إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 241 ـ 255
(241)
أضف إليه : أنّ ظاهر كلامه أنّ الضمير في ( إذا رَجَعُوا ) يعود إلى النافرين للجهاد وهو مستلزم للتفكيك في الضمائر ، حيث إنّ الضميرين السابقين يرجعان إلى النافرين للتفقّه.
    المقام الثاني : الاستدلال بالآية
    الاستدلال بها يتم على تفسيرها بالوجه الثاني أو الثالث دون الوجه الأوّل ، وقد قرره الشيخ الأعظم في الفرائد بوجوه ثلاثة ، وتبعه المحقّق الخراساني ، ويشكل الحجر الأساس لجميع الوجوه هو : إثبات وجوب الحذر للمقيمين أو المتخلفين ، وإليك تقريرها بوجوه ثلاثة.
    التقرير الأوّل : محبوبية الحذر يلازم وجوبه
    1. انّ أدوات الاستفهام والتمنّي والترجّي تستعمل في كلام الواجب وغيره في معنى واحد ، وهو إنشاء هذه المفاهيم ، وإنّما يختلفان في المبادئ فالمبدأ للترجي في كلامه سبحانه إظهار محبوبية الحذر عن العقوبة ، وفي غـيره ، هو الجهل بالوقوع.
    2. انّ حسن حذر المنذَر عند إنذار المنذِر ، في مورد الآية يدل على وجود المقتضي فيه ، وهو قيام الحجّة على أمر يستلزم فعله أو تركه العقوبة ، وإلا فلا يحسن الحذر ، لقبح العقاب بلا بيان ، وليس الحجّة إلا قول المنذِر وخبره الذي تعلّمه ورجع وأدّى رسالته.
    وبعبارة أُخرى : من قال برجحان الحذر قال بوجوبه لا باستحبابه ، لأنّ الأُمّة في مورد حجّية الخبر الواحد على قولين :
    1. خبر الواحد حجّة ، وهو عبارة أُخرى عن وجوب الحذر.


(242)
    2. عدم كونه حجّة ، وهو عبارة أُخرى عن عدم وجوبه لا القول باستحبابه ، فالقول به إحداث قول ثالث.
    التقرير الثاني : لزوم اللغوية لولا وجوب الحذر
    إنّ الإنذار واجب بحكم كونه غاية للنفر الواجب بحكم « لولا » التحضيضية ، فإذا وجب الإنذار ، وجب التحذّر أيضاً ، وإلا لغى إيجاب الإنذار ، والفرق بين التقريرين واضح.
    فالتقرير الأوّل ، يتطرّق إلى إثبات وجوب الحذر ، من حسنه الملازم لوجوبه ، والمراد من الحذر هناك هو الحذر النفساني ، وهذا التقرير يتطرّق إلى وجوبه من أنّه لولا وجوب الحذر لغى الإنذار الواجب. ونظيره في الفقه ، قولهم بأنّه يحرم على النساء كتمان ما في أرحامهنّ ، الملازم لحجّية قولهن ، وإلا لغى التحريم ، قال سبحانه : ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ في أَرْحامِهِنَّ ). (1)
    التقرير الثالث : غاية الواجب واجب
    إنّ الحذر غاية للإنذار والنفر الواجبين ، وغاية الواجب واجب ، لأنّ وجوبهما لأجل تلك الغاية ، فلا يعقل أن تكون المقدمة واجبة دون ذيها ، والمراد من الحذر في هذا التقرير هو الحذر العملي أي الأخذ بقول المنذِر ، وهو عبارة أُخرى عن كونه حجّة.
    المقام الثالث : إشكالات الاستدلال
    إذا عرفت وجوه الاستدلال بالآية فاعلم أنّه قد أُشكل على كلّ تقرير
1. البقرة : 228.

(243)
بإشكال ، فقد أورد على التقرير الأوّل ، ما يلي :
    1. حسن الحذر لا يلازم حجّية قول المنذر
    إنّ لحسنِ الحذر موردين :
    الأوّل : فيما إذا قامت الحجّة على التكليف الواجب ، أو الحرام فيحسن الحذر ، وبالتالي يجب الخوف من العقاب لقيام الحجّة وهو قول المخبر ، وعلى هذا يكون خبر الواحد حجّة.
    الثاني : فيما إذا أخبر المخبر بوجوب الشيء أو بحرمته فهو عند ذلك يخبر عن وجود المصلحة أو المفسدة في الترك أو الفعل ، فيحسن الحذر ـ وإن لم يكن قوله حجّة ـ وذلك لأنّه وإن لم يكن حجّة لكنّه محتمل الصدق ، وهو يلازم خوف فوت المصلحة ، والوقوع في المفسدة ، وإن لم يلازم احتمال العقاب لافتراض عدم ثبوت حجّية قوله ، ومن المعلوم انّ المصالح والمفاسد من الأُمور الوضعية التي تترتب على الترك والفعل سواء كان الفاعل عالماً أو جاهلاً.
    وبالجملة احتمال صدق المخبر ـ وإن لم يكن قوله حجّة ـ كاف في حسن الحذر لئلاّ تفوت المصلحة الدنيوية المحتملة أو لا يقع في المفسدة كذلك.
    وعلى ذلك فالحذر مستحب لا واجب ، وما قيل من أنّه إحداث قول ثالث غير مخل إذ فرق بين عدم وجود القول الثالث وبين الاتّفاق على عدم إحداث قول ثالث ، فالمورد من قبيل القسم الأوّل لا الثاني.
    2. عدم القبول لا يلازم اللغوية
    أورد المحقّق الخراساني على التقرير الثاني إشكالاً بأنّه لا تنحصر فائدة الإنذار بالتحذّر تعبّداً.


(244)
    توضيحه : أنّ الغاية ليست منحصرة في القبول ، بل هنا فائدة أُخرى وهي انّ إخباره يكون مقدمة لحصول التواتر ، كما هو الحال في من رأى الهلال فيخبر وإن لم يكن حجّة لكنّه إذا ضمّ إليه مخبر آخر يكون حجّة.
    إلى هنا تمّ الوجهان :
    ثمّ إنّ المحّقق الخراساني أورد على التقرير الثالث إشكالاً بما يلي :
    3. عدم الإطلاق في وجوب الحذر
    وحاصل هذا الإشكال : انّه لو سلّمنا وجوب الإنذار ووجوب الحذر ، فالآية إنّما تدل على وجوب الإنذار والحذر على وجه الإجمال لا على التفصيل ، فلعلّه يكون هناك شرط آخر للإنذار أو لوجوب الحذر لم تتطرق إليها الآية لعدم كونها في مقام البيان ، يقول المحقّق الخراساني : « وبعدم (1) إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق ضرورة انّ الآية مسوقة لبيان وجوب النفر لا لبيان غائية التحذر ولعلّ وجوبه كان مشروطاً بما أفاده العلم ».
    أقول : هذا هو الإشكال المهم في المقام وهو وارد على جميع التقارير لا على التقرير الثالث فقط كما هو ظاهر الكفاية ، ولو قرر هذا الإشكال بوجه واضح لاتّضح عدم دلالة الآية على حجّية خبر الواحد ، وإليك البيان :
    تطرح الآية أُموراً ثلاثة وهي :
    أ. تقسيم العمل ، ب. وجوب الإنذار ، ج. وجوب الحذر.
    أمّا الأمر الأوّل ، فالآية بالنسبة إليه في مقام البيان وتصرّح بأنّ مسألة التعليم والتعلم كسائر المسائل الاجتماعية لابدّ فيها من تقسيم العمل وأن يقوم
1. من الطبعة المحشاة بتعاليق المشكيني « لعدم إطلاق » ولكنّه تصحيف والصحيح « وبعدم إطلاق » أي ويشكل الوجه الثالث بعدم إطلاق.

(245)
بها طائفة من المؤمنين ، كما هو الحال في سائر الأُمور الاجتماعية.
    وأمّا الأمر الثاني : أي كيفية الإنذار وهكذا الثالث : أي وجوب الحذر ، فهما من الأُمور الجانبية الواردة في الآية ، فليست الآية في مقام بيان كيفيتهما وانّه يجب الإنذار على النافر سواء أفاد العلم أم لم يفد ، أو يجب الحذر على المقيم أو المتخلّف سواء حصل له العلم أو لا.
    والاستدلال مبني على وجود الإطلاق في ذينك الجانبين مع أنّ ورودهما في الآية ورود استطرادي لا اصالي.
    ويدل على ذلك أمران :
    1. الإتيان بلفظ كافة في الآية الأُولى ، أعني : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّة ) فانّه يعرب عن أنّ الآية تركّز البحث على تقسيم العمل لا على كيفية الإنذار أو الحذر.
    2. لو كانت الآية بصدد بيان كيفية الإنذار كان عليه ذكر الشرط اللازم للحذر ، وهو كون المنذِر ثقة.
    نعم ، أتعب السيد المحقّق الخوئي قدَّس سرَّه نفسه الشريفة ، فحاول أن يثبت انّ الآية في مقام البيان وانّها نظيرة : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيديَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَين ). (1)
    ولكن هذا قياس مع الفارق فانّ صدر الآية الثانية يشهد بأنّها في مقام بيان حدود الوضوء وشروطه وجزئياته ، فلو شكّ في جزئية شيء أو شرطيته صحّ التمسك بالإطلاق في نفي المشكوك ، وهذا بخلاف المقام فالآية تركّز على الأمر
1. المائدة : 6.

(246)
الخاص وهو تقسيم العمل وقيام عدّة بهذه الوظيفة المهمة ، وأمّا سائر الجوانب فقد طرحت جانبياً.
    4. وجوب الحذر إذاكان الإنذار بالأمر الواقعي
    إنّ التفقّه الواجب ليس إلا معرفة الأُمور الواقعية من الدين ، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الأُمور المتفقه فيها ، فالحذر لا يجب إلا عقيب الإنذار بها ، فإذا لم يعرف المخاطب ان الإنذار هل وقع بالأُمور الدينية الواقعية أو بغيرها خطأ أو تعمداً لم يجب الحذر ، فانحصر وجوب الحذر إذا علم المتحذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعية. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه لا وجه لهذا الإشكال بعد تسليم الإطلاق في جانبي الإنذار والحذر ، فلو قلنا بأنّ الآية تدل بإطلاقها على أنّه يجب على المنذر الإنذار سواء أفاد العلم أم لم يفد ، ويجب على المقيم الحذر مطلقاً كذلك كشف ذلك عن أنّ الشارع أمر بتلقّي إنذاره إنذاراً بالأمر الواقعي ، فيجب الحذر على السامع لكونه إنذاراً به.
    نعم لو أنكرنا الإطلاق ، كان لهذا الإشكال وجه (2) ، والظاهر انّ الإشكال بعد تسليم الإطلاق وأمّا مع إنكاره فلا مجال له.
    5. الإبلاغ مع التخويف غير نقل القول
    وهذا هو الإشكال الخامس الذي طرحه الشيخ ، وحاصله : انّ المطلوب في المقام هو إثبات انّ حكاية الراوي قول الإمام حجّة للمجتهد ، دون فهمه منه ،
1. الفرائد : 80.
2. لاحظ الفوائد : 3/188.


(247)
وربما يكون بينهما اختلاف في فهم المراد مع الاتفاق على اللفظ ، وهذا هو المطلوب في المقام. والآية لا تفي بذلك ، لأنّها تركّز على الإنذار ، وهو الإبلاغ مع التخويف ، بحيث يكون نقله وفهمه منها حجّة على المنقول إليه ، وهذا لا ينطبق إلا على المجتهد بالنسبة إلى مقلِّده ، فالآية تركز على أنّ الراوي إذا تفقّه في الدين وفهمه ثمّ بلغه مع الإنذار ، يجب على السامع ، الحذر والقبول وأين هذا ، من حجّية مجرّد حكاية قول الإمام للطرف ، بلا قيمة لفهمه من الدين ودركه من الرواية وإنذاره حسب ما فهم ؟ (1)
    والظاهر انّ الإشكال وجيه خصوصاً بالنسبة إلى لفظة ( ليتفقّهوا في الدين ) فانّه عبارة عن فهم الدين حقيقة ، فالآية تنص على أنّه يجب على طائفة التفقه في الدين ، ثمّ إبلاغ رسالات اللّه إليهم بالتخويف والإنذار ، وهذا لا يقع إلامن شخصين :
    1. كون المنذر واعظاً ينذر الناس بما يعلمه الناس من الحلال والحرام ، فيكون دوره هو التذكير ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنين ). (2)
    2. كون المنذر فقيهاً فهيماً للدين مبلِّغاً لأحكام اللّه سبحانه مع التخويف.
    وأين هذا من حجّية حكاية الراوي قول الإمام بما هو حاك وناقل ، من دون أن يكون له شأن الإنذار وللسامع شأن الحذر ؟
    وقد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال بأنّ الإنذار وإن كان هو الإخبار الشامل على التخويف ، إلا أنّه أعمّ من الصراحة والضمنية فانّه يصدق الإنذار على الاخبار المتضمن للتخويف ضمناً وإن لم يصرّح به المنذر. (3)
1. لتوضيح الإشكال لاحظ الفرائد : 81.
2. الذاريات : 55.
3. الفوائد : 3/188.


(248)
    يلاحظ عليه : بأنّ الآية ظاهرة في من يتصدّى لأمر الإنذار ، بعد التفقّه ، ولا يصدق ذلك على من لا شأن له سوى نقل الرواية وحكاية الألفاظ ، من دون أن يتصدى لمقام الإنذار.
    نعم يمكن أن يقال انّ العرف يساعد على إلغاء الخصوصية ، فإذا كان نقله كلام الإمام مع التخويف حجّة ، فيكون نقله المجرد أيضاً حجّة وإن لم يكن فهمه وتخويفه حجّة للمنقول إليه.
    والحاصل : انّ المنذر يعتمد على أمرين : السنّة ، وتحليلها للمنقول إليه ، فإذا كان المنقول إليه عامياً يأخذ كلا الأمرين ، وأمّا إذا كان مجتهداً مثل المنذِر ، أو إذا كان الناقل عامياً فاقداً للتخويف ، يأخذ كلام الإمام ويستقل في فهمه.
    فقد خرجنا بالنتيجة التالية :
    1. انّ الآية فاقدة للإطلاق في كيفية الإنذار والحذر.
    2. انّ الآية ، تركز على من يتصدّى بعد التفقّه ، منصب الإنذار والإبلاغ التخويف ، ولا يدل على حجّية نقل العامي كلام المعصوم مجرداً عن التفقّه والإنذار والحذر إلا إذا قلنا بإلغاء الخصوصية.

    الآية الثالثة : آية الكتمان
    قال عزّ من قائل : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنهُمُ اللاّعِنُون ). (1)
    تقرير الاستدلال : انّه سبحانه يذمُّ أهل الكتاب لكتمانهم البشارات الواردة في كتبهم بظهور النبي القرشي الهاشمي العربي مع أنّهم كانوا يعرفونه كما يعرفون
1. البقرة : 159.

(249)
أبناءهم قال سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُم ) (1). وقال سبحانه : ( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) (2). فالآية تدل على تحريم كتمان البيّنات وبالتالي تدل على وجوب القبول وإلا لغت حرمة الكتمان.
    يلاحظ عليه : أنّ إيجاب البيان بلا قبول أصلاً يستلزم كونه لغواً وأمّا إذا كان القبول مشروطاً بالتعدد أو بحصول الاطمئنان أو العلم القطعي فلا تلزم اللغوية نظير تحريم كتمان الشهادة ، قال سبحانه : ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ). (3)
    ومع أنّ إظهار الشهادة واجب ولكن قبولها مشروط بالتعدّد ، وأمّا قياس المورد بحرمة الكتمان على النساء كما ورد في قوله سبحانه : ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ في أَرْحامِهِنَّ ) (4) فقياس مع الفارق ، إذ ليس في موردها من تضم شهادته إلى شهادتها ، فلا محيص من قبولها ، وهذا بخلاف شهادة الشاهد وأخبار الراوي فانّ لها صوراً مختلفة كما أوضحناه.
    أضف إلى ذلك انّ الآية بصدد بيان تحريم الكتمان على العلماء ، نظير قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « إذا ظهرت البدع ، فعلى العالم أن يُظهر علمَه » وأمّا ما هو شرط القبول فهو موكول إلى الأدلّة الأُخرى.

    الآية الرابعة : آية السؤال
    قال سبحانه : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْأَلُوا أَهْلَ
1. الأنعام : 20.
2. البقرة : 89.
3. البقرة : 283.
4. البقرة : 228.


(250)
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ). (1)
    وقال عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون * وما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الْطَّعامَ وَما كانُوا خالِدين ). (2)
    ويقع الكلام في أُمور ثلاثة :
    1. تفسير الآية.
    2. الاستدلال بالآية.
    3. تحليل الإشكالات حول الاستدلال.
    وإليك الكلام في الأمر الأوّل :
    إنّ ذيل الآية الثانية يحكي عن سبب نزولهما وهو أنّ مشركي مكة كانوا يُنكرون أن يرسل إليهم بشر مثلهم فبيّن سبحانه بأنّ حكمته اقتضت أن يبعث الرسل من البشر ليشاهدوه ويخاطبوه ، ولم يكن الرسل المبعثون إلى الأُمم الماضية ملائكة ( جسداً لا يأكلون الطّعام ) بل كانوا بشراً يأكلون كما يأكل سائر الناس وماتوا كما مات الآخرون وما كانوا خالدين ، ولأجل رفع جهلهم أمر بالرجوع إلى أهل الذكر والعلم ، يعني السيرة المستمرة بين العقلاء من الرجوع إلى أهل العلم فيما لا يعلمون.
    هذا هو مفاد الآية التي نزلت في سورتين باختلاف يسير بينهما ، حيث اشتملت الآية الأُولى على لفظة حرف الجر « من » قبلك ، دون الآية الأُخرى ، وما هو الوجه في ذاك الاختلاف فعلى عاتق الأدب.
1. النحل : 43.
2. الأنبياء : 7 ـ 8.


(251)
    وأمّا الأمر الثاني : أعني كيفية الاستدلال فقد استدل به صاحب الفصول ، وقال : إنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب ، وإلا لغى وجوب السؤال ، فإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّما يصح أن يسأل عنه ويقع جواباً له واحتمال خصوصية المسبوقية بالسؤال ، منتف جداً.
    وأمّا الأمر الثالث : فقد أورد على الاستدلال بوجوه :
    1. المراد من أهل الذكر أهل الكتاب أو الأئمّة عليهم السَّلام
    إنّ المراد من أهل الذكر ، حسب سياق الآيات هو علماء أهل الكتاب ، حيث إنّ المشركين كانوا ينكرون بعث البشر رسولاً ، فأحالهم سبحانه إلى علماء أهل الكتاب العارفين بأحوال الأُمم حتى يسألونهم عمّن بعث اللّه رسولاً ، فهل كانوا بشراً أو كانوا ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ؟
    كما أنّ المراد منهم ـ حسب الروايات ـ هم الأئمّة المعصومون عليهم السَّلام ، فقد عقد الكليني في أُصول الكافي باباً لذلك ، وأخرج فيه روايات بين صحيحة وحسنة وضعيفة ، وعلى كلّ تقدير لا يشمل غير الطائفتين.
    يلاحظ عليه : أنّ الآية تذكّر المشركين بقاعدة سائدة بين العقلاء وهو رجوع الجاهل إلى العالم ، ويختلف مصداقه حسب اختلاف الموارد ، وفي مورد رفع شبهة المشركين فالمرجع الصالح المقبول عندهم ، هو علماء أهل الكتاب ، وفي مورد فهم معالم الإسلام ودرك حقائق الكتاب والسنّة فالمرجع هم العترة حسب حديث الثقلين ، كما أنّ المرجع للعامي في عرفان الوظيفة هو المفتي وهكذا ، فلا السياق آب عن الاستدلال ولا الروايات ، بعد كون الجملة حاملة لمعنى عقلائي له مصاديق مختلفة حسب اختلاف الموضوعات ، عبر الزمان.


(252)
    2. السؤال لغاية تحصيل العلم
    إنّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصيل العلم ، لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبداً ، كما يقال في العرف : سل إن كنت جاهلاً ، ويؤيّده أنّ الآية واردة في أُصول الدين وعلامات النبي التي يؤخذ فيها بالتعبّد إجماعاً. (1)
    يلاحظ عليه : تختلف الغاية من السؤال حسبَ اختلاف واقع السؤال ، فإن كان ممّا يجب أن يُعْلَم ، فالسؤال لغاية العلم به ، وإن كان ممّا يجب أن يعمل به كالأحكام فالسؤال لتلك الغاية سواء أفاد العلم أو لا ، لا أقول باختصاص الآية لوجوب السؤال للعمل بالجواب ـ كما ذكره الشيخ ثمّ اعترض عليه ـ بل يجب السؤال للغاية الخاصة به ، فهي تعمّ السؤال للعلم والاعتقاد أو السؤال للعمل.
    على أنّ العامي إذا رجع إلى من قوله حجّة ، يحصل له العلم بالوظيفة وإن لم يحصل له العلم بالواقع.
    3. المراد من أهل الذكر هو أهل العلم لا ناقل الحديث
    إنّ الذكر في الآية بمعنى العلم ، والآية تدل على حجّية قولهم بما هم أهل العلم والفكر ، لا بما هم نَقَلَة الحديث وحملته عن طريق البصر والسمع ، كما إذا رأى فعل الإمام وسمع كلامه ونقل فلا يقال له إنّه من أهل الذكر والعلم.
    وبعبارة أُخرى : أهل الذكر هم الذين يَضمُّون فكرهم وفهمهم إلى كلام الإمام ، ويستخرجون مراده بفكرهم الثاقب ، وذهنهم الصائب ، وليس هذا إلا المجتهد بالنسبة إلى مقلده.
1. الفرائد : 81.

(253)
    وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بما أشار إليه الشيخ أيضاً في ذيل كلامه وحاصله : أنّ أمثال زرارة و محمد بن مسلم وأبان بن تغلب كانوا من أهل الذكر والعلم ، أي كانوا يضمُّون فهمهم إلى كلام الإمام وقوله ، وإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية ، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقاً لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين المبتداء والمسبوق ، ولابين أضراب زرارة وغيرهم ممن لا يكونون من أهل الذكر وإنّما يروي ما سمعه أو رآه.
    يلاحظ عليه : أنّ الرجوع إلى زرارة والسؤال عمّا استحصله من الآراء والنظريات من القرآن والسنة فهو سؤال أهل الذكر ، وأمّا سؤاله عن مسموعاته ومبصراته ليس سؤال أهل الذكر بما هم أهل الذكر ، فالآية لا تشمل مثل هذا في المقيس عليه ( زرارة ) فكيف المقيس ؟! فلا تشمل الآية سؤال من رأى الفعل وسمع القول بلا إعمال نظر وفكر ، فالآية أصلح للاحتجاج على جواز التقليد.
    والأولى أن يجاب ـ بما ذكرنا في آية النفر ـ : من أنّه إذا كان نقل رواية زرارة كلام الإمام مع إعمال النظر والفكر حجّة ، فالعرف يساعد على إلغاء الخصوصية بحجّية مجرّد روايته ، إذ الأساس هو كلام المعصوم ، وفهمه طريق إلى فهم مقاصد الإمام ، فإذا استغنى المنقول إليه عن الحجّة الثانية لكونه مجتهداً ، غير مقلد ، فلا وجه لعدم حجّية مجرّد نقله فعل الإمام وقوله.
    4. وجوب السؤال لا يلازم وجوب القبول
    إنّ المستدل تطرّق إلى حجّية جواب المجيب بأنّه لو وجب السؤال ولم يجب القبول يكون السؤال لغواً ، مع أنّه ليس كذلك لما عرفت في آية الكتمان من أنّ وجوب إظهار الشهادة لا يلازم وجوب القبول ، كما لا يلزم من عدم قبولها


(254)
اللغوية ، وفي المقام نقول : يجب عليه السؤال إلى أن يحصل له العلم ، فكلّ سؤال يشكل شيئاً من الظن حتى ينتهي السائل إلى العلم.
    5. الآية ليست بصدد البيان
    الآية بصدد بيان قاعدة كلية ربما يكون أمراً فطرياً ، وهو أنّه يجب على الجاهل أن يرجع إلى العالم ، وأمّا ما هو شرط قبول قوله فهل يكفي الواحد ، أو يشترط التعدد ، أو إفادته العلم ؟ فليس بصدد بيانه ، والشاهد على ذلك أنّه لم يذكر شرط الوثاقة في المجيب الذي هو من أوضح شرائط القبول.

    الآية الخامسة : آية الإذن
    ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْر لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيم ). (1)
    يقع الكلام في تفسير الآية أوّلاً ، وكيفية الاستدلال ثانياً ، والإشكالات المتوجهة إليها ثالثاً ، وإليك البيان :
    1. تفسير الآية :
    أ. انّ الضمير في قوله : ( وَمِنْهُمْ ) يرجع إلى المنافقين ، وسبقته ضمائر أُخرى كلّها ترجع إلى المنافقين نظير :
    ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ). (2)
1. التوبة : 61.
2. التوبة : 49.


(255)
    ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ). (1)
    ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُن ). (2)
    ب. الأُذن جارحة السمع المعروفة ، وقد أطلقوا عليه الأُذن وسمّوه بها كناية عن أنّه يصغي لكلّ ما قيل له ويستمع إلى كلّ ما يذكر له فهو اذن.
    ج.قوله : ( أُذنُ خَير لَكُم ) : ربما يفسّر بأنّه سمّاع يسمع ما فيه خيركم ، أي الوحي ، وعلى هذا فالمسموع خير ، لكن يبعده انّه لو كان هذا هو المراد لما كانت حاجة إلى قوله : ( لكم ) لأنّ الوحي خير لعامّة الناس فلا يكون للتخصيص وجه.
    والأولى أن يفسّر ويقال انّه من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة أي أُذن خير وانّ نفس استماعه لعامة الاخبار خير لكم ، فربّ مخبر ، يخبر عن اقتراف الكبائر وآخر يكذبها والنبيُّ يستمع الجميع ولا يكذب أحداً لئلاّ يهتك سترهم وهذا النوع من الأُذن فيه خير المجتمع.
    د. قوله : ( يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤُمِنين ) ، الباء في الأوّل للتعدية كقوله سبحانه : ( كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليْومِ الآخِر ) (3) ، ويحتمل في الثاني أن يكون كذلك مثل قوله : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ ) (4) وقوله : ( فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) (5) لكن الظاهر أنّها ليست للتعدية ، وإلا لما كان وجه للعدول من الباء إلى اللام; بل للانتفاع ، أي يصدقهم لكون التصديق لصالحهم.
1. التوبة : 58.
2. التوبة : 61.
3. التوبة : 19.
4. العنكبوت : 26.
5. يونس : 83.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس