إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 271 ـ 285
(271)
فيها الأخبار المتواترة ولا المحفوفة بالقرائن ، وأنّ عمل المسلمين بخبر الثقة لم يكن إلا استلهاماً من السيرة العقلائية التي ارتكزت في نفوسهم.
    والحاصل : أنّه لو كان العمل بأخبار الآحاد الثقات أمراً مرفوضاً عند الشرع ، لكان هناك الردع القارع والطرد الصارم حتى ينتبه الغافل ويفهم الجاهل.
    ولأجل ذلك نرى أنّه وردت الأخبار المتضافرة حول ردّ القياس ، والرجوع إلى قضاة الجور ، وتقبل الولاية من الجائر لما جرت عليه سيرة العامة من العمل به والرجوع إلى قضاة الجور ، وتقبل الولاية من الجائرين ، وهي أقلّ ابتلاء ـ بمراتب ـ عن العمل بخبر الواحد ، وعلى ضوء هذا ، فهذه السيرة العقلائية حجّة ما لم يردع عنها.
    السيرة والآيات الناهية عن الظن
    لا شكّ انّ الاحتجاج بالسيرة فرع عدم الردع عنها شأن كلّ سيرة يستدل بها على حكم شرعي وربما يتصور انّ الآيات الماضية والروايات المانعة عن اتّباع غير العلم رادعة عنها وناهيك قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) ، وقوله تعالى : ( وَإِنّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (2).
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عنه بوجوه ثلاثة :
    1. انّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظن في أُصول الدين.
    2. المتيقن منها ، ما لم يقم على اعتباره حجّة.
    3. كونها رادعة ، مستلزمة للدور وذلك :
1. الإسراء : 36.
2. النجم : 28.


(272)
    انّ الرادعية تتوقف على عدم كون السيرة مخصصة أو مقيدة للآيات الناهية ، وإلافلا تكون رادعة ، وعدم كونها مخصصة أو غير مقيدة فرع كونها بعمومها أو إطلاقها رادعة للسيرة فيلزم توقف كونها رادعة ، على نفسها.
    ثمّ إنّه قدَّس سرَّه أورد على نفسه بورود نفس الدور على اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً.
    ولكن الظاهر انّ ما ذكره من الأجوبة الثلاثة تبعيد للمسافة ولا حاجة إليها بل النسبة بين الآيات والسيرة تباين ، فانّ المراد من الظن في الآيات هو الوهم والخيال والخرص والتخمين ، كتسمية الملائكة أُنثى ، وأين هذا من العمل بقول الثقة المخبر عن حس ، المتحرّز عن الكذب ؟! فهو وإن كان ظنياً عقلاً ، لكنّه ليس داخلاً في الظن المنهى عنه في الآية ، كما أنّه وإن كان غير علمي في نظر المنطقيين ، لكنّه في نظر العرف اطمئنان وسكون قلب ، فهو لا يقصر عن العلم عندهم.
    بقي هنا سؤال وهو انّ المحقّق الخراساني جعل رادعية الآيات للسيرة العملية في مورد خبر الواحد مستلزماً للدور ، مع أنّه صحح رادعية الآيات للسيرة المستمرة بين العقلاء بالعمل بالاستصحاب. قال : يكفي في الردع عن مثله بما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم عن مثله من الكتاب والسنّة على النهي عن اتباع غير العلم. (1)
    فيتوجه السؤال انّه ما الفرق بين المقامين ؟
    أضف إلى ذلك أمراً ثالثاً وهو انّه إذا فسر الظن في الآيات بما ذكرناه لا تصلح أن تكون رادعة للسيرة ، لأنّ الظنّ المنهي عنه غير الظن الحاصل من السيرة ، فهو في الأُولى بمعنى الخيال وفي الثانية بعض الاطمئنان.
1. الكفاية : 280 ، مبحث الاستصحاب ، ط المشكيني.

(273)
    وأمّا إذا قلنا بوحدة معنى الظن في مورد الآيات والسيرة كما تلقّاه المحقّق الخراساني ، فالجواب الذي ذكره من استلزام الرادعية الدور ليس بصحيح ، بل الآيات الناهية على هذا الفرض رادعة للسيرة من دون دور ، وذلك ببيانين :
    الأوّل : انّ العام حجّة قطعية ، والسيرة في مورد خبر الثقة هو حجّية مشكوكة ، فكيف تعارض الحجّة القطعية ؟ أمّا انّ الآيات فلحجية ظهور العام في تمام أفراده ما لم يدل دليل قطعي على التخصيص ، وأمّا كون السيرة حجّة مشكوكة لأنّها لا يحتج بها إلا إذا ثبت الإمضاء ولو بالسكوت ، والمفروض عدم إحرازه لاحتمال كون الآيات الناهية رادعة وحجّة في قبالها ، فيكون مرجع الكلام إلى الشكّ في تخصيص الآيات بالسيرة ، ومن المعلوم انّ المرجع عندئذ هو العام حتى يثبت الخلاف.
    الثاني : انّ رادعية الآيات وإن شئت قلت : الاحتجاج بالآيات موقوف على عدم ثبوت تخصيصها بالسيرة ، وهو أمر متحقّق بالفعل ، إذ لم يثبت بعد كون السيرة مخصِّصة ، فيكفي بالاحتجاج بعدم الثبوت.
    نعم لو قلنا بأنّ الاحتجاج بالآيات متوقف على عدم كون السيرة في الواقع مخصِّصاً ، وهو بعدُ غير حاصل ولا متحقّق ويتوقف عدم كونها مخصصاً على صحّة الاحتجاج لزم الدور.
    فمنشأ الخلط توهم توقف صحّة الاحتجاج بالآيات على ثبوت عدم كونها مخصصةً في الواقع ، والحال انّه متوقف على عدم الثبوت وعدم العلم بالتخصيص وهو أمر حاصل.
    ما هو الموضوع للحجّية أهو خبر الثقة ، أو الموثوق بصدوره ؟
    هل عمل العقلاء بخبر الثقة ، بما هو ثقة وإن لم يفد الوثوق بصدور الرواية ،


(274)
أو العمل به لأجل انّه يفيد الوثوق بصدور الرواية عن المعصوم ؟ والظاهر هو الثاني ، لأنّ معنى الأوّل كون العمل بخبر الثقة من باب التعبد ، وهو بعيد جداً ، بل العمل به لأجل كونه طريقاً إلى الوثوق بصدور الرواية ، ولأجل ذلك لو لم يُفِدْ ذلك لما عملوا به إلا في صورة الاضطرار.
    فإذا كان الأمر كذلك يكون الموضوع للحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره فيعم الأقسام الأربعة ، أعني :
    1. الصحيح : ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات.
    2. الموثق ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل الثقة ( العدل ) مع دخول غير الإمامي في سنده كالواقفي والفطحي.
    3. الحسن : ما اتصل سنده إلى المعصوم بإمامي ممدوح بلا معارضة ذم مقبول من غير تنصيص على عدالته في جميع مراتبه السند أو بعضه مع كون الباقي بصفة رجال الصحيح بشرط الوثوق بصدوره.
    4. الضعيف ما لا تجتمع فيه أحد الثلاثة وهو على أقسام :
    أ. أن يكون مهملاً : أي يكون في السند من هو معنون في الرجال ، ولكن لم يذكر في حقّه شيء من المدح أو الذم ، فأُهمل من جانب التوثيق والتضعيف.
    ب. أن يكون مجهولاً ، أي غير معروف بين الرجاليين ، وحكموا عليه بالجهالة.
    ج. ما حكم عليه بالضعف في العقيدة أو بالخلط والدس والوضع.
    فالقسمان الأوّلان من الضعيف إذا اقترنا بما يورث الوثوق بصدوره يحكم عليه بالحجّية.
    فإن قلت : فعلى هذا يكون الدليل هو القرائن لا الخبر.


(275)
    قلت : إنّ للخبر دوراً في إفادة الاطمئنان ، ولذلك اعتبرنا من الضعيف ، القسمين الأوّلين.
    وهذا هو المختار في باب حجّية الخبر الواحد ، وهو خِيرة الشيخ الأعظم في الفرائد ، قال : والإنصاف انّ الدال منها لم يدل إلا على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤدّاه ، وهو الذي فسر الصحيح في مصطلح القدماء.
    والمعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيداً بحيث لا يعتني به ( الاحتمال ) العقلاء ولا يكون غيرهم موجباً للتحيّـر والتردّد. (1)

    الخامس (2) : الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالعقل
    وقد استدل على حجّية الخبر الواحد بتقارير ثلاثة :

    الأوّل : إجراء الانسداد الصغير في مورد الأخبار
    انّا نعلم إجمالاً بصدور كثير من الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ولا سبيل إلى منع العلم بذلك ، ونحن مكلّفون بما تضمنته هذه الأخبار من الأحكام ، هذا من جانب.
    ومن جانب آخر لا يجب الاحتياط في الأخذ بجميعها الأعم من المظنون والمشكوك والموهوم لعدم إمكانه أو تعسره ، ولا يجوز الرجوع إلى الأُصول العملية لمنافاته للعلم الإجمالي بالتكاليف الموجودة فيها ، فيجب الأخذ بمظنون الصدور فقط ، لأنّ الأخذ بمشكوكه أو موهومه ترجيح للمرجوح على الراجح.
1. الفرائد : 106 ، طبعة رحمة اللّه.
2. وقد عرفت انّ السيرة دليل مستقل وراء الإجماع ، فيكون العقل دليلاً خامساً.


(276)
    وأورد الشيخ على هذا التقرير إشكالات ثلاثة ، لم يتعرض المحقّق الخراساني لثانيها ، وردّ الإشكال الأوّل في مقام تقرير الدليل ، وقَبِلَ الإشكال الثالث ، وصار الدليل لأجل الإشكال الثالث ، عقيماً.
    تقرير الإشكال : انّ العمل بالخبر المظنون الصدور لأجل كونه موصلاً إلى الظن بصدور الحكم الشرعي ، فيجب العمل بكلّ أمارة لها هذا الوصف ، أي كلّ أمارة تفيد الظن بصدور الحكم ، فعندئذ يكون الخبر والشهرة الفتوائية والإجماع المنقول سواسية.
    وهذا الإشكال هو الذي أجاب عنه المحقّق الخراساني في ضمن تقرير الدليل من دون أن يشير إلى الإشكال والجواب.
    وحاصل ما دفع به الإشكال في ضمن التقرير : انّ العلم الإجمالي بالتكاليف بين مطلق الأمارات ينحلّ بالعلم بها تفصيلاً عن طريق الاخبار ، وعندئذ ينحل العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلاً والشكّ البدوي في ثبوت التكاليف في مورد سائـر الأمارات غير المعتبرة ـ كالشهرة الفتوائية والإجماع المنقول ـ.
    توضيحه : انّ هنا علماً إجمالياً كبيراً ، وهو العلم بالتكاليف في ضمن الأمارات على وجه الإطلاق ; وعلماً إجمالياً صغيراً ، وهو العلم بالتكاليف في ضمن الأخبار التي بأيدينا بأقسامها الثلاثة : المظنونة ، المشكوكة ، أو الموهومة. والشيخ يدّعي انّه لا ينحل العلم الإجمالي الكبير بعزل الأخبار عنه ، بل يبقى العلم الإجمالي بحاله لوجود العلم بالتكليف في ضمن سائر الأمارات فيجب الاحتياط في الجمع ، ولكن المحقّق الخراساني يدّعي انحلال الكبير بعزل الأخبار منها بل بعزل قسم عظيم منه كالتسعين بالمائة من الأخبار فلا يجب الاحتياط في الاخبار.


(277)
    وحينئذ يقع الكلام في بيان ما هو الميزان للانحلال وعدمه.
    أقول : الميزان في الانحلال وعدمه هو انّه لو كان عدد التكاليف الموجودة في دائرة العلم الإجمالي الكبير مساوياً مع العدد المعلوم في دائرة العلم الإجمالي الصغير ، ينحلُّ قطعاً ، ويكفي في الانحلال احتمال الانطباق ولا يلزم العلم بالانطباق بخلاف ما إذا كان العدد المعلوم في الثانية أقلّ من العدد المعلوم في الأُولى.
    مثلاً لو علمنا بأنّ في قطيع الغنم التي فيها البيض والسود ، عشر شياه محرمة ، ثمّ علمنا انّ في خصوص السود منها عشر شياه محرمة واحتملنا أن يكون المحرّمة في الثانية نفس الشياه المحرمة في الأُولى ، فبعزل الشياه السود ينحلّ العلم الإجمالي الأوّل وإن كانت دائرته أوسع ، إذ مع العزل لا يبقى علم إجمالي أبداً ، بخلاف ما إذا كان العدد المعلوم في الثانية أقلّ ، كما إذا علم وراء العلم الإجمالي في القطيع ، بوجود خمسة شياه محرمة في السود منها ، إذ عندئذ لا ينحل وإن عزل عن القطيع.
    هذه هي الضابطة ، وأمّا انّ المقام من قبيل أي من القسمين فهو أمر وجداني لا برهاني ، فلو قلنا : إنّ عدد التكاليف المعلومة في دائرة العلم الإجمالي الكبير لا يزيد على العدد المعلوم في دائرة الإجمالي الصغير ، فبعزل الاخبار بل بعزل قسم عظيم منها ، ينحل العلم الإجمالي الكبير ، فلا يجب الاحتياط في سائر الأمارات كالشهرات والإجماعات المنقولة ؛ وأمّا لو كان العدد المعلوم في الدائرة الأُولى أكثر يبقى العلم الإجمالي الكبير بحاله ـ وإن عزلت الأخبار ـ فلا يختص الاحتياط بخصوص الأخبار ، بل يجب فيها وفي سائر الأمارات.
    ولعلّ الحقّ مع الشيخ بالنظر إلى ما نقلناه عن سيد مشايخنا البروجردي من أنّ في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس لها دليل سوى الشهرة الفتوائية ، وهذا


(278)
يؤيد انّ العلم بالتكاليف أوسع بما ورد في الأخبار.
    وأمّا الإشكال الثاني (1) فقد تركه المحقّق الخراساني ونحن نقتفيه ، وإنّما المهم هو الإشكال الثالث.
    حاصله : انّ المطلوب هو إثبات حجّية الخبر الواحد ، وهذا الدليل يثبت العمل بالأخبار في باب الاحتياط ، وتظهر الثمرة في الأُمور التالية :
    1. لو كان الخبر الواحد حجّة تكون أمارة ، والأمارة حجّة في لوازمه العقلية والعادية وبالتالي يترتب عليها أحكامها الشرعية ، بخلاف ما لو كان الأخذ بها من باب الاحتياط فيكون أصلاً ومثبتات الأُصول ليست بحجّة.
    2. لو كان الخبر الواحد حجّة ، يصحّ نسبة مضمونه إلى الشارع لقوله : « ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان » ولا يكون تشريعاً ، بخلاف ما لو كان أصلاً فلا تصحّ نسبة مضمونه إليه.
    3. لو كان الخبر الواحد حجّة يكون مقدماً على الأُصول اللفظية كالعموم والإطلاق فيخصص العموم ويقيد الإطلاق به ، بخلاف ما لو كان الأخذ به من باب الاحتياط فلا يقدّم الأصل العملي على الأصل اللفظي.
    4. لو كان الخبر الواحد حجّة ، يقدم على الأُصول العملية مطلقاً نافية كانت أو مثبتة ، بخلاف ما لو كان أصلاً فيقدم على الأصل النافي للتكليف لكونه على خلاف الاحتياط ولا يقدم على الأصل المثبت للتكليف ، فإذا كان مفاد الأصل مثبتاً للتكليف والخبر نافياً له ، لأنّ الأخذ بالثاني من باب الاحتياط والمفروض كونه على خلاف الاحتياط.
1. أشار إليه الشيخ بقوله : إنّ اللازم من كون مضمونه حكم اللّه ....

(279)
    التقرير الثاني : إجراء دليل الانسداد في خصوص الأجزاء والشرائط
    استدل الفاضل التوني على حجّية الخبر الموجود في الكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر ، وقال : إنّا نقطع ببقاء التكليف في العبادات والمعاملات ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما تثبت بالخبر الواحد بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الأُمور عن كونها هذه الأُمور عند ترك العمل بخبر الواحد.
    وأورد عليه الشيخ بوجهين :
    الأوّل : ما أورده أيضاً على التقرير الأوّل ـ مع تفاوت يسير ـ وقال : إنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ؛ فاللازم إمّا الاحتياط إن لم يستلزم الحرج ، أو العمل بكلّ ما دلّ على جزئية شيء أو شرطيته.
    واستشهد على ذلك بأنّه لو عزلنا أخبار العدول من الكتب الأربعة ثمّ ضممنا الباقي منها إلى سائر الأخبار الواردة في غيرها لبقى العلم الإجمالي بحاله.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بما أورده على التقرير الأوّل وقال : إنّ العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار ، إلا أنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم عليهم السَّلام بقدر الكفاية بين تلك الطائفة (1) أو العلم باعتبار تلك الطائفة كذلك بينها ، يوجب انحلال ذاك العلم وصيرورة غيره خارجاً عن طرف العلم.
    وحاصله : انّه إذا ضُمّت الروايات المعلومة الصدور إلى معلومة الاعتبار
1. المراد من الطائفة ما ورد في كلام صاحب الوافية : الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة من غير فرق بين كونها مفيداً للعلم ، أو علمياً دلّ على اعتبار الدليل الخاص.

(280)
يبلغ إلى حدّ قد ينحل معه العلم الإجمالي بالأجزاء والشرائط بين مطلق الأخبار فليس لازم هذا التقريب الاحتياط المطلق بين جميع الأخبار حتى يترتب عليه ما ترتب ، ثمّ إنّه رحمه اللّه احتمل عدم الانحلال ثمّ أمر بالتأمّل.
    الثاني : انّ المطلوب في المقام هو صيرورة الخبر الواحد من باب كونه أمارة ودليلاً اجتهادياً حتى تترتب عليه الآثار الأربعة.
    أ : حجّية مثبتاته وإثبات لوازمه ليترتب على اللازم ما له من الآثار الشرعية.
    ب : صحّة نسبة مضمونه إلى اللّه سبحانه أخذاً بقوله ( عليه السَّلام ) : « ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان ».
    ج : كونه وارداً على الأُصول العملية ورافعاً لموضوعها مثلاً لو كان مقتضى سائر الأُصول هو الاحتياط في الجزء والشرط كاستصحاب وجوبهما في حال النسيان والجهل ، وكان مقتضى الخبر النفي ، فلا يقدم الخبر عليه ، لأنّه على خلاف الاحتياط فليس في مثل هذا الخبر ملاك الأخذ به في مقابل الأصل فإذا نسي السورة ، فمقتضى استصحاب وجوبها في حال النسيان هو إعادة الصلاة ولكن مقتضى قوله : « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » عدمه لأنّه ليس من الأُمور الخمسة.
    د : كونه مقدّماً على الأُصول اللفظية من إطلاق وعموم.
    والدليل الذي أقامه صاحب الوافية لا يثبت إلا كونه حجّة من باب الاحتياط فيكون أصلاً من الأُصول لا يترتب عليه تلك الآثار.
    التقرير الثالث :
    ما ذكره المحقّق الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية على المعالم باسم هداية المسترشدين وقد لخّصه الشيخ الأنصاري على وجه لا يخلو عن اختصار مخل ، وكلامه قدَّس سرَّه في هداية المسترشدين أيضاً لا يخلو عن إطناب مخل ،


(281)
وتتضح حقيقة مراده إذا رجعنا إلى التنبيه الأوّل من تنبيهات دليل الانسداد ، فقد فرعوا على المقدمات الخمس انّ قضيتها على تقدير سلامتها هل هو حجّية الظن بالواقع ، أو حجّية الظن بالطريق ، أو بهما ؟ وقد اختار صاحب الحاشية انّ الحجّة هو الظن بالطريق كالظن بأنّ القرعة حجّة ، والخبر الواحد حجّة ، ولا يكفي الظن بالواقع إذا لم يكن هناك ظن بالحجّية كالظن بالحكم الواقعي عن طريق القياس والاستحسان. (1)
    فهو قدَّس سرَّه قد أقام ثمانية أدلة على اعتبار الظن بالطريق ، وقد نقل الشيخ الأنصاري الوجه السادس ، ونحن نذكر نصّ كلامه.
    قال : السادس : إنّه قد دلّت الأخبار القطعية والإجماع المعلوم من الشيعة على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة بل ذلك ممّا اتّفقت عليه الأُمّة.
    وحينئذ إن أمكن حصول العلم بالحكم الواقعي من الرجوع إليهما في الغالب ، تعيّن الرجوع على الوجه المذكور ، وإن لم يحصل ذلك وكان هناك طريق في كيفية الرجوع إليهما ( كالخبر الصحيح والموثق مثلاً ) تعين الأخذ به وكان بمنزلة الوجه الأوّل وإن انسد سبيل العلم ، وكان هناك طريق ظني ( كالخبر الحسن والضعيف ) في كيفية الرجوع إليهما لزم الانتقال إليه والأخذ بمقتضاه وحيث لا ترجيح لبعض الظنون المتعلقة بذلك على بعض يكون مطلق الظن المتعلق بهما حجّة. (2)
    فإن قلت : كيف يكون هذا التقرير دليلاً على حجّية الخبر الواحد ، مع أنّ نتيجته هو حجّية مطلق الظن ؟
1. لاحظ الكفاية : 2/25 « هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها هي حجّية الظن بالواقع أو بالطريق أو بهما ؟ ».
2. هداية المسترشدين : 391.


(282)
    قلت : لأنّ الضرورة قامت على لزوم الرجوع إلى السنّة والأخذ بخبر الواحد أخذ بالسنّة دون سائر الأمارات كالإجماع المنقول والشهرة.
    أضف إلى ذلك : انّه ربما يحصل الظن بالحكم ولكن لا يظن بصدوره عن الحجّة ، إذ ربّ حكم واقعي لم يصدر عنهم وبقى مخزوناً عندهم لمصلحة من المصالح ، فلا يكون مطلق الظنّ مجرداً عن الظن بالطريق حجّة.
    هذا توضيح لمرامه.
    وأورد عليه الشيخ بالنحو التالي :
    إن أراد من السنّة هو قول المعصوم وفعله وتقريره ، فيرد عليه انّ الرجوع إلى السنّة ليس إلا الوقوف على ما فيها من الأحكام ، وليس الوقوف على لفظها أمراً مطلوباً للفقيه ، فإذا كان الملاك للرجوع هو الوقوف على التكاليف ، فيشاركه ـ سائر الأمارات في الدلالة على المطلوب ، كالإجماع المنقول والشهرة ولا تختص الحجّية بالخبر الواحد.
    وبعبارة أُخرى : إذا لم يتمكن من تحصيل العلم بمدلول السنّة يتعيّن الرجوع باعتراف المستدل إلى ما ظن كونه مدلولاً لأحدهما ، وعندئذ لا فرق بين خبر الواحد ومؤدّى الشهرة أو معقد الإجماع المنقول فإنّ مؤدّى الجميع مدلول للكتاب أو لقول الحجّة أو فعله أو تقريره.
    وتوهم احتمال عدم ورود مؤدّى الشهرة والإجماع المنقول في الكتاب والسنّة نادر جدّاً ، لأنّ المسائل التي انعقدت الشهرة عليها أو حكي الإجماع بها من المسائل التي تعمّ بها البلوى بحيث نعلم صدور حكمها عنهم ـ صلوات اللّه عليهم ـ.
    وإن أراد من السنّة ، الحواكي ، أي الأخبار والأحاديث ، والمراد انّه يجب الرجوع إلى الأخبار المحكية عنهم فإن تمكن من الرجوع إليها على وجه يفيد العلم


(283)
ـ بالحكم ـ فهو ، وإلا وجب الرجوع إليها على وجه يظن منه الحكم.
    فقد أورد عليه الشيخ ـ بعد إشكالات جانبية ـ بأنّه لو ادّعى الضرورة على وجوب الرجوع إلى تلك الحكايات غير العلمية لأجل لزوم خروج عن الدين لو طرحت بالكلية ، يرد عليه انّه إن أراد لزوم الخروج عن الدين من جهة العلم بمطابقة كثير منها للتكاليف الواقعية التي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلاً ( وعلى حدّ تعبير الكفاية دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعية فيها ) فهذا يرجع إلى دليل الانسداد.
    وإن أراد لزومه من جهة خصوص العلم الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار حتى لا يثبت بها حجّية غير الخبر الظني من الظنون ليصير دليلاً عقليّاً على حجّية الخبر ، فهذا يرجع إلى الوجه الأوّل. (1)
    والحاصل : انّ الرجوع إليها ، إمّا لأجل العلم بمطابقة أكثرها للواقع ، أو للعلم بصدور أكثرها الكاشف عن الواقع. فالأوّل تقرير لدليل الانسداد ، والثاني تقرير لدليل الفاضل التوني.
    وقد أورد المحقّق الخراساني على الشيخ في الكفاية بأنّ إشكاله على تقدير إرادة السنّة بالمعنى الثاني إنّما يتم لو كان الرجوع إلى الأخبار من باب الطريقية إلى الواقع والإنسان غير معذور من قبل الواقعيات فيجب العمل بها ، إمّا لقضية المطابقة ، أو صدور الأكثر ؛ وأمّا لو قلنا بأنّ الرجوع إليها من باب النفسية والموضوعية وانّه لا فعلية للواقعيات ، بل الفعل هو مؤديات الأخبار ، فلا يرجع إلى أحدهما.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اختار انّ مراده هو الوجه الثاني ، وأورد عليه بأنّ لازم ما أفاده هو التدرّج في الأخذ بالأخبار ، فإن وفى المتيقن الاعتبار لاستنباط
1. الفرائد : 106.

(284)
الأحكام فهو ، وإلافيرجع إلى المتيقن اعتباره بالإضافة وإلا فالاحتياط لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره ، لأنّ الرجوع إلى ما علم اعتباره تفصيلاً أو إجمالاً ( كالرجوع إلى الجمع احتياطاً ) يمنع عن الرجوع إلى ما ظن اعتباره.
    تمّ الكلام في الأدلة العقلية القائمة على حجّية الخبر الواحد كما تمّ البحث في الظنون الخاصة ، وحان حين البحث في الظن المطلق ، ولكن هنا ظناً خاصاً دلّ الدليل على اعتباره ولم يتعرض إليه القوم وهو حجّية العرف والسيرة ، وإليك البيان.


(285)
الحجج الشرعية
6
    إنّ العرف له دور في مجال الاستنباط أوّلاً ، وفصل الخصومات ثانياً ، حتى قيل في حقّه العادة شريعة محكمة ، أو الثابت بالعرف كالثابت بالنص. (1) ولابدّ للفقيه من تحديد دوره وتبيين مكانته حتى يتبين مدى صدق القولين.
    أقول : العرف عبارة عن كلّ ما اعتاده الناس وساروا عليه ، من فعل شاع بينهم ، أو قول تعارفوا عليه ، ولا شكّ انّ العرف هو المرجع في منطقة الفراغ ، أي إذا لم يكن هناك نصّ من الشارع على شيء على تفصيل سيوافيك ، وإلا فالعرف سواء أوافقها أم خالفها ساقط عن الاعتبار.
    استكشاف الجواز تكليفاً ووضعاً
    يستكشف جواز الفعل تكليفاً ، ووضعاً بالسيرة بشرط أمرين :
    1. أن لا يصادم التنصيص :
    قد يطلق العرف ويراد به ما يتعارف بين المسلمين من دون أن يدعمه دليل من الكتاب والسنّة ، وهذا ما نلاحظه في الأمثلة التالية :
    1. العقود المعاطاتية من البيع والإجارة والرهن وغيرها.
    2. وقف الأشجار والأبنية من دون وقف العقار.
1. رسائل ابن عابدين : 2/113 ، في رسالة نشر العرف التي فرغ منها عام 1243 هـ.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس