إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 91 ـ 105
(91)
    عنوان المسألة بين الأخباريين
    هذا هو موقف الأُصوليين من حكم العقل ، وأمّا موقف الأخباريين فهم يرفضون العقل في مجال الاستنباط بأحد الوجهين :
    أ. منع الصغرى وانّه لا يحصل للعقل قطع بالحكم بل كلّ ما يدركه لا يخرج عن تحت الظنون.
    ب. منع الكبرى بعد تسليم الصغرى ، وانّ القطع بالحكم وإن كان حاصلاً ، لكنّه ليس بحجّة لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وإليك دراسة هذين الوجهين :
    أمّا الوجه الأوّل : فهو الظاهر من كلام المحدِّث الاسترابادي رائد الحركة الأخبارية حيث صرّح بأنّه لا يحصل اليقين من التمسك بغير الوحي ، ويدل على ذلك كلامه في مواضع عديدة قال : كلّ مسلك غير التمسك بكلامهم إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنَّ بحكم اللّه وقد أثبتنا سابقاً انّه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها.
    ج. قال في فهرست فصول كتابه : الأوّل : في إبطال التمسك بالاستنباطات الظنية في نفي أحكامه تعالى شأنه ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم اللّه ، أو بحكم ورد عنهم عليهم السَّلام.
    ولكنّه لم يذكر وجه عدم حصول اليقين ونحن نشير إلى الوجوه التي يمكن أن يعتمد عليها الأخباري في ادّعائه فنقول :

    الأوّل : احتمال سعة مناط الحكم عند العقل
    إنّ العقل وإن كان مدركاً للمصالح والمفاسد والجهات المحسنة والمقبحة


(92)
إلا أنّه من الممكن أن تكون لتلك الجهات ، موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع ولم يصل العقل إليها إذ ليس من شأن العقل ، الإحاطة بالواقع. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خلاف المفروض ، لأنّ الكلام فيما إذا حكم العقل بحكم قطعي على الموضوع بما هو هو كقبح الظلم والخيانة في الأمانة ، أو كقبح ترجيح الأهم على المهم ولا يحتمل أن يكون للحكم مانع في الواقع أو شرط عند الشارع ، فما ذكره خارج عن محط البحث.
    نعم لو احتمل العقل أحد هذه الأُمور لم يحكم بحكم باتّ.
    الثاني : جواز خلو الواقعة عن الحكم
    يجوز أن لا يكون للشارع فيما حكم فيه العقل بالوجوب أو الحرمة ، حكم أصلاً لا موافقاً ولا مخالفاً بأن تخلو الواقعة عن الحكم رأساً وعلى ذلك لا حكم للشرع في الموضوع وفاقاً أو خلافاً. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ احتمال خلو الواقعة من الحكم يضاد مع ما ورد عنهمعليهم السَّلام : « ما من شيء إلاوفيه كتاب أو سنة ».
    وفي حديث آخر : أكلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيه أو تقولون فيه ؟ قال : « بل كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه » أو « في الكتاب والسنة ». (3)
    فكيف يمكن أن لا يكون للشارع حكم في الموضوعات الخطيرة ، وقد قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في خطبة حجّة الوداع : « يا أيّها الناس ما من شيء يقربكم من الجنّة ويبعدكم من النار ، إلا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم
1. فوائد الأُصول : 3/60 ، نقله المؤلف من الفصول و لم نعثر عليه فيه.
2. الفصول في علم الأُصول : 337.
3. الكافي : 1/59 ـ 62 ، باب الرد إلى الكتاب والسنّة.


(93)
من الجنة إلاوقد نهيتكم عنه ». (1)
    ثمّ إنّ الأخباريين استدلوا بطوائف من الروايات التي زعموا دلالتها على مدّعاهم ، وإليك استعراضها تحت عناوين خاصة ليسهل للطالب الوقوف على ما لم نذكر من الروايات فانّ جميعها غير خارجة عن تلك العناوين.
    الطائفة الأُولى : لزوم توسيط الحجّة في بيان الحكم
    قامت الأدلّة على لزوم العمل بحكم يتوسط الحجّة في تبليغه وبيانه ولا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجّة ، ويدلّ على ذلك صحيح زرارة « فلو انّ رجلاً صام نهاره ، وقام ليله ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على اللّه ثواب ولا كان من أهل الإيمان ». (2)
    قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « من دان بغير سماع ألزمه اللّه ألبتة إلى الفناء ». (3)
    قال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : « كلما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل » (4) إلى غير ذلك من الروايات.
    يلاحظ عليه أوّلاً : انصراف الرواية إلى المعرضين عن أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام والمستهدين بغيرهم على وجه كان جميع أعمالهم بدلالة سواهم ، وأمّا من أناخ مطيّته على عتبةِ أبوابهم في كلّ أمر كبير وصغير ومع ذلك اعتمد على العقل في مجالات خاصة فالرواية منصرفة عنه جداً.
    وبعبارة أُخرى : كما للآيات أسباب وشأن نزول ، فهكذا الروايات ، فهي تعبّر
1. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 12 من أبواب مقدمات التجارة ، الحديث 2.
2. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 13.
3. الوسائل : 18 ، الباب 10 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 14 و 18.
4. الوسائل : 18 ، الباب 10 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 14 و 18.


(94)
عن سيرة قضاة العامة وفقهائهم كأبي حنيفة وابن شبرمة وأضرابهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام ولم يُنيخُوا مطيّتهم على أبواب أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام فيخاطبهم الإمام بما في هذه الروايات.
    وأمّا فقهاء الشيعة الذين رجعوا في كلّ واقعة إلى الكتاب والسنّة وتمسكوا بالثقلين فلا يعمهم ، والمورد وإن لم يكن مخصِّصاً لكن يمكن إلقاء الخصوصية بالنسبة إلى المماثل والمشابه لا المباين ، وتمسك أصحابنا بالعقل في مجالات خاصة لا يعدُّ إعراضاً عنهم بخلاف غيرهم.
    وثانياً : إذا كان العقل أحد الحجج ـ كما في صحيح هشام ـ فيكون الحكم المستكشف ممّا وصل إلى المكلّف بتبليغ الحجّة أيضاً.
    روى هشام ، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام : « يا هشام إنّ للّه على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ؛ فالظاهرة الرسل والأنبياء والأئمة ، وأمّا الباطنة فالعقول ». (1)
    والقول بلزوم توسط الحجّة الظاهرة ، يلزم طرح ما دلّ على كونه من الحجج.
    الطائفة الثانية : ما تدل على عدم حجّية القياس
    هناك روايات متضافرة دلت على المنع عن العمل بالقياس.
    روى عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى ( عليه السَّلام ) عن القياس فقال : « ما لكم وللقياس انّ اللّه لا يسأل كيف أحل وكيف حرّم ». (2)
    يلاحظ عليه : أنّ العمل بالقياس عمل بالدليل الظني المنهيّ عنه ، وأين هو
1. الكافي : 1/13 ـ 16 ، باب العقل والجهل.
2. الوسائل : 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 15 ؛ ولاحظ الحديث 18 و 28.


(95)
من العمل بالحكم القطعي الذي ربما لا يختلف فيه اثنان ، كما هو الحال في باب التحسين والتقبيح العقليين ، فالاستدلال بهذه الروايات على عدم حجّية العقل في مجالات خاصة استدلال بالمباين على المباين.
    الطائفة الثالثة : ما تدل على عدم حجّية الرأي
    وهناك طائفة أُخرى تدل على عدم حجّية الرأي ، فقد روي عن الإمام علي ( عليه السَّلام ) أنّه قال : « إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه ولم يأخذه عن رأيه ». (1)
    وروى ابن مسكان ، قال : قال أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : « ما أحد أحبَّ إليّ منكم إنّ الناس سلكوا سبلاً شتى ، منهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برأيه ، وانّكم أخذتم بأمر له أصل ». (2)
    المهم في الباب هو تفسير الرأي ، فالمستدل جعله مرادفاً للاستدلال بحكم العقل مع أنّ المقصود منه هو التفسير بما لا يعلم ، قال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : « من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم ». (3)
    وحصيلة الكلام حول تلك الروايات التي استعرضناها وبسطها الشيخ الحرّ العاملي في أبواب متفرقة من أبواب صفات القاضي إنّها وردت في تفنيد عمل فقهاء العامة وقضاتهم الذين لم يستندوا في الأُصول والفروع إلى أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام وأخذوا يُفتون ويقضون بقول كلّ من هبّودبّ معتمدين على معايير وأُصول منهية أو لم يدل عليها دليل ، فإسراء مفاد تلك الروايات إلى عمل أصحابنا الأُصوليين بحكم أنّهم يستدلّون بواضح العقل وبداهة الفطرة على حكم شرعي يَقْضي عجباً.
    إنّ أبا حنيفة بنى فقهاً كبيراً ، والحال انّه لم يثبت عنده من الأحاديث النبوية
1. الوسائل : 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 21 ، 31 ، 12.
2. الوسائل : 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 21 ، 31 ، 12.
3. الوسائل : 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 21 ، 31 ، 12.


(96)
إلا سبعة عشر حديثاً (1) ، فما حال فقه هذا أساسه ؟!ولذلك أخذ الإمام الصادق يذمّ أبا حنيفة وابن شبرمة ، يقول الأخير : دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد عليهما السَّلام فقال لأبي حنيفة : « اتّق اللّه ولا تقس في الدين برأيك ، فانّ أوّل من قاس إبليس ». (2)
    وقال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة : « شرّقا وغرّبا فلا تجدان ، علماً صحيحاً إلا شيئاً صحيحاً خرج من عندنا أهل البيت ». (3)
    الطائفة الرابعة : ما تدل على أنّ المرجع هو الكتاب و السنّة
    هناك روايات تدلّ على أنّ المرجع في الأحكام هو الكتاب والسنّة ، قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال ، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل ». (4)
    وقال ( عليه السَّلام ) : « إنّما الناس رجلان : مُتَّبعُ شرعة ، ومبتدع بدعة ليس معه من اللّه برهان سنة ولا ضياء حجّة ». (5)
    يلاحظ عليها : أنّها بصدد ردّ عمل من يعمل بكلّ ما اشتهر على ألسن الناس وإن لم يكن له دليل مقابل من يرجع إلى الكتاب والسنّة ، ولا صلة له بالبحث أبداً.
1. ابن خلدون ، المقدمة ، طبعة دار ومكتبة الهلال ص 282.
2. الوسائل : 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 2 و 16.
3. الوسائل : 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 2 و 16.
4. الوسائل : 18 ، الباب 10 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 22 و 31.
5. الوسائل : 18 ، الباب 10 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 22 و 31.


(97)
    الأمر الثامن
العلم الإجمالي تنجيزاً وامتثالاً
    هل العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في تنجيز الحكم الواقعي وكفاية الامتثال أو لا وقبل الشروع نطرح سؤالين :
    الأوّل : العلم من مقولة الكشف ، وهو لا يقبل التفصيل والإجمال ، بل أمره دائر بين الوجود والعدم ، وكما هو لا يقبل ذاك التقسيم ، فهكذا لا يقبله ، متعلّقه ، لأنّ تشخّص العلم بالمعلوم كتشخص الإرادة بالمراد ، فلو كان فيه إجمال لسرى إلى العلم أيضاً.
    الجواب : انّوصف العلم بالإجمال من باب وصف الشيء بوصف مصداق متعلقه ، لأنّه لا إجمال في العلم ولا في متعلقه وإنّما الإجمال في مصداق المتعلّق ، فإذا تردّدت النجاسة بين الإناءين ، فهنا علم تفصيلي تعلّق بمتعلق لا إجمال فيه ، أعني : النجاسة ، غير أنّها مردّدة وجوداً ومصداقاً بين الإناءين ، فحقيقة العلم الإجمالي يرجع إلى علم تفصيلي ، انضم إليه الجهل بمصداق المعلوم بالذات.
    الثاني : انّ الأُصوليين يبحثون عن العلم الإجمالي في مبحث القطع أوّلاً ، وفي مبحث الاشتغال ثانياً ، فما هو وجه التكرار ؟!
    الجواب : يمكن أن يُبرّر التكرار بأحد الوجوه الآتية :
    1. ما ذكره الشيخ الأنصاري ، وهو أنّ لاعتبار العلم الإجمالي مرتبتين :


(98)
أحدهما : كونه كالتفصيلي في حرمة المخالفة القطعية ، ثانيهما : كونه كالتفصيلي في وجوب الموافقة القطعية. والمتكفّل للبحث في الأوّل هو مبحث القطع ، وللثاني هو مبحث الاشتغال.
    2. ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ تعدّد البحث لأجل تعدّد الغرض : فالغاية للبحث عنه في مبحث القطع هو التعرّف على أنّه علّة تامة للتنجز أو مقتض له ، فلو قلنا بالأوّل ، يترتب عليه بطلان جعل الترخيص في بعض أطرافه ، وحينئذ لا يبقى مجال عنه في باب الاشتغال. وأمّا لو قلنا انّه مقتض للتنجّز أي انّه قابل لجعل الترخيص ، يبقى مجال للبحث عن ورود الترخيص لبعض الأطراف في الشرع وعدمه ، وهذا ما يبحث عنه في باب الاشتغال ويكون البحث صغروياً.
    3. ما ذكره سيدنا الأُستاذ قدَّس سرَّه هو انّ المراد من العلم الإجمالي في مبحث القطع ، غيره في مبحث الاشتغال ، وذلك انّ المراد منه في المقام هو العلم القطعي الذي لا يرضى المولى بتركه كالعلم بكون أحد الغريقين مسلماً ، بخلاف العلم في مبحث الاشتغال ، فالمراد منه : قيام الحجّة على التكليف ، كما إذا قال : اجتنب عن الدم ، وصار مقتضى إطلاق الدليل هو الاجتناب عنه مطلقاً ، كان معلوماً تفصيلاً أو إجمالاً ، فالمورد الأوّل هو اللائق بمبحث القطع ، ولا شكّ انّ العلم الإجمالي فيه علّة تامّة للتنجز ولا يصحّ معه جعل الترخيص ، والمورد الثاني هو اللائق بمبحث الاشتغال ولا شكّ انّه بالنسبة إلى الأمرين مقتض وقابل لجعل الترخيص لأحد الطرفين أو كليهما.
    إذا عرفت ذلك فاعلم انّ البحث يقع في مقامين :
    الأوّل : في كون العلم الإجمالي منجّزاً كالعلم التفصيلي أو لا.
    الثاني : كون الامتثال الإجمالي كالامتثال التفصيلي.
    أمّا المقام الأوّل ففيه أقوال :


(99)
    1. العلم الإجمالي مقتض لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيتين ومعناه انّه يجوز جعل الترخيص وإن انتهى إلى المخالفة القطعية ، وهو خيرة المحقّق الخراساني في المقام.
    2. كونه علّة تامة لكلا الأمرين وهو خيرته في باب الاشتغال ، ومعناه عدم جواز جعل الترخيص مطلقاً.
    3. كونه علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية ، ومقتضياً للموافقة القطعية ، ومعناه عدم جواز جعل الترخيص في كلا الطرفين وجوازه في واحد منهما.
    استدل المحقّق الخراساني على مدعاه في المقام بالبيان التالي :
    وجود الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي ، فانّ الأوّل بما انّه لا سترة فيه وانكشف الواقع بتمامه فلا موضوع ( الجهل والشك ) لجعل الحكم الظاهري بخلاف المقام ، فانّ وجود الجهل بمصداق المكلّف به والشكّ في كلّ واحد من الطرفين ، يجعل المقام صالحاً لجعل الحكم الظاهري فيجوز للشارع الإذن في المخالفة احتمالاً وقطعاً.
    ثمّ أورد على نفسه إشكالاً ، حاصله : كيف يجتمع العلم بالتكليف مع الإذن في المخالفة المحتملة أو القطعية ؟ ثمّ أجاب بوجهين :
    1. انّه ليس إشكالاً جديداً ، بل نفس الإشكال في الجمع بين الواقعي والحكم الظاهري في باب الشبهة غير المحصورة والشبهة البدوية ، مع العلم بوجود التكليف في الصورة الأُولى واحتمال وجوده في الصورة الثانية ، فإذاً لا فرق بينهما وبين المقام ، وما هو الجواب عنه فيهما هو الجواب عنه في المقام.
    2. يمكن رفع المناقضة بافتراض انّ الحكم الواقعي في الموارد الثلاثة فعلي معلّق ، بمعنى انّه يتنجّز التكليف الواقعي إذا تعلّق به العلم التفصيلي ، والمفروض عدم حصول المعلق عليه ، فبذلك يرتفع التناقض ، وسيأتي تفصيله عند البحث


(100)
عن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.
    وعلى ضوء ذلك فالعلم الإجمالي يوجب تنجّز التكليف لو لم يمنع عنه مانع عقلاً ، كما في أطراف كثيرة غير محصورة ؛ أو شرعاً ، كما إذا أذن الشارع في الاقتحام في المحصورة ـ بناء على شمول قوله : كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه لأطراف العلم الإجمالي ـ كلّ ذلك دليل على أنّ العلم الإجمالي مقتض للتنجز لو لم يمنع عنه مانع.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يصحّ فيما إذا علم التكليف عن طريق إطلاق الحجّة ، كما إذا قال : اجتنب عن الدم ، وكان مقتضى الإطلاق لزوم الاجتناب عن الدم المعلوم بالتفصيل أو بالإجمال ، ففي مثل ذلك يمكن دعوى أنّ العلم الإجمالي ليس بعلّة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، بل هو مقتض بالنسبة إليهما ، وأمّا إذا كان هناك علم وجداني بالحكم بحيث يعلم انّ المولى لا يرضى بتركه أبداً سواء كان معلوماً بالتفصيل أو بالإجمال ، فادّعاء كونه مقتضياً بالنسبة إليهما كما ترى.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استعرض نظرية الشيخ ـ أعني : كون العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية ومقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعية ـ فرد عليه بقوله : « فضعيف جداً » ضرورة انّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة ، فلا يكون عدم القطع بذلك معها ، موجباً لجواز الإذن في الاقتحام بل لو صحّ معها الإذن في المخالفة الاحتمالية صحّ في القطعية أيضاً ». (1)
    توضيحه : أنّ احتمال جعل المتناقضين محال كالقطع بجعل المتناقضين ، ففي مجال جعل الترخيص بالنسبة إلى كلا الطرفين قطع بالتناقض ، وبالنسبة إلى
1. كفاية الأُصول : 36.

(101)
بعض الأطراف ، احتمال له ، لاحتمال انّ الطرف المرخّص فيه حرامٌ في الواقع ، فيكون محكوماً بحكمين متضادين وعلى ضوء ذلك فلا فرق بين الأمرين.
    يلاحظ عليه : أنّ كلام الشيخ ليس بناظر إلى عالم الثبوت وإنّما هو ناظر إلى عالم الإثبات واستظهار الشمول من أدلّة الأُصول ، وانّها هل تختص بالشبهة البدوية ، أو تعمها وأطراف العلم الإجمالي. ولعلّ الشيخ ينظر في كلامه إلى البيان التالي : وهو انّ كلّواحد من أطراف الشبهة بشخصه بما انّه مشكوك وغير معلوم ، فهو داخل في صدر قوله ( عليه السَّلام ) : « كلّ شيء حلال » حتى تعلم انّه حرام. وأمّا المجموع فلأجل العلم بوجود الحرام فيها فهو داخل في ذيل الحديث ، وينتج انّ جعل الترخيص في كلّ واحد بلا مانع أخذاً بصدر الرواية ، وجعل الترخيص في كلا الطرفين ممنوع لدخوله في ذيل الحديث.
    فتكون النتيجة حرمة المخالفة القطعية وجواز المخالفة الاحتمالية.
    إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل ، وحان حين البحث في المقام الثاني.
    المقام الثاني : هل الامتثال الإجمالي كالامتثال التفصيلي ؟
    الامتثال الإجمالي تارة يقع في مقابل التمكن من العلم التفصيلي بالامتثال ، وأُخرى في مقابل التمكن من الحجّة على الامتثال التفصيلي كالاجتهاد والتقليد.
    ويقع الكلام في أمرين :
    الأمر الأوّل : الامتثال الإجمالي في مقابل العلم التفصيلي
    إذا تمكن من الامتثال بالعلم التفصيلي القطعي ، فهل يجزي الامتثال الإجمالي ، كما إذا تمكن من تعيين جهة القبلة بالجهاز الصناعي المفيد للعلم ومع ذلك ، يصلّي إلى أربع جهات ؟ ثمّ إنّ للمسألة صوراً :


(102)
    إنّ المورد إمّا أن يكون توصلياً أو تعبدياً ، وعلى كلا التقديرين إمّا أن يستلزم التكرار أو لا.
    أمّا التوصليات فيكفي الامتثال الإجمالي مطلقاً استلزم التكرار كغسل الثوب النجس بماءين يعلم انّ أحدهما مطلق والآخر مضاف طاهر أو لا ، كما إذا ترددت كيفية الغسل بين العصر بين الغسلتين وعدمه ، لأنّ الفرض هو إنجاز العمل والمفروض انّه أُنجز بأحسن وجه.
    وعلى هذا لو تردّدت صيغة النكاح بين لفظ النكاح أو الزواج ، يجوز له إنشاؤه بكلا اللفظين مع إمكان تحصيل العلم بما يقع به النكاح ، وأمّا ما أورد عليه الشيخ بأنّه قام الإجماع على بطلان العقد المعلق لأجل منافاته الجزم المعتبر في الإنشاء فغير تام ، فانّ كلامه يرجع إلى أمرين :
    1. بطلان العقد المعلّق.
    2. لزوم الجزم في الإنشاء.
    أمّا الأوّل : فمع قطع النظر عن عدم التعلّق في المقام إلافي الضمير بمعنى انّه لو صحّ النكاح بهذا اللفظ فقد أنشأتُ به ، انّه لا دليل على بطلانه إلاما دلّ الدليل الخارجي على بطلانه في مورده كالطلاق ونظيره وإلافالمعلّق كالمنجز عند العقلاء في صحّة الانشائية.
    وأمّا الجزم في الإنشاء ، فإن أراد وجود القصد الجدي لإنشاء النكاح فهو أمر متحقّق ولولاه لما جمع بين اللفظين وإن أراد قصد الإنشاء الجدي بكلّ واحد من اللفظين فليس عليه دليل.
    وأمّا التعبديات ، فيقع الكلام تارة فيما لا يستلزم الاحتياط تكرار العمل ، وأُخرى فيما يستلزمه ، ثمّ الأوّل على قسمين ، لانّ التكليف المحتمل ، تارة يكون تكليفاً مستقلاً ، وأُخرى تكليفاً ضمنياً ، وإليك الأقسام الثلاثة :


(103)
    1. ما لا يستلزم الاحتياط التكرار وكان التكليف المحتمل تكليفاً مستقلاً كما في غسل الجمعة المردّد بين كونه واجباً أو مستحباً ، فالحقّ جواز الاحتياط وجواز ترك الاجتهاد والتقليد ، لأنّ اللازم هو إتيان العمل للّه أو كون المحرك إلى العمل أمره سبحانه.
    وعلى كلا التقديرين فالقربة حاصلة ، والفعل مأتي به لأجله سبحانه ولأمره.
    نعم الذي يفوت المحتاط هو قصد الوجه على وجه الوصفية ، كما إذا قال : اغتسل غسل الجمعة الواجب ، أو الغاية ، كما إذا قال : اغتسل غسل الجمعة لوجوبه ، ولكن الفائت وصفاً كان أو غاية ليس بلازم الاستيفاء ، لأنّه لم يدل دليل عقلي أو شرعي على وجوب قصد الوجه وراء قصد القربة ، بل يمكن أن يقال دلّ الدليل على خلافه.
    وذلك لأنّا لو قلنا انّ قصد الوجه ممّا يمكن أخذه في متعلّق الأمر فإطلاق الأوامر في الشريعة دالّ على عدم وجوبه.
    وإن قلنا بعدم جواز أخذه ، فالإطلاق اللفظي وإن كان مفقوداً لكن الإطلاق المقامي كاف في ردّ احتمال وجوبه ، والمراد منه : أنّ الأُمور التي يغفل عنها جمهور الناس ولا يلتفت إليها ـ إلاالأوحدي منهم ـ لو كانت واجبة لكان على الشارع بيانها ولو ببيان مستقل خارجاً عن متعلق الأوامر والنواهي ، والمفروض عدم وجود مثل هذا الدليل.
    2. ما لا يستلزم الاحتياط التكرار وكان التكليف المحتمل تكليفاً ضمنياً ، كما إذا دار أمر السورة بين كونها مستحبة أو واجبة وفي مثله لا يفوت قصد القربة ، بل يفوته قصد الوجه وتمييز المستحب عن الواجب ولا دليل عليه.
    نعم لو دار أمر الجزء بين كونه واجباً أو مستحباً أو مباحاً ، فيمكن الإتيان


(104)
بالجميع بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة ، وإن كان الأمر بالجزء مشكوكاً ، وذلك لأنّوجود المستحبات والمباحات في ضمن الواجب ليس بمعنى مثل وجود المستحب أو المباح في ضمن الواجب كأدعية شهر رمضان في نهاره ، بل معناه انّ تحقّق الطبيعة لا يتوقف على تلك الأجزاء ، ولكنّه لو أتاه في ضمنها لكانت جزءاً للمأمور به ومن مشخصاته ، فيتعلق بها الوجوب بنفس تعلّقه بسائر الأجزاء.
    3. ما يستلزم الاحتياطُ التكرارَ سواء كانت الشبهة موضوعية كالصلاة إلى الجهات الأربع ، أو حكمية كالجمعة بين صلاة الظهر والجمعة ، وهذا هو محط البحث بين الأعلام ، وانّه هل يجوز مع التمكن من العلم التفصيلي بالامتثال ، الامتثال الإجمالي أو لا ؟
    ذهبت جماعة إلى عدم الجواز مستدلين بالوجوه التالية :
    الوجه الأوّل : ادّعاء الإجماع على عدم الجواز.
    الوجه الثاني : استلزام الاحتياط عدم قصد الوجه والتمييز.
    الوجه الثالث : انّ التكرار استخفاف بأمر المولى.
    الوجه الرابع : عدم صدق الإطاعة التي هي عبارة عن الانبعاث عن بعث المولى ، بحيث يكون الداعي والمحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به وانطباق المأمور به عليه ، وهذا غير متحقّق في الامتثال الإجمالي ، فانّ الداعي إلى الإتيان لكلّ واحد من فردي الترديد ، ليس إلا احتمال تعلّق الأمر به لا الأمر نفسه ، إذ لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص. (1)
    يلاحظ عليه : المهمّ هو الوجه الرابع وسائر الوجوه واضحة الدفع ، فنقول : إنّه إن أراد من كون الإطاعة هي الانبعاث عن بعث المولى هو الانبعاث عن
1. الفوائد : 3/73.

(105)
البعث الموجود في البين ، فالانبعاث عن الأمر بهذا المعنى متحقّق في الامتثال الإجمالي فانّه لا ينبعث ولا يتحمل العناء إلا لامتثال الأمر الموجود ، وإن أراد الانبعاث من تعلّق الأمر بالفرد الذي هو بصدد إتيانه ، فليس شرطاً في صدق الإطاعة.
    وبعبارة أُخرى : المكلّف تارة ينبعث عن الميول النفسية ، وأُخرى عن أمر المولى وبعثه. والمفروض في المقام هو الثاني ، لأنّه في جميع الحالات منبعث من العلم بأمره الموجود في البين حتى أنّه إنّما يمتثل كلّ واحد لأمره سبحانه أي لأجل احتمال تعلّقه به وهو يكفي في صدق الإطاعة.
    فخرجنا بهذه النتيجة : انّ الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي في جميع المراحل إلاإذا كان الفعل في نظر العقلاء أمراً عبثاً.

    الأمر الثاني : في كفاية الامتثال الإجمالي في مقابل الظن التفصيلي
    وقد طرحه الفقهاء في مبحث التقليد ، وانّه هل يجوز للمكلّف أن يحتاط مع إمكان الاجتهاد والتقليد ؟ قال السيد الطباطبائي في عروته : يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً. (1)
    واعلم أنّ العمل بالاحتياط تارة في مقابل الظن المعتبر بالخصوص ويسمى الظنّ الخاص كالخبر الواحد ، أو مقابل الظنّ الانسدادي الذي ثبتت حجيته بترتيب مقدمات خمس.
    أمّا الأوّل ، فالامتثال الظني التفصيلي ليس بأفضل من الامتثال العلمي التفصيلي ، وقد عرفت عدم تقدّمه على الامتثال الإجمالي فكيف يقدم عليه ما هو أدون منه رتبة ؟! والظاهر انّ كلاً من الامتثالين في عرض الآخر. نعم ذكر المحقّق
1. العروة الوثقى ، كتاب التقليد ، المسألة الأُولى.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس