إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 391 ـ 405
(391)
يجب عليه الاحتياط في سبيل تحصل أغراض المولى المحتمل ، ففي صورة الشكّ يحكم العقل بوجوب الاحتياط.
    نعم هنا قاعدة عقلائية جرت عليها سيرتهم وهي عدم عقاب العبد العرفي إلا بعد بيان المولى ولولا بناء العقلاء على عدم العقاب بلا بيان وعدم إمضاء الشارع له ، لم يقبح العقاب بلا بيان ، والمؤاخذة بلا بيان ، فوقع الخلط بين الأحكام العقلائية والأحكام العقلية المبنية على الحسن والقبح.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ مرجع إنكار القاعدة ، إلى أنّ احتمال التكليف منجّز للواقع عند العقل ، وإن لم يستوف المولى البيان الممكن ، والاعتماد في التعذيب والمؤاخذة على مثل هذا إنّما يصحّ إذا كان من الأحكام العقلية الواضحة. ومن المعلوم خلافها ، إذ لوكان حكماً واضحاً لما أنكره العلماء من غير فرق بين الأُصولي والأخباري ، وسيوافيك انّ النزاع بين الأخباري والأُصولي إنّما هو في الصغرى أي ورود البيان وعدمه لا في الكبرى.
    وثانياً : إنّ اتّفاق العقلاء على قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا قام بوظيفته في الوقوف على مقاصد المولى ولم يجد بياناً بأحد العنوانين ، يُعدُّ العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً وإلا يعود بناء العقلاء إلى أمر تعبدي وهو كما ترى.
    وثالثاً : انّ الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث يستدل بها الوحي على الناس ويقول : ( وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1) ، ويذكر في آية أُخرى انّه سبحانه أبطل ببعث الرسل ، حجّة الكفار والعصاة حيث قال : ( وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذاب مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى ). (2)
1. الإسراء : 15.
2. طه : 134.


(392)
    فتبيّن بذلك انّ الكبرى من الأحكام الواضحة لدى العقل والعقلاء بشرط التقرير على ما ذكرناها :
    أمّا الأوّل أي الإشكال على الصغرى ، فهو الإشكال المعروف الذي ذكره الشيخ والمحقّق الخراساني ومن جاء بعدهما من أنّه يكفي في مقام البيان ، حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل الموجود في مورد الشبهة التحريمية الحكمية. ويكون شكل القياس بالنحو التالي : الشبهة البدوية التحريمية فيها ضرر محتمل ، وكلّ ما فيه ضرر محتمل يلزم تركه فينتج : الشبهة التحريمية ما يجب تركها.
    يلاحظ عليه : أنّ المراد من الضرر في القاعدة أحد الأُمور الثلاثة :
    1. العقاب. 2. الضرر الدنيوي ( الشخصي ). 3. المصالح والمفاسد الاجتماعية.
    أمّا الأوّل : فهو بين قطعي الإحراز ، كما في مورد العلم الإجمالي بحرمة أحد الأمرين أو وجوبه فينطبق الكبرى على الصغرى ، ولذلك أطبق العلماء على وجوب الموافقة القطعية ، وقطعي الانتفاء كما في المقام ، فانّ الضرر بمعنى العقاب قطعي بحكم قبح العقاب بلا بيان ومع العلم بعدمها ، فلا يصحّ الاحتجاج بالكبرى.
    والحاصل انّ لاحتمال الضرر بمعنى العقاب مناشئ كلّها محكومة بالانتفاء ، وهذه عبارة عن الأُمور التالية :
    1. تقصير العبد في الفحص عن تكاليفه من مظانّها.
    2. كون المولى غير حكيم أو غير عادل.
    3. وجود البيان بأحد العنوانين.
    والمفروض انّ الكلّ منتف ، فليس هنا منشأ لاحتمال العقاب ، بل العقل


(393)
قاطع بعدم الضرر ( العقاب ) ومع انتفائها ، لا يحتج بمجرّد الكبرى ، ما لم تنضمّ إليها الصغرى وهو احتمال العقاب.
    وبذلك يعلم أنّه لا تعارض بين الكبريين وانّ لكلّ موضعاً خاصاً ، فمورد قبح العقاب هو الشبهة البدوية كما أنّ موضع وجوب دفع الضرر إنّما هو صورة العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً.
    وهذا يعرب عن أنّ ما اشتهر من ورود القاعدة الأُولى على القاعدة الثانية أمر غير صحيح ، فإنّ الورود فرع التعارض ولا معارضة بينهما ، بل كلّ يطلب لنفسه مورداً خاصاً غير ما يطلبه الآخر لنفسه.
    فمورد قاعدة القبح ، هو إذا لم يكن من المولى بيان كما أنّ مورد القاعدة الثانية ، هو إذا تم البيان ، وإن كان المتعلّق مجهولاً بين الأمرين.
    هذا كلّه إذا أُريد من الضرر العقوبة المقرّرة للعصاة في الآخرة.
    فإن قلت : إنّ الآثار الأُخروية القهرية للعمل أي ارتكاب المحرم الواقعي ممّا لا ينفك عنه فلا تدور وجوداً وعدماً على وجود البيان وعدمه ، فيجب الاجتناب دفعاً لهذا النوع من العقاب الأُخروي.
    قلت : إنّ ما ذكر من الآثار ، من تبعات الإطاعة والعصيان لا مطلق الارتكاب فإذا مارس العبد الإطاعة والعصيان يكتسب ملكة خاصة ، فإذا فارقت الجسد تخلق الملكة صوراً متناسبة لما اكتسبتها من الملكات ، وليس كلّ فعل مؤثراً في حصول الملكة وإنّما المؤثر الفعل المعنون بعنوان الطاعة والمعصية ، والمفروض عدمهما.
    هذا كلّه إذا أُريد منه الضرر الأُخروي بقسميه.
    وأما الثاني : أي الضرر الدنيوي فالإجابة عنه واضحة ، لأنّ الأحكام الشرعية


(394)
لا تدور مدار الضرر ، أو النفع الشخصيين حتى يكون احتمال الحرمة ، ملازماً لاحتمال الضرر الشخصي على الجسم والروح ، بل الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد نوعية ، وربما تكمن المصلحة النوعية في الضرر الشخصي كما في ترك الربا ، والظلم على الناس ، نعم ربما يجتمع الضرر الشخصي مع المفسدة الاجتماعية كشرب المسكر ، ولكنّه ليس أمراً كلياً.
    ومع التسليم فليس دفع الضرر الدنيوي أمراً واجباً عقلاً إذا كان في ارتكابه غايات ، والغاية في المقام دفع عسر الاحتياط.
    وأمّا الثالث : أي الضرر بمعنى المصالح والمفاسد ، فقد أجاب عنه الشيخ عند البحث في الدليل الأوّل على حجّية مطلق الظن وحاصله : انّ حكم الشارع بالبراءة يكشف إمّا عن عدم الأهمية ، أو لوجود المصلحة الغالبة على المفسدة الحاصلة. (1)
1. الفرائد : 109.

(395)
    استدلّ الأخباريّ على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بالأدلّة الثلاثة : الكتاب والسنّة والعقل دون الإجماع لعدم كونه من الحجج عنده ، وإليك دراستها ، أمّا الكتاب فبعدّة من الآيات ، تجمعها العناوين التالية :
    الأوّل : الحكم بالبراءة قول بغير علم
    إنّ الحكم بجواز الارتكاب قول بغير علم لافتراض أنّ الواقع غير معلوم ، ومعه كيف يُحْكَم على الموضوع بجواز ارتكابه ، مع أنّه سبحانه قال : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ) (1) ؟
    والإجابة عن الاستدلال واضحة : لأنّ الجهل بالواقع ، يستلزم عدم الحكم عليه بالحلية الواقعية ، ولكنّه لا يلازم عدم الحكم عليه في الظاهر إذا قام الدليل على سعة المكلّف فيه ، كما أنّ الحكم بالضيق في الظاهر ليس قولاً بغير علم استناداً على ما توهمه الأخباري من دلالة الأدلّة عليه.
1. الإسراء : 36.

(396)
    الثاني : الآيات الآمرة بالتقوى
    دلّت الآيات على لزوم التقوى بقدر الوسع والطاقة والاستطاعة قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلاتَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون ) (1). وقال تعالى : ( فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ). (2)
    وجه الدلالة : انّ الاجتناب عن محتمل الحرمة من التقوى ، وكلّ ما كان كذلك واجب بحكم الأمر بها فينتج : الاجتناب عن محتمل الحرمة واجب.
    يلاحظ عليه : منع كلّية الكبرى ، أي كلّ ما كان من مصاديق التقوى هو واجب ، لأنّ التقوى يستعمل تارة في مقابل الفجور ، وبما انّ الثاني حرام يكون الأوّل واجباً ، قال سبحانه : ( أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقينَ كَالفُجّار ) (3) ، ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (4). وأُخرى في كلّ مرغوب سواء كان واجباً أم مستحباً ، قال سبحانه : ( وَتَزوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التَّقْوى ) والإتيان بالمستحبات وترك المكروهات كلّها من مراتب التقوى ، مع انّهما غير واجبين. وممّا يدل على انّ التقوى ليس خصوص الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرمات بل الأعم منهما قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ) (5) فقد كانت الهداية الأُولى غير منفكة عن التقوى ومع ذلك ، يقول سبحانه : ( وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ) بعد زيادة الهداية.
1. آل عمران : 102.
2. التغابن : 16.
3. ص : 28.
4. الشمس : 8.
5. محمد : 17.


(397)
    الثالث : النهي عن الوقوع في التهلكة
    نهى سبحانه عن إيقاع النفس في التهلكة قال سبحانه : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنين ) (1) وفي ارتكاب الشبهة مظنة الوقوع في التهلكة وهي واجبة الاجتناب.
    يلاحظ عليه : أنّ الآية واقعة في سياق آيات الجهاد :
    قال سبحانه : ( وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ الَّذينَ يُقاتِلُونَكُمْ ). (2)
    قال سبحانه : ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقفْتُمُوهُمْ ). (3)
    قال سبحانه : ( وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتنَة ). (4)
    قال سبحانه : ( وَأَنْفِقُوا في سَبيلِ اللّه وَلا تُلْقُوا ). (5)
    وعلى ذلك يكون المراد من التهلكة هو ما يترتب على ترك الجهاد والإنفاق في سبيله من تسلط الأعداء على الأُمّة الإسلامية ، وأين هو من ارتكاب الشبهة التحريمية ؟!
    ولو قلنا بأنّ الآية لا صلة لها بالجهاد وانّها ضابطة كلية يعمّ ما فيه الهلاك الأُخروي ، فالإجابة واضحة ، لأنّ الاستدلال بالكبرى فرع إحراز الصغرى أي الهلاك الأُخروي ، وهو في مورد العلم التفصيلي قطعي الوجود ، وفي أحد طرفي الشبهة المحصورة محتملة ، وفي الشبهة البدوية قطعي العدم فكيف يستدل بالكبرى مع القطع بعدم الصغرى.
1. البقرة : 195.
2. البقرة : 190.
3. البقرة : 191.
4. البقرة : 193.
5. البقرة : 195.


(398)
    الاستدلال بالسنّة
    استدلّ الأخباري من السنّة بطوائف ، وقد قسمها الشيخ إلى أربع طوائف ، وتبعه المحقّق الخراساني ، ويظهر من المحقّق المشكيني انّها خمس. فالطائفتان الأوّلتان ، واضحتا الإجابة ، إنّما المهم الطوائف الثلاث أي :
    1. أخبار التوقّف.
    2. أخبار الاحتياط.
    3. أخبار التثليث.
    وإليك الكلام في الطائفتين الأُولتين.
    الأُولى : حرمة الإفتاء بغير علم
    تضافرت الروايات على حرمة القول والإفتاء بغير علم ، مثل صحيحة هشام ابن سالم ، قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : ما حقّ اللّه على خلقه ؟ قال : « أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد أدّوا إلى اللّه حقّه ». (1)
    ويظهر جوابها بما ذكرناه جواباً عن الاستدلال بالآيات الناهية عن الإفتاء بغير العلم فلا نعيد.
    الثانية : وجوب الردّ إلى اللّه ورسوله
    دلّت الروايات المتضافرة على وجوب الردّ إلى اللّه ورسوله في مشاكل الأُمور ، ففي مقبولة عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : « أمر بيّن رشده فيتبع وأمر بيّن
1. الوسائل : 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 4 ؛ وبهذا المضمون روايات كثيرة ، نظير : 5 ، 10 ، 11 ، 27 ، 31 ، 44.

(399)
غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى اللّه وإلى رسوله ». (1)
    إنّ مرجع هذه الروايات التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي ، إلى النهي عن الاستقلال بالفتوى بالمعايير التي ما أنزل اللّه بها من سلطان من القياس والاستحسان والمصالح المرسلة ، دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام و يوضحه قول الرضا ( عليه السَّلام ) حسب رواية الميثمي في اختلاف الحديث عنهم عليهم السَّلام : « وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم الكفّ والتثبت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا » (2).
    الثالثة : وجوب التوقف
    الروايات الآمرة بالتوقف على قسمين : تارة تأمر بالتوقّف بلا تعليل ، وأُخرى تأمر به معللة بأنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.
    أمّا القسم الأوّل فظاهر في الاستحباب نذكر منه ما يلي :
    1. ما كتبه الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) في وصيته لولده الحسن عليهما السَّلام : « لا ورع كالوقوف عند الشبهة ». (3)
    2. مرفوعة شعيب رفعه إلى أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : قال : « أورع الناس من وقف عند الشبهة ». (4)
    3. ما ورد في رسالة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) إلى عامله في البصرة « عثمان بن حنيف » : « فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ،
1. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 ، الحديث 9 من أبواب صفات القاضي. والاستدلال بحيثية الرد إلى اللّه سبحانه ، لا من جهة تثليث الأُمور.
2. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 31.
3. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20 و 22.
4. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20 و 22.


(400)
وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ». (1) والقضم كسر الشيء بالأسنان. والمورد شبهة موضوعية يكون النهي فيه للتنزيه.
    4. وما في عهد الإمام ( عليه السَّلام ) لمالك الأشتر : « اختر للحكم ... وأوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ». (2)
    والأوّلان ظاهران في الاستحباب ، ومورد الثالث ـ كما عرفت ـ شبهة موضوعية ، والرابع وارد في شرائط القاضي المستحبة. فيدل الجميع على حسن الاجتناب لا على لزومه.
    وأمّا القسم الثاني ، أي ما جاء الأمر بالتوقف معلّلاً بأنّه خير من الاقتحام في الهلكة ، فتارة ورد في مورد يكون الاجتناب فيه مستحباً باتّفاق الكلّ ، وأُخرى فيما يكون الاجتناب واجباً كذلك ، ومن النوع الأوّل الحديثان التاليان :
    5. ما رواه أبو سعيد الزهري ، عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثاً لم تروه ، خير من روايتك حديثاً لم تحصه ». (3)
    6. ما رواه مسعدة بن زياد ، عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) ، عن آبائه ، عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة يقول إذا بلغك انّك قد رضعت من لبنها وانّها لك محرم وما أشبه ذلك ، فانّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ». (4)
    ومن المعلوم أنّ ترك الحديث الذي لم يُرو بطريق صحيح ليس واجباً ، كترك تزويج من اتّهم بالرضاع ، لأنّ الشبهة موضوعية والمراد من الهلكة ، هو التعب
1. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 17 ، 18 ، 2.
2. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 17 ، 18 ، 2.
3. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 17 ، 18 ، 2.
4. الوسائل : الجزء 14 ، الباب 17 من أبواب مقدمات النكاح ، الحديث 2 ، ولاحظ الحديث 15 فقد نقل ملخصاً.


(401)
المترتب على النكاح إذا ثبت وجود الرضاع بين الزوجين.
    ومن النوع الثاني ، أي طُبِّقت القاعدة على مورد يكون الاجتناب واجباً ، إليك بيانه.
    7. روى جميل بن درّاج ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، انّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فردّوه ». (1)
    8. روى عمر بن حنظلة في الخبرين المتساويين من أجل المرجحات عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام : « إذا كان كذلك فارجئه حتى تلقى إمامك ، فانّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ». (2)
    ومورد الأوّل هو الخبر المخالف للكتاب ، ومورد الثاني هو إمكان الفحص عن الدليل والتوقف في كلا الموردين واجب.
    وإذا كانت القاعدة منطبقة تارة على مورد يكون التوقف مستحباً ، وأُخرى على مورد يكون واجباً لا يمكن الاستدلال به على المورد لعدم العلم بأنّه من أيّ القسمين أوّلاً. ويكون الدليل ، حكماً إرشادياً تابعاً لمورده ثانياً ، ففي المورد العلم الإجمالي ، والشبهة قبل الفحص يكون الحكم منجّزاً ويكون الاجتناب واجباً ، وفي غير ذلك المورد يكون الوقوف مستحباً.
    والحاصل : انّ وزان قوله : « الوقوف عند الشبهات خير ... » وزان قوله : « أطيعوا اللّه » فوجوب الإطاعة واستحبابها تابع لكون المورد ممّا تجب فيه الطاعة ، وقد عرفت في المقام انّه يجب في الموردين دون المورد الآخر.
    إلى هنا تمّ الكلام في الطوائف الثلاث بقي الكلام في الطائفتين المهمتين :
1. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 35 و 2.
2. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 35 و 2.


(402)
    الأُولى : أخبار الاحتياط.
    الثانية : أخبار التثليث.
    وإليك الكلام في الأُولى.
    الرابعة : الأخبار الآمرة بالاحتياط في الشبهة
    إنّ هناك ست روايات تأمر بالاحتياط في الشبهات ، وقد أجاب الشيخ والمحقّق الخراساني عنها على وجه الإجمال من دون أن يدرس الأخير كلّ واحدة على حدة ، فلنذكر كلامهما ، ثمّ ندرس الروايات واحدة تلو الأُخرى.
    قال الشيخ في جواب سؤال وجّهه إلى نفسه ما هذا لفظه : إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرّز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول وهو قبيح ، وإن كان حكماً ظاهريّاً نفسياً ، فالهلكة الأُخروية مترتبة على مخالفته لا على مخالفة الواقع ، وصريح الأخبار إرادة العقوبة على الواقع على تقدير الحرمة. (1)
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ وجوب الاحتياط لا مقدّمي ولا نفسي بل طريقي يصحّ أن يحتج المولى بالواقع على العبد عند المخالفة كما هو الحال في مهام الأُمور التي يجب الاحتياط فيها كالدماء والأعراض والأموال ، فما هو الفرق بين هذه الموارد ، والاحتياط في الموارد الأُخرى ؟
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب بوجوه ثلاثة :
    1. انّ ما دلّ على حلّية المشتبه صريح في معناه ودليل الاحتياط ظاهر في الوجوب فيتصرف فيه بالنص.
1. الفرائد : 207 ـ 208.

(403)
    2. انّ ما دلّ على حلّية المشتبه أخص ممّا دلّ على وجوب الاحتياط فيقدّم الأخص على الأعم.
    3. انّه للإرشاد ولا يعلم وجوبه أو استحبابه إلا بتنجز الحكم الواقعي عليه وعدمه قبل تطبيق أخبار الاحتياط عليه ، فالحكم الواقعي مع العلم الإجمالي منجز فيكون الاحتياط في أطرافه واجباً ، بخلاف الشبهة البدوية فبما انّ الحكم غير منجز يكون الاحتياط حكماً استحبابيّاً.
    4. انّ روايات الاحتياط تحكي عن ثبوت العقوبة المنجزة قبل إيجاب الاحتياط ، مع أنّ العقوبة على الحكم الواقعي غير المنكشف يكون عقاباً بلا بيان ، فتحمل على مورد العلم الإجمالي.
    ثمّ ذكر إشكالاً وأجاب عنه بما يتبادر في بدء النظر انّه عود إلى كلام الشيخ الذي نقده ورده أوّلاً. لكنّه غيره يعلم بالتأمل ، والأولى دراسة الروايات واحدة تلو الأُخرى ، فنقول :
    إنّ روايات الاحتياط على أقسام :
    أ : ما هو ظاهر في الاستحباب
    إنّ في روايات الاحتياط ما هو ظاهر في كونه أمراً مستحباً ، نظير :
    1. كلام الإمام علي ( عليه السَّلام ) لكميل بن زياد : « أخوك دينك ، فاحتط لدينك بما شئت ». (1) فانّ لفظ « بما شئت » دليل على الاستحباب إذ الواجب لا يكون معلّقاً بالمشيئة.
    2. مرسلة الشهيد : « ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل
1. الوسائل : 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 41.

(404)
الاحتياط ». (1) واللسان : لسان النصح.
    وهاتان الروايتان ظاهرتان في الاستحباب.
    ب : ما هو ظاهر في النهي عن الإفتاء بالرأي
    إنّ فيها ما هو ظاهر في النهي عن الإفتاء بالرأي ، والمراد منه هو الإفتاء بالمعايير الاختراعية التي ما أنزل اللّه بها من سلطان ، نظير ما وجد بخط الشهيد عن جعفر بن محمد يقول : « سل العلماء ما جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربة ، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً ، وخذ بالاحتياط في جميع أُمورك ما تجد إليه سبيلاً ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ». (2)
    إنّ مدرسة أهل الرأي ، تقابل مدرسة أهل الحديث ، والطائفة الثانية لا يصدرون إلاعن دليل نقلي بخلاف الطائفة الأُولى ، فأُولئك يصدرون عن المقاييس والاستحسانات ، وأين هذا من عمل فقهائنا الذين لا يصدرون إلاعن الأدلّة الأربعة وقد شطبوا على هذه الظنون بقلم عريض ؟! والمراد من نهيه عليه السَّلام من الفتوى ، هو الفتوى بتلك المعايير ، لا الإفتاء عن دليل شرعي. ولذا أمر الإمام أبو جعفر أباناً أن يجلس في مسجد النبي ويفتي الناس وقال : « إنّي أُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك ». (3)
    ج : ما هو ظاهر في الاحتياط قبل الفحص
    قد ورد الأمر بالاحتياط لإمكان الفحص ، والمراد من الاحتياط هو عدم
1. نقله الشيخ في الفرائد عن الشهيد.
2. الوسائل : 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 54.
3. رجال النجاشي : 1/73 برقم 6.


(405)
الإفتاء بشيء حتى يسأل الإمام فيرجع لبها إلى الطائفة الثانية ؛ روى عبد الرحمان ابن الحجاج ، قال : سألت أبا الحسن ( عليه السَّلام ) عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء ؟ قال : « لا ، بل عليهما أن يجزى كلّ واحد منهما الصيد ». قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدر ما عليه ؟ فقال : « إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا ». (1)
    إنّ المشار إليه في قوله : « هذا » هو مطلق الشبهة الحكمية غير المختصة بموردها الذي هو من قبيل الشبهة الحكمية الوجوبية ، فوجوب الاحتياط لأجل إمكان الفحص من الدليل بسؤال المعصوم عنها.
    د : اتخاذ الاحتياط ذريعة لبيان الحكم الشرعي
    روى عبد اللّه بن وضاح أنّه كتب إلى العبد الصالحعليه السَّلام يسأله عن وقت المغرب والإفطار ؟ فكتب إليه : « أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك ». (2)
    الظاهر من كلام السائل ( ما هو وقت المغرب والإفطار ) انّ الشبهة عنده كانت شبهة حكمية بمعنى انّه كان متردّداً في أنّ وقت صلاة المغرب ، هل هو استتار القرص أو زوال الحمرة المشرقية ؟ فالعامة على الأوّل ، والمشهور عند الشيعة هو الثاني ، ولمّا كانت الظروف غير مساعدة لبيان الحكم الشرعي والتصريح بأنّ وقتهما هو زوال الحمرة ، توصل الإمام في بيان الحكم الشرعي بالاحتياط ، وقال : « أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك » ، والعبارة تتحمل معنىً ظاهرياً أي الانتظار لأجل حصول القطع باستتار القرص ، ومعنىً واقعياً
1. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1.
2. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 37.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس