إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 151 ـ 165
(151)
    1. ما هو المراد من وقوع القول عليهم ؟ فيفسر باستحقاقهم العذاب ، لما في الآية 85 من هذه السورة من قوله سبحانه : ( وَوَقَعَ الْقَولُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) فهذا تفسير الآية بالآية ، وكشف الغطاء عنها بالاستعانة بالقرآن ، فلو فسره من عند نفسه لا اعتماداً على آية ، ولا سنّة ، ولا من حجّة أُخرى كان تفسيراً بالرأي ، والذي يؤيد ذاك التفسير وانّ المراد هو استحقاقهم العقاب ذيل الآية ، أعني قوله سبحانه : ( انّ النّاس كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُون ) فالمعنى : لأنّ الناس كانوا غير موقنين بآياتنا.
    2. ما هو المراد من قوله : ( أَخْرَجنا لَهُمْ دابّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُم ) ؟
    ما هو المراد من الدابة ؟ وما صفتها ؟ وكيف تخرج ؟ وماذا تتكلم به ؟ فالآية يغمرها الإبهام فوق الإبهام ، فكشف القناع عن وجه كلّواحد هو التفسير.
    فإذا لم يكن حمل الظاهر في معنى على أنّه المراد تفسيراً للآية ، يكون بالنسبة إلى الجزء الآخر ( برأيه ) أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.
    6. دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف من الكتاب
    هذا آخر الوجوه التي اعتمد عليها الأخباري ، وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه ـ بعد تسليم التحريف ـ :
    1. التحريف لا يمنع عن حجّية ظواهره ، لأنّ الإسقاط لا يلازم حدوث الخلل في آياته.
    2. ولو سلم ، فلا نعلم حدوثه في آيات الأحكام التي هي مورد الابتلاء للفقيه.
    3. ودعوى العلم الإجمالي بوقوع الخلل إمّا في آيات الأحكام ، أو في غيرها ، غير ضائر بحجّية آيات الأحكام ، لعدم منجزية مثل ذاك العلم لعدم إحداثه


(152)
التكليف على كلّ تقدير ، لأنّ الأثر الشرعي ( الحجّية ) لا يترتّب على سائر الآيات التي لا تحمل حكماً شرعياً ، مع أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، فالآيات الواردة في مجال القصص والعقائد والمعارف ليست بحجّة بمعنى ، لا توصف بالتنجّز والتعذير.
    أقول : كان المتوخّى من مثل المحقّق الخراساني هو الوقوف في وجه هذه الفرية التي تمسّ بكرامة القرآن والتشيّع ، وقفة لائقة بحالها حتى يكشف الغطاء عن وجه الحقيقة ، ويترك هذه الأجوبة.
    ترى أنّه خصّ حجّية القرآن بآيات الأحكام ، مع أنّ جميع آياته من أقوى الحجج وأكبرها ، وتوهم انّ الحجّية بمعنى التنجيز والتعذير من خصائص آيات الأحكام ، غير تام ، فانّها حجّة في باب الأعمال ، كما أنّ ما نزل حول العقائد والمعارف حجّة في مجال الاعتقاد ، فما جاء في الكتاب العزيز هو الحجّة في باب المعاد ، أصله ووصفه ، فمن لم يعتقد به أو بوصفه فقد خالف الحجّة المنجزة.
    وبما انّ أعداء الإسلام والتشيع ، اتخذوا فرية التحريف أداة للهجوم على المسلمين أو الشيعة ؛ وقد كفانا في ذلك ، ما حقّقه علماؤنا الأبرار عبر الزمان ، وفيما كتبه الشيخ البلاغي في « آلاء الرحمان » والسيد الخوئي في « البيان » والعلاّمة الطباطبائي في « الميزان » في سورة الحجر والمحقّق المعاصر محمد هادي معرفة في كتاب « صيانة القرآن عن التحريف » غنى وكفاية ، وقد أفرد شيخنا في تفنيد هذه التهمة رسالة طبعت في مقدمة موسوعة طبقات الفقهاء (1) ، ولذلك طوينا الكلام من ذلك.
1. مصادر الفقه الإسلامي : 36 ـ 78.

(153)
الحجج الشرعية
2
    كان البحث السابق حول حجّية الظواهر ـ بعد ثبوت الظهور ـ وقد تبين انّه من الأُمور المفيدة للقطع بالمراد الاستعمالي ـ على المختار ـ أو من الظنون المعتبرة عند العقلاء.
    وحان حين البحث عن حجّية الأدوات التي تثبت الظهور عند الشكّ في أصله.
    اعلم أنّ الشكّ في أصل الظهور يتصوّر على وجوه :
    1. احتمال وجود قرينة حالية خفيت علينا أو سقطت من الكلام ، فهل المرجع هو أصالة عدم القرينة ؟ أو أصالة الظهور ؟ يظهر من المحقّق الخراساني انّ المرجع هو الثاني ، لأنّ العقلاء يحملون اللفظ على المعنى الذي كان اللفظ ظاهراً فيه لولا القرينة ، من دون استعانة بشيء لا أنّهم يبنون عليها بعد الاستعانة بأصالة القرينة.
    ولا يخفى خفاء المراد من قولهم : « أصالة الظهور » فلو كان المراد هو لزوم الأخذ بالظاهر مالم يدل دليل على خلافه ، فهو صحيح ، لكن لا صلة له بالمقام إذ الكلام في وجود الظهور وعدمه.
    2. احتمال قرينية الأمر الموجود ، كورود الأمر بعد الحظر ، فهل هو للوجوب أو لرفع الحظر ؟ والجمل المتعقب بالاستثناء فهل يرجع إلى الأخير وحدها ؟ أو إلى الجميع ؟ أو فيه تفصيل ؟ فإن قلنا انّ المرجع هو أصالة الحقيقة أو عدم القرينة


(154)
وانّـهما أصلان تعبديان فيحمل الأمر على الوجوب ، والجمل ـ غير الأخيرة ـ على العموم ، وأمّا لو قلنا بأنّ المرجع هو أصالة الظهور ، أي حمل الكلام على ما هو ظاهر فيه ، فيكون الكلام مجملاً لعدم الظهور العرفي.
    3. وإن كان الشكّ في ظهور هيئات الجمل ، كهيئة الجمل الاسمية والفعلية ، أوهيئة الجمل الشرطية ، أو الوصفية ، وهيئة الأمر والنهي ، فالمرجع هو علم المعاني ، ولكنّ الأُصوليين أدخلوا قسماً من هذه البحوث في علم الأُصول لمدخليتها في الغرض.
    4. وإن كان الشكّ في ظهور المفردات ، فإن كان الشكّ في هيئتها كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم المبالغة ، فالمرجع هو علم الصرف حيث يبحث عن وضع أسماء الفاعلين والمفعولين.
    5. ولو تعلّق بمادة المفردات ، فقد تقدّم انّ المرجع هو التبادر ، وعدم صحّة السلب والاطراد.
    وهل هنا مرجع آخر وهو قول اللغوي أو لا ؟ فلو أفاد قوله « الظن » وقلنا بحجّيته بالخصوص يكون من قبيل الظن الخاص ، ذهب الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني إلى عدم حجّيته ، وإن عدل الأوّل عن كلامه في هامش الفرائد عدولاً نسبيّاً كما سيوافيك.
    وعلى فرض كونه حجّة ، فهل هو حجة من باب الشهادة ، أو من باب الخبرويّة ؟ فلو قلنا بأنّ تشخيص المعاني الحقيقية من المجازية من الأُمور الحسية ، التي لا يحتاج إلى إعمال النظر والفكر ، فتكون حجّية قوله من باب الشهادة فيعتبر فيه ما هو المعتبر فيها من العدالة والتعدّد.
    وإن قلنا بأنّها من الأُمور التي تتوقف على إعمال النظر والرأي والاجتهاد ، فتكون حجّيته من باب حجّية قول أهل الخبرة ، فلا يعتبر فيه واحد من الأمرين ،


(155)
نعم يعتبر فيه الوثوق والاطمئنان على قول.
    ذهب المحقّق الخوئي إلى القول الأوّل ، وقال : بأنّ تعيين معاني الألفاظ من قبيل الأُمور الحسية التي لا دخل للنظر والرأي فيها ، لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده من الاستعمالات والمحاورات ، وليس له إعمال النظر والرأي ، فيكون داخلاً في باب الشهادة فتعتبر فيه العدالة والتعدّد على قول المشهور. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه قدَّس سرَّه قصر النظر على أصحاب المعاجم المتأخرين المرتزقين من المعاجم الأُمّ ، فليس لهم شأن إلا ما ذكر فيها ، وأمّا أصحاب المعاجم الأوائل ، كالعين للخليل ، والجمهرة لابن دريد ، والمقاييس لابن فارس ، والصحاح للجوهري ، وأساس اللغة للزمخشري ، واللسان لابن منظور ، فعملهم مزيج بالحدس وإعمال النظر ، ويشهد لذلك ، استشهادهم بالآيات والأحاديث النبوية وأشعار الشعراء حيث يُعيّنون موارد الاستعمال بفضل الإمعان فيها.
    إنّ تعيين مواضع استعمال الألفاظ فضلاً عن تعيين معانيها وأوضاعها أمر عسير لا يحصل إلا بالدقة والإمعان ، ومن طالع المقاييس لابن فارس أو أساس اللغة للزمخشري أو اللسان لابن منظور يقف على الجهود التي بذلوها لتبيين مفاهيم الألفاظ وموارد استعمالها ، فالشكّ في أنّ أخبارهم كأخبار أهل الخبرة في غير محله ، وأمّا انّـهم أهل خبرة في تعيين مواضع الاستعمال أو الأوضاع فسيوافيك بيانه.
    وبالجملة استخراج المعاني بفضل الآيات والروايات وأشعار الشعراء وكلمات العرب يحتاج إلى لطف في القريحة ودقة في الكلام ، وقد سئل الأصمعي عن معنى الألمعيّ فأنشد الشعر :
الألمعي الذي يظنُّ بــك الظـنَّ كأن رأى وقد سمعا

1. مصباح الأُصول : 1/131.

(156)
    فانّ الانتقال إلى معنى الألمعي من هذا البيت ، لا ينفك عن الدقة حيث إنّ الموصول وصلته تفسير للمبتدأ وكثير من الناس ربما يسمعون هذا البيت ولا ينتقلون إلى ما انتقل إليه ذلك الأديب.
    أضف إلى ذلك انّ قسماً منهم قد قضى عمره في البادية ليعرف مواضع الاستعمال عن كثب ، وانّ المتبادر هل هو مقرون بالقرينة أو لا ؟ كلّ ذلك لا ينفك عن الاجتهاد واعمال النظر ، وليس مثل رؤية الهلال التي لا تتوقف على شيء سوى فتح العين والنظر إلى السماء.
    فتعيّن انّه لو قلنا بحجّية قول اللغوي فإنّما نقول به من باب أهل الخبرة.
    فنقول : استدل على حجّية قوله ـ بعد كون الأصل عدم حجّية قوله ـ بوجوه :
    الوجه الأوّل : إجماع العلماء على الرجوع إليهم في تفسير القرآن والحديث ، فلا تجد فقيهاً أو محدثاً إلا ويستند إلى أقوال أهل اللغة.
    يلاحظ عليه : بما أورد عليه المحقّق الخراساني من أنّه ليس كاشفاً عن دليل تعبّدي وصل إليهم لم يصل إلينا ، لاحتمال انّهم استندوا في عملهم على بناء العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة ، وأهل اللغة منهم ، فيكون الإجماع مدركياً.
    الوجه الثاني : سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة ، وهذا كما في الأروش والجنايات ، وغيرهما ، وأهل اللغة ، من خبراء تشخيص المعاني الحقيقية والمجازية ، وهذا الدليل هو الدليل المهم.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :
    1. انّ المتيقن من الرجوع إلى رأي أهل الخبرة هو كونه مفيداً للوثوق ، ولا يحصل وثوق بالأوضاع عن قول اللغوي.
    2. انّه ليس من أهل الخبرة ، لأنّ المطلوب هو تشخيص المعاني الحقيقية عن


(157)
المجازية ليُحْمل اللفظ ـ عند التجرّد عن القرينة ـ عليه ، ولكنّ همَّ اللغوي ينحصر في بيان موارد الاستعمال لا تعيين الحقيقة والمجاز ، وليس ذكره أوّلاً دليلاً على كونه المعنى الحقيقي.
    يلاحظ على الوجه الأوّل : أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة لأجل انسداد الطريق إلى الواقع ، فلا طريق إلى تعيين الأرش في باب المعيب ، ومقدار الغبن في البيع الغبني ، وحدّالجناية ، إلاقول أهل الخبرة ، فقولهم حجّة سواء أفاد الوثوق أو لا ، ونظيره الرجوع إلى قول الرجالي في تمييز الثقات عن غيرهم ، أو الرجوع إلى المجتهد في تعيين الوظائف ، فالكلّ من هذا الباب ، وربما لا يفيد قولهم الظن فضلاً عن الوثوق.
    والحاصل : انّ انسداد الطريق جرّ العقلاء إلى إفاضة الحجّية على قول الخبير ، لقطع النزاع وتحصيل المقاصد ، وتقييد الرجوع بإفادته الظن الشخصيّ فاقد للدليل.

    ويلاحظ على الثاني بوجهين :
    أوّلاً : أنّ معاجم اللغة على قسمين قسم ألّف لبيان المعاني الأوّلية للألفاظ وإراءة كيفية اشتقاق سائر المعاني من المعنى الأصلي ، بحيث تكون أكثر المعاني صوراً مختلفة لمعنى أصلي ، وقد ألّف في هذا المضمار المقاييس لابن فارس ، وأساس اللغة للزمخشري ، فالمراجع إلى الكتابين يقف على المعنى الأصلي والمعاني الفرعية المشتقة من المعاني الأصلية ، ثمّ المعاني المجازية.
    وثانياً : أنّ الأُنس بمعاجم اللغة ، يخلق في الإنسان قوّة أدبية ، يميز بها المعنى الحقيقي للّفظ عن المعنى المجازي ، والمراد في المقام عن غيره على وجه يثق بما استخرجه ، ولكنّه رهن الأُنس بكتب اللغة ومطالعتها ، كمطالعة سائر الكتب والرجوع إليها في مشكلات القرآن والحديث والأدب طول سنين.


(158)
    فنقول : فقول اللغوي ـ على هذا ـ وإن لم يكن حجّة ، لكن الرجوع إلى معاجم معدودة أُلّفت بيد فطاحل اللغة ، يورث الوثوق بمعنى اللفظ عند التجرّد عن القرينة ، فلا محيص عن الرجوع بتلك الغاية ، نعم على هذا لا يكون قول اللغوي حجّة ولكن يكون الرجوع إلى المعاجم ذات أهمية كبيرة.
    ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ أورد على السيرة بعدم حجّيتها لعدم وجودها في زمن المعصومين عليهم السَّلام ، لأنّ الرجوع إلى كتب اللغويين أمر حادث بعدهم. (1)
    يلاحظ عليه بأمرين :
    أوّلاً : أنّه إذا أطبق العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة ، وكان الرجوع بمرأى ومسمع من الشارع ، كفى ذلك في تصحيح الرجوع إلى أهل اللغة وإن لم يكن المصداق موجوداً في عصرهم ، وإلا يلزم عدم حجّية رأيهم في المصاديق الجديدة في باب المعاملات والجنايات وهو كما ترى.
    ثانياً : أنّ تاريخ الأدب العربي يكشف عن وجود السيرة في صدر الرسالة ، وقد كان ابن عباس مرجعاً في تفسير غريب اللغة وقد سأله نافع بن الأزرق عن لغات القرآن مايربو على مائة وسبعين مورداً ، فأجاب على الجميع مستشهداً بشعر العرب ، وقد نقل الجميع السيوطي في إتقانه ، وكان يقول : إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر ، فانّ الشعر ديوان العرب. (2)
    أضف إليه انّ الأجانب كانوا يتعلمون معاني الألفاظ ومفاهيمها من أهل اللغة ، فحجّية رأي أهل اللسان في بيان معاني الألفاظ ، يوجب حجّية قول اللغوي خصوصاً إذا كان من أهل اللسان.
    الوجه الثالث : ما أشار إليه الشيخ الأنصاري من انسداد باب العلم
1. تهذيب الأُصول : 2/97.
2. الإتقان : 1/382 ـ 416.


(159)
بتفاصيل المعاني بحيث يعلم بدخول المشكوك أو خروجه ـ وإن كان المعنى معلوماً في الجملة ـ وإلى ذلك أشار الشيخ الأنصاري بقوله : والإنصاف انّ موارد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها وإن كان المعنى في الجملة معلوماً من دون مراجعة اللغوي كما في مثل ألفاظ الوطن والمفازة ، والتمر ، والفاكهة والكنز والمعدن والغوص وغير ذلك من متعلقات الأحكام ممّا لا تحصى ، وإن لم يكن الكثرة بحيث يوجب التوقف فيها محذوراً. (1)
    وقد أورد عليه المحقّق الخراساني ما هذا حاصله : من أنّ الانسداد الصغير لا يثبت حجّية قول اللغوي ، وذلك لأنّ باب العلم والعلمي للأحكام الشرعية ـ التي يهمّ المجتهد ـ إمّا مفتوح أو مسدود ، فعلى الأوّل ، لا وجه لحجّية الظن الحاصل من قول اللغوي ، وإن حصل منه الظن بالحكم الشرعي ، لفرض انفتاح باب العلم بالأحكام ، وعلى الثاني ، يكون الظن على الإطلاق حجّة إذا وقع في طريق الاستنباط ومنه الظن الحاصل من قول اللغوي ، وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد. (2)
    يلاحظ على الشقّ الأوّل : بأنّ فرض انفتاح باب العلم والعلمي في جميع الأحكام الشرعية ، يلازم حجّية قول اللغوي في الموارد التي يتوقف استنباط الأحكام على فهم التفاصيل وإلا فيكون فرض الانفتاح في جميع الأحكام فرضاً باطلاً ، لأنّ قسماً من الأحكام لا يعلم إلا من طريق قول اللغوي ، فكيف يكون باب العلم والعلمي مفتوحاً في عامة الأحكام الشرعية ، مع عدم حجّية قول اللغوي الذي يتوقف عليه استنباط بعض الأحكام ؟!
1. الفرائد : 47.
2. في كلام الشيخ الأنصاري أيضاً إشارة إلى هذا الإشكال فلا تغفل.


(160)
الحجج الشرعية
3
    إنّ الأصل الأوّلي فيما يمكن الاحتجاج به عدم الحجّية إلا إذا قام الدليل القطعي على حجّيته ، وقد عرفت خروج الأمرين عن تحت ذلك الأصل : أ. الظواهر ، ب. قول اللغوي على التفصيل الذي مضى.
    وممّا قيل بخروجه عن تحت ذلك الأصل هو إجماع العلماء على حكم شرعي إذا نقل بخبر الواحد ، وطبع البحث يقتضي ثبوت أمرين قبل الخوض في هذه المسألة :
    الأوّل : حجية الإجماع المحصل لنفس الناقل حتى يُبحث عن حجّيته للغير إذا نقل إليه.
    الثاني : حجّية خبر الواحد في نقل الحجج.
    لكن العلمين ـ الأنصاري والخراساني ـ بحثوا عن الإجماع المحصل في خلال البحث عن الإجماع المنقول وأخّروا البحث عن حجّية خبر الواحد ، ونحن نقتفيهما ولكن بتفاوت يسير ، وهو إنّا نعقد لكلّ من الإجماعين بحثاً مستقلاً ، فنقول :
    الإجماع لغة هو العزم ففي الحديث « من لم يُجْمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ». (1)
1. جامع الأُصول : 7/186.

(161)
    وفي الذكر الحكيم عند سرده لقصة يوسف : ( فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ في غَيابَتِ الْجُبِّ ) (1) وأمّا الاتفاق فإنّما يفهم من ذكر المتعلّق ، يقال : أجمع القوم على كذا أي اتفقوا ، قال سبحانه : ( فَأَجْمعُوا أَمْرَكُمْ وَشُركاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة ). (2)
    وأمّا اصطلاحاً فقد عرّف بتعاريف ، وبما انّ ملاك حجّيته عند السنّة غير ملاكها عند الشيعة ، نطرح كلاً بوجه مستقل ، فنقول :

    الإجماع المحصّل عند أهل السنّة
    عرّفه الغزالي بقوله : إنّه اتفاق أُمّة محمّد( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي. (3)
    وعلى هذا التعريف لا يكفي اتّفاق أهل الحلّ والعقد ولا المجتهدين بل يجب اتّفاق جميع المسلمين ، وهذا ما لا ينطبق إلا على الضروريات وإن كان أكثر انطباقاً لما أقاموا من الدليل من عصمة الأُمّة ، ومع ذلك أعرض عنه أكثر أهل السنّة ، فعرّفوه بالنحو التالي :
    اتّفاق أهل الحلّ والعقد على حكم من الأحكام ، أو اتّفاق المجتهدين من أُمّة محمّد في عصر على أمر ، إلى غير ذلك من التعاريف.
    والمهم في المقام هو الوقوف على وجه حجّية الإجماع عند أهل السنة ، وهذا هو الذي نطرحه فيما يلي :
1. يوسف : 15.
2. يونس : 71.
3. المستصفى : 1/110.


(162)
    مكانة الإجماع في الفقه السنّي
    قد عرفت أنّ الإجماع بما هو إجماع ليس من أدوات التشريع ومصادره ، وانّ حجّيته تكمن في كشفه عن الحكم الواقعي المكتوب على الناس قبل إجماع المجتهدين وبعده.
    وأمّا على القول باختصاص الحكم الواقعي المشترك بما ورد فيه النص عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وترك التكليف فيما سواه إلى اجتهاد المجتهد ، فيصير الإجماع من مصادر التشريع ، فيعادل الكتاب والسنّة في إضفاء المشروعية على الحكم المتفق عليه ، ويصير بالاتفاق حكماً واقعياًً إلهياً.
    ويوضحه الأُستاذ السوري « وهبة الزحيلي » بقوله : ونوع المستند في رأي الأكثر ، إمّا دليل قطعي من قرآن أو سنّة متواترة ، فيكون الإجماع مؤيّداً ومعاضداً له ؛ وإمّا دليل ظني وهو خبر الواحد والقياس ، فيرتقي الحكم حينئذ من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين. (1)
    ومعنى ذلك انّه لابدّ أن يكون للإجماع من دليل ظني ، فإذا اتّفق المجتهدون على الحكم ولو لأجل ذلك الدليل الظني يصبح الحكم قطعيّاً ، ـ وما ذاك ـ إلا لأجل دوران الحكم مدار الاتفاق وعدمه.
    يقول الشيخ عبد الوهاب خلاّف : من حقّق النظر في منشأ فكرة الإجماع في التشريع الإسلامي ، وفي كيفية الإجماع الذي انعقد في أوّل مرحلة تشريعية بعد عهد الرسول ، وفي تقدير المجمعين لمن عقد عليه إجماعهم من الأحكام ، يتحقّق أنّ الإجماع أخصب مصدر تشريعي يكفل تجدّد التشريع وتستطيع به الأُمّة أن تواجه كلّ ما يقع فيها من حوادث ، وما يحدث لها من وقائع ، وأن تساير به الأزمان
1. الوجيز في أُصول الفقه : 49.

(163)
ومختلف المصالح في مختلف البيئات.
    ثمّ قاس فكرة الإجماع بالشورى وقال : ومنشأ فكرة الإجماع انّ الإسلام أساسه في تدبير شؤون المسلمين ، الشورى ، وأنْ لايستبد أُولي الأمر منهم بتدبير شؤونهم سواء أكانت تشريعية ، أم سياسية ، أم اقتصادية ، أم إدارية أم غيرها من الشؤون ، قال اللّه تعالى مخاطباً رسوله : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْلَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (1) ، ولم يخص سبحانه بالمشاورة أمراً دون أمر ... ليشعرهم أنّ الشورى من عمد دينهم كإقامة الصلاة.
    وعلى هذا الأساس كان الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يستشير رؤوس صحابته في الأُمور التي لم ينزل وحي من ربِّه ، وممّا كان يستشيرهم فيه التشريع فيما لم ينزل فيه قرآن ـ إلى أن قال : ـ فلمّا توفّي رسول اللّه وواجهت أصحابه وقائع عديدة لم ينزل فيها قرآن ولم تمض فيها من الرسول سنّة سلكوا السبيل الذي أرشدهم إليه القرآن وهو الشورى ، والذي سلكه الرسول فيما لم ينزل فيه قرآن وهو الشورى.
    إلى أن استنتج في كلامه المسهب ما هذا نصّه : ومن هنا يتبيّن أنّ إجماع الصحابة ما كان إلا اتّفاق من أمكن اجتماعهم من رؤوسهم وخيارهم على حكم واقعة لم يرد نص بحكمها ، وأنّ الذي دعاهم إلى اتّباع هذا السبيل هو العمل بالشورى التي أوجبها اللّه وسار عليها الرسول ، وتنظيم اجتهاد الأفراد فيما لا نصّ فيه ، فبدلاً من أن يستقل كلّ فرد من خيارهم بالاجتهاد في هذه الوقائع اجتمعوا وتشاوروا وتبادلوا الآراء ، والخليفة ينفذ الحكم الذي اتّفقوا عليه. (2)
    ولا يخفى ما في كلمات الأُستاذ من الخلط.
    أمّا أوّلاً : فقد تضافرت الآيات القرآنية على أنّ التشريع حقّ مختص باللّه
1. آل عمران : 159.
2. مصادر التشريع الإسلامي : 166 ـ 167.


(164)
تبارك وتعالى ، وأنّ كلّ تشريع لم يكن بإذنه فهو افتراء على اللّه وبدعة ، وليس على الناس إلا الحكم بما أنزل اللّه ، ومن حكم بغيره فهو كافر وظالم وفاسق. (1)
    قال سبحانه : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاّ للّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفاصِلِين ). (2)
    ومع هذا التصريح فكيف يكون للبشر الخاطئ غير الواقف على المصالح والمفاسد حقّ التشريع على الإنسان على وجه يكون نافذاً ، إلى يوم البعث ؟!
    نفترض أنّ لفيفاً من الصحابة بذلوا جهوداً فوصلوا إلى أنّ المصلحة تكمن في أن يكون حكم الواقعة هو هذا ، أفهل يكون إجماعهم على ذلك الحكم ـ دون أن يكون مستمداً من كتاب أو سنّة ـ حجّة على البشر إلى يوم القيامة ، لو لم نقل انّ اتّفاقهم على الحكم عندئذ بدعة وافتراء على اللّه ؟!
    وثانياً : أنّ عطف الإجماع على المشورة من الغرائب ، فإنّ النبي كان يستشير أصحابه في الموضوعات العرفيّة التي ليس للشارع فيها حكم شرعي ، وإنّما ترك حكمها إلى الظروف والملابسات وإلى الناس أنفسهم ، حتى نجد انّ أكثر مشاورات النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كانت تتم في كيفية القتال والذبّ عن حياض الإسلام.
    فهذا هو رسول اللّه يشاور المسلمين في غزوة بدر قبل اصطدامهم بالمشركين ، وقال : أشيروا عليّ أيّها الناس ، وكأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يريد أن يقف على رأي أصحابه في السير إلى الأمام وقتال المشركين ، أو الرجوع إلى الوراء ، ولم يكن في المقام أيّ حكم مجهول حاول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أن يستكشفه عن طريق المشاورة ، وكم فرق بين المشاورة في الموضوعات العرفية والمشاورة لكشف حكم شرعي منوط بالوحي ؟
1. راجع سورة المائدة : الآيات : 44 و 45 و 47.
2. الأنعام : 57.


(165)
    وهذه هي مشاورته الثانية في معركة أُحد حيث شاور أصحابه ، ليقف على كيفية مجابهة المشركين وأُسلوب الدفاع عن الإسلام فأدلوا بآرائهم ، فمن طائفة تصرّ على أن لايخرج المسلمون من المدينة ويدافعوا عنها متحصنين بها ، إلى أُخرى ترى ضرورة مجابهة المشركين خارج المدينة. (1)
    إلى غير ذلك من مشاوراته المنقولة في كتب التاريخ كمشاورته في معركة الأحزاب وغيرها.
    ومن تتبع المشاورات التي أجراها النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مع أصحابه في التاريخ يقف على حقيقة ، وهي : انّنا لا نكاد نعثر على وثيقة تاريخية تثبت أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) شاورهم في أُمور الدين والفتيا ، بل كانت تلك المشاورات تتم في أُمور الدنيا ولما فيه صلاح أُمورهم.

    أدلّة عدِّ الإجماع من مصادر التشريع
    ثمّ إنّك بعد الوقوف على ما ذكرنا ـ من أنّ الإجماع ليس من مصادر التشريع ، وإنّما العبرة فيه قابلية كشفه عن الواقع وإصابته ، وهذا يختلف باختلاف مراتب الإجماع كما سبق ـ في غنى عن البرهنة على حجّية الإجماع ، وإنّما يقوم به من رأى أنّ نفس الإجماع بما هو إجماع من مصادر التشريع ، فاستدلوا بآيات :
    الآية الأُولى : قوله سبحانه : ( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤْمِنينَ نُولِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً ). (2)
1. مغازي الواقدي : 1/211.
2. النساء : 115.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس