إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 136 ـ 150
(136)
النحو ، فعملية التبويب أوجبت التقطيع فمن المحتمل وجود قرينة مؤثرة في انعقاد الظهور وقد اختفت علينا بسبب التقطيع.
    قلت : إنّ التقطيع حصل بأيدي أبطال الحديث كالكليني والشيخ وغيرهما ، فلو كانت في الكلام قرينة مؤثرة في انعقاد الظهور ، لما تركوا نقلها.
    وربّما يجاب عن الشبهة بأنّ الأجوبة الصادرة عن الأئمّة ليست إلا كالكتب المؤلفة التي ذهب المحقّق القمي فيها إلى الحجّية بالنسبة إلى المشافه وغير المشافه ، وذلك لأنّ الأحكام لمّا كانت مشتركة بين الأُمّة يجري الخطاب الخاص مجرى الخطاب العام في أنّ الغرض نفس الكلام من غير دخل في إفهام مخاطب خاص. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ كون الحكم مشتركاً غير كون الخطاب مشتركاً وعاماً ، وكون الحكم متوجهاً إلى الكلّ غير كون الخطاب متوجهاً إليهم ، فإذا كانت الخطابات شخصية يأتي فيها ما احتمله المحقّق القمي من اعتماد المتكلّم على القرائن المنفصلة والمتصلة غير المنقولة أو الحالية غير القابلة للنقل.
    وربما يجاب بجواب ثان وهو : انّه إذا كان الراوي الأوّل مقصوداً بالخطاب للإمام يكون الراوي الثاني مقصوداً بالخطاب للراوي الأوّل ، وهكذا إلى أن يصل إلى أصحاب الجوامع ، فالمقصود بالإفهام هو كلّ من نظر فيها ، فلا يترتب على ذلك التفصيل ثمرة عملية. (2)
    والحاصل : انّ هذه التفاصيل من الشبهة والأجوبة نتيجة جعل الظواهر من الظنون ، فلو كان مختار القوم ما ذكرنا لما كان لهذه البحوث محل.
1. تهذيب الأُصول : 2/95.
2. مصباح الأُصول : 2/122.


(137)
    الجهة الرابعة : في حجّية ظواهر الكتاب
    قد نقل عن بعض أصحابنا الأخباريين عدم حجّية ظواهر الكتاب ، وهذه الدعوى ممّا يندى لها الجبين إذ كيف تكون المعجزة الكبرى للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مسلوبة الحجّية ؟!
    وعلى أيّة حال انّ الاقتصار في الاستنباط على السنّة دون الكتاب كانت بمثابة ردّ فعل لما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب انّه قال ـ عند ما طلب النبي( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) القلم والدواة ليكتب كتاباً ـ : حسبنا كتاب اللّه. (1)
    وكلا القولين على طرفي الإفراط والتفريط.
    وقبل الخوض في تحليل أدلّة الطرفين نحرر محلّ النزاع ، فنقول :
    المراد من حجّية ظواهر القرآن هو الاستفادة من عموماته ومطلقاته بعد الفحص عن القرائن العقلية أو اللفظية المتصلة أو الحالية المنقولة بخبر الثقة ، خصوصاً الفحص عن مقيداته ومخصصاته في أحاديث العترة الطاهرة ، فإذا تمّت هذه الأُمور يقع البحث في صحّة الاحتجاج بظواهر القرآن أوّلاً ، وإلا فالاستدلال بظواهر القرآن مع قطع النظر عن جميع القرائن والروايات أمر مرفوض بنفس الكتاب والسنّة قال سبحانه : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون ). (2)
    واللّه سبحانه عرّف النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بأنّه مبيّن للقرآن ، وأمر الناس بالتفكّر فيه ، فللرسول سهم في إفهام القرآن كما أنّ لتفكر الناس سهماً آخر ، فبهذين الجناحين يُحْلِّق الإنسان في سماء معارفه ويستفيد من حكمه وقوانينه.
1. صحيح البخاري : 1/22 ، كتاب العلم;و ج2/14.
2. النحل : 44.


(138)
    هذا هو محلّ النزاع ، فالأُصولي ذهب إلى وجوب الاستضاءة بنور القرآن فيما يدل عليه بظاهره ، والأخباري إلى المنع ، وأنّ الاستدلال بالقرآن يتوقف على تفسير المعصوم ، فيصح الاحتجاج بتفسيره لا بنصِّ القرآن.
    إذا عرفت ذلك ، فيدل على قول الأُصوليين أدلّة كثيرة.

    الأوّل : دلالة القرآن على صحّة الاحتجاج به
    قد دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن نور ، والنور بذاته ظاهر ومظهر لغيره ، قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) (1). وفي آية أُخرى : ( قَدْجاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِين ) (2) فلو كان قوله : ( وَكِتابٌ مُبين ) عطف تفسير لما قبله ، فيكون المراد من النور هو القرآن.
    انّه سبحانه يصف القرآن بأنّه تبيان لكلّ شيء ، وحاشا أن يكون تبياناً له ولا يكون تبياناً لنفسه : قال سبحانه : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْء وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمين ) (3). وقال سبحانه : ( إِنَّ هذا القُرآن يَهْدِي لِلَّتي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبيراً ). (4)
    أفيمكن أن يَـهدِي من دون أن يكون المهتدي مستفيداً من هدايته ؟!
    فإن قلت : إنّ الاستدلال بظواهر القرآن على حجّيتها دور واضح ، فانّ الأخباري لا يقول بتلك المقالة.
1. النساء : 174.
2. المائدة : 15.
3. النحل : 89.
4. الاسراء : 9.


(139)
    قلت : إنّ الاحتجاج ـ في المقام ـ على حجّية القرآن إنّما هو بنصوصه لا بظواهره ، والأخباري إنّما يمنع حجّية ظواهره لا حجّية نصوصه.
    الثاني : تحدّي النبي بالقرآن
    إنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) تحدّى الناس بالقرآن ، والتحدّي يتوقف على فهم الكتاب ودركه ثمّ مقايسته بالكتب الأُخرى ثمّ القضاء بأنّه فوق كلام البشر ، ولا يخطو الإنسان هذه المراحل إلا إذا كان القرآن كلاماً مفهوماً وحجّة على المخاطب ، فلو كان فهمُ القرآن منوطاً بتفسير الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لزم منه الدور ، فانّ ثبوت رسالته متوقف على إعجاز القرآن ، وهو متوقف على فهمه ، وفهمه متوقف على تفسيره ، وتفسيره متوقف على حجّية قوله ، وهو متوقف على ثبوت رسالته التي هي متوقفة على إعجاز القرآن.
    على ذلك فليس فهم القرآن رهن تفسيره ، غاية الأمر بما أنّ مقتضى التشريع فصل المخصِّصات والمقيِّدات عن المطلقات والعمومات فلا يحتج بها إلا بعد الرجوع إلى المقيّدات والمخصصات في السنَّة.
    وقد فهم الوليد بصفاء ذهنه وصميم عربيته انّ بلاغة القرآن خارجة عن طوق القدرة البشرية وقال ـ لماّ سمع آيات من سورة فصلت من الرسول الأعظمـ : لقد سمعت من محمّد كلاماً لا يُشبه كلام الإنس ولا كلام الجنّ ، وإنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وهو يعلو ولا يعلى عليه. (1)
    فإن قلت : إنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يتحدّى بنصوص القرآن لا بظواهره.
    قلت : هذا إنّما يصحّ لو لم يتحدّ القرآن بكلّ الآيات ، قال سبحانه :
1. مجمع البيان : 5/387 ، ط صيدا.

(140)
( وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْب مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين ) (1). وعلى هذا فالنبي تحدّى بكلّ سورة من سور القرآن دون فرق بين نصّه وظاهره.
    فإن قلت : يكفي في ثبوت رسالته سائر معاجزه ، فإذا ثبتت نبوته بهذا ، يكون قوله حجّة في تفسير كتابه وصحيفته.
    قلت : إنّ معنى ذلك عدم صحّة التحدّي بالكتاب وهو مردود بنفس الكتاب العزيز.
    والحاصل : انّ تحدِّي النبي في صدر عصر الرسالة بنفس القرآن قبل أن تثبت رسالته وحجّية قوله ، دليل على أنّ القرآن أمر مفهوم وحجّة على المخاطب في كشف مفاهيمه وحقائقه.
    نعم لا يحيط بكلّ حقائق القرآن وشؤونه سوى المعصوم ، ولكن الإحاطة به من جميع الجهات شيء ، ودرك ما يتوقف عليه التصديق بإعجازه شيء آخر ، والأوّل يختص بالمعصوم دون الثاني.
    ولك أن تستنتج من هذا البرهان الذي أُقيم على حجّية الظواهر ، أمراً آخر ـ له مساس بالجهة الأُولى من الجهات الأربع ـ وهو انّه لو كانت دلالة الظواهر ظنّية ، لزم أن يكون القرآن معجزة ظنية ، لأنّ الإعجاز أمر قائم باللفظ والمعنى ، فلو كان ما يفهمه من ظواهر آياته ، مفهوماً ظنياً ، يكون إعجازه مبنياً على أساس ظني ، والنتيجة تابعة لأخسّ المقدمات ، والإعجاز الظني لا يكون عماداً للنبوة التي تطلب لنفسها دليلاً قطعياً.
1. البقرة : 23.

(141)
    الثالث : حديث الثقلين
    قد تضافرت بل تواترت الروايات عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على لزوم التمسّك بالثقلين وفسرهما بالكتاب والعترة وقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا » فجعل كلاً من الثقلين حجّة ، وانّ كلاً يؤيد الآخر.
    الرابع : الروايات التعليمية
    هناك قسم عظيم من الروايات تحكي عن أنّ الأئمّة كانوا يحتجون بظواهر الكتاب على أصحابهم ، ويعلمون كيفية استفادة الأحكام منها ويفسرونها لا تفسيراً تعبديّاً ، بل تفسيراً تعليمياً ، بمعنى انّ الإمام لا يتكلّم بما هو إمام ، بل بما هو معلِّم يرشد إلى كيفية دلالة الآية على المقصود ، بمعنى انّ الطرفين قد اتّفقا على كون الكتاب حجّة في حدّ ذاته ، ويتحاوران في ما هو المقصود من الآية ، فلولا انّ الكتاب حجّة لما كان لهذا النحو من التمسّك وجه ، وإليك نماذج :
    ألف : سأل زرارة أبا جعفر ( عليه السَّلام ) وقال : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فقام الإمام بتفسير الآية على وجه تعليمي إرشادي إلى ما تدل عليه بلفظها ، فقد استدل على كون المسح ببعض الرأس بلفظة « الباء » وعلى لزوم مسح بعض الرجلين دون غسلهما بوصل الرجلين بالرأس وكونه معطوفاً على الرأس. (1)
    ب : سأل عبدالأعلى ـ مولى آل سام ـ أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) عمّن عثر فوقع ظفره فجعل على اصبعه مرارة ؟ فقال : « إنّ هذا وأشباهه يعرف من كتاب اللّه : ( ما
1. الوسائل : 1 ، الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث 1.

(142)
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) (1) ـ ثمّ قال : امسَح على المرارة » فأحال الإمام حكم المسح على اصبعه المغطّى بالمرارة ، إلى الكتاب. وقد أوضح الشيخ الأعظم كيفيه الاستفادة من الآية فلاحظ. (2)
    ج : سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر ، عن وجوب القصر على المسافر مع أنّه سبحانه يقول : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاة ) (3) ولم يقل « افعلوا » فأجاب : « إنّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاجُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (4) مع أنّ الطواف بهما واجب ». (5) فأرشد الإمام تلميذيه إلى أنّ الآيتين في مقام دفع توهم الحظر ، لا في مقام بيان ما هو الحكم الشرعي فانّه يطلب من السنّة الشريفة.
    د. روى عبد اللّه بن بكير ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) انّه شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر ، وادّعى انّه حديث العهد بالإسلام ولو علم انّه حرام اجتنبها ـ فانتهى الأمر إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام ـ فقال : « ابعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار ، من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه » ففعلوا ذلك به ، فلم يشهد عليه أحد انّه قرأ عليه آية التحريم فخُلّـي سبيله. (6)
    هـ. سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر ( عليه السَّلام ) ، عن رجل صلّى في السفر أربعاً أيعيد أم لا ؟ قال : « إن كان قرئت عليه آية التقصير وفسرت أعاد أربعاً ، وإن
1. الحج : 78.
2. الوسائل : 1 ، الباب 39 من أبواب الوضوء ، الحديث 5 ؛ ولاحظ الفرائد : 47.
3. النساء : 101.
4. البقرة : 158.
5. الوسائل : الجزء 5 ، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث 2.
6. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 10 من أبواب حدّالمسكر ، الحديث 1.


(143)
لم يكن قُرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه » (1) والمراد من التفسير هو انّ قوله سبحانه : ( لا جُناح ) لدفع توهم الحظر وانّ الحكم يؤخذ من السنّة ، أو المراد انّ تقيّد التقصير بالخوف مورديّ وحكم اللّه مطلق ، وتقييد حجّية الآية بهذا النوع من التفسير لا يخل بالمقصود ، لما قلنا عند تحرير محلّ النزاع ، من أنّ المقصود هو التمسك بالقرآن بعد الرجوع إلى السنّة.
    إلى غير ذلك من الروايات التي استدل فيها الإمام برهاناً أو جدلاً ، فلاحظ.
    الخامس : عرض الروايات المتعارضة على القرآن
    قد تضافر عنهم عليهم السَّلام في مورد تعارض الروايات ، لزوم عرضها على القرآن ، فما وافق كتاب اللّه يؤخذ به ، وما خالف يضرب به عرض الجدار ، فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه ». (2) وسيوافيك في محلّه ، انّ موافقة الكتاب ، ليست من المرجحات ، بل من مميّزات الحجّة عن اللاحجّة.
    السادس : عرض الشروط على كتاب اللّه
    روى الكليني بسند صحيح ، عن عبد اللّه بن سنان الثقة قال : سمعته يقول : « من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب اللّه فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم ما وافق كتاب اللّه » وفي رواية أُخرى : « المسلمون عند شروطهم إلا كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فلا يجوز ». (3)
1. الوسائل : الجزء 5 ، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث 4.
2. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 10 ؛ ولاحظ الحديث 11 ، 12 ، 14 إلى غير ذلك.
3. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 6 من أبواب الخيار ، الحديث 1 و 2 ؛ ولاحظ أحاديث الباب.


(144)
    السابع : القرآن في حديث النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم )
    يعرف الرسول الأعظم بأنّ القرآن هو المرجع لدى التفاف الفتن بالأُمّة ، قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « إذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فانّه شافع مشفع ، وماحل مصدق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل ، وبيان تحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ». (1)
    وعنه ـ صلوات اللّه عليه وآله ـ في ذلك المضمار روايات نقلها الكليني في كتاب القرآن.
    الثامن : القرآن في كلام الوصي ( عليه السَّلام )
    قال الإمام علي ( عليه السَّلام ) : « كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ». (2)
    وفي كلام آخر : « واعلموا انّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ، ولا لأحد قبل القرآن من غنى ، فاستشفوه من أدوائكم ». (3)
    إلى غير ذلك من الروايات التي تدل بوضوح على لزوم الرجوع إليه في فهم العقيدة والشريعة وانّه سبحانه ما أنزله للتلاوة فقط ، بل للتلاوة التي يستعقبها التدبّر والتفكّر ، ثمّ العبرة والاعتبار ، ثمّ العمل والتطبيق على الحياة.
    إلى هنا تجلّت الحقيقة بأعلى مظاهرها ولم يبق إلادراسة أدلّة الأخباريين
1. الكافي : 2/238 ، والسند معتبر.
2. نهج البلاغة : الخطبة 133.
3. نهج البلاغة : الخطبة 167.


(145)
الذين نسب إليهم عدم حجّية ظواهر الكتاب إلا بعد تفسير الإمام ، وهي وجوه أشار إليها في الكفاية :

    1. اختصاص فهم القرآن بأهله
    يظهر من مذاكرة الإمام أبا حنيفة وقتادة أنّ القرآن فوق فهمهما وانّه لا يفهم القرآن إلا من خوطب به.
    1. روى شبيب بن أنس ، عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه عليه السَّلام ـ في حديث ـ أنّ أبا عبد اللّه عليه السَّلام قال لأبي حنيفة :
    « أنت فقيه العراق ؟ » قال : نعم ، قال : « فبم تفتيهم ؟ » قال : بكتاب اللّه وسنّة نبيّه. قال : « يا أبا حنيفة! تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته ، وتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ » قال : نعم ، قال : « يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علماً ما جعل اللّه ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أُنزل عليهم ، ويلك ، ولا هو إلا عند الخاص من ذريّة نبيّنا محمّد ، وما ورثك اللّه عن كتابه حرفاً ». (1)
    والسند ضعيف ، لعدم توثيق شبيب بن أنس الوارد فيه ، وللإرسال في آخره ، لكن ربّما يؤيد المضمون قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَورَثْنَا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبير ) (2) بناء على أنّ المراد من الكتاب هو القرآن ، ومن المصطفين هو أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام ومن الوراثة هو فهمه ، والكلّ قابل للتأمل.
    وعلى كلّ تقدير فالرواية تردّ على المستبدين بالقرآن الذين يفسّرونه ويفتون به من دون مراجعة إلى من نزل القرآن في بيوتهم حتى يعرفوا ناسخه ومنسوخه ،
1. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 27.
2. فاطر : 32.


(146)
عامّه ومخصصه ، مطلقه ومقيده ، وأين هو من عمل أصحابنا ؟! فإنّهم يحتجون به بعد الرجوع إليهم ثمّ الأخذ بمجموع ما يدل عليه الثقلان.
    2. روى الكليني بسند يتصل إلى محمد بن سنان ، عن زيد الشحام : دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر فقال : « يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة ؟ » فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : « بلغني انّك تفسّر القرآن ؟ » فقال له قتادة : نعم ! فقال له أبو جعفر ـ بعد كلام ـ : « إن كنت إنّما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسرته عن الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة ! إنّما يعرف القرآن من خوطب به ». (1)
    والسند ضعيف بمحمد بن سنان ، والحديث ناظر إلى الاستبداد بالقرآن من دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت ، في معرفة ناسخه ومقيّده ومخصصه ، والمراد من المعرفة هو المعرفة التامّة التي تكون حجّة على العارف.
    2. احتواء القرآن على مضامين شامخة
    القرآن مشتمل على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية لا تكاد تصل إليها أفكار أُولي الأنظار غير الراسخين في العلم.
    يلاحظ عليه : أنّ احتواءه على تلك المضامين لا يمنع من الاحتجاج بظواهر الآيات التي هي بصدد بيان تكاليف العباد ، وما أُشير إليه من احتوائه على المضامين العالية يرجع إلى الآيات النازلة حول العقائد والقصص ، أو يرجع إلى بطون الآيات ، روى جابر قال : قال أبو عبد اللّه عليه السَّلام : « يا جابر ! إنّ للقرآن بطناً ، وللبطن ظهراً ، وليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه ». (2)
1. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 13 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 25.
2. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 13 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 74.


(147)
    3. الظواهر من المتشابهات
    يقسم القرآن الكريم الآيات إلى محكم ومتشابه ، يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتاب وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ ... ). (1)
    فالآيات المتشابهة ممنوعة الاتباع ، والظواهر أمّا من المتشابهات قطعاً أو احتمالاً فلا يصحّ التمسّك بها.
    يلاحظ عليه : انّ الظواهر من المحكمات ، والمحكمات تنقسم إلى نصّ لا يقبل التأويل ويعدّ التأويل تناقضاً في الكلام ، وظاهر يقبله ويعد التأويل عملاً على خلاف الظاهر ، وأمّا المتشابه فهو ما لم يستقر له الظهور أصلاً ولم يتبين المراد منه ، ولأجل ذلك سمي متشابهاً لمتشابه المراد بغيره.
    وقد اختلفت كلماتهم في تفسير المتشابهات ، فالمعروف انّ المتشابهات هي الآيات المشعرة بتجسيمه سبحانه ، أو كونه ذا جهة أو الجبر وسلب الاختيار عن الإنسان وما يشبه ذلك ممّا ورد في المحكمات خلافها ، ففي ظل القسم الثاني تحلّ عقده المتشابهات وترجع إليها ، وذلك بالإمعان في الآية المتشابهة وما قبلها وما بعدها ، والإمعان في سائر الآيات الواردة في ذلك المجال فيتجلّى المراد بالإمعان والدّقّة ، وهذا مثل قوله سبحانه : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (2) ولا تعلم حقيقته إلا بملاحظة الآيات الواردة حول عرشه واستيلائه عليه ، وأين هذه الآيات من الظواهر التي استقر ظهورها في المعنى ، مثلاً قوله سبحانه : ( وَأُولاتُ الأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ). (3)
1. آل عمران : 7.
2. طه : 4.
3. الطلاق : 4.


(148)
    فانّ ظاهر الآية انّ صاحبات الحمل لا يخرجن من العدة إلا بعد وضع أولادهن ، والآية وإن وردت في سورة الطلاق ولكن إطلاقها يعمّ المعتدة بعدّة الوفاة فلو مضى من موت الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام فلا تخرج من العدّة إلا إذا وضعت حملها ، فليست الآية متشابهة غير واضحة المراد وإنّما الكلام في وجود الإطلاق وعدمه ، أي في سعة الآية وضيقها.
    على أنّ هناك رأياً آخر في تفسير المتشابه ، وهو : انّ المتشابه عبارة عن الآيات الراجعة إلى حقيقة البرزخ والمعاد والجن والملك ممّا لا يمكن الإحاطة بكنهه إلا بعد الخروج عن دار التكليف ، مثلاً انّ قوله سبحانه : ( إنّها شَجَرةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجَحِيم * طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّياطِين ) (1) من الآيات المتشابهة التي لا يقف الإنسان على حقيقتها مادام في دار المجاز.
    فلو كان المتشابه هو هذا فلا صلة له بالآيات الواضحة الدلالة والمداليل كأكثر ما ورد في العبادات والمعاملات.
    4. العلم الإجمالي بالتخصيص والتقييد
    انّا نعلم انّ عمومات القرآن ومطلقاته خصّصت وقيدت بمخصصات ومقيّدات ، ومع العلم الإجمالي بطروء التصرف في دلالاتها كيف يمكن التمسّك بظواهرها ؟
    يلاحظ عليه : أنّ العلم الإجمالي يبعث المجتهد إلى الفحص عن المخصصات والمقيدات الواردة في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة ، فإذا فحص عنها فحصاً كاملاً وعثر على عدّة منها واحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على ما حصّله بالتفصيل ، لم يبق له علم إجمالي بوجود المخصصات والمقيدات
1. الصافات : 64 ـ 65.

(149)
الصادرة من أئمّة أهل البيت ، غاية الأمر يحتمل وجودها في الواقع غير واصلة إليه ، ومن المعلوم عدم جواز رفع اليد عن الدليل باحتمال التخصيص.
    والحاصل : انّ المستنبط بعد الفحص إمّا يقطع بأنّ المعلوم بالإجمال هو المعلوم بالتفصيل من المخصِّصات والمقيّدات لا غير ، وإمّا يحتمل انطباقه على ما حصله ، وعلى كلتا الصورتين لا يبقى علم إجمالي بوجود المخصص وراء ما وقف عليه ، غاية الأمر يحتمله.
    5. الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي
    إنّ حمل الكلام الظاهر في معنى ، على أنّ المتكلّم أراد هذا ، تفسير له بالرأي.
    أقول : روي عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار ». (1)
    فالاستدلال بهذا الحديث المتضافر على أنّ حمل الظاهر في معنى ، على أنّه المراد ، من قبيل التفسير بالرأي ، استدلال غير تام ، وذلك لأنّ « التفسير بالرأي » مركبة من لفظين :
    1. التفسير.
    2. الرأي.
    أمّا الأوّل : فهو مأخوذ من « فسّر » المشتق بالاشتقاق الكبير من « السفر » وهو الكشف والظهور ، يقال : أسفر الصبح : إذا ظهر ، وأسفرت المرأة عن وجهها : إذا كشفته.
1. راجع الوسائل 18 الباب 13 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 76 ؛ ولاحظ 66 و 67 و 78 وبقية أحاديث الباب ....

(150)
    وأمّا الثاني : « الرأي » فهو بمعنى الميل إلى أحد الجانبين وترجيحه اعتماداً على الظن الذي لم يدل عليه دليل ، يقول الراغب : الرأي : اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن ، ويؤيده إضافته إلى الشخص أي « برأيه ».
    وقد ورد في بعض الروايات مكان الرأي « بغير علم » : « من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ». ويوضحه قول أبي جعفر ( عليه السَّلام ) : « من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم ، ومن دان اللّه بما لا يعلم فقد ضاد اللّه حيث أحلّ وحرم فيما لا يعلم ». (1) وفي رواية أُخرى عن علي ( عليه السَّلام ) في كلام له : « انّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن آتاه عن ربّه فأخذ به ». (2)
    إذا عرفت معنى التفسير أوّلاً ، ثمّ الرأي ثانياً ، نقول : إنّ حمل الظاهر في معنى ، على أنّه مراد المتكلّم ، ليس من مقولة التفسير ، إذ ليس هنا أمر مستور كشف عنه ، فالاستدلال بإطلاق الظاهر أو عمومه ، ليس تفسيراً ، ورافعاً لإبهامه بل هو من قبيل تطبيق الظاهر على مصاديقه ، والتفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه الآية ، كالغطاء الموجود في الصلاة الوسطى في قوله سبحانه : ( حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ والصَّلاة الوُسْطى ) (3) فتفسيرها بواحدة منها ، تفسير ومثله قوله : ( وَإِذا وَقَعَ الْقَولُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دابّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أنّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُون ) (4) فانّ الآية قد أحاطها الإبهام من وجوه ، ولعلّها أبهم آية وردت في القرآن الكريم ، ولم يتسنّ لأحد من المفسّرين كشف قناعها وإن حاولوا لأن يقفوا على مغزاها ، إذ فيها إبهامات :
1. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 12 و 14 ؛ ولاحظ الحديث 21 ، 28 ، 30 ، 33 ، 34 ، 35 ، 50.
2. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 12 و 14 ؛ ولاحظ الحديث 21 ، 28 ، 30 ، 33 ، 34 ، 35 ، 50.
3. البقرة : 238.
4. النمل : 82.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس