إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 331 ـ 345
(331)
    والظاهر انّ وجه الخروج كونها قاعدة فقهية كقاعدة كلّ شيء حلال ، لما ذكرنا في الأمر الأوّل من مقدمة الكتاب من الميزان لكون المسألة فقهية أو أُصولية ، فلاحظ.

    الرابع : بيان مجاري الأُصول
    إنّ للشيخ الأنصاري في بيان مجاري الأُصول تعابير مختلفة ذكرناها في مبحث القطع ، وقد سبق هناك انّ ما ذكره في مبحث البراءة أتقن ، قال ما هذا توضيحه :
    ثمّ إنّ انحصار موارد الاشتباه في الأُصول الأربعة عقلي ، لأنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أو كان ولم يلحظ.
    والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط ( خصوص الموافقة القطعية ) فيه ممكناً أو لا ، والثاني مورد التخيير ، والأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإمّا أن لا يدل ، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة. (1)
    يظهر حال التقسيم بذكر أُمور :
    1. بما انّ الشيخ يشترط في الاستصحاب أن يكون من قبيل الشكّ في الرافع دون المقتضي لم يقتصر في بيان مجرى الاستصحاب على وجود الحالة السابقة بل أضاف لحاظها أيضاً حتى لا يتداخل الأُصول في الشكّ في المقتضي ، إذا اقتصر على مجرّد الحالة السابقة ، إذ عندئذ يكون مجرى للاستصحاب لوجود الحالة
1. فرائد الأُصول : 192 ، طبعة رحمة اللّه. وما بيّنه في هذا المقام من جلائل أفكاره ، تعلم قيمته بقياسه على البيانين الّذين ذكرهما في أوّل رسالة القطع.

(332)
السابقة ولغيره لعدم اعتبارها.
    2. انّ مجرى التخيير عبارة عمّـا إذا لم يمكن الاحتياط ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد ، فهو على هذا التقسيم ليس من أقسام الشكّ في التكليف ولا الشكّ في المكلّف به ، بل له مجرى خاص وله أصل خاص.
    3. اشترط في مورد الاشتغال وجود دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول ولم يقل أن يكون الشكّ في المكلّف به ، وذلك لأنّ مجرى الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به ، كما في الشكّ في التكليف قبل الفحص حيث يجب الاحتياط وإن لم يكن من قبيل الشكّ في المكلّف به ، فيكفي في الاحتياط وجود دليل عقلي أو نقلي ، وهذا يشمل الأقسام الثلاثة :
    أ : الشكّ في التكليف قبل الفحص.
    ب : العلم بنوع التكليف مع تردّد المكلّف به ، كالعلم بوجوب إحدى الصلاتين.
    ج : العلم بجنس التكليف مع إمكان الاحتياط ، كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر ، فالعلم بالإلزام أي الجنس الجامع بين الوجوب والحرمة متحقّق فيلزم التكليف لإمكان الاحتياط.
    وبذلك علم أمران :
    1. انّ دوران الأمر بين المحذورين الذي هو مجرى التخيير ، أمر مستقل ليس بداخل في الشكّ في التكليف ولا في الشكّ في المكلّف به ، لاختصاصهما بما إذا أمكن الاحتياط دون مالا يمكن.
    2. انّ الشكّ في المكلّف به لا يختص بما إذا علم النوع (1) ، كما إذا تردّد
1. كما يظهر من الشيخ حيث قال : لأنّ الشكّ في نفس التكليف وهو النوع الخاص من الإلزام.لاحظ طبعة رحمة اللّه ص 192.

(333)
الواجب بين الظهر والجمعة ، بل يعمّ ما إذا علم الجنس ودار الأمر بين الوجوب والحرمة لكن على وجه يمكن الاحتياط كما مثلنا ، أعني : إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، فانّ المعلوم في المقام هو الجنس ، أي مطلق الإلزام لا النوع ، أعني : الوجوب أو الحرمة ، ومع ذلك يجب فيه الاحتياط : الإتيان بمحتمل الوجوب ، وترك محتمل الحرمة.
    نعم ليس كلّ مورد علم فيه جنس التكليف داخلاً في الشكّ في المكلّف به كما إذا أمر الشيء بين الوجوب والحرمة وذلك لعدم إمكان الاحتياط فيه ، ولذلك قلنا بكفاية العلم بالجنس إذا أمكن الاحتياط ، فلاحظ.
    والحاصل : انّه إذا دار أمر شيء واحد بين الوجوب والحرمة ، فهو المسمّى بدوران الأمر بين المحذورين ، وبما انّه لا يمكن الاحتياط تكون الوظيفة هي التخيير ، وأمّا إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، فلا يعدّ من دوران الأمر بين المحذورين ، ويكون العلم بالإلزام لأجل إمكان الاحتياط ملزماً للاحتياط ، فالعلم بالجنس إذا لم يمكن الاحتياط داخل في مجرى التخيير ، كما أنّ العلم به إذا أمكن داخل في مجرى الاحتياط.
    ثمّ إنّ للمحقّق النائيني في تقرير مجاري الأُصول بياناً آخر ، قال : إمّا أن تلاحظ الحالة السابقة للشكّ أو لا ; وعلى الثاني إمّا أن يكون التكليف معلوماً بفصله ، أو نوعه ، أو جنسه ، أو لا ؛ وعلى الأوّل إمّا أن يمكن فيه الاحتياط ، أو لا ؛ والأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى الاحتياط ، والثالث مجرى التخيير ، والرابع مجرى البراءة. (1)
    والفرق بين التعبيرين هو انّه جعل مجرى التخيير من أقسام الشكّ في المكلّف به ، غاية الأمر انّ الشكّ في المكلّف به على قسمين : قسم يمكن فيه
1. فوائد الأُصول : 3/325.

(334)
الاحتياط ، كما إذا دار الواجب بين الظهر والجمعة ، أو دار المكلّف به بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ؛ وآخر لا يمكن فيه الاحتياط ، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته ولكن الشيخ جعله أمراً مستقلاً في مقابل الشكّ في المكلّف به.
    يلاحظ عليه : أنّ مجرى الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به كما في الشكّ قبل الفحص ، ولأجل ذلك قلنا : إنّ تقسيم الشيخ أوفق بالأقسام.
    الخامس : جعل الشيخ الأعظم الشكَّ في التكليف الذي هو مجرى للبراءة اثنتي عشرة مسألة باعتبار أنّ الشبهة تكون إمّا تحريمية أو وجوبية أومشتبهة بينهما ، فهذه مطالب ثلاثة ، وكلّ مطلب يشتمل على أربع مسائل ، وذلك لأنّ منشأ الشك في الجميع ، إمّا فقدان النص ، أو إجماله ، أو تعارض النص ، أو خلط الأُمور الخارجية (1) ، وعلى ذلك فما أفاده صاحب مصباح الأُصول من أنّ الشيخ قسّم الشكّ في التكليف الذي هو مجرى للبراءة على أقسام ثمانية (2) مخالف لتصريح الشيخ ، فلاحظ.
    وأمّا على ما سلكناه تبعاً له في تقسيمه أوّل البراءة فمسائله لا تتجاوز عن ثمان ، ذلك لما عرفت من أنّ مورد دوران الأمر بين المحذورين خارج عن مجرى البراءة وداخل تحت أصل التخيير ، وكان على الشيخ أن يجعلها ثمانية حيث إنّه عند تحرير مجاري الأُصول جعل صورة الدوران خارجة عن مجرى البراءة والاشتغال حيث قال : إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا أن لا يكون ، والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أو لا ، والثاني مورد التخيير ؛ والأوّل إمّا أن يكون دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول ، أو لا يدلّ ؛ والأوّل مورد الاحتياط والثاني مورد
1. الفرائد : 192 ، طبعة رحمة اللّه.
2. مصباح الأُصول : 2/248.


(335)
البراءة. (1)
    ثمّ إنّ الوجه لعنوان كلّ مطلب على حدة أمران :
    1. اختصاص النزاع بين الأُصولي والأخباري بالشبهة الحكمية التحريمية دون الوجوبية ودون الموضوعية منها ، ودون دوران الأمر بين الأمرين.
    2. اختصاص بعض أدلّة البراءة بالشبهة التحريمية ولا تعم الوجوبية والموضوعية ، مثل قوله : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ».
    نعم أدخل المحقّق الخراساني جميع المسائل تحت عنوان واحد وبحث عن الجميع بصفقة واحدة « وهو من لم يقم عنده حجّة على واحد من الوجوب والحرمة وكان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه أو خلط الأُمور الخارجية » ولكلّ من السلوكين وجه.
    السادس : أخرج المحقّق الخراساني صورة تعارض النص عن مجرى البراءة ، وذلك لقيام الحجّة على لزوم تقديم ذات الترجيح على غيره ، والتخيير عند عدمه فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها لمكان النصّين فيهما.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان التعارض بين الدليلين الظنيّين ، أمّا إذا كان بين القطعيين ، أو بين الظنيين ولكن كانت النسبة بينهما عموماً وخصوصاً من وجه ، فلا يرجع فيه إلى المرجحات.
    أمّا الأوّل كقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيّةً لأَزواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْراج ) (2). وقوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوفَّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَعَشْراً ) (3) ، حيث دلّت الآية
1. الفرائد : 192.
2. البقرة : 240.
3. البقرة : 234.


(336)
الأُولى على مقدار التربّص وهو تربّص الحول ، والأُخرى على أربعة أشهر وعشراً ، وبما أنّه لا موضوع للترجيح ، فيدخل الزائد على المقدار المتيقن فيما لا حجّة فيه ، فيرجع إلى أصل البراءة.
    أمّا الثاني : ففيما إذا كانت النسبة بين الخبرين عموماً وخصوصاً من وجه ، كما في قوله : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، حيث يتعارضان في مجمع العنوانين ، فلا يرجع في مثله إلى الأخبار العلاجية ولا إلى أخبار التخيير ، بل يدخل فيما ليس فيه حجّة ، فإن كان هناك عام فوقهما يرجع إليه وإلا فإلى الأصل.
    السابع : الظاهر انّ النزاع بين الأُصولي والأخباري في المقام صغروي ، فهما متّفقان على أنّ العقاب فرع البيان ، لكن الأخباري يدّعي ورود البيان عن طريق أخبار الاحتياط والأُصولي ينكره ، وبذلك يعلم انّ الكبرى غنية عن البحث والإطناب.
    الثامن : انّ في الكتب الأُصولية للقدماء مسألة باسم هل الأصل في الأشياء ، الحظر أو الإباحة ؟ (1) وقد حلّ محلها في كتب المتأخرين مسألة البراءة والاشتغال فهل هما مسألتان أو مسألة واحدة ؟
    والجواب : انّهما مسألتان لاختلاف موضوعهما مثل اختلاف جهة البحث فيهما ، فالموضوع في المسألة الأُولى ، هو الأشياء بما هي هي ، هل الأصل فيه الحرمة والتصرف يحتاج إلى الإذن أو بالعكس بشهادة انّهم يقسمون الأفعال إلى ما يستقل العقل بقبحه ، أو بحسنه ، وإلى ما يتوقف العقل في تحسينها أو تقبيحها ، فيختلفون في القسم الثالث إلى أقوال ثلاثة : الحظر ، والإباحة ، والوقف.
    فعلى الأوّل تنحصر وظيفة الأنبياء في بيان المحلّلات ، وعلى الثاني على بيان المحرّمات ، فعند عدم النص على واحد من الطرفين يحكم عليه بالحرمة الواقعية
1. لاحظ التذكرة بأُصول الفقه للشيخ المفيد : 43 ؛ والذريعة : 2/808 ؛ والعدة : 2/741.

(337)
على الأوّل وبالحلية الواقعية على الثاني ، ويتوقف عن الحكم على الثالث.
    والشاهد على ما ذكرنا من أنّ مصبّ البحث هو حكم الأشياء بعناوينها الأوّلية استدلال القائل بالحظر بقوله : « إنّ هذه الأشياء لها مالك ولا يجوز لنا التصرف في ملك الغير إلا بإذنه ». (1)
    وأمّا المسألة الثانية ، فالبحث فيها عن حكم الأشياء عند الشكّ في الأحكام الواقعية
    المترتبة عليها بما هي هي ، فللقائل بالحظر في المسألة الأُولى أن يقول بالبراءة في المسألة الثانية ، كما أنّ للقائل بالإباحة فيها أن يقول بالاحتياط فيها لاختلاف موضوعهما ، إذ لكل دليلهما.
    ثمّ إنّ البحث عن نسبة الأمارات إلى الأُصول ، وهل هي الورود ، أو الحكومة موكول إلى باب التعادل والترجيح ، وإن طرحه المحقّق الأنصاري وتبعه النائيني وسيّدنا الأُستاذ قدَّس سرَّه في المقام. لكن نرجئ البحث عنها إلى المقصد الثامن بإذن اللّه.
    إذا علمت ذلك ، فلنقدّم أدلّة القائلين بالبراءة عند عدم قيام الحجّة على التكليف ، فنقول : استدلوا بآيات أربع.

    الأُية الأُولى : التعذيب فرع البيان
    إنّ هنا آيات تدل على أنّ التعذيب فرع تقدّم البيان نذكر منها آيتين :
    قال سبحانه : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلاتَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ). (2)
    وقال تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا
1. العدة : 2/744.
2. الاسراء : 15.


(338)
عَلَيْهِمْ آياتنا وَما كُنّا مِهْلِكي القُرى إِلاّ وَأَهْلُها ظالِمُون ). (1) ويدل على المقصود آيات أُخرى بهذا المضمون ، لاحظها. (2)
    وأمّا الاستدلال بهما على البراءة فمبني على أمرين :
    الأوّل : انّ صيغة ( وَما كُنّا ) أو ( ما كان ) تستعمل في إحدى معنيين إمّا نفي الشأن والصلاحية لقوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤوفٌ رَحِيم ). (3) أو نفي الإمكان كقوله تعالى : ( وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤجَّلاً ). (4)
    الثاني : انّ بعث الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كناية عن إتمام الحجّة على الناس ، وبما انّ الرسول أفضل واسطة للبيان والإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول ، وإلا يصحّ العقاب ببعث غيره أيضاً لوحدة المناط وحصول الغاية المنشودة ؛ وعلى ضوء ذلك ، فلو لم يبعث الرسول بتاتاً ، أو بعث ولم يتوفق لبيان الأحكام أبداً ، أو توفق لبيان البعض دون البعض الآخر ، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه وبين بعض الناس ، لقبح التكليف ، وذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية الحجّة.
    والمكلّف الشاك في الشبهات التحريمية من مصاديق القسم الأخير ، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي كإيجاب التوقف ينطبق عليه قوله سبحانه ( وَما كُنّا مُعذّبين حتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) أي نبيّن الحكم والوظيفة.
    ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعلّق إهلاك القرية على وجود المنذر ويقول :
1. القصص : 59.
2. الشعراء : 208 ، طه : 134.
3. البقرة : 143.
4. آل عمران : 145.


(339)
( وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرَية إِلاّ لَها مُنذِرُون ). (1)
    نعم دلالة الآية على البراءة فرع عدم ورود الحذر بالنسبة إلى مشتبه الحكم لا بالعنوان الأوّلي هو مسلم بيننا وبين الخصم ، ولا بالعنوان الثانوي الذي لا يسلِّمه الخصم ويقول : بورود الحذر عن المشتبه بعنوان إيجاب الاحتياط والتوقف ، فدلالة الآية معلّقة على إبطال دليل الأخبار.
    وبما انّ المشايخ كالشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني والميرزا النائيني لم يدرسوا تفسير الآية على وجه يليق بشأنها ، أوردوا على الاستدلال بها بأُمور غير تامة ، وإليك بيانها :
    1. انّ ظاهرها الأخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأُمم السابقة. (2)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الآية بصدد بيان سنن اللّه سبحانه في تعذيب الأُمم العصاة ومثلها آبية عن الاختصاص بالأُمم السابقة ولذلك تكون الأفعال في مثل ذلك منسلخة عن الزمان.
    ثانياً : انّ العذاب الدنيوي إذا كان متوقفاً على البيان والحجة ، فالعذاب الأُخروي الذي سجّره الجبار أولى بذلك. (3)
    2. انّ مفادها الإخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجّة كما هو الحال في الأُمم السابقة ، فلا دلالة لها على حكم مشتبه الحكم حيث هو مشتبه الحكم ، فهي أجنبية عمّا نحن فيه. (4)
1. الشعراء : 208.
2. الفرائد : 192 ، ط قديم.
3. اقتباس عن قول الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) في كلامه مع أخيه عقيل. لاحظ نهج البلاغة : الخطبة 224. قال عليه السَّلام : « سجرها جبّارها لغضبه ».
4. فوائد الأُصول : 3/333.


(340)
    يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد بيان تعليق أي عذاب بالبيان ، فإذا كان هذا مفادها ، فلا يفرق بين حكم الشيء بما هو هو أو حكمه بما هو مشتبه الحكم ، فكما أنّ التعذيب على الخمر فرع البيان فهكذا التعذيب على مشتبه الحكم مثله كشرب الدخان.
    3. انّ مفاد الآيتين نفي الفعلية وعدم الوقوع في الخارج لا نفي الاستحقاق ، والمطلوب للأُصولي هو نفي الاستحقاق ليطابق حكم الفعل.
    وأجاب عنه الشيخ الأنصاري قدَّس سرَّه بأنّه يكفي عدم الفعلية في هذا المقام ، لأنّ الخصم يعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية ، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعلية في منهج الخصم.
    وأرد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :
    الأوّل : انّ الاستدلال عندئذ يُصبح جدلاً ، وهو عبارة عن الأخذ بمسلمات الخصم والرد بها عليه مع أنّنا في مقام البرهنة على عدم الاستحقاق والمفروض انّ الآية قاصرة الدلالة.
    الثاني : منعُ اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعلية والاستحقاق ، بشهادة انّه ليس في معلوم الحرمة إلا استحقاق العقاب لا فعليّته ، لاحتمال شمول غفرانه سبحانه لمرتكبي الحرام ـ مع عدم التوبة أيضاً ـ قال سبحانه : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرة لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقاب ). (1) ففي مثله ، الاستحقاق دون الفعلية فإذا كان معلوم الحرمة محكوماً باستحقاق العقاب لا بالفعلية ، فليكن مشتبه الحرام كذلك فيكون محكوماً باستحقاقه دون فعليته ، فلا يكون عدمها ، دليلاً على عدم الاستحقاق.
1. الرعد : 6.

(341)
    والأولى أن يجاب عن أصل الإشكال بوجهين آخرين :
    الأوّل : انّ الهدف من الاستدلال بالآية ليس إثبات عدم الاستحقاق ليكون موافقاً لما يحكم به العقل من قبح العقاب بلا بيان ، بل الهدف تحصيل المؤمِّن لمرتكب الشبهة سواء أكان مستحقاً للعقاب لكنّه صار معفوّاً أو لم يكن ، وظاهر الآية كفيل بإثبات مثل هذا.
    والحاصل : انّ البحث في المقام ليس كلامياً دائراً مدار الاستحقاق وعدمه ، بل أُصولي يدور حول المؤمّن للعذاب والمسوّغ للارتكاب وعدمهما ، والآية وافية بإثباتهما.
    وبذلك يعلم ضعف ما أفاده المحقّق النائيني من أنّ الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأنّ مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه ، لأنّ النزاع في البراءة إنّما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة وعدم استحقاقه لا في فعلية العقاب. (1)
    أقول : إنّ ما يهمّ الفقيه هو تحصيل المسوّغ لارتكاب مشتبه الحرمة ، وتحصيل المؤمّن من العذاب ، ويصلح لإثباته ، ما دلّ على نفي الفعليّة وإن لم يدل على نفي الاستحقاق.
    الثاني : انّ الآية ظاهرة في نفي الاستحقاق خصوصاً إذا فسر قوله : ( وما كُنّا ) بمعنى نفي الإمكان ، وما هذا إلا لأجل عدم استحقاقه العذاب مالم يصل إليه البيان.
    4. النقض بالمستقلات العقلية كقبح الظلم نظير النفس والخيانة بالأمانة حيث يصحّ العذاب وإن لم يكن هناك بلاغ سماوي.
1. فوائد الأُصول : 3/334.

(342)
    والإجابة عنه واضحة ، لأنّ الآية ناظرة فيما يحتاج إلى البيان ، على وجه لولاه لما وقف عليه الإنسان ولما كان واضحاً له. وأين هذا من المستقلات العقلية ؟! أضف إليه انّه مبيّن بالرسول الباطني وإن لم يكن مبيّناً بالرسول الظاهري.
    وربما ذكرنا علم انّ الآية وافية لما يرومه الأُصولي في المقام ، نعم إنّما يتم الاعتماد عليها إذا لم يرد بيان على لزوم الاجتناب ، ولو بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط والتوقف.

    الآية الثانية : التكليف فرع الإيتاء
    قال سبحانه : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَة مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفساً إِلاّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعَدَ عُسْر يُسْراً ). (1)
    والاستدلال مبني على كون المراد من الموصول : التكليف ، ومن الإيتاء هو الإعلام والتعريف ، فيكون معنى الآية لا يكلّف اللّه نفساً إلا تكليفاً أعلمها إيّاه.
    أقول : إنّ الموصول في قوله : ( إلا ما آتاها ) يحتمل أحد الأُمور الثلاثة :
    1. المال.
    2. العمل ، أي موضوع التكليف.
    3. التكليف.
    فعلى الأوّل يكون المراد من الإيتاء هو الإعطاء ، وكأنّه قال : « لا يكلّف اللّه نفساً إلا بقدر المال الذي أعطاها ».
    وعلى الثاني يكون المراد من الإيتاء هو الإقدار والتمكين ، فيكون المراد لا يكلّف اللّه نفساً إلا الفعل الذي أقدرها عليه.
    وعلى الثالث يكون المراد من الإيتاء هو الإعلام والتعريف.
1. الطلاق : 7.

(343)
    ولكن سياق الآية يؤيد الوجهين الأوّلين لأنّها وردت في سورة الطلاق التي تعرضت لحقوق النساء ، ففي الآية المتقدمة عليها أمر الأزواج بالقيام بالوظائف التالية :
    1. ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ).
    2. ( وَلا تُضارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ).
    3. ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ).
    4. ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ).
    5. ( وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوف ). (1)
    فهذه الجمل التي تحكي عن الحقوق المالية للزوجة على الزوج تكون قرينة على أنّ المراد أحد المعنيين الأوّلين وإن كان الثاني أظهر لكونه عاماً شاملاً للأوّل وغيره.
    وحاصل الآية : انّ ما سبق من الأحكام والحقوق يقوم به كلّ إنسان حسب وسعه ، لأنّ اللّه سبحانه لا يكلّف نفساً إلا ما أتاها من المقدرة والإمكان ، و لا يكلّف فوقه ، وعلى ذلك لا صلة للآية بباب انّ التكليف فرع البيان.
    فإن قلت : إنّ الإمام استشهد بالآية في باب المعرفة ، ففي رواية عبد الأعلى ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : قلت له : هل كلّفوا ( الناس ) المعرفة ؟ قال : « لا ، على اللّه البيان ، ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) (2) و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما أَتاها ) (3) ». (4)
1. الطلاق : 6.
2. البقرة : 286.
3. الطلاق : 7.
4. الكافي : 1/163 ، كتاب الحجّة ، باب البيان و التعريف ، الحديث 5.


(344)
    قلت : إذا كان المراد من المعرفة الأُمور الغيبية الخارجة عن حدود علم الإنسان العادي ، فالتكليف به مع عدم البيان داخل في التكليف بغير المقدور ، وعلى ذلك فيكون الإيتاء أيضاً بمعنى الإقدار والتمكين ، لا الإعلام ، فتكون الآية ردّاً لمن يجوز التكليف بما لا يطاق.
    حتى لو قلنا أيضاً بأنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه وانّ إيتاء المال إنّما يتحقّق بالإعطاء وإيتاء الشيء فعلاً أو تركاً إنّما يكون بإقدار اللّه تعالى عليه ، وإيتاءالتكليف ، بالوصول والإعلام ، فلا يصلح للاستدلال إلا في التكاليف التي يكون التكليف بها ـ بلا إعلام ـ تكليفاً بغير المقدور كأحوال الحشر والنشر ومعرفة الأنبياء والمعارف الغيبيّة التي لولا لحوق البيان بها يلزم التكليف بغير المقدور ، إذ لا طريق لمعرفتها ، وأين هذا من ترك مشتبه الحرام الذي أمر مقدور بالنسبة إلى المكلّف الملتفِت ، المحتمِل للحرمة.

    الآية الثالثة : الإضلال فرع البيان
    قال سبحانه : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذ هَدَاهُم حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم ). (1)
    وجه الاستدلال : أنّ التعذيب من آثار الضلالة ، والضلالة معلّقة على البيان في الآية ، فيكون التعذيب معلّقاً عليه ، فيُنتج أنّه سبحانه لا يُعاقب إلا بعد بيان ما يجب العمل أو الاعتقاد به.
    فإن قلت : ما هو المراد من إضلاله سبحانه ، فإنّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلى اللّه سبحانه ؟!
    قلت : إنّ الإضلال يقابل الهداية وهي على قسمين ، فيكون الإضلال أيضاً
1. التوبة : 115.

(345)
مثلها.
    توضيحه : انّ للّه سبحانه هدايتين : هداية عامة تعمُّ جميع الناس من غير فرق بين إنسان دون إنسان حتى الجبابرة والفراعنة ، وهي تتحقق ببعث الرسل وإنزال الكتب ودعوة العلماء إلى بيان الحقائق مضافاً إلى العقل الذي هو رسول باطني ، وإلى الفطرة التي تسوق الإنسان إلى فعل الخير.
    وأمّا الهداية الخاصة ، فهي تختصُّ بمن استفاد من الهداية الأُولى ، فعندئذ تشمله الألطاف الإلهية الخفيّة التي نعبّر عنها بالهداية الثانوية أو الإيصال إلى المطلوب.
    قال سبحانه : ( وَالّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُم ). (1)
    وقال تعالى : ( وَالّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ). (2)
    وأمّا إذا لم يستفد من الهداية الأُولى ، فلا يكون مستحقّاً للاستفادة من الهداية الثانية ، فيضل بسبب سوء عمله ، فإضلاله سبحانه ، كناية عن الضلال الذي اكتسبه بعمله بالإعراض عن الاستضاءة بالهداية الأُولى.
    قال سبحانه : ( فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الفَاسِقِين ). (3)
    فإضلاله سبحانه كإزاغته نتيجة زيغه وانحرافه وكبره وتولّيه عن الحق.
    وبذلك يظهر مفاد كثير من الآيات التي تنسب الضلالة إلى اللّه سبحانه ، فالمراد هو انقباض الفيض لأجل تقصيره ، فيصدق انّه أضله سبحانه وإن كان
1. محمد : 17.
2. العنكبوت : 69.
3. الصف : 5.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس