إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 316 ـ 330
(316)
    2. هل يجوز العمل بالظن الانسدادي في العقائد ؟
    لا يجوز العمل بالظن الانسدادي ولا بالظن الخاص في القسم الثاني ، أعني : ما يجب فيه عقد القلب إن حصل العلم ، أمّا الانسدادي فلعدم جريان مقدماته الخمس في هذا القسم ، لأنّ الواجب في هذا القسم هو التديّن بالواقع على تقدير حصول العلم وهو غير حاصل. هذا من جانب ومن جانب آخر الاحتياط في المقام ممكن بلا محذور ، وهذا بخلاف الفروع العملية ، فانّ الاحتياط فيها لا يخلو عن أحد المحاذير.
    أضف إلى ذلك من لزوم التشريع من التعبد بالظن الانسدادي ، لأنّ المطلوب في الأُمور الجوانحية هو التديّن ، والعمل بالظن الانسدادي فيها مخالفة قطعية ، بالنسبة إلى حرمة التشريع وموافقة احتمالية بالنسبة إلى وجوب التديّن بالعقيدة الحقّة ، والعقل لا يجوّز المخالفة القطعية لأجل الموافقة الاحتمالية ، وهذا بخلاف الفروع فانّ المطلوب فيها هو العمل دون التديّن.
    3. هل يجوز العمل بالظن الخاص ؟
    هل يجوز العمل بالخبر الواحد في الأُصول الاعتقادية ؟ يظهر من الشيخ جوازه حيث قال : فلا مانع من وجوبه في مورد الخبر الواحد ، بناء على أنّ هذا نوع عمل بالخبر الواحد ، فانّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لا يأبى عن ذلك. (1)
    ويظهر أيضاً من صاحب مصباح الأُصول حيث قال : إنّه لا مانع من الالتزام بمتعلّقه وعقد القلب عليه ، لأنّه ثابت بالتعبد الشرعي. (2)
1. الفرائد : 170 ، ط رحمة اللّه.
2. مصباح الأُصول : 2/238.


(317)
    ولكن الاعتماد على خبر الواحد في أُصول الفقه ، فضلاً عن أُصول العقائد ، فرع وجود إطلاق في أدلّة حجّية خبر الواحد التي عمدتها أو وحيدها هو السيرة العقلائية ، والقدر المتيقن منها هو ما يرجع إلى غير هذا القسم ، على أنّه لم يعهد من أعاظم الأصحاب كالمفيد والمحقّق العمل بأخبار الآحاد في الأُصول ، فالتوقف في هذا القسم وعقد القلب بما هو الواقع هو الأولى.
    4. ما يجب فيه تحصيل العلم
    إذا ثبت عدم جواز العمل بالظن في الأُصول الاعتقادية يجب تحديد دائرة ما يلزم تحصيل العلم به ، فيظهر من العلاّمة في الباب الحادي عشر لزوم تحصيل العلم بتفاصيل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد مدعياً انّ الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحق للعذاب الدائم.
    ولكنّه غير تام ، فانّ معرفة الصانع ببعض صفاته الثبوتية ، مثل كونه عالماً ، قادراً ، حيّاً ، سميعاً ، بصيراً ، وصفاته السلبية ، مثل كونه غير جسم ، ولا مرئي ، ولا في مكان وزمان خاص ، أو معرفة نبيّه ، وإمامه ، ويوم ميعاده ، ممّا يمكن ادّعاء لزوم معرفته عقلاً ، وانّه يجب تحصيل العلم فيها ، لأنّ الآثار المتوخاة من التدين بها ليست حاصلة إلا بعد المعرفة ، ولا يكفي فيها عقد القلب بالواقع ، وإن لم يعرفه مشخصاً ، وأمّا ما وراء ذلك فلزوم تحصيل العلم به وعدم كفاية عقد القلب ممّا يحتاج إلى الدليل السمعي.
    وقد ادّعى الشيخ الأنصاري وجود بعض الإطلاقات في الأدلة الشرعية الحاكمة بلزوم تحصيل العلم في الأُمور الاعتقادية.
    1. مثل قوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُون ) (1) أي
1. الذاريات : 56.

(318)
ليعرفون.
    2. قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس » (1) ، بناء على أنّ الأفضلية من الواجب مثل الصلاة تستلزم الوجوب.
    3. عمومات وجوب التفقّه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد (2) الإمام ( عليه السَّلام ) بها بوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق.
    4. عمومات طلب العلم. (3)
    فنتيجة هذه الإطلاقات هو لزوم معرفة ما جاء به النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على كلّ قادر يتمكن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس ، فإن حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل اعتقد ، وإلا توقف ولم يتدين بالظن لو حصل. (4)
    ولا يخفى انّ ما ذكره من الإطلاقات غير تام ، لعدم ورودها في بيان ما يجب التدين والاعتقاد به حتى يؤخذ بإطلاقها.
    أمّا الأوّل : فالظاهر انّ المراد منه هو معرفة اللّه سبحانه لا كلّ ما جاء به النبي في مجال المعارف بدليل انّ اللام للغاية ، والنون للوقاية والمعنى : أي بعبادتي وعرفاني لا مطلق مايجب معرفته.
    وأمّا الثاني : فالحديث في مقام بيان أهمية الصلوات الخمس ، لا في مقام بيان ما يجب معرفته حتى يؤخذ بإطلاق قوله بعد المعرفة.
1. جامع أحاديث الشيعة : 4/3 ، الأحاديث 1 ـ 4.
2. نور الثقلين : 2/282 ، الحديث 406 وجاء فيه : أفيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده ؟ فقال : أمّا أهل هذه البلدة فلا ـ يعني المدينة ـ وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم أنّ اللّه عزّوجلّ يقول : ( وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين ... ).
3. بحار الأنوار : 1/162 ـ 221.
4. الفرائد : 171 ، طبعة رحمة اللّه.


(319)
    وأمّا الثالث : فبمثل ما أجبنا عن الثاني ، فالآية في مقام الحث على النفر ، وكيفيته ، لا في مقام بيان ما يجب أن يتفقّه فيه ، وقد تمسك الإمام بالآية لإثبات كيفية التعرّف على الإمام بعد تسليم لزوم معرفته.
    وأمّا الرابع : فهو في مقام بيان لزوم تحصيل العلم لا في بيان ما يجب تعلمه.
    هذا كلّه فيما يجب المعرفة مستقلاً ، وقد عرفت أنّه لا دليل على وجوب معرفة ما ادّعى العلاّمة لزوم معرفتها ، إلا معرفة الصانع وتوحيده ، وبعض صفاته ومعرفة نبيّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وإمامه ويوم ميعاده.
    نعم يكفي تحصيل اليقين أو حصوله من دون حاجة إلى الاستدلال لعدم الدليل على اشتراطه.
    حدّ ما يجب تحصيل العلم في الروايات
    قد عرفت أنّ ما يدّعيه العلاّمة من وجوب تحصيل العلم بتفاصيل الأُصول الخمسة لا يمكن موافقته ، إذ لم يدلّ دليل على هذا اللزوم لا من الكتاب ولا من السنّة ولا من العقل ولا من الإجماع.
    ويظهر من غير واحد من الروايات انّ ما يجب تحصيل العلم به لا يتجاوز عن أُمور ثلاثة : التوحيد ، والرسالة ـ وهما دعامتا الإسلام ـ والولاية وهي دعامة الإيمان ـ ولم يذكر المعاد ؛ لأنّ معرفة النبوة تلازم الاعتقاد بالمعاد ، إذ لا يتحقّق الدّين بمعناه الحقيقي من دون اعتقاد بالمعاد.
    روى سماعة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : أخبرني عن الإسلام والإيمان ، أهما مختلفان ؟ فقال : « إنّ الإيمان يُشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان » فقلت : فصفهما لي ، فقال : « الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه والتصديق برسول اللّه ،


(320)
به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ». (1)
    وفي رواية سفيان بن السمط ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : « الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصيام شهر رمضان ، فهذا الإسلام ، وقال : الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا ». (2)
    وبهذا المضمون ما ورد في صحاح أهل السنّة روى البخاري ، عن عمر بن الخطاب أنّ علياً « صرخ » ( عندما بعثه النبي لمقاتلة أهل خيبر ) : يا رسول اللّه على ماذا أُقاتل ؟ قال : « قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وانّ محمّداً رسول اللّه ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه ». (3)
    كلّ هذه الروايات تحدّد الواجب من المعرفة وانّها لا تتجاوز معرفة الأصلين في تحقّق الإسلام والولاية في تحقّق الإيمان.
    هذه هي الضابطة ولو دلّ دليل على وجوب معرفة شيء آخر كمعرفة أحكام الصلاة فيكون أمراً رابعاً وخامساً.

    في الجاهل القاصر
    قد عرفت انّه يجب تحصيل العلم فيما تجب معرفته ولا يكفي الظن لعدم الدليل على كفايته.
    فعلى ذلك فالمتمكن من المعرفة جاهل مقصر معاقب ، إنّما الكلام في الجاهل القاصر ، فيقع الكلام فيه من وجوه :
1. أُصول الكافي : 2/25 ، باب انّ الإيمان يشارك الإسلام ، الحديث 1.
2. المصدر نفسه : 24 ، باب انّ الإسلام يحقن به الدم ، الحديث 4.
3. البخاري : الصحيح : 1/10 ، كتاب الإيمان ; صحيح مسلم : 7/17 كتاب فضائل علي ( عليه السَّلام ) ؛ إلى غير ذلك من الروايات.


(321)
    5. في وجود الجاهل القاصر وعدمه
    لا شكّ في وجود الجاهل القاصر ، إمّا لقلة الاستعداد وغموض المطلب أو وجود الغفلة وعدم احتمال خلل في معتقده ، كما هو المشاهد في كثير من النساء والرجال ، وعلى ذلك فالجاهل القاصر معذور لقصوره أو غفلته.
    نعم إنّما يكون معذوراً وغير معاقب على عدم معرفة الحقّ إذا لم يكن يعانده بل كان ينقاد له لو عرفه.
    وربما يتصور عدم وجود الجاهل القاصر في العقائد لوجوه قاصرة :
    1. الإجماع على أنّ المخطئ في العقائد غير معذور ، وصحّة الإطلاق يتوقف على عدم وجود القاصر ، وإلا لبطل مع كون القاصر معذوراً.
    يلاحظ عليه : أنّ مصبَّ الإجماع هو الجاهل المتمكن ، فلا يدل إطلاقه على عدم وجود القاصر.
    2. انّ المعرفة غاية الخلقة ، فلو قلنا بوجود الجاهل القاصر يلزم نفي الغاية مع أنّها لا تنفك عن فعل الحقّ سبحانه.
    قال تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْس إِلاّليَعْبُدُون ). (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الغاية غاية للنوع لا لكلّ فرد لبداهة وجود المجانين والأطفال الذين يتوفون في صباهم.
    3. قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ الُْمحْسِنِين ) (2) حيث جعل الملازمة بين المجاهدة والهداية التي هي المعرفة ، فلو لم يكن الطرفان ممكنين لم تصح الملازمة فعدم هداية الجاهل القاصر لعدم جهاده.
1. الذاريات : 56.
2. العنكبوت : 69.


(322)
    يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد بيان الملازمة بين المتمكن من الجهاد والهداية والملازمة بينهما مسلمة ، وأمّا غير المتمكن كالقاصر فهو خارج عن الآية كخروج المجانين والأطفال الذين يتوفون في صباهم.
    وربما يجاب عن الاستدلال بالآية بأنّ المراد هو مجاهدة النفس ، والمراد هو الجهاد النفسي لا الجهاد في سبيل معرفة الرب وشتان ما بينهما ، ولكنّه غير خال عن التأمل ، لأنّ هذه الآية وما قبلها تقسم الناس إلى أصناف ثلاثة :
    الصنف الأوّل : المفتري على اللّه.
    الصنف الثاني : المجاهد في سبيله.
    الصنف الثالث : المحسن.
    أمّا الأوّل : فوصفهم سبحانه بقوله : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمّا جاءَهُ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرين ) (1) وهذه الطائفة خارجة عن طريق الحقّ لا تُرجى هدايتهم ووصولهم إلى الحقّ ، بل كلّما ازدادوا سيراً ازدادوا بعداً وجهلاً.
    والثاني : يهديهم ربّهم إلى سبله لقوله سبحانه : ( لنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلنا ) فمن أخطأ فلتقصير منه ، إمّا لعدم إخلاصه في السعي ، أو لتقصيره فيه.
    والثالث : وصلوا إلى قمّة الكمال في حقلي الإيمان والعمل وصاروا مع اللّه سبحانه لقوله : ( وانّ اللّه لَمَعَ الُْمحْسِنين ).
    ومع ذلك فكيف قُصِّر مفاد الآية بالجهاد مع النفس مع ظهور إطلاقها ؟!
    4. قوله سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّه الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاس لا يَعْلَمُون ) (2) فانّ
1. العنكبوت : 68.
2. الروم : 30.


(323)
قوله ( فِطَرت اللّه ) عطف بيان أو بدل من الدين ، نصب بفعل مقدر ، مثل أعني أو أخص ، وإلا لكان الواجب أن يكون مجروراً بحكم البدلية ، ولازم ذلك أن تكون معرفته سبحانه أمراً فطرياً وخلقياً ، لا يقبل القصور كسائر الأُمور الوجدانية.
    والظاهر انّ الآية أوضح ما في الباب ، وهي تدل على عدم وجود القاصر في معرفة الرب ، وانّ للعالم خالقاً وصانعاً ، وانّه واحد لا شريك له في ذاته ، وهو أمر لا يقبل القصور إلا إذا عاند الإنسان فطرته وأنكر وجدانه لغاية مادية كالانحلال من القيود الشرعية ، ولأجل ذلك لا يبعد ادّعاء عدم وجود القاصر في باب التوحيد.
    إنّما الكلام في غيره كباب النبوة والإمامة والمعاد ، والآية لا تدل على عدم وجود القصور فيها بشهادة انّ قوله : ( حَنيفاً ) تدل على أنّ التوحيد هو الموافق للفطرة لا الشرك.
    نعم ، أكثر الكبريات الواردة في مجال الفروع أُمور فطرية كالدعوة إلى الزواج وإكرام الوالدين ورد الأمانة وحرمة الخيانة لكن الكلام في الأُصول لا الفروع.
    5. دلّت العمومات على حصر الناس في المؤمن والكافر.
    ودلّت الآيات على خلود الكافرين بأجمعهم في النار.
    ودلّ الدليل العقلي بقبح عقاب الجاهل القاصر.
    فإذا ضم الدليل العقلي إلى العمومات المتقدمة ينتج عدم وجود القاصر في المجتمع الإنساني ، لأنّ ما في المجتمع بين مؤمن وكافر وكلّ كافر محكوم بالعذاب ولا تصدق الكبرى إلا مع عدم وجود الكافر الجاهل القاصر فيهم ، وإلا لخص بغير القاصر وهو خلاف الظاهر.
    يلاحظ عليه : أنّ حصر الخلق في المؤمن والكافر غير حاصر لوجود الواسطة


(324)
بينهم ، أعني : القُصّر ، كالسفيه والصغير والمجنون.
    وأمّا الكبرى الثانية فناظرة إلى المتمكن من المعرفة ، لأنّ عقاب العاجز القاصر قبيح فضلاً عن خلوده في النار ، فالكبرى كلية غير مخصصة لكنّها واردة في حقّ المتمكن ، لا كلّ إنسان وإلا تمنع كليّتها.

    6. هل الجاهل القاصر كافر ؟
    لا شكّ انّ الجاهل القاصر ليس بمؤمن ولا مسلم ، إنّما الكلام في أنّه هو كافر ، والمعروف بين المتكلّمين انّه لا واسطة بين الإيمان والكفر إلا المعتزلة حيث ذهبوا إلى وجود الواسطة بينهما وجعلوا مرتكب الكبيرة واسطة بين المؤمن والكافر والكتاب العزيز يوافق الحصر قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِير ) (1) ولكن قولهم كالآية ناظر إلى عالم الثبوت ، فالناس بالنظر إليه غير خارجين عن الصنفين إنّما الكلام في الإطلاق والتسمية ، فهل يصحّ إطلاقه على القاصر لفقدان الاستعداد ، أو لوجود الغفلة أو المانع أو لا ؟ يظهر من بعض الروايات كونهم متوسطين بين الكفر والإيمان قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً * إِلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبيلاً * فَأُولئِكَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ). (2)
    فقد استثنى سبحانه المستضعفين الذين ليس لهم قدرة الخروج ولا عرفان
1. التغابن : 2.
2. النساء : 97 ـ 99.


(325)
الطريق فما آيسهم سبحانه من عفوه ، ويظهر من غير واحد من الروايات انّهم غير محكومين لا بالكفر ولا بالإيمان.
    روى العياشي عن زرارة قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : أتزوج المرجئة أو الحرورية أو القدرية ؟ قال : لا عليك بالبله من النساء قال زرارة : ما هو إلا مؤمنة أو كافرة ، فقال أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : « أين استثناء اللّه. قول اللّه أصد ق من قولك : ( إِلاّ المُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجال وَالنِساء ) ». (1)
    روى حمران بن أعين في تفسير قوله سبحانه : ( وَآخَرُونَ مُرجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيهِمْ واللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم ). (2) عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « إنّهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكافرين ، وهم المرجون لأمر اللّه ». (3) والمرجون ، جمع المُرجى من أرجى ، يرجي ، يقال : أرجى الأمر : أخّره ، واسم المفعول منه : مرجى ، والجمع : مرجون ، وهم المشركون ، لكن يؤخّر أُمورهم رجاء شمول رحمته سبحانه لهم.
    إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها العلاّمة المجلسي في بحاره ، فلاحظ.

    7. الجاهل القاصر والحكم الوضعي
    هل الجاهل القاصر ، محكوم بالأحكام الوضعية الثابتة للكافر ، كنجاسته ، وحرمة ذبيحته وتزويجه أو لا ؟ التصديق الفقهي يتوقف على معرفة لسان الأدلة في هذه الروايات ، فهل الموضوع ، هو الكافر ، أو غير المسلم أو غير المؤمن باللّه ورسوله ؟ فعلى الأوّل لا يحكم بشيء من هذه الأحكام ، بخلاف الثاني ، والحكم القطعي يتوقف على دراسة المسألة في الفقه.
1. البحار : 69/ 164 ، باب المستضعفين ، الحديث 24 ؛ وفي الباب روايات بهذا المضمون.
2. التوبة : 106.
3. البحار : 69/165 ، باب المستضعفين ، الحديث29.


(326)
    8. هل الجاهل القاصر معاقب ؟
    قد تبيّن ممّا ذكرنا حكم العقاب وانّه فرع التمكن والقدرة والمفروض عدمهما ، وما يظهر من المحقّق الخراساني في هامش كفايته من صحّة العقوبة ، فهو مرفوض بالعقل والنقل ، واحتمال انّه من لوازم الأعمال ، أمر غير ثابت ، لاحتمال كون العقاب من لوازم اعمال المتمكن لا القاصر.
    هذا كلّه ، حول الجاهل القاصر المعبّر عنه بالمستضعف الديني ، وأمّا الكلام في المستضعف السياسي أو الاقتصادي فخارج عن هدف الكتاب.

    الأمر الثاني : في كون الظن جابراً وموهناً ومرجحاً
    هل الظن غير المعتبر ، يكون جابراً ، أو موهناً ، أو مرجّحاً ، أو لا من غير فرق بين تعلّق النهي بالعمل به ، وعدمه ؟ والأقسام المتصورة تناهز اثني عشر قسماً ، لأنّ كلاً من الجبر والوهن والترجيح تارة يتعلق بالسند وأُخرى بالدلالة ، فيضرب الاثنان في الثلاثة المذكورة ، ثمّ تضرب النتيجة في الاثنين ، لأنّ الظن تارة يكون منهياً عنه وأُخرى لا يكون كذلك ، فيناهز اثني عشر.
    أمّا الستة الأُولى من أقسام الظن المنهي عنه فلا تصلح لا للجبر ، ولا للوهن ، ولا الترجيح ، لا في السند ولا في الدلالة ، لأنّ فرض كونه جابراً أو موهناً أو مرجحاً نحو إعمال له والمفروض النهي عنه على وجه الإطلاق ، فبذلك تخرج الأقسام الستة عن صلاحية الدراسة.
    وأمّا الظن غير المعتبر وغير المنهى عنه فافتراض كونه مرجحاً لتقديم سند إحدى الروايتين على الأُخرى أو دلالتها كذلك ، مبني على ما يأتي في مبحث التعادل والترجيح من لزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة أو جواز التعدي


(327)
عنها إلى غير المنصوص منها ، ذهب الشيخ إلى الأوّل وغيره إلى الثاني ، وهو المختار عندنا ، لأنّ المحكم في باب تعارض الدليلين ، هو روايات التخيير ، فالخروج عنه يتوقف على الدليل وهو منفي في غير المنصوص كما سيوافيك.
    فيبقى الكلام في الأقسام الأربعة : الجبر والوهن بقسميهما :
    1. كون الظن جابراً للسند
    هل الظن غير المعتبر يكون جابراً لضعف السند ، كالشهرة على القول بكونها غير حجّة بأن يكون عمل الأصحاب جابراً لضعف السند ، كما إذا ورد في السند من لم يوثق لكن عمل الأصحاب بها ؟ فلو قلنا بأنّ الحجّة هو خبر الثقة ، فلا يكون جابراً ، لأنّ عملهم بالخبر ليس دليلاً على كونه ثقة ، ولو قلنا بأنّ الحجّة هو الخبر الموثوق بصدوره سواء كان الراوي ثقة أو لا ، أو الموثوق بصحّة مضمونه فيصلح لأن يكون جابراً ، لأنّ عمل الأصحاب يورث الوثوقَ بصدور الرواية أو الوثوق بصحّة المضمون.
    2. كون الظن جابراً لضعف الدلالة
    إذا كانت دلالة الرواية على الحكم المطلوب غير واضحة ولا محكمة ولكن حملها المشهور على معنى خاص ، كالكراهة المشتركة بين الحرمة والكراهة المصطلحة ، فهل يكون الظن جابراً لضعفها ؟ الظاهر لا ، لأنّ الأمارة الخارجية لاتثبت ظهورَ اللفظ ، والمفروض انّ الحجّة هو ظاهر اللفظ وما هو المتبادر منه عرفاً بما هو هو لا بمعونة قرينة خارجيّة لم تثبت حجّيته ، اللّهمّ إلا إذا حصل الاطمئنان باحتفاف الكلام ببعض القرائن الحالية المورثة في ظهور اللفظ في المطلوب ، وإن كان اللفظ خالياً عنها.


(328)
    3 ، 4. كون الظن موهناً للسند أو الدلالة
    إذا كانت الرواية تامة من حيث السند والدلالة ، لكن تعلّق الظن الخارجي بعدم صدورها أو عدم دلالتها ، فالظاهر عدم نهوضه بذلك إلا إذا حصل الاطمئنان بأحدهما ، لإطلاق حجّية الخبر سنداً ودلالة وشموله لما كان الظن على خلافه.
    هذا كلّه حسب تقرير القوم ، لكن للشهرة عندنا حساباً آخر ، وقد عرفت أنّها حجّة بنفسها عند عدم التعارض ، ومميّزة للحجّة عن غيره عنده ، ولأجل ذلك تكون الشهرة جابرةً لضعف السند وضعف دلالة الرواية ، وموهنة لهما إذا كانت على خلاف الرواية ، نعم ما ذكروه صحيح في غيرها.


(329)
المقصد السابع : في الأُصول العملية
    الأصل الأوّل :
أصل البراءة
    وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً.
    الأوّل : قد مرّ في تعريف أُصول الفقه : انّها عبارة عن القواعد التي تستنبط بها الأحكام الشرعية ، أو ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس عن الدليل. وقد كان البحث في المقاصد الستة الماضية مركّزاً على تبيين الأدلة التي يستنبط منها الحكم الشرعي ، كما أنّ البحث في هذا المقصد ، مركّز على بيان ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس عن الدليل ، ويعبّر عنه بالمباحث العقلية أو الأُصول العملية.
    ثمّ إنّه يُسمّى الحكمُ المستنبط بالدليل حكماً واقعيّاً ، لأنّ الدليل يكشف عنه إمّا كشفاً تاماً كما في صورة العلم أو كشفاً غير تام ولكن جعله الشارع حجّة على الواقع ، كما في الأمارات المعتبرة من خبر الثقة وغيره ؛ كما يسمى الحكم المستفاد ، ممّا ينتهي إليه المجتهد عند الشك ، حكماً ظاهرياً ، لعدم كشفه عن الواقع ، بل عن الوظيفة الفعلية فهو محكوم بمفاده ظاهراً إلى أن يرتفع العذر ، وما في بعض كلمات الشيخ وغيره من تسمية الأحكام المستنبطة بالأمارات المعتبرة ، حكماً ظاهرياً مبني على التسامح ، كما يسمّى الدليل الدال على الحكم الواقعي دليلاً اجتهادياً ، والثاني دليلاً فقاهياً ، وأمّا وجه التسمية ، فقد ذكره المحقّق البهبهاني في تعريف الفقه والاجتهاد ، فلاحظ.
    الثاني : قد ظهر ممّا ذكرنا انّ الموضوع للأُصول العملية ، هو الشكّ في


(330)
الحكم الواقعي ، الكلي والجزئي لا مطلق الشكّ ، فخرج الشكّ في عدد الركعات الذي هو موضوع للبناء على الأكثر ، فالحكم المبني عليه ليس حكماً ظاهرياً ، بل هو حكم واقعي.
    ثمّ الشكّ في الحكم تارة يتعلق بالكلي كالشكّ في حرمة التدخين ، وأُخرى بالجزئي كالشكّ في كون مائع خاص حراماً لاحتمال انّه خمر ، أو حلالاً لاحتمال كونه خلاً ، فيسمى الأوّل بالشبهات الحكمية ، والثاني بالشبهات الموضوعية ، وبما انّ الفرض بيان ما هو الوظيفة عند الشكّ في الحكم الكلي ، يكون البحث عن بيان حكم الشكّ في الأمر الجزمي استطرادياً.
    الثالث : الأُصول المقررة لوظيفة الجاهل على قسمين :
    قسم يختص لبيان وظيفة الجاهل بالموضوعات الخارجية ، كما هو الحال في الأُصول التالية :
    1. أصالة الصحّة في فعل الغير ، 2. أصالة الصحّة في فعل النفس المعبّر عنها بقاعدة الفراغ والتجاوز ، 3. الإقراع عند التخاصم.
    وأُخرى ما يعمّ الشبهات الحكمية ، وعمدتها الأُصول الأربعة : الاستصحاب ، والتخيير ، والبراءة ، والاشتغال ؛ وأمّا ما عدا تلك الأُصول ، كأصالة الطهارة فهي وإن كانت جارية في مورد الشبهتين لكن علل المحقّق الخراساني خروجها عن المسائل الأُصولية باختصاصها بباب الشكّ في الطهارة ولا تعم سائر الأبواب ، ولذلك لم تعد من الأُصول العملية العامة السيالة في جميع أبواب الفقه.
    يلاحظ عليه : أنّه لو كان سبب الخروج عن الأُصول العملية هو عدم كونها سيالة يلزم خروجُ قسم من المسائل عن علم الأُصول كالبحث عن دلالة النهي على الفساد في العبادات والمعاملات.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس