إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 376 ـ 390
(376)
والمعنى : الناس في سعة من جانب شيء لا يعلمونه ، فالحرمة المجهولة في شرب التتن شيء بما انّها غير معلومة للناس فهم من ناحيتها في سعة ، أي ليس عليهم حرج وضيق ، من إيجاب الاحتياط والتحفّظ ، أو ثبوت العقاب والعذاب على فرض كونه حراماً ، ويكون مضمونه موافقاً لحديث الرفع ، ولو تمّ دليل الأخباري يكون معارضاً معه ، لأنّه يدل على عدم السعة وانّه لو كان حراماً ليُؤخذ به الإنسان ولذلك يوجب الاحتياط.
    2. مصدرية زمانية (1) مثل قوله تعالى : ( وَأَوصاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً ) (2) أي مدة حياتي ، والمعنى الناس في سعة في زمان عدم علمهم.
    فإن قلت : إنّما تتم دلالته ويكون معارضاً لدليل الأخباري إذا افترضنا أنّها موصولة ، دونما إذا كانت ظرفية ، فيكون معناه : الناس في سعة ما دام لم يعلموا ، فيكون الحديث هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتكون أدلّة الاحتياط حاكمة عليه.
    قلت : هذا ما ذكره المحقّق النائيني حسب ما نقله المحقّق الخوئي في تقريراته (3) ، وقد أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله : لا يقال قد علم به وجوب الاحتياط ، ثمّ أجاب عنه بما هذا توضيحه :
    انّ المراد من العلم فيه ، هو العلم بالواقع من غير فرق بين العلم بالحكم الشرعي أو العلم بهوية المشتبه في الشبهة الموضوعية والعلم بالاحتياط ليس علماً به وإنّما علم بحكم وقائي لئلا يخالف الواقع ، نعم لو كان وجوب الاحتياط نفسياً ، لا يكون بعد العلم به سعة ، ولكنّه غير تام ، فانّ وجوب الاحتياط لحفظ
1. في مقابل المصدرية غير الزمانية مثل قوله : ( فَضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ) ( التوبة : 118 ).
2. مريم : 31.
3. مصباح الأُصول : 2/278.


(377)
الواقع ، ولذا لو خالفه ولم يكن في الواقع حراماً ، لما استحق العقاب.
    فظهر انّه لو تمّ دليل الأخباري لوقع التعارض بينهما ، فهذا يدل على السعة ما لم يعلم الواقع بما هو هو ، وذاك يدل على لزوم الاحتياط وإن جهل الواقع.
    نعم الظاهر كون « ما » موصولة ، لأنّ المصدرية تدخل على الماضي الحقيقي ، أو ما بحكمه وهما منتفيان. ولكن ما نقله الشيخ وغيره من النصّ غير وارد في الأُصول الحديثية ، وإنّما الوارد أحد التعبيرين :
    أ : هم في سعة حتى يعلموا. (1)
    ب : الناس في سعة ما لم يعلموا. (2)
    أمّا الأول فإليك نصه : انّ أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) سُئل عن سفرة وجدت في الطريق ، كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها ، وفيها سكّين ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السَّلام : « يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإن جاء طالبها ، غرموا له الثمن » قيل : يا أمير المؤمنين لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي ؟ قال : « هم في سعة حتى يعلموا ».
    والحديث مروي عن طريق النوفلي عن السكوني ، والأصحاب عملوا برواياتهما ـ كما ذكره الشيخ في العدة ـ ولكن مورده هو الشبهة الموضوعية ، لأنّ الشكّ في حلية اللحوم الموجودة فيها لاحتمال كونها للمجوسي الذي لا تحل ذبيحته والإمام حكم بالحلية ، والمقصود هو إثبات الجواز في الشبهة الحكمية.
    أضف إلى ذلك ، انّ تطبيق الكبرى على موردها مشكل ، لأنّ الأصل في
1. الوسائل : الجزء 2 ، الباب 50 من أبواب النجاسات ، الحديث 11 ؛ والجزء 16 ، الباب 38 من أبواب الذبائح ، الحديث 2.
2. المستدرك : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب مقدمات الحدود ، الحديث ... نقلاً عن غوالي اللآلي للاحسائي.


(378)
اللحوم هو عدم التذكية ، فكيف حكم عليها بالحلية ؟ ولو كان الحكم لأجل كون الأرض للمسلمين والغالب عليها هو الإسلام ، تكون مستندة إلى قاعدة أُخرى لا إلى أصالة الحلية.
    أمّاالثاني : فهو المروي مرسلاً عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « الناس في سعة ما لم يعلموا » والظاهر انّ « ما » ظرفية ، دخلت على ما هو بحكم الماضي ، دلالته جيدة يعم الشبهتين الموضوعية والحكمية ، لكن السند غير تام.
    فخرجنا بالنتيجة التالية :
    الحديث الأوّل : من مراسيل الكتب الأُصولية.
    الحديث الثاني : السند قابل للاعتماد لكن الدلالة غير تامّة.
    الحديث الثالث : تام دلالة غير تام سنداً.

    4. حديث الحل الأوّل
    روى الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : سمعته يقول : « كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خُدِع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة ». (1)
    والرواية من ثلاثيات الكليني حيث يروي عن المعصوم بثلاث وسائط ، ومن ثنائيات القمي حيث يروي عن المعصوم بواسطتين.
1. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4.

(379)
    أمّا السند ، فلا غبار عليه إلا في آخره ، فانّ القمي من المشايخ الإثبات.
    وهارون بن مسلم أنباري ، سكن سامراً ، يكنّى أبا القاسم ، ثقة ، وجه ، وكان له مذهب في الجبر والتشبيه ، لقي أبا محمّد وأبا الحسن عليهما السَّلام. (1)
    والتعبير بلفظ : « كان » حاك عن عدوله عنه ، وإلا كيف يكون معه ثقة ؟!
    وأمّا مسعدة بن صدقة العبدي; فقد وصفه الشيخ في رجاله بأنّه عامي (2) ، وعدّه الكشي من البترية (3) ، ولولا تصريح النجاشي برواية هارون بن مسلم عن مسعدة لكان لاحتمال سقوط الواسطة بينهما مجال.
    والسند وإن كان غير نقي ، لكن تلوح على المضمون علائم الصدق.
    وعلى كلّ تقدير ، فليس في المقام إلا رواية واحدة ورد فيها قوله : « كلّ شيء حلال حتى تعرف انّه حرام بعينه فتدعه ».
    ويظهر من الشيخ الأعظم انّ هنا رواية مستقلة وراء رواية مسعدة غير مشتملة على لفظة « بعينه ». (4) ولم نقف على ما ذكره.
    ونقلها المحقّق الخراساني مشتملة على لفظة « بعينه » ، من دون أن يذكر مصدر الرواية.
    وعلى كلّ تقدير فالرواية مختصة بالشبهة الموضوعية ، وذلك لوجوه :
    1. لفظة « بعينه » فانّه تأكيد للضمير في قوله : « انّه حرام » ، والمعنى حتى تعرف انّه بشخصه حرام ، ويتميّز عن غيره ؛ ولا يتصور ذلك إلا في الشبهة الموضوعية ، فإذا اختلط الخمر بالخل وعرف الخمر ، فهناك حرام غير مشخص ،
1. رجال النجاشي : 2/405 ، برقم 1181.
2. رجال الشيخ : 146 برقم 40 ، باب أصحاب محمد بن علي الباقر عليهما السَّلام.
3. رجال الكشي : 333 ، باب عد جماعة من العامة والبترية.
4. الفرائد : 301 و 220 في المسألة الرابعة من الشبهة التحريمية.


(380)
فإذا عرفه يقال : عرف الحرام بعينه ؛ وأمّا الشبهة الحكمية ، فليس عند الشك ، حرام لا بعينه ، حتى إذا زال الشكّ يكون الحرام معلوماً بعينه.
    ويؤيد انّه بمعنى بشخصه رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) قال : سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة ، وغنم الصدقة وهو يعلم انّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم ؟ قال : فقال : « ما الإبل إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك ، لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه ». (1)
    واحتمل سيدنا الأُستاذ قدَّس سرَّه كونه تأكيداً لقوله : حتى تعرف ، وهو كناية عن وقوف المكلّف على الأحكام وقوفاً علمياً لا يأتيه ريب. (2)
    2. الأمثلة التي وردت فيها بعد ضرب القاعدة كلّها من قبيل الشبهة الموضوعية ، فتصلح لأن تكون قرينة للمراد ، أو مانعة عن انعقاد الإطلاق.
    3. قوله : « والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة » ويعني من البيّنة : شهادة العدلين ، والتي يتوقف عليها ثبوت الموضوعات لا الأحكام ، لأنّه يكفي في ثبوتها خبر العدل ، وحمل البيّنة على مطلق ما يتبين به خلاف المتبادر منها في عصر الرسول فضلاً عن عصر الأئمّة قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (3) مضافاً إلى تفسيرها بالشاهدين في رواية عبد اللّه بن سلمان حيث روى عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) في الجبن قال : « كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان على أنّ فيه ميتة ». (4)
1. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به الحديث 5 ، ولاحظ الحديث 2 من الباب 53.
2. تهذيب الأُصول : 2/175.
3. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث 1.
4. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 2.


(381)
    5. حديث الحل الثاني
    هناك حديث حل ثان يفترق عمّا سبق باشتماله على جملة : « فيه حلال وحرام » ، وقد وردت في روايات ثلاث ، ولعلّ الرواية الثالثة نفس الثانية كما نستظهره.
    1. ما رواه عبد اللّه بن سنان قال : قال أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : « كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ». (1)
    2. ما رواه عبد اللّه بن سنان ، عن عبد اللّه بن سليمان قال : سألت أبا جعفر عن الجبن فقال لي : « لقد سألتني عن طعام يعجبني ، ثمّ أعطى الغلام درهماً فقال : « يا غلام ابتع لنا جبناً » ، ثمّ دعا بالغذاء فتغذّينا معه ـ إلى أن قال : ـ « سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام ، فهو حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه ». (2)
    والأُولى مروية عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام ، والثانية عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) ، فتكونان روايتين ، غير انّ الأُولى مشتملة على لفظة « منه » دون الثانية.
    3. ما رواه معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال : كنت عند أبي جعفر ( عليه السَّلام ) ، فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : « إنّه لطعام يعجبني ، وسأُخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه ». (3)
    ولعلّ السائل الذي عبر عنه « فسأله رجل » هو « عبد اللّه بن سليمان » الوارد في الحديث الثاني ، كما يحتمل انّه المراد في رواية أُخرى لعبد اللّه بن سنان قال :
1. الوسائل : 12 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1.
2. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 1 و 7.
3. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 1 و 7.


(382)
سأل رجل أبا عبد اللّه عن الجبن ، فقال : إنّي آكله ليعجبني ، ثمّ دعا به فأكل. (1) وعلى ذلك فقد سأل عبد اللّه بن سليمان كلاً من الإمامين أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهما السَّلام.
    والرواية الأُولى صحيحة رواتها كلّهم ثقات ، بخلاف الثانية فانّ عبد اللّه ابن سليمان لم يوثّق ، والثالثة مرسلة لوجود « رجل » في السند ، وعلى كلّ تقدير فالمضمون يلوح عليه علائم الصدق.
    الاستدلال بالرواية على الشبهة الحكمية مبني على أمرين :
    أ : المراد من الشيء في قوله : « كلّ شيء » ، هو الأمر الكلي ، كشرب التتن أو لحم الأرنب.
    ب : المراد من قوله : « فيه حلال وحرام » بمعنى فيه احتمال الحلال والحرام.
    وعندئذ يقال : إنّ شرب التتن ولحم الأرنب فيهما احتمال الحلية والحرمة ، فهما حلالان حتى تعرف الحرام منه بعينه.
    يلاحظ عليه بأُمور :
    1. أنّ الظاهر من قوله : « فيه حلال وحرام » هو فعليتهما لا احتمالهما كما في قوله سبحانه : ( وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُم الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرام ). (2)
    2. لو أُريد هذا المعنى ، لكان الأنسب أن يقول : حتى تعلم ، بدل « حتى تعرف » ، فانّ العرفان يستعمل في الأُمور الجزئية ، لا الكلية ، يقال : عرفت اللّه لا علمت اللّه ، بخلاف العلم. (3)
1. المصدر نفسه ، الحديث 2 وقد نقل الحديث مبتوراً.
2. النحل : 116.
3. نعم هذا هو الغالب ، وإلا فربما يستعمل العلم في الجزئيات ، كما مرّفي مسعدة بن صدقة حيث قال : حتى تعلم انّه ....


(383)
    3. لو أُريد ذلك لزمت لغوية قوله : « بعينه » لأنّ الإنسان إذا وقف على حرمة شرب التتن أو لحم الأرنب وقف على حرمة ذلك الشيء لا حرمة شيء آخر ، حتى يؤكد بقوله بعينه.
    وربما يصحّح الاستدلال به على الشبهة الحكمية ، بأنّ المراد من الشيء هو الجنس البعيد كالشرب بالنسبة إلى الماء والخمر ، واللحم بالنسبة إلى الغنم والخنزير ففيه حلال وحرام بالفعل ، ولكن نشك في الجبن والأرنب فهما حلالان حتى تعرف الحرام منه بعينه.
    وقد رد عليه الشيخ بوجهين : (1)
    1. انّ اللام في قوله : « حتى تعرف الحرام » للعهد الذكري إشارة إلى الحرام المتقدّم ، مع أنّه إذا عرفت حرمة شرب التتن ، فقد عرفت حرمة مستقلة لا الحرمة المتقدمة المحمولة على الخمر ، ولو قلنا بعموم الحديث للشبهة الحكمية يكون معنى الحديث هكذا : انّ من الشرب حلالاً كالماء ، وحراماً كالخمر ، فشرب التتن لك حتى تعرف الحرمة المتقدمة.
    2. ظاهر الرواية انّ التقسيم سبب للشك في حرمة شرب التتن ، مع أنّه ليس كذلك فليس حلية شرب الماء ، وحرمة شرب الخمر سبباً للشكّ في حرمة التتن.
    والظاهر انّ المراد من الشيء ، هو الكلي المنتشر في الخارج المتكثر فيه ، بمعنى انّ قسماً منه حلال وقسماً آخر حرام ، وقسماً منه مشتبه كالجبن. فالمشكوك محكوم بالحلية ، حتى تعرف انّه في قسم الحرام الذي جعل فيه الميتة ، فيكون منطبقاً على الشبهة غير المحصورة.
    ويؤيد ذلك ، حديث أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر ( عليه السَّلام ) عن الجبن ،
1. الفرائد : 201.

(384)
فقلت له : أخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتة ؟ فقال : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين ، إذا علمت انّه ميتة فلا تأكل ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ». (1)
    وهناك احتمال ثالث :
    وهو أن يراد من الشيء ، الجزئي الخارجي كالمال المختلط بالربا ، وكالصدقات المشتراة من السلطان وجوائزه المختلط بالحرام ، فقد تضافرت الروايات على حليّتها مالم يعرف الحرام بعينه ، وهذان الموردان ممّا أخذ العلم التفصيلي موضوعاً للحرمة. (2)
    ولكن جعل الضابطة لأجل ذينك الموردين لا يخلو من بعد.

    6. حديث إطلاق الأشياء
    روى الصدوق مرسلاً عن الصادق ( عليه السَّلام ) قال : وقال الصادق : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ». (3) والاستدلال يتوقف على تماميته سنداً ودلالة.
    أمّا الأوّل ، فهو مرسل وهو لايصلح للاحتجاج به.
    لكن المشايخ يفرّقون بين قولي الصدوق ، أعني قوله : « روى عن الصادق عليه السَّلام » وقوله : « وقال الصادق عليه السَّلام » ، حيث إنّ النسبة إليه تحكي عن جزم الصدوق بصدور الرواية عن المعصوم. وقال بحر العلوم : إنّ مراسيل الصدوق في الفقيه كمراسيل ابن أبي عمير في الحجية والاعتبار. وقد ذكرنا كلمات القوم في
1. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 5.
2. وقد ذكرنا رواياته في المحصول فلاحظ 3/386.
3. الوسائل : 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 60.


(385)
كتابنا « كليات في علم الرجال ». (1)
    أقول : إنّ ظاهره هو جزمه بصدورها عن الإمام ، ولكنّه كما يكون مستنداً إلى إعتقاده بعدالة رواته يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المفيدة للعلم بالصحة. وعلى كلا الوجهين لا يصحّ الاستناد ، أمّا على الثاني فواضح ، لعدم حجّية علم المجتهد على مجتهد آخر ؛ وأمّا الأوّل ، فلأنّ غايته توثيقه لمن ورد في السند ، وتوثيقه إنّما يكون حجّة إذا لم يكن له معارض ، وهو فرع الوقوف على أسمائهم والمفروض انّه ترك ذكر السند أصلاً ، ومع ذلك لا يمكن ترك هذا النوع من المراسيل.
    أمّا الدلالة فهي مبنية على ثبوت أُمور ثلاثة :
    1. المراد من الشيء ، هو الموضوع المجهول الحكم لا بمعنى انّه استعمل في المعنى المركّب ، بل القيد مفهوم من الغاية أعني : « حتى يرد ».
    2. المراد من المطلق ، هو الإباحة الظاهرية.
    3. المراد من الورود ، هو الوصول إلى المكلّف.
    وقد حمل الشيخ الرواية على هذا المعنى وجعلها من أدلّة البراءة التامة ، وانّها تصلح أن تكون معارضةً لدليل الأخباري على فرض تماميته ، وذلك لأنّ الضمير في قوله : « يرد فيه » يرجع إلى ذات الشيء المجهول الحكم ، وانّه ما لم يرد ذاك النهي الكذائي فالمكلّف من ناحيته في سعة وإطلاق وانّه محكوم بالإباحة ظاهراً ، وعلى ضوء هذا يكون معارضاً لدليل الأخباري الدالّ على كفاية ورود النهي بالعنوان الثانوي.
    وقد فسر المحقّق الخراساني الأُمور الثلاثة بغير هذا النحو.
1. كليات في علم الرجال : 383 ـ 384.

(386)
    ففسر الشيء ، بما هو هو ، من دون وصفه بمجهول الحكم ، والإطلاق بالإباحة الواقعية والورود بالصدور من قلم التشريع لا الوصول إلى يد المكلف.
    فعلى نظرية الشيخ ، فالرواية ناظرة إلى بيان حكم مشتبه الحرمة والحلية ، وعلى نظر المحقّق الخراساني ناظرة إلى بيان حكم الأشياء قبل تشريع الشرائع أو الشريعة المحمدية.
    وإليك تحليل النظريتين في الموارد الثلاثة :
    أمّا الأوّل : فلا يمكن اختيار واحد من القولين إلا بلحاظ الأمرين الأخيرين.
    أمّا الثاني : فنظر الشيخ هو الأقرب ، لأنّ الإمام بصدد الإفتاء ورفع حاجة المكلّفين في حياتهم ، ولا يتم ذلك إلا بتفسير الإطلاق بالإباحة الظاهرية ، وذلك لأنّ تفسيره بالإباحة الواقعية للأشياء قبل الشرائع أو قبل مجيئ الرسول الأعظم ، يوجب كون الإمام بصدد بيان مسألة كلامية ، لا مسألة فقهية مفيدة لحال المتكلّم إلا بضمّ الأصل وبقاء الإباحة قبل الشرع ، وهو كما ترى.
    وأمّا الثالث : فالقرائن تشهد على أنّ المراد ، هو الوصول إلى المكلّف لا الصدور من قلم التشريع ولو لم يصل. وذلك أوّلاً : أنّه استعمل الورد في القرآن في الوصول قال سبحانه : ( وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ ) (1) أي وصل إلى الموضع الذي فيه ماء باسم « ماء مدين ».
    وثانياً : أنّ اللغة يفسره بمعنى الحضور والإشراف حتى أنّ الورود في مصطلح البلاد العربية شيء يقابل الصدور يستعملون الاستيراد مقابلاً للتصدير ؛ فجلب الأمتعة من خارج البلد إلى داخل البلد ، هو الاستيراد ، وعكسه هو التصدير.
1. القصص : 23.

(387)
    وثالثاً : أنّ تفسير الحديث على النحو الآخر يوجب اختصاص الرواية بعصر الرسول ، وانّ الأشياء محكومة بالإباحة والإطلاق حتى يصدر من الشارع نهي ، وتكون الرواية إخباراً عن حكم زمان حياة الرسول ، وهو خلاف ظاهرها ، فانّ ظاهرها إنشاء حكم بلا تقييد بزمان ، وانّ هذا الإطلاق سائر في جميع الأزمنة.
    ويؤيد التعبير بلفظ : ( حتّى يرد ) الدال على المعنى الاستقبالي ، ومفاده انّ هذا الحكم سائد في عصر الصادق وبعده إلى أن تتحقق الغاية ، ومن المعلوم ان لو كان المراد من الورد الصدور من قلم التشريع ، فالغاية تمت وتحققت قبيل رحيل الرسول ، ولم يبق أي ترقّب إليها بعد.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني وجّه إلى مختاره إشكالات ثلاثة ، وأجاب عنها غير انّ في جوابه عن الإشكال الثالث إبهاماً ، فليلاحظ.

    7. حديث الجهالة
    روى الكليني بسند صحيح عن عبد الرحمان بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه السَّلام :
    1. قال سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممن لا تحل له أبداً ؟ فقال :
    « لا أمّا إذا كان بجهالة فليزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك ».
    2. فقلت : بأي الجهالتين يعذر ، بجهالته انّ ذلك محرم عليه أم بجهالته انّها في عدّة ؟ فقال : « إحدى الجهالتين أهون من الأُخرى : الجهالة بأنّ اللّه حرّم ذلك عليه ، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها ».
    3. فقلت : وهو من الأُخرى معذور ؟ قال : « نعم إذا انقضت عدتها ، فهو معذور في أن يتزوجها ».


(388)
    4. فقلت : فإن كان أحدهما متعمداً والآخر بجهل ؟ فقال : « الذي تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبداً ». (1)
    ومجموع الأسئلة والأجوبة لا تتجاوز عن أربعة ، ومحل الشاهد في الثاني منهما ، حيث عدّ الجاهل بحرمة تزويج المعتدة معذوراً وله أن يتزوج بعدما عرف بطلان عقده ، والرواية محمولة على مجرّد العقد بلا دخول وإلا فتحرم مطلقاً جاهلاً كان أو عالماً.
    وأمّا فقه الحديث فهنا سؤال ، فهل السؤال عن الجاهل الملتفت الشاك أو عن غير الملتفت ؟
    فعلى الأوّل ، فكلا الرجلين متمكنان من الاحتياط بأن لا يعقد حتى يسألا فكيف حكم الإمام على أحدهما بالتمكن منه دون الآخر ؟
    وعلى الثاني ، فكلاهما غير متمكنين ، وحمل الأوّل على غير الملتفت والثاني على غيره تفكيك بين الجهالتين.
    وأمّا الاستدلال فيرد عليه : انّ الظاهر من المعذورية هو المعذورية في الحكم الوضعي وانّه لا يحرم عليه ، ويدل على ذلك انّ الإمام أجاب في الجواب عن السؤال الرابع بعدم جواز رجوعه إلى صاحبه أبداً ، وكلام السائل وجواب الإمام كلّه يدور حول المعذورية وعدمها ، أي يكون الجهل عذراً لئلا تحرم الزوجة عليه أبداً ، لا المعذورية في أمر العقاب اللّهمّ إلا أن تدّعي الملازمة.
    وما ذكرنا من الأحاديث السبعة ، هو المهم من السنّة التي استدل بها على البراءة ، وهناك روايات أُخرى يمكن الاحتجاج بها عليها ، وقد ذكر بعضها الشيخ الأعظم ، فليرجع إلى الفرائد وغيرها.
1. الوسائل : الجزء 14 ، الباب 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث 4.

(389)
    الثالث : الاستدلال بالإجماع
    إنّ دعوى الإجماع على البراءة على وجوه :
    الأوّل : ادّعاء إجماع العلماء من المجتهدين والأخباريين على أنّ الحكم فيما لم يرد فيه نهي لا بعنوان أوّلي ولا بعنوان ثانوي ، أي كونه مجهول الحكم ، هو البراءة.
    وهذا النوع من الادّعاء صحيح كبرى وباطل صغرى ، لأنّ الأخباري يدّعي ورود النهي بعنوان ثانوي.
    الثاني : تحصيل الإجماع المحصل على البراءة في مشتبه الحرمة من تتبّع الفتاوى في موارد الفقه من عصر ثقة الإسلام الكليني إلى زماننا هذا ، وقد نقل الشيخ شيئاً من كلماتهم.
    الثالث : الإجماعات المنقولة في كلمات الصدوق والحلّي كما نقلها الشيخ.
    الرابع : الإجماع العملي وسيرة المسلمين على الارتكاب حتى يدل دليل على الحرمة ، وأمر غير بعيد ويظهر من غير واحد من الآيات (1). انّ شأن النبي هو التنصيص على المحرمات دون المحللات وعلى ذلك درج المسلمون بعد رحيله ، فلا يتوقفون في الارتكاب عند الشكّ إلا بعد العلم بالحرمة إلى أن ظهر الأمين الاسترابادي فطرح هذه المشتبهات.
    ويرد على الجميع : انّ الاعتماد على الإجماع في مثل هذه المسألة مشكل ، لاحتمال استناد المجمعين على الأدلة النقلية والعقلية ، فيكون الإجماع مدركياً غير مفيد لشيء ، كما هو في الإجماع المنقول.
1. ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِم يَطْعَمُهُ إِلاّ أن يكونَ مَيْتَةً أَوْ لَحْمَ خِنْزِير أَوْ دَماً مَسْفُوحاً بِهِ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْر باغ وَلا عاد فَإنَّ رَبّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). ( الأنعام : 145 ).

(390)
    الرابع : الاستدلال بحكم العقل
    استدل القائل بالبراءة بالحكم القطعي للعقل من قبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلّف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظانّه ، وانّ وجود التكليف مع عدم وصوله إلى المكلّف غير كاف في صحّة التعذيب. وانّ وجوده كعدمه في عدم ترتّب الأثر ، وذلك لأنّ فوت المراد مستند إلى المولى في كلتا الصورتين ، أمّا إذا لم يكن هناك بيان أصلاً ، فمعلوم ، وأمّا إذا كان هناك بيان صادر من المولى لكنّه غير واصل إلى العبد ، فلأنّ الفوت أيضاً مستند إليه إذ في وسعه إيجاب الاحتياط على العبد ، في كلّ ما يحتمل وجود التكليف ومع تركه ، يكون ترك المراد مستنداً إلى المولى حيث اقتصر في بيان المراد ، بالحكم على الموضوع بالعنوان الواقعي ، ولو كان مريداً للتكليف حتى في ظرف الشك وعدم الظفر بعد الفحص ، كان عليه استيفاء مراده بإيجاب التحفظ ، ومع عدمه ، يحكم العقل بالبراءة وانّ العقاب قبيح ويشكّل قياساً بالشكل التالي :
    العقاب على محتمل التكليف ـ بعد الفحص التام وعدم العثور عليه في مظانّه لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي ـ عقاب بلا بيان.
    والعقاب بلا بيان ـ بالنحو المذكور ـ أمر قبيح.
    فينتج : العقاب على محتمل التكليف ـ بالنحو المذكور ـ أمر قبيح.
    ثمّ إنّ في المقام إشكالين أحدهما متوجه إلى الكبرى والآخر إلى الصغرى.
    أمّا الأوّل : فربما يقال : انّ العقاب بلا بيان ليس أمراً قبيحاً إذا كان المكلّف شاكاً فانّ قيمة أغراض المولى ليست بأقلَّ من قيمة أغراض العبد ، فكما أنّه يهتم العبد بأغراضه حتى المحتملات والمشكوكات فيسلك سبيل الاحتياط ، كذلك
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس