إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 286 ـ 300
(286)
    3. دخول الحمام من دون تقدير مدّة المكث فيه ومقدار المياه التي يصرفها.
    4. استقلال الحافلة بأُجرة معينة من دون أن يعين حدّ المسافة. إلى غير ذلك من السير المستمرة بين المسلمين ولو اجتمع فيه الشرطان ، فالسيرة تضفي عليها الجواز تكليفاً لا وضعاً.
    فإن قلت : دلّ الدليل على بطلان الإجارة المجهولة ، فالقول بالصحّة في الأخير يصادم النص.
    قلت : المراد منه هو الدليل في خصوص المورد على وجه التنصيص.
    وأمّا الموجود في المقام فلا يتجاوز الإطلاق القابل للتقييد.
    والكلام الخامس في السيرة ، هي انّها على قسمين :
    تارة تصادم الكتاب والسنّة وتعارضهما ، كاختلاط النساء بالرجال في الأفراح والأعراس وشرب المسكرات فيها والمعاملات الربوية ، فلا شكّ انّ هذه السيرة باطلة لا يرتضيها الإسلام ولا يحتج بها إلا الجاهل.
    وكاشتراط المرتهن الانتفاع من العين المرهونة ، أو اشتراط ربّ المال في المضاربة قدراً معيناً من الربح لا بالنسبة ، فهذا النوع من السيرة لا يحتج بها لمخالفتها للنص الصريح.
    وأُخرى لا تصادم الدليل الشرعي وفي الوقت نفسه لا يدعمها الدليل ، فهذا النوع من السيرة إن اتصلت بزمان المعصوم وكانت بمرأى ومسمع منه ومع ذلك سكت عنها تكون حجّة على الأجيال الآتية.
    وبذلك يعلم أنّ السير الحادثة بين المسلمين ـ بعد رحيل المعصوم ـ لا يصحّ الاحتجاج بها وإن راجت بينهم كالأمثلة التالية :
    1. عقد التأمين : وهو عقد رائج بين العقلاء ، عليه يدور رحى الحياة


(287)
العصرية ، فموافقة العرف لها ليس دليلاً على مشروعيتها ، بل يجب التماس دليل آخر عليها.
    2. عقد حقّ الامتياز : قد شاع بين الناس شراء الامتيازات كامتياز الكهرباء والهاتف والماء وغير ذلك التي تعد من متطلبات الحياة العصرية ، فيدفع حصة من المال بغية شرائها وراء ما يدفع في كلّ حين عند الاستفادة والانتفاع بها ، وحيث إنّ هذه السيرة استحدثت ولم تكن من قبل ، فلا تكون موافقة العرف لها دليلاً على جوازها ، فلابد من طلب دليل آخر.
    3. بيع السرقفلية : قد شاع بين الناس انّ المستأجر إذا استأجر مكاناً وسكن فيه مدّة فيصبح له حقّ الأولوية وربما يأخذ في مقابله شيئاً باسم « السرقفلية » حين التخلية.
    4. عقود الشركات التجارية الرائجة في عصرنا هذا ، ولكلّ منها تعريف يخصها ، ولم يكن لها أثر في عصر الوحي ، فتصويب كلّ هذه العقود بحاجة ماسة إلى دليل آخر وراء العرف ، فإن دلّ عليه دليل شرعي يؤخذ بها وإلا فلا يحتج بالعرف.

    2. الرجوع إلى العرف في تبيين المفاهيم
    1. إذا وقع البيع والإجارة وما شابههما موضوعاً للحكم الشرعي ثمّ شكّ في مدخلية شيء أو مانعيته في صدق الموضوع شرعاً ، فالصدق العرفي دليل على أنّه هو الموضوع عند الشرع.
    إذ لو كان المعتبر غير البيع بمعناه العرفي لما صحّ من الشارع إهماله مع تبادر غيره وكمال اهتمامه ببيان الجزئيات من المندوبات والمكروهات إذ يكون تركه إغراء بالجهل وهو لا يجوز.


(288)
    يقول الشيخ الأنصاري في نهاية تعريف البيع : إذا قلنا بأنّ أسماء المعاملات موضوعة للصحيح عند الشارع ، فإذا شككنا في صحّة بيع أو إجارة أو رهن يصحّ لنا أن نستكشف ما هو الصحيح عند الشارع ممّا هو الصحيح عند العرف ، بأن يكون الصحيح عند العرف طريقاً إلى ما هو الصحيح عند الشارع إلا ما خرج بالدليل.
    2. لو افترضنا الإجمال في مفهوم الغبن أو العيب في المبيع فيحال في صدقهما إلى العرف.
    قال المحقّق الأردبيلي : قد تقرر في الشرع انّ ما لم يثبت له الوضع الشرعي يحال إلى العرف جرياً على العادة المعهودة من ردّالناس إلى عرفهم. (1)
    3. لو افترضنا الإجمال في حدّالغناء ، فالمرجع هو العرف ، فكلّ ما يسمّى بالغناء عرفاً فهو حرام وإن لم يشتمل على الترجيع ولا على الطرب.
    يقول صاحب مفتاح الكرامة : المستفاد من قواعدهم حمل الألفاظ الواردة في الأخبار على عرفهم ، فما علم حاله في عرفهم جرى الحكم بذلك عليه ، وما لم يعلم يرجع فيه إلى العرف العام كما بين في الأُصول. (2)
    يقول الإمام الخميني رحمه اللّه : أمّا الرجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع والعنوان فصحيح لا محيص عنه إذا كان الموضوع مأخوذاً في دليل لفظي أو معقد الإجماع. (3)
1. مجمع الفائدة والبرهان : 8/304.
2. مفتاح الكرامة : 4/229.
3. البيع : 1/331.


(289)
    3. الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق
    قد اتخذ الشرع مفاهيم كثيرة وجعلها موضوعاً لأحكام ، ولكن ربما يعرض الإجمال على مصاديقها ويتردد بين كون الشيء مصداقاً له أو لا.
    وهذا كالوطن والصعيد والمفازة والمعدن والحرز في السرقة والأرض الموات إلى غير ذلك من الموضوعات التي ربما يشك الفقيه في مصاديقها ، فيكون العرف هو المرجع في تطبيقها على موردها.
    يقول المحقّق الأردبيلي في حفظ المال المودع : وكذا الحفظ بما جرى الحفظ به عادة ، فإنّ الأُمور المطلقة غير المعيّنة في الشرع يرجع فيها إلى العادة والعرف ، فمع عدم تعيين كيفية الحفظ يجب أن يحفظها على ما يقتضي العرف حفظه ، مثل الوديعة ، بأن يحفظ الدراهم في الصندوق وكذا الثياب والدابة في الاصطبل ونحو ذلك ، ثمّ إنّ في بعض هذه الأمثلة تأملاً ، إذ الدراهم لا تحفظ دائماً في الصندوق ، ولا الثياب وهو ظاهر. (1)

    4. الأعراف الخاصة
    إنّ لكلّ قوم وبلد أعرافاً خاصة بهم يتعاملون في إطارها ويتفقون على ضوئها في كافّة العقود والإيقاعات ، فهذه الأعراف تشكل قرينة حالية لحلّ كثير من الإجماعات المتوهمة في أقوالهم وأفعالهم ، ولنقدم نماذج منها :
    1. إذا باع دابة ثمّ اختلفا في مفهومه ، فالمرجع ليس هو اللغة بل ما هو المتبادر في عرف المتعاقدين وهو الفرس.
    2. إذا باع اللحم ثمّ اختلفا في مفهومه ، فالمرجع هو المتبادر في عرف
1. مجمع الفائدة والبرهان : 10/279 ـ 280.

(290)
المتبايعين وهو اللحم الأحمر دون اللحم الأبيض كلحم السمك.
    3. إذا وصّى بشيء لولده ، فالمرجع في تفسير الولد هو العرف ، ولا يطلق فيه إلاعلى الذكر لا الأُنثى خلافاً للفقه والكتاب العزيز قال سبحانه : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن ). (1)
    4. إذا اختلفت البلدان في بيع شيء بالكيل أو الوزن أو بالعد ، فالمتبع هو العرف الرائج في بلد البيع.
    قال المحقّق الأردبيلي : كلّما لم يثبت فيه الكيل ولا الوزن ولا عدمهما في عهده ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فحكمه حكم البلدان ، فإن اتّفق البلدان فالحكم واضح ، وإن اختلفا ففي بلد الكيل أو الوزن يكون ربوياً تحرم الزيادة وفي غيره لا يكون ربوياً فيجوز التفاضل ، والظاهر انّ الحكم للبلد لا لأهله وإن كان في بلد غيره. (2)
    5. إذا اختلف الزوجان في أداء المهر ، فالمرجع هو العرف الخاص ، فلو جرت العادة على تقديم المهر أو جزء منه قبل الزفاف ولكن ادّعت الزوجة بعده انّها لم تأخذه ، وادّعى الزوج دفعه إليها ، فللحاكم أن يحكم على وفق العرف الدارج في البلد.
    وقد روي عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) فيما إذا اختلف أحد الزوجين مع ورثة الزوج الآخر ، انّه جعل متاع البيت للمرأة وقال للسائل : « أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج ؟ » فقلت : شاهدين ، فقال : « لو سألت من بين لابتيها ـ يعني الجبلين ونحن يومئذ بمكة ـ لأخبروك انّ الجهاز والمتاع يهدى علانية ، من بيت المرأة إلى بيت زوجها ، فهي التي جاءت به وهذا المدّعي ، فإن زعم أنّه أحدث فيه
1. النساء : 11.
2. مجمع الفائدة والبرهان : 8/477 ، كتاب المتاجر ، مبحث الربا.


(291)
شيئاً فليأت عليه البيّنة ». (1)
    6. إذا اختلف البائع والمشتري في دخول توابع المبيع في البيع فيما إذا لم يصرحا به ، كما إذا اختلفا في دخول اللجام والسرج في المبيع ، فإذا جرى العرف على دخولهما في المبيع وإن لم يذكر يكون قرينة على أنّ المبيع هو المتبوع والتابع ، ولذلك قالوا : إنّ ما يتعارفه الناس في قول أو فعل عليه يسير نظام حياتهم وحاجاتهم ، فإذا قالوا أو كتبوا فإنّما يعنون المعنى المتعارف لهم ، وإذا عملوا فإنّما يعملون على وفق ما يتعارفونه واعتادوه ، وإذا سكتوا عن التصريح بشيء فهو اكتفاء بما يقتضي به عرفهم ، ولهذا قال الفقهاء : المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

    إمضاء النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لبعض الأعراف
    إنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أمضى بعض الأعراف الموجودة بين العرب كما أمضى ما سنّه عبد المطلب من السنن ، ولكن كان الجميع بإذن منه سبحانه ، فلو وضع الدية على العاقلة ، أو جعل دية الإنسان مائة من الإبل وغير ذلك ، فقد كان بأمر من اللّه سبحانه ، كيف وقد أُوحي إليه قوله سبحانه :
    ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ *...فأُولئكَ هُمُ الظّالِمُون * ... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُون ). (2)

    تفسير خاطئ
    يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف : إنّ الرسول لمّا وجد عرف أهل المدينة جارياً على بيع السلم وعلى بيع العرايا وأصبح هذان النوعان من البيوع التي لا
1. الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث 1.
2. المائدة : 44 ـ 47.


(292)
يستغني عنهما المتعاملون أباحهما ، فرخّص في السلم ورخص في العرايا مع أنّ كلاًّ منهما حسب الأحكام الشرعية عقد غير صحيح ، لأنّ السلم بيع مبيع غير موجود وقت البيع بثمن حال فهو عقد على معدوم ، وقد نهى ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن بيع المعدوم.
    والعرايا : عبارة عن بيع الرطب على النخل بالتمر الجاف ، وهذا لا يمكن فيه التحقّق من تساوي البدلين ، وقد نهى ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن بيع الشيء بجنسه متفاضلاً ، ولكن ضرورات الناس دعتهم إلى هذا النوع من التعامل وجرى عرفهم به فراعى الرسول ضرورتهم وعرفهم ورخّص فيه. (1)
    أقول : من أين وقف الأُستاذ على أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) نهى عن بيع المعدوم مع أنّ الوارد هو قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « ولا بيع ما ليس عندك » ؟ (2)
    وقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ناظر إلى بيع العين الشخصية التي ليست في ملك البائع وإنّما يبيعها ليشتريها من غيره ثمّ يدفعها إليه ومثله لا يشمل بيع السلم.
    نعم أطبق العقلاء على عدم اعتبار بيع المعدوم إلا إذا كان للبائع ذمّة معتبرة تجلب اعتماد الغير وكان بيع السلف أمراً رائجاً بين العقلاء إلى يومنا هذا غير انّ الشارع جعلها في إطار خاص
    قال ابن عباس : قدم النبي المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين ، فقال : « من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ». (3)
    وأمّا بيع العرايا فلا مانع من أن يكون تخصيصاً لما نهى عن بيع الرطب بالجاف (4) وقد قيل : ما عام إلا وقد خصّ.
1. مصادر التشريع الإسلامي : 146.
2. بلوغ المرام : برقم 820 ، قال وراه الخمسة. وروى أيضاً « ولا تبع ... ».
3. بلوغ المرام : برقم 874.
4. روى سعد بن أبي وقاص ، قال : سمعت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر إذا يبس ، فقال : « أينقص الرطب إذا يبس ؟ » ، قالوا : نعم ، فنهى عن ذلك. ( بلوغ المرام : برقم 865 ).


(293)
    ولو افترضنا انّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) رخص هذه البيوع من باب الضرورة يجب الاختصار على وجودها.
    نعم لمّا كان النبي واقفاً على مصالح الأحكام ومفاسدها وملاكاتها ومناطاتها ، وكانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في متعلّقاتها ، كان للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أن ينص على أحكامه عن طريق الوقوف على عللها وملاكاتها ولا يكون الاهتداء إلى أحكامه سبحانه عن طريق الوقوف على مناطاتها بأقصر من الطرق الأُخرى التي يقف بها النبي على حلاله وحرامه.

    وقد استدل على حجّية مطلق الظن بوجوه أربعة رابعها دليل الانسداد ، وإليك الإشارة إليها واحداً تلو الآخر.

    الدليل الأوّل : ما استدل به القدماء من الأُصوليين
    ذكره الشيخ في العدّة عند البحث في حجّية الخبر الواحد فقال : « إنّ في العقل وجوب التحرز من المضارّ ، وإذا لم نأمن عند خبر الواحد أن يكون الأمر على ما تضمّنه الخبر ، يجب علينا التحرّز منه ، والعمل بموجبه. كما أنّه يجب علينا إذا أردنا سلوكَ طريق أو تجارة وغير ذلك فخُبِّرنا بخبر انّ في الطريق سبعاً أو لصّاً ، أو خُبِّرنا بالخسران الظاهر ، وجب علينا أن نتوقف عليه ونمتنع من السلوك فيه. (1)
    وقرره المحقّق الخراساني بالشكل التالي :
1. عدة الأُصول : 1/107.

(294)
    إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي والتحريمي لمظنة الضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم.
    أمّا الصغرى فقد فسر الضرر بأحد الأمرين :
    1. بالعقوبة تارة ، والمفسدة أُخرى. فقيل : إنّ الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.
    وأمّا الكبرى ـ دفع الضرر المظنون لازم ـ فقد استدلّ عليها بوجهين :
    1. إمّا أن نقول بالتحسين والتقبيح العقليين فواضح ، فالعقل يُقبِّح ارتكاب ما فيه الضرر المظنون.
    2. أو لا نقول بهما ومع ذلك يستقل العقل بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل لا بملاك استقلاله بهما ، بل يحكم بذلك وإن لم يستقل بالتحسين والتقبيح العقليين ، ولذلك أطبق العقلاء على ذلك وإن اختلفوا فيهما.
    ثمّ إنّ القدماء ناقشوا الكبرى وقد نقل شيخنا الأنصاري منهم أجوبة ثلاثة كلّها يرجع إلى رفض الكبرى وقال :
    أ : منع الحاجبيّ الكبرى ، وقال : دفع الضرر المظنون احتياط مستحب.
    ب : نقل الشيخ في العدّة انّ الحكم في الكبرى راجع إلى المضار الدنيوية لا الأُخروية وهو منه عجيب.
    ج : ونقل عن ثالث جواباً نقضياً ، وهو النهي عن الأمارات ، كخبر الفاسق والقياس مع كونهما مفيدين للظن بالضرر.
    ولكن الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني ركّزا على منع الصغرى ، وانّ الظن بالوجوب والحرمة لا يلازمان الظنّ بالضرر بكلا المعنيين : العقوبة والمفسدة ،


(295)
وإليك توضيح كلا الأمرين.
    أمّا الأُولى : فيعلم ببيان مورد القاعدتين :
    الأُولى : قبح العقاب بلا بيان.
    الثانية : لزوم دفع الضرر ( العقاب ) المحتمل.
    فلو وقفنا على حدود القاعدتين لظهر منع الصغرى في المقام ، وإليك البيان :
    أمّا القاعدة الأُولى : فالعقل يستقل بقبح العقاب بلا بيان واصل ، ولا يرى الملازمة بين الوجوب والتحريم الواقعيين ، والعقوبة ، وإنّما يرى الملازمة بين الحكم الواصل إلى المكلّف ، والعقوبة وليس المراد إلا العلم أو ما دل الدليل القطعي على حجّيته.
    وبما انّ المفروض في المقام عدم ثبوت حجّية الظن بالحكم في المقام ، فلا يلازم الظنُ بالحكم ، الظن بالعقوبة أبداً ويكون المحكّم هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان وإن كان في الواقع واجباً أو حراماً. فالقاعدة تنفي أي موضوع للقاعدة الثانية ، فالثانية بالنسبة إلى مورد الأُولى ، كبرى بلا صغرى.
    وأمّا القاعدة الثانية ، أعني : وجوب دفع الضرر ( العقاب ) فتختص بما إذا أُحرزت العقوبة على وجه القطع في ظل البيان الواصل ومع ذلك ربما تتجلّى بصور ثلاث :
    أ : القطع بالعقاب ، كما إذا علم انّ المائع مسكر.
    ب : الظن بالعقاب ، كما إذا علم انّ أحد الإناءين مسكر ، ففي شرب الواحد منهما مظنة العقاب كما انّ في شرب كليهما القطع به.
    ج : احتمال العقاب ، كما إذا كانت الأطراف متعددة على وجه لا تخرج عن


(296)
حدّ المحصورة واحتمال العقاب في واحد لا ينافي القطع بالعقاب في الجميع ، ففي هذه الصور الصغرى والكبرى محرزتان ، ففي ظل البيان الواصل يكون العقاب ، مقطوعه أو مظنونه أو محتمله واجب الدفع.
    والعجب من المحقّق الخراساني حيث احتمل فيما إذا لم يكن في المورد بيان واصل ومع ذلك ظن بالحكم ، أن لا يحكم العقل بأحد الطرفين لا باستحقاق العقاب ولا بعدم استحقاقه ، ولأجل عدم حكمه بحسن واحد منهما ، يكون العقاب محتملاً ويستقل العقل بلزوم دفع العقاب مقطوعه ومظنونه ومشكوكه (1).
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره غير تام لوجهين :
    أ : انّ العقل لا يتوقف في الحكم إذا كان الموضوع ممّا له به صلة.
    ب : انّ في تجويز توقف العقل عن إصدار الحكم في الموضوع الذي هو المرجع فيه ، إبطالاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان وكيف يحتمل العقاب مع عدم كون الظن حجّة والبيان غير واصل.
    هذا كلّه إذا أُريد من الضرر في الصغرى العقوبة الأُخروية.
    وأمّا إذا أُريد من الضرر ، المفاسد ، فقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :
    الأوّل : انّ الظن بالتكليف يلازم الظن بالمصلحة أو المفسدة ، لأنّهما من الأُمور التكوينية ولا تأثير للعلم والجهل فيهما ، ولكن ليس كلّ مفسدة واجبَ الدفع. وذلك لأنّه ليس المراد منهما المصالح والمفاسد الشخصية ، بل المصالح والمفاسد النوعية ، والذي يستقل العقل بدفعه هو الضرر المظنون الشخصي ، لا النوعي ، ومثله المصلحة النوعية فليس في تفويتها أيّ ضرر شخصي ، بل ربما يكون في استيفائها مفسدة كما في الإنفاق بالمال.
1. كفاية الأُصول : 110 ـ 111.

(297)
    الثاني : ليس الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور والمنهي عنها وإنّما هي تابعة لمصالح في نفس الأحكام.
    وعلى ذلك فالصغرى أي الظن بالضرر الشخصي منتف ، ومعه كيف يُسْتَدلُّ بالكبرى ؟!
    فإن قلت : إنّ الضرر الشخصي وإن كان منتفياً عند الظن بالحكم ، لكن الظن بالمفسدة النوعية أو احتمالها ـ حسب ما ذكر ـ ليس منتفياً ، والعقل مستقل بقبح مظنون المفسدة النوعية أو محتملها أو مظنون المصلحة أو محتملها.
    قلت : قد أشار إلى هذا السؤال والجواب عنه بقوله : « ولا استقلال للعقل بقبح ما فيه احتمال المفسدة ، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة ... ».
    وحاصل الجواب : انّ العقل إنّما يستقل في مجال المصالح والمفاسد النوعية في صورة العلم بهما دون الظن والاحتمال.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره من تبعية الأحكام للمصالح النوعية ومفاسدها دون الشخصية ، ليس بتام ، إذ لا مانع من أن يكون في الحكم كلا الملاكين ، كما في شرب المسكر والقمار وأكل الميتة والدم وغير ذلك.
    وثانياً : أنّ ما ذكره من أنّ الأحكام تابعة لهما في نفس الإنشاء دون المتعلّق ، غير تام أيضاً ، ولو صحّ ما ذكره فإنّما يصحّ في الأوامر الامتحانية دون غيرها ، ولو صحّ ما ذكره في عامة الأحكام لما وجب امتثالها ، بعد حصول الملاكات ، بالإنشاء.
    وثالثاً : التفريق بين الضرر الشخصي المظنون والمحتمل والضرر النوعي كذلك بإيجاب دفع الأوّل دون الثاني عجيب جدّاً ، ولا يحكم بذلك إلا العقل المادي الذي يقدم نفسه ونفعه على كلّ شيء ، دون العقل الإلهي الذي يرى الناس سواسية ، فلو وجب دفع الضرر الشخصي في مجالي الظن والاحتمال ، يجب دفع الضرر النوعي أيضاً كذلك ، فالأولى الإجابة بأحد الوجهين على نحو المانعة


(298)
الخلو :
    1. الالتزام بالاحتياط فيما إذا كان الضرر خطيراً وإن كان من حيث الاحتمال ضعيفاً ، كما إذا احتمل انّ المائع ممزوج بالسم المهلك ، أو انّ شرب التتن يوجب احتراق المعمل المتعلّق بالشعب ، فالعقلاء قاطبة على لزوم الاجتناب دون ما إذا كان الضرر طفيفاً وإن كان من حيث الاحتمال قويّاً ، هذا من غير فرق بين الضرر الشخصي أو النوعي في كلتا الصورتين.
    2. ما ذكره الشيخ من أنّ حكم الشارع بالبراءة في الشبهات يكشف إمّا عن عدم الأهمية ، أو لوجود المصلحة الغالبة على المفسدة الحاصلة ، كما يظهر من كلمات شيخنا الأنصاري قال : إنّ الضرر وإن كان مظنوناً ، إلا أنّ حكم الشارع قطعاً أو ظناً بالرجوع في مورد الظن إلى البراءة والاستصحاب وترخيصه لترك مراعاة الظن ، أوجب القطع أو الظن بتدارك ذلك الضرر المظنون. (1)

    الدليل الثاني على حجّية الظن المطلق
    إذا ظن بوجوب السورة في الصلاة ، فالأمر دائر بين الأخذ به و الأخذ بمقابله ، أعني : عدم الوجوب الذي يعدّ بالنسبة إلى مقابله وَهْماً ، فلو لم يُؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح.
    وقد أجاب عنه الشيخ بوجهين ، تارة بالنقض بكثير من الظنون التي حَرُمَ العمل بها إجماعاً كالقياس والاستحسان ، وأُخرى بالحلّ واقتصر المحقّق الخراساني بالثاني ، وإليك توضيحه :
    إنّ المستدل قد أخذ لزوم الأخذ بأحد الطرفين ( الظن أو الوهم ) أمراً مسلماً ، فاستنتج انّه لو لم يؤخذ بالظن ، لزم الأخذ بالوهم ، وهو ترجيح المرجوح على
1. الفرائد : 109.

(299)
الراجح.
    ولسائل أن يقول : لزوم الأخذ إمّا في مقام الإفتاء ، أو في مقام العمل.
    أمّا الأوّل فإنّما يدور الأمر بينهما إذا وجب عليه الإفتاء ، ولكن لقائل أن يقول يحرم عليه الإفتاء والحال هذه ، لأنّه إفتاء بما لا يعلم صحّته سواء كان جانب الظن أو جانب الوهم.
    وأمّا الثاني فلأنّ الأمر لا يدور بينهما إلا إذا ثبتت قبله مقدمات ثلاث :
    1. العلم الإجمالي بالتكاليف.
    2. انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام بمقدار يكفي في انحلاله.
    3. بطلان الاحتياط لاستلزامه العسر والحرج وعدم جواز الرجوع إلى البراءة لاستلزامه الخروج عن الدين وعدم جواز التقليد.
    فعندئذ ينحصر الطريق بالعمل بواحد من الطرفين ، ولكنّه يرجع إلى دليل الانسداد ، ولا يكون دليلاً مستقلاً.

    الدليل الثالث على حجّية الظن المطلق
    ما حكاه الشيخ الأنصاري ، عن أُستاذه شريف العلماء ، وهو عن أُستاذه السيد محمد المجاهد صاحب المناهل ( المتوفّى سنة 1242 هـ ) ، ابن السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض ـ قدّس اللّه أسرارهم ـ وحاصله :
    انّه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك ، الاحتياط التام حتى في الموهومات ، وبما انّ الاحتياط التام مستلزم للحرج ، فمقتضى الجمع بين القاعدتين هو الاحتياط في المظنونات دون المشكوكات ، لأنّ عكسه باطل بالإجماع.


(300)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره بعض مقدمات دليل الانسداد وقد أهمل ذكر بعضها الآخر ، وهو انسداد باب العلم والعلمي أوّلاً ، وعدم إهمال الوقائع المشتبهة ثانياً.

    الدليل الرابع على حجّية الظن المطلق : دليل الانسداد
    وهو مؤلَّف من مقدّمات يستقل العقل من تحقّقها بكفاية الإطاعة الظنية ، حكومة أو كشفاً ، وهي خمس وجعلها الشيخ أربع بحذف المقدمة الأُولى ، وإليك بيانها :
    الأُولى : العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة فعلية.
    الثانية : انسداد باب العلم والعلمي.
    الثالثة : لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لها.
    الرابعة : لا يجوز أو لا يجب الاحتياط لعدم وجوبه بقوله سبحانه : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) (1) أو للإجماع كما لا يجوز الرجوع إلى الأُصول من استصحاب وبراءة ، لعدم جواز الرجوع إلى الأُصول عند العلم الإجمالي ولا تقليد لحرمته على المجتهد.
    الخامسة : لا بدّفي مقام الإطاعة إمّا من الاكتفاء بالإطاعة الوهمية أو الشكية أو الظنية ، فعلى الأوّلين يلزم ترجيح المرجوح على الراجح فيتعين الثالث ، أعني : الاكتفاء بالإطاعة الظنية.
    هذا هو لبّ دليل الانسداد ، وتسميته بالدليل العقلي مع كون بعض مقدماته شرعية ، أعني : عدم وجوب الاحتياط لقيام الإجماع عليه ، أو لدلالة قوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجْ ) (2) لأجل انّ الدليل بصورة قياس
1. الحج : 78.
2. الحج : 78.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس