إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 211 ـ 225
(211)
    1. ما رواه عمر بن حنظلة : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال : « ينظر ممّا وافق حكمه حكم الكتاب والسنة ». (1)
    2. ما رواه ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به قال : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه ». (2)
    3. ما رواه الميثمي انّه سأل الرضا ( عليه السَّلام ) يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول اللّه في الشيء الواحد. فقال ( عليه السَّلام ) : « ... ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوها على كتاب اللّه ». (3)
    4. ما رواه عبد الرحمان بن أبي عبد اللّه قال : قال الصادق ( عليه السَّلام ) : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فردوه ». (4)
    5. ما رواه الحسن بن الجهم ، عن الرضا ( عليه السَّلام ) قال : قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال : « ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّوجلّ وأحاديثنا فإن كان يشبههما فهو منّا ». (5) ورواه أيضاً عن العبد الصالح ( عليه السَّلام ). (6)
    فهذه الروايات المتضافرة تفسر مصب الروايات السالفة ، وانّ النهي عن العمل بما خالف القرآن ناظر إلى صورة التعارض ، لا صورة الانفراد ، فالخبران المتعارضان ، لو كان أحدهما خاصاً مخالفاً لعموم القرآن والآخر مدعماً به يؤخذ بالموافق ، بخلاف ما إذا كان الأوّل وحده بلا معارض سواء لم يكن مخالفاً للكتاب أصلاً ، أو كان مخالفاً بنحو الخصوص والعموم ، فيخصص القرآن بخبر الواحد على رأي أكثر الأُصوليين.
1. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1 ، 11 ، 21.
2. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1 ، 11 ، 21.
3. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1 ، 11 ، 21.
4. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 29 ، 40 ، 48.
5. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 29 ، 40 ، 48.
6. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 29 ، 40 ، 48.


(212)
    ب : في مقامات الأئمّة ودرجات الأنبياء
    إنّ ظاهرة الغلو بدت في عصر الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) فنمت إلى أن بلغت الذروة في عصر الصادق والكاظم والرضا عليهم السَّلام ، فكان هناك أُناس يضعون الأحاديث في حقّ الأئمة إمّا تشويهاً لسمعة الأئمة حتى ينفضّ الناس من حولهم ، بحجّة أنّهم يقولون خلاف القرآن والسنّة النبويّة ، أو لغاية الاستئكال بالأحاديث حيث كانوا يملكون قلوب عوام الشيعة والسُّذّج منهم ، بالغلو في حقّهم ، وقد احتفلت كتب الملل والنحل بهذه الفرق كالخطابية ، والنُّصيرية.
    روى الكشي ، قال يحيى بن عبد الحميد الجمالي ـ في كتابه المؤلف في إثبات إمامة أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) ـ : قلت لشريك : إنّ أقواماً يزعمون أنّ جعفر بن محمد ضعيف الحديث ، فقال : أخبرك القصة ، كان جعفر بن محمد رجلاً صالحاً مسلماً ورعاً ، فاكتنفه قوم جهّال يدخلون عليه ويخرجون من عنده ويقولون : حدّثنا جعفر ابن محمد ، ويحدثون بأحاديث كلّها منكرات كذب موضوعة على جعفر ليستأكلون الناس بذلك ، ويأخذون منهم الدراهم ، كانوا يأتون من ذلك بكلّ منكر ، فسمعت العوام بذلك منهم ، فمنهم من هلك ومنهم من أنكر. (1)
    وقد عالج الأئمّة هذه الظاهرة الخبيثة ، بأمر الشيعة بعرض الروايات على القرآن فما وافق أُصول التوحيد بمراتبها والعدل ، ومكانة الأئمة يؤخذ به ، وما خالف فلا يؤخذ به ، روى الكشي عن ابن سنان قال : قال أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : « انّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذّب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ». (2)
1. البحار : 25/302 ، الحديث 67.
2. البحار : 25/263 ، باب نفي الغلو ، الحديث 1.


(213)
    والذي نلفت إليه نظر القارئ أنّ علماءَنا الأبرار قد بذلوا جهوداً جبارة في تهذيب الشيعة عن الموضوعات ، ولذلك لا تجد رواية مخالفة للكتاب والسنّة على وجه التباين إلا النادر.
    الدليل الثالث : الإجماع
    ادّعى السيد المرتضى وغيره ـ من أعلام القدماء ـ عدم جواز العمل بخبر الواحد ، وأنّه كالقياس من شعار الشيعة ، وأكثر من ركز على ذلك ، هو السيد المرتضى وابن إدريس.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ ادّعاء إجماع السيد ، يتعارض مع ادّعاء الشيخ الإجماع على العمل به ، يقول في العدّة : والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ، فانّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في أُصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه ، حتى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا ؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا. (1)
    وثانياً : أنّ عبارة السيد وإن كانت مطلقة ، لكنّها ناظرة إلى الأخبار التي رواها المخالفون ، وبذلك أوّل الشيخ كلام أُستاذه. حيث قال : فإن قيل كيف تدّعون الإجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد والمعلوم من حالها انّه لا ترى العمل بخبر الواحد ، كما أنّ المعلوم من حالها انّها لا ترى العمل بالقياس ؟
    فأجاب : المعلوم من حالها الذي لا ينكر ولا يدفع أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد ، الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصون بطريقه. (2)
1. العدة : 1/126.
2. لاحظ العدة : 1/127 ـ 128.


(214)
    أدلّة القائلين بالحجّية
    استدل القائلون بالحجّية ، بالأدلة الأربعة.
    فمن الكتاب :
    الأُولى : آية النبأ
    قال سبحانه : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمين ). (1)
    ذكر الطبرسي سبب نزولها وقال : نزلت الآية في الوليد بن عقبة ، بعثه رسول اللّه في جباية صدقات بني المصطلق ، فخرجوا يتلقّونه فرحاً به ـ وكانت بينه وبينهم عداوة في الجاهليـة ـ فظنّ أنّـهم همُّوا بقتله ، فرجع إلى رسول اللّه وقال : إنّـهم مَنعُوا صدقاتهم ، وكان الأمر بخلافه ، فغضب النبي وهمَّ أن يغزوهم ، فنزلت الآية. (2)
    لكن الجزء الأخير من القصة ، غير صحيح فليس النبي من المتسرعين في القضاء ، ولو كان كذلك ، لتوجه الخطاب إليه ، مع أنّه توجّه إلى المؤمنين.
    وهناك سؤالان :
    وهو أنّ الوليد من أغصان الشجرة الخبيثة قد آمن ظاهراً عام الفتح كسائر الأمويين ، وكانت غزوة بني المصطلق في العام السادس من الهجرة ، فكيف بعثه النبي لجباية الصدقات ؟!
    والجواب كون الغزوة في العام السادس وإسلامهم فيه ، لا يلازم كون البعث
1. الحجرات : 6.
2. مجمع البيان : 5/132.


(215)
في تلك السنة ولعلّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعثه بعد عام الفتح كما لا يخفى.
    وقد نقل ابن عبد البر في الاستيعاب : ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت انّ قوله عزّوجلّ : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ ) نزلت في الوليد (1). وحكاه عنه ابن الأثير في أُسد الغابة (2). ويؤيده نزول قوله سبحانه : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوون ). (3)
    روى الطبرسي ، عن ابن أبي ليلى نزل قوله : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) في علي بن أبي طالب ورجل من قريش ، وقال غيره نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة ، فالمؤمن علي والفاسق الوليد ، وذلك انّه قال لعلي ( عليه السَّلام ) : أنا أبسط منك لساناً ، وأحدُّ منك سناناً ، فقال علي ( عليه السَّلام ) : ليس كما تقول يا فاسق. قال قتادة : واللّه ما استووا لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة. (4)
    روى الشارح المعتزلي أنّ حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة قد نظم الواقعة في بيتين :
أنزل اللّه والكتاب عزيز فتبوّا الوليد إذ ذاك فسقا في عليّ وفي الوليــد قرآنا وعليّ مبــوء إيمــانـاً (5)
    2. كيف بعثه النبي إلى جبايتها ، مع أنّه فاسق ؟
    والجواب انّ المانع من البعث هو الفسق الظاهري لا الخفي ، ولعلّه لم يظهر
1. الاستيعاب : 2/620.
2. أُسد الغابة : 5/90.
3. السجدة : 18.
4. مجمع البيان : 4/332.
5. شرح النهج : 2/103.


(216)
منه إلى زمان البعث أي فسق ، وكان فسقه مخفياً إلى أن أظهره القرآن الكريم.
    وأمّا الاستدلال فتارة يستدل بمفهوم الوصف ، وأُخرى بمفهوم الشرط ، وإليك بيانهما.

    الأوّل : الاستدلال بمفهوم الوصف بوجهين
    1. إنّ قوله : فاسق ، وصف لموصوف محذوف ، أي مخبر فاسق ، فالمخبر الموصوف بالفسق يجب تبيّن خبره ، فيكون مفهومه انتفاؤه عند انتفاء الوصف ، بمعنى كون المخبر عادلاً. وهذا سار في كلّ وصف لا ثالث له ، كما في قوله : « في سائمة الغنم زكاة » فمعناه الغنم بقيد السائمة فيها زكاة ، ويكون مفهومه ، الغنم عند عدم كونها سائمة ليس فيها زكاة.
    يلاحظ عليه : أنّ المستدلّ خلطَ بين كون القيد احترازيّاً ، وكونه ذا مفهوم ، ومفاد الأوّل هو مدخليته في الحكم مقابل القيد غير الاحترازي مثل ( في حُجُوركُمْ ) في قوله سبحانه : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي في حُجُورِكُمْ ) (1) وأمّا كونه دخيلاً منحصراً لا يقوم مقامه شيء آخر ، فلا يدل عليه.
    فإن قلت : القائم مقامه هو المعلوفة ، فلو كان كذلك ، كان ذكر السائمة لغواً ، إذ يعرف هذا من أنّ الزكاة لجنس الغنم ، ولا مدخلية لأحد الوصفين فيه.
    قلت : لا تلزم اللغوية ، لاحتمال أن تكون القضية جواباً لسؤال السائل عن المعلوفة فجاء الجواب وفقاً للسؤال ، وإن كان الحكم عاماً.
    2. ما حقّقه الشيخ ، وقال : إنّ لخبر الفاسق حيثيتين : إحداهما ذاتية وهي ما يكون وصفاً للخبر وهي كونه خبر الواحد ، والأُخرى عرضية ، أي ما يكون وصفاً للمخبر ، ويوصف به الخبر أيضاً بالعناية ، وتعليق التبين على العنوان العرضي دون
1. النساء : 23.

(217)
الذاتي المشترك بين خبر العادل والفاسق ، يعرب عن كونه السبب للتبيّن دون مطلق الخبر ، وإلا كان العدول عنه إلى العرضي غير بليغ.
    يلاحظ عليه : أنّ البيان متين لو لم يكن للعدول وجه ، وهو التصريح بفسق المخبر ورفع الغشاء عن وجهه القبيح.
    ومن هنا يعلم أنّ الآية ليست بصدد جواز العمل بخبر العادل وعدمه ، بل هي بصدد المنع عن العمل بخبر الفاسق.
    فإن قلت : إنّ سيرة العقلاء على عدم العمل بقول من لا يثقون بقوله ، والفاسق ممن يوثق بقوله ، فما السرّ في هذا النهي ؟
    قلت : السرّ هو التصريح بفسق الوليد وبيان الصغرى ، وإن كانت الكبرى عندهم معلومة. هذا كلّه حول الاستدلال بمفهوم الوصف.
    وممّا ذكرنا يعلم أنّ التقرير الثاني تقرير لمفهوم الوصف لا لمفهوم الشرط ، فما أفاده المحقّق النائيني من أنّه ينطبق على مفهوم الشرط غير ظاهر.
    الثاني : التمسك بمفهوم الشرط
    وقبل تقرير المفهوم ، نذكر نكتة وهي أنّ حمل الجزاء على الموضوع على قسمين :
    تارة يصحّ حمله عليه سواء أكان هناك شرط أو لا ، كما إذا قال : زيد ـ إن سلّم ـ أكرمه. فإنّ حمل الجزاء صحيح سواء أسلم أم لا ، غاية الأمر ، خصّ الآمر الإكرام بإحدى الصورتين ، وهو ما إذا سلّم.
    وأُخرى لا يصحّ حمل الجزاء على الموضوع إلا مع وجود الشرط ، بحيث لولاه لما صحّ حمله ، كما إذا قال : الولد ـ إن رُزِقتَ به ـ فاختنه ، أو زيد ـ إن ركب ـ فخذ ركابه ، أو قال : الدرس ـ إذا قـرأتـه ـ فاحفظه. ففي هذه الموارد ، يكون الشرط من


(218)
الموضوع ، بحيث ينتفي الموضوع بانتفائه.
    والقضية الشرطية ذات المفهوم هو القسم الأوّل ، الذي يصحّ حمل المشروط ( الجزاء ) على الموضوع سواء كان هناك شرط أو لا ، لا القسم الثاني ، بل يكون سلب الجزاء عندئذ لأجل عدم الموضوع ، وهو ليس بمفهوم اصطلاحاً ، وإلا يلزم أن تكون جميع القضايا الحملية ذات مفهوم ، إذا علمت هذا فاعلم :
    انّ مفهوم الشرط في الآية يقرر على وجهين مبنيين على كون الموضوع ما هو ؟ فهل الموضوع :
    1. نبأ الفاسق ـ إذاجاء به ـ فيجب تبيّنه ؟
    أو الموضوع.
    2. النبأ المفروض وجوده ـ إن جاء به الفاسق ـ يجب تبيّنه ؟
    فقرّره المشهور على الوجه الأوّل ، وقرّر المحقّق الخراساني على الوجه الثاني. (1)
    وإليك كلا التقريرين :
    مفهوم الشرط على تقرير المشهور
    إنّ تقرير المشهور مبنيّ على جعل الموضوع : نبأ الفاسق ، والشرط : هو المجيئ ، والجزاء : هو التبيّن والتثبت ؛ فكأنّه قال : نبأ الفاسق ، إن جاء به الفاسق ، فتبيّنه ويكون مفهومه :
    نبأ الفاسق ـ إن لم يجئ به ـ فلا تتبيّنه ، لكنّ للشرط ـ عدم مجيئ الفاسق ـ مصداقين :
1. فوائد الأُصول : 3/169.

(219)
    1. عدم مجيئ الفاسق والعادل به فيكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.
    2. مجيئ العادل به فيكون عدم التبيّن من قبيل السالبة بانتفاء المحمول ، لأنّ النبأ موجود ، والمنفي هو المحمول ، أعني : التثبيت.
    يلاحظ عليه : أنّ المفهوم عبارة عن سلب الحكم عن الموضوع الوارد في القضية ، لا عن موضوع آخر لم يرد فيها ، فالموضوع في الآية حسب الفرض ، هو : نبأ الفاسق ، فالتثبّت عند المجيئ به وعدم التثبّت عند عدم المجيئ به ، يجب أن يتوارد عليه لا على موضوع آخر كنبأ العادل الذي ليس منه ذكر في الآية ، وعلى ذلك ينحصر مفهوم الآية بالصورة الأُولى ، وهو عدم مجيئ الفاسق ، من دون نظر إلى نبأ العادل ، ومن المعلوم أنّ عدم التثبّت عند عدم مجيئه به ، لأجل عدم الموضوع للتثبت.
    وبعبارة أُخرى : انّ الإثبات والنفي لدى وجود الشرط وعدمه ، يتواردان على الموضوع المذكور وهو « نبأ الفاسق » لا انّ الإثبـات ـ التبيّـن ـ يتـوارد على نبـأ الفاسق ، والنفي ـ عدم التبينّ ـ يتوارد على موضوع آخر ، وهو نبأ العادل.
    مفهوم الشرط على تقرير الخراساني
    لمّا وقف المحقّق الخراساني على الإشكال الوارد على تقرير المشهور ، عدل عنه إلى تقرير آخر قال ما هذا نصّه : انّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ الذي جيئ به ـ على كون الجائي به الفاسق ـ يقتضي انتفاءه عند انتفائه.
    توضيحه : انّ الموضوع هو النبأ المحقّق وجوده عبر الزمان ، والشرط هو مجيئ الفاسق ، والجزاء هو وجوب التبين ، وعلى ذلك فليس مجيئ الفاسق به من محقّقات الموضوع ، بل من حالاته ، لافتراض أخذ النبأ على نحو القضية الحقيقية ، فله حالتان :


(220)
    1. مجيئ الفاسق به 2. عدم مجيئ الفاسق ، ولكنّه يلازم مجيئ العادل به لافتراض أنّ الخبر محقّق الوجود ، والجائي به إمّا فاسق أو عادل ، فإذا لم يجئ به الفاسق ، يكون الجائي به عادلاً قطعاً لعدم الشق الثاني.
    يلاحظ عليه : أنّ الآية ليست بصدد بيان أحكام النبأ المطلق سواء أكان الجائي به الفاسق أو العادل فيختص التثبت بالأوّل دون الثاني ، بل بصدد بيان حكم نبأ الفاسق بشهادة قوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ ) أي فاسق يحمل نبأ فالنفي والإثبات يجب أن يتواردا على موضوع واحد وهو نبأ الفاسق.
    تقرير ثالث لمفهوم الشرط في الآية
    إنّ هنا تقريراً ثالثاً يقرب ممّا ذكره المحقّق الخراساني ، وحاصله :
    أنّ الشرط تارة يكون بسيطاً ويكون الجزاء في نفسه متوقفاً على الشرط ، كما في قولك : إنْ رزقت ولداً فاختنه.
    وأُخرى يكون مركّباً ، ويكون الجزاء متوقفاً عقلاً على كليهما ، كما إذا قال : إن رزقت ولداً وكان ذكراً فاختنه.
    وثالثة يكون متوقفاً على أحدهما دون الآخر ، كما إذا قال : إن ركب الأمير ـ وكان يوم الجمعة ـ فخذ ركابه ، فإنّ أخذ الركاب متوقف على الركوب عقلاً ولا يتوقف على كون ركوبه يوم الجمعة.
    ومثله المقام فانّ التبيّن يتوقف على النبأ ، ولا يتوقف عقلاً على الجزء الآخر أعني كون الآتي به فاسقاً ، ومفاده عدم التبين عن النبأ عند انتفاء كون الآتي به فاسقاً. (1)
1. مصباح الأُصول : 2/159.

(221)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره تحليل عقلي صحيح في عالم الثبوت ، ولكنّه على خلاف ظاهر الآية ، لأنّها ليست بصدد بيان أحكام النبأ على وجه الإطلاق ليعلم بالمنطوق والمفهوم حكم كلا القسمين ، بل هي بصدد بيان حكم موضوع واحد ، وهو « نبأ الفاسق » ، فالتبين عند المجيئ وعدمه عند عدم المجيئ ، يتواردان على موضوع واحد ، وهو قول الفاسق.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني سلّم أنّ الموضوع هو « نبأ الفاسق » لا مطلق النبأ ، لكن حاول استفادة حكم نبأ العادل من طريق آخر ، وهو : أنّ ظاهر الآية انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق ، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر ، ثمّ أمر بالتدبّر.
    ولعلّ وجه ما ذكره من ظهورها في انحصار وجوب التبيّن في نبأ الفاسق ، هو ما أشار إليه تلميذه المحقّق العراقي : انّ وجوب التبيّن يناسب جهة فسق المخبر لعدم تحرّزه عن المعاصي ، التي منها تعمّد كذبه ، فوجب التبيّن عن حال خبره لئلا يقع المكلّف في خلاف الواقع ، فتحصل له الندامة ، وهذا بخلاف خبر العادل فانّه من جهة تورّعه عن محارم اللّه لا يقدم على التعمّد بالكذب ، فاحتمال تعمّد كذبه منفي بعدالته. (1)
    ثمّ إنّ الإشكال المزبور راجع إلى نفي الاقتضاء وانّه لا مفهوم للقضية الشرطية في الآية ، وهناك إشكالات ترجع إلى إيجاد موانع بعد تسليم اقتضائه ، ولم يذكر منها المحقّق الخراساني إلا إشكالاً واحداً ، بخلاف الشيخ الأعظم فانّه أشار إلى إشكالات عديدة منها ونحن نقتفيه.
1. نهاية الأفكار : 3/107 ، للشيخ محمد تقي البروجردي تلميذ المحقّق العراقي.

(222)
    الإشكال الأوّل : عموم التعليل مانع عن تمامية دلالة الآية
    هذا الإشكال هو الذي نقله الشيخ الأعظم عن الشيخ الطوسي في عدّته بقوله : لا يمتنع ترك الخطاب ( مفهوم المخالفة ) لدليل والتعليل دليل. (1)
    وحاصله : انّه لو سلمنا دلالة مفهوم الآية على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم ، لكن مقتضى عموم التعليل هو وجوب التبيّن في كلّ خبر لا يُؤمن من الوقوع في الندم من العمل ، وإن كان المخبر عادلاً ، فيعارض المفهوم ، والترجيح مع ظهور التعليل. (2)
    وبتقرير آخر : انّ التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم والمنطوق قرينة على أنّ الآية فاقدة للمفهوم (3) ، والفرق بين التقريرين واضح ، فالأوّل يركز على احتمال الندامة المشترك بين خبري العادل والفاسق ، والثاني على صدق الجهالة بمعنى عدم العلم على الموردين.
    وقد أُجيب عن الإشكال بوجوه :
    الوجه الأوّل :
    ما أفاده الشيخ : من أنّ المراد من التبيّن ما يعم الظهور العرفي الحاصل من الاطمئنان الذي هو في مقابل الجهالة والاطمئنان منتف في خبر الفاسق دون العادل.
    يلاحظ عليه بوجهين :
    أوّلاً : أنّ تفسير التبين بالظهور العرفي لا يصدقه القرآن الكريم ، فانّه
1. الطوسي ، العدة : 1/113.
2. الفرائد : 71.
3. كفاية الأُصول : 2/86.


(223)
استعمل فيه في الظهور الحقيقي :
    1. كقوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ في سَبيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنِ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمناً يَبتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدُّنْيا ) (1) ومورد الآية إراقة الدماء ، ولا يكتفى فيه بالوثوق والاطمئنان ، بل لابدّ من العلم أو البيّنة.
    2. وقال سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنّهُ الحَقّ ) (2) أي يتبين أنّ القرآن حقّ بأجلى مظاهره.
    3. وقوله سبحانه : ( حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَد مِنَ الْفَجْر ). (3)
    ثانياً : لو صحّ ما ذكره لدلّ منطوق التعليل على حجّية الخبر العادل ، من دون حاجة إلى المفهوم ، لأنّ الظهور العرفي بمعنى الاطمئنان موجود في خبر العادل قطعاً.
    الوجه الثاني :
    ما أجاب به المحقّق الخراساني : من أنّ الإشكال مبنيّ على أنّ الجهالة بمعنى عدم العلم ، ولكنّه بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل ، وهو غير موجود في خبر العدل.
    فإن قلت : لو كان العمل بقول الفاسق عملاً سفهيّاً لما أقدم عليه أصحاب النبي وهم عقلاء.
1. النساء : 94.
2. فصلت : 53.
3. البقرة : 187.


(224)
    قلت : إنّهم أقدموا على العمل بقوله غافلين عن فسقه ، ولولا الغفلة لما ركنوا إلى قوله.
    أقول : لا شكّ أنّ الجهالة تستعمل في معنى السفاهة ، لكنّها في الآية ليست بهذا المعنى ، بل هي فيها بمعنى عدم العلم بالواقع ضدّ التبيّن.
    أمّا الأوّل : فقد استعملت في قوله سبحانه : ( أَنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَة ثُمَّ تابَ مِنْ بعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ رَحِيم ) (1) وقال سبحانه : ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَة ثُمَّ تابُوا مِنْ بعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيم ) (2) وقال سبحانه : ( إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلى اللّهِ لِلَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَريب ) (3).
    قال الراغب في المفردات : إنّ الجهل على ثلاثة أضرب : ثالثها فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل.
    وأمّا الثاني : فلأنّ الظاهر انّ الجهالة في الآية في مقابل التبيّن ، الذي هو إمّا بمعنى العلم القطعي كما قلناه ، أو الاطمئنان ، ويكون المراد من مقابله أعني الجهالة ، ضدّهما ، لا مقابل الحكمة.
    الوجه الثالث : ما أجاب به المحقّق النائيني من أنّ المفهوم حاكم على التعليل ، لأنّ أقصى ما يدل عليه التعليل عدم جواز العمل بما وراء العلم ، والمفهوم يقتضي إلغاء احتمال الخلاف وجعل الخبر العادل محرِزاً للواقع وعلماً في مقابل التشريع ، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما ، لأنّ المحكوم لا يعارض الحكم ولو كان ظهوره أقوى. (4)
1. الأنعام : 54.
2. النحل : 119.
3. النساء : 17.
4. فوائد الأُصول : 3/172.


(225)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الحكومة عبارة عن نظارة أحد الدليلين إلى الدليل الآخر ، وتكون نتيجتها تارة رفع حكم الدليل المحكوم بلسان رفع موضوعه ، كما إذا قال : إذا شككت فابن على الأكثر ، ثمّ قال : لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم ، أو بالعكس ، فهو بلسانه ناظر إلى الدليل المحكوم ، ويدل على أنّ شكّ الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر خارج عن تحت الدليل الأوّل ، لكن لا بنحو الإخراج عن الحكم ابتداء حتى يكون تخصيصاً ، بل بنحو رفع الموضوع تعبداً لغاية رفع الحكم. وأُخرى بالتعرض لحالات الحكم المحكوم ، كما إذا قال صاحب الشريعة : ( ماجَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) (1) ، فهو بلسانه متعرض لأحوال الأحكام الواردة في الشريعة ، ويدل على أنّ الحكم إذا كان حرجياً فإطلاقه غير مجعول. وعلى كلّ تقدير الحكومة قائمة بلسان الدليل ، والمفروض في المقام أنّ المفهوم فاقد للّسان ، فكيف يكون حاكماً ؟!
    ثانياً : أنّ مفاد المفهوم على القول به ، هو عدم وجوب التبيّن ، وأين هو من إلغاء احتمال الخلاف ، وكونه محرزاً للواقع وعلماً في مقام التشريع ؟!
    ثالثاً : أنّ ما ذكره يستلزم الدور ، لأنّ انعقاد المفهوم وظهور القضية في المفهوم ، فرع حاكميته على التعليل المزاحم لانعقاد المفهوم ، وكون القضية ذات مفهوم وكونه حاكماً ، فرع وجوده واشتمال القضية على المفهوم.
    الوجه الرابع : انّ التعليل يختص بما إذا كان العمل بالخبر في معرض الندامة ، وهو يلازم خبر الفاسق دون خبر العادل ، والعادل وإن كان يخطأ ، كالعلم القطعي لكنّهما ليسا في معرض الندامة ، ولعلّ هذا الجواب أظهر.
1. الحج : 78.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس