي للاستدلال على الحكم الشرعي.
    الخامس : انّ الاستدلال بالحكم العقلي على الحكم الشرعي يتصور على وجهين :
    أ. إذا أدرك العقل حكم الموضوع عند لحاظه بما هو هو مع قطع النظر عن سائر الجهات من كونه ذات مصلحة أو مفسدة ، موجب لبقاء النظام أو هادم له ، نافع للمزاج أو مضرّله ، بل انتقل بحكمه إذا نظر إلى الموضوع بما هو هو ، من دون لحاظ أي ضميمة من الضمائم ومن أوضح أمثلة هذا القسم استقلاله ، بحسن العدل وحكمه بلزوم فعله ، وقبح الظلم وحكمه بلزوم طرده.
    نعم المورد لا ينحصر بالتحسين والتقبيح ، وسيوافيك انّ كلّ ما يدركه العقل بوصف كونه حكماً عاماً غير مقيد بفاعل خاص ، ولا طرف معين فهو من مصاديق هذا القسم ونظيره : إدراكه الملازمة بين الإرادتين والوجوبين ، أو إرادة ووجوب شيء وحرمة ضدّه ، وهكذا فانّ المدرَك حكم عام غير مقيد بشيء غير انّ التحسين والتقبيح من المستقلات العقلية لكن يجمعهما استقلال العقل في إدراك الحكم العام الذي يشارك فيه الممكن والواجب.
    ب. إذا استقل العقل بالحكم لا بملاحظة الموضوع بما هو هو ، بل بما هو ذات مصلحة أو مفسدة فحكم بلزوم حيازة الأُولى واجتناب الثانية ، فهل يستكشف منه الوجوب أو الحرمة عند الشارع ، أيضاً بحيث يكون العلم بالمصالح والمفاسد من مصادر التشريع الإسلامي ؟
    إذا عرفت ذلك ، فيقع البحث في حجّية العقل في مقامين :
    المقام الأوّل : استكشاف حكم الشرع عند استقلاله بالحكم بالنظر إلى ذات الموضوع ، فنقول : إذا استقل العقل بالحكم على الموضوع عند دراسته بما هوهو


(87)
من غير التفات إلى ماوراء الموضوع من المصالح والمفاسد ، كاستقلاله بقبح تكليف غير المميز ومن لم يبلغه البيان ، فهل يكون ذلك دليلاً على كون الحكم عند الشارع كذلك أو لا ؟ فذهب الأُصوليون إلى وجود الملازمة بين الحكمين ، وما ذلك إلا لأنّ العقل يدرك حكماً عاماً غير مقيّد بشيء.
    مثلاً إذا أدرك العقل ( حسن العدل ) أدرك انّه حسن مطلقاً ، أي سواء كان الفاعل واجب الوجود أم ممكن الوجود ، وسواء صدر الفعل في الدنيا أم في الآخرة ، وسواء كان مقروناً بالمصلحة أو لا ، فمثل هذا الحكم العقلي المدرك يلازم كون الحكم الشرعي أيضاً كذلك ، وإلا لما كان المدرك عاماً شاملاً لجميع تلك الخصوصيات.
    وبذلك تتضح الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في المستقلات العقلية.
    هذا كلّه في المستقلات العقلية وبه يظهر حكم غير المستقلات العقلية التي عرفت معناها ، مثلاً إذا أدرك العقل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، أو وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، أو الملازمة بين ثبوت الجزاء عند ثبوت العلّة المنحصرة وانتفائه عند انتفائها ، يكشف كون الحكم عند الشرع كذلك ، لأنّ الحكم المدرك للعقل حكم عام غير مقيّد بشيء من القيود ، فكما انّ العقل يدرك الملازمة بين الأربعة والزوجية بلا قيد ، فيكون حكماً صادقاً في جميع الأزمان والأحوال ، فكذلك يدرك الملازمة بين الوجوبين أو بين الوجوب والحرمة ، فالقول بعدم كشفه عن كون الحكم عند الشارع كذلك ينافي إطلاق حكم العقل وعدم تقيّده بشيء.
    وبذلك يتضح انّ ادعاء الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع يرجع إلى أنّ الحكم المدرك للعقل حكم مطلق غير مقيد بشيء فيعم حكم الشارع أيضاً.


(88)
    فالاحتجاجات في باب الملازمات مستقلة كانت أو غير مستقلة ترجع إلى كون الحكم المدرَك حكماً مطلقاً شاملاً لكلّ فاعل وظرف ، فإخراج الواجب وإخراج حكمه عن تحت القاعدة خلاف ما يحكم به العقل على وجه الجزم ، فمن حاول نفي الملازمة فعليه أن ينفي الإدراك القطعي للعقل في تلك المجالات وانّه ليس للعقل ذلك الإدراك القطعي العام وأنّى له ذلك.
    المقام الثاني : استكشاف الحكم الشرعي من المصالح والمفاسد في الموضوع دون نظر إلى حكم العقل بحسنه أو قبحه.
    فنقول : إذا أدرك العقل المصلحة أو المفسدة في شيء وكان إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة العامتين اللّتين يستوي في إدراكها جميع العقلاء ، ففي مثله يصحّ استنباط الحكم الشرعي من العقلي.
    نعم لو أدرك المصلحة أو المفسدة ولم يكن إدراكه إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء بل إدراكاً شخصياً حصل له بالسبر والتقسيم ، فلا سبيل للعقل إلى الحكم بالملازمة فيه ، وذلك لأنّ الأحكام الشرعية المولوية وإن كانت لا تنفك عن المصالح أو المفاسد ، ولكن انّى للعقل أن يدركها على ما هي عليها.
    وبذلك يعلم أنّه لا يمكن للفقيه أن يجعل ما أدركه من المصالح والمفاسد ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي بل يجب عليه الرجوع إلى سائر الأدلة.
    فخرجنا بالنتائج التالية :
    أوّلاً : أنّ حكم العقل بشيء في المستقلات العقلية أو في غيرها يكشف عن كون الحكم عند الشرع كذلك شريطة أن يكون العقل قاطعاً ويكون المدرَك حكماً عاماً كما هو الحال في الأمثلة المتقدمة.
    ثانياً : إذا أدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الأفعال إدراكاً نوعياً


(89)
يستوي فيه جميع العقلاء ، كوجود المفسدة في استعمال المخدِّرات ، ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي.
    ثالثاً : استكشاف ملاكات الأحكام واستنباطها بالسبر والتقسيم ثمّ استكشاف حكم الشرع على وفقه أمر محظور لعدم إحاطة العقل بمصالح الأحكام ومفاسدها ، وسيوافيك عند البحث عن سائر مصادر الفقه عدم العبرة بالاستصلاح الذي عكف عليه مذهب المالكية.

    تطبيقات
    يترتب على حجّية العقل في المجالات الثلاثة ، أعني :
    1. باب الملازمات العقلية ، 2. الحسن والقبح العقليين ، 3. المصالح والمفاسد العامتين ثمرات فقهية كثيرة نستعرض قسماً منها.
    أمّا باب الملازمات العقلية ، فيستنتج منها الأحكام التالية :
    1. وجوب المقدمة على القول بالملازمة عند العقل بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.
    2. حرمة ضد الواجب على القول بالملازمة عند العقل بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه.
    3. صحّة العبادة على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، وبطلانها على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي مع تقديم النهي ، وصحّتها على الامتناع لكن على القول بتقديم الأمر.
    4. فساد العبادة إذا تعلق النهي بنفسها.
    5. فساد العبادة إذا تعلق النهي بأجزائها أو شرائطها أو أوصافها ، وقد مرّ انّ الصحّة رهن أحد أمرين : وجود الأمر ، أو وجود الملاك. والأوّل منتف لوجود


(90)
النهي ، والثاني مثله لكشف النهي عن المبغوضية ، وهي لا تجتمع مع الملاك على تفصيل مرّ ذكره.
    6. فساد المعاملة إذا تعلق النهي بالتصرف في الثمن أو المثمن للملازمة بين مثل هذا النهي وفساده.
    7. انتفاء الحكم مع انتفاء الشرط في القضايا الشرطية إذا ثبت كون الشرط علّة منحصرة للملازمة بين انتفاء العلّة المنحصرة وانتفاء معلولها.
    أمّا باب الحسن والقبح العقليين فيستنتج منه الأحكام التالية :
    1. البراءة من التكليف لقبح العقاب بلا بيان.
    2. الاشتغال بالتكليف عند العلم الإجمالي وتردّد المكلّف به بين أمرين لحكمه بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية وحسن عقوبة من لم يخرج عن عهدة التكليف قطعاً.
    3. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة والقضاء لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال على تفصيل مرّفي محلّه.
    4. وجوب تقديم الأهم على المهم إذا دار الأمر بينهما لقبح العكس.
    استكشاف الأحكام من باب إدراك المصالح والمفاسد النوعيين الذي يستوي فيهما كافة العقلاء كاستعمال المخدرات.
    نعم إدراك المصالح والمفاسد ومناطات الأحكام بالسبر والتقسيم فهو أمر مرغوب عنه وإن حصل القطع ، فالقطع حجّة للقاطع لا لغيره ، وليس حجّة على المقلد لاستناده في استنباط الحكم الشرعي على مصدر غير صالح كاستناده على القياس والاستحسان.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس