إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 496 ـ 510
(496)
الخروج عن محل الابتلاء لا يترتب عليها آثار ، فلابدّ من الالتزام بأنّ النجاسة والحلّية والأُمور النسبية بلحاظ المكلّفين.
    وربّما يقال بأنّ الإشكال يرد على القول بكون الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية.
    وأمّا على القول بأنّها مستقلة بالجعل فهي تنحلّ حسب عدد موضوعاتها لا حسب عدد المكلّفين ، فإذا قال : الخمر نجس فهو حكم على نجاسة كلّ خمر في سطح الأرض ، ويكفي في عدم لزوم اللغوية ابتلاء بعض المكلّفين بكلّ واحد منها.
    أقول : إنّ الحكم الوضعي مثل التكليف أمر إضافي له إضافة بالنسبة إلى الجاعل وهو الحقّ سبحانه ، وإلى متعلّقه وهو الخمر ، وإلى من جُعل له الحكم ، أعني : المكلّف ، فالقول بالانحلال في الثاني دون الأوّل تفكيك بلا جهة.
    وأمّا القسم الثاني فوجهان :
    1. لوقلنا بالانحلال في القضايا لزم أن يحكم على القائل بأنّ النار باردة ، بأنّه كذب حسب أفراد النار.
    يلاحظ عليه : أنّ الصدق والكذب من آثار القضايا الملفوظة أو المكتوبة ، والمفروض أنّها واحدة لا كثيرة.
    2. لو قلنا بتخصص كلّ واحد بالخطاب ، لزم عدم وجوب الاحتياط عند الشكّ في القدرة الفعلية ، لأنّ الشكّ في القدرة شكّ في وجوب الخطاب ، ومورده البراءة.
    يلاحظ عليـه : بما نبّه هـو قدَّس سرَّه عليه ـ غير مرّة ـ بعدم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التي يسهل للمكلف الاطلاع على واقعها. ولذلك يجب الفحص عن الاستطاعة العقلية والشرعية وبلوغ الغلة حد النصاب ، ومقدار


(497)
الدين المكتوب في المذكرات ، وذلك لانصراف أدلة البراءة عن مثل هذا الجاهل الذي يسهل رفع الجهل عن وجه الحقيقة.
    ثمّ إنّ الشيخ استدلّ على اعتبار الابتلاء بصحيح (1) علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر ( عليه السَّلام ) قال : سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قِطَعاً صغاراً فأصاب إناءه هل يصحّ له الوضوء منه ؟ قال : « إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضأ منه ». (2)
    ظاهر الرواية أنّ الدم أصاب الماء الموجود في الإناء ، والإمام فصّل بين المستبان وغيره فأمر بعدم التوضئ في الأوّل دون الثاني ، وعندئذ تكون الرواية دليلاً على عدم انفعال الماء القليل بالدم الذي لا يُدرك بطرف العين ، وتكون عندئذ مُعرضاً عنها ، لكن عمل بها الشيخ فأفتى بالعفو عمّا لا يدركه الطرف من الدم.
    ولما كان مضمون الرواية مخالفاً لما ذهب إليه المشهور من انفعال الماء القليل مطلقاً بإصابة الدم مُدرَكاً كان أو لا ، حملها الشيخ الأنصاري على أنّ إصابة الإناء لا يستلزم إصابة الماء ، فهو عالم بإصابة الدم على الإناء إمّا نفسه أو باطنه الحاوي للماء ، ثمّ جعله دليلاً على مدّعاه في المقام حيث إنّ عدم تنجيز العلم الإجمالي في المقام لأجل خروج بعض الأطراف ـ أعني : الإناء ـ عن محلّ الابتلاء ، وإن كان الطرف الآخر محلاً له.
    يلاحظ عليه : أنّ هذا التفسير مخالف لظاهر الرواية ، فإنّ إصابة الإناء كناية عن إصابة الماء الموجود فيه ، وعندئذ ينطبق على مختار الشيخ الطوسي.
1. رواه الكليني عن شيخه الثقة محمد بن يحيى ، عن العمركي; وهو العمركي بن علي البوفكي ، شيخ من أصحابنا ثقة كما قال النجاشي ، عن علي بن جعفر الثقة عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السَّلام ، وما ربّما يقال إنّه ضعيف ، لا وجه له.
2. الوسائل : الجزء 1 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 1.


(498)
    أضف إلى ذلك كيف يكون الماء مورداً للابتلاء دون الإناء ؟ ولم يكن الإناء يومذاك يستخدم مرّة واحدة بل مرّات عديدة ، وأغلب الأواني التي كانت تستخدم في حيازة الماء كانت من قبيل الخابية أو الكوز والإبريق المصنوع من الخزف ولم تكن خارجة عن محلّ الابتلاء.
    مسائل ثلاث
    إنّ هنا مسائل ثلاث أشار إليها الشيخ الأعظم بعبارة وجيزة وقال :
    1. نعم يمكن أن يقال عند الشكّ في حسن التكليف التنجزي عرفاً بالاجتناب ، وعدم حسنه إلا معلّقاً ، الأصل البراءة من التكليف المنجّز ، كما هو المقرر في كلّ ما شكّ فيه ، في كون التكليف منجَّزاً أو معلقاً على أمر محقق العدم. (1)
    2. أو علم التعليق على أمر لكن شكّ في تحقّقه. (2)
    3. أو كون المتحقّق من أفراده. (3)
    وإليك الكلام في الجميع :
    الأُولى : إذا شكّ في شرطية الابتلاء وعدمها
    إذا شكّ في اعتبار الابتلاء في صحة الخطاب وعدمه ، فهل المرجع الاشتغال ولزوم الاجتناب عن الطرف الآخر ، أو البراءة وعدم لزومه ؟ ذهب الشيخ والمحقّق النائيني وتلميذه الجليل إلى الأوّل ، والمحقّق الخراساني إلى الثاني.
1. إلى هنا تمّ بيان المسألة الأُولى.
2. إشارة إلى المسألة الثانية ، أعني : الشكّ في وجود الابتلاء مصداقاً بعد معلومية مفهومه.
3. إشارة إلى المسألة الثالثة ، أعني : الشكّ في الابتلاء لأجل احتمال مفهوم الابتلاء.


(499)
    وليس للشيخ دليل صالح سوى التمسّك بالإطلاق الشامل لمورد الابتلاء وعدمه.
    وأجاب عنه المحقّق الخراساني : بعدم صحّة التمسّك به ، إذ هو فيما إذا تحقّق الخطاب ، وشكّ في التقييد بشيء ، لا في ما إذا شكّ في تحقّق ما يُعتبر في صحّة الخطاب.
    وأورد عليه المحقّق الخوئي : بأنّ بناء العقلاء على حجّية الظواهر ما لم تثبت القرينة العقلية أو النقلية على إرادة خلافها ، ومجرّد احتمال الاستحالة لا يعدُّ قرينة على ذلك فانّه من ترك العمل بظاهر خطاب المولى لاحتمال استحالة التكليف ، ومثله لا يعدّ معذوراً عند العقلاء.
    ثمّ مثل مثالاً : إذا أمر المولى بالعمل بخبر العادل واحتملنا استحالة العمل به لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، لا يكون مثل ذلك عذراً في مخالفة ظاهر كلام المولى ، والمقام من هذا القبيل ، فلا مانع من التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار الدخول في محلّ الابتلاء في صحّة التكليف. (1)
    يلاحظ عليه ، بوجود الفرق بين المثال والممثَّل ، فانّ كلامه في المثال وارد في خصوص مورد الشكّ ، فهو نص في بيان حكمه ، وهذا بخلاف المقام ، فانّ كلامه ليس وارداً في مورد الشك ( الخارج عن الابتلاء ) غاية الأمر احتمال وجود إطلاق يعم الموردين لعدم شرطية الابتلاء ، أو عدمه ، لشرطيته فلا يرجع إلى الإطلاق ومع الشكّ في الموضوع كيف يُتمسّك به.
    الثانية : إذا شكّ في الابتلاء مصداقاً
    إذا شكّ في كون أطراف الشبهة مورداً للابتلاء أو لا ، لأجل تردّد طرف
1. مصباح الأُصول : 398.

(500)
العلم الإجمالي بين كونه داخلاً فيه قطعاً ، وخارجاً قطعاً فيشك في كون أطراف العلم الواقعية مورداً له كما إذا تردّد الإناء الآخر ، بين كونه في البلد الذي يعيش فيه أو البلد الواقع في أقصى نقاط الهند ، فهل يصحّ التمسّك بالعام وتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الإناء الموجود أمامه أو لا ؟
    مقتضى القاعدة عدمه ، لما بيّن في محلّه من أنّ المخصص المتّصل ، يتصرّف في موضوع العام ويجعله مركباً من أمرين كقولك : أكرم العالم العادل ، وأمّا المخصص المنفصل سواء كان لفظيّاً أو لُبيّاً فهو لا يتصرف في عنوان العام ظاهراً ، لكنّه يجعله حجّة في غير عنوان الخاص لبّاً كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم الفساق من العلماء ، فالموضوع للعام بما هو حجّة هو العالم غير الفاسق ، فإذا شككنا في عدالة عالم وعدمها ، لا يصحّ التمسّك بالعام لأنّه وإن كان مصداقاً للعام أعني العالم ، لكنّه ليس مصداقاً له بما هو حجّة فيه أعني العالم غير الفاسق.
    ومثله المقام فانّ الموضوع للاجتناب وإن كان هو النجس ظاهراً ، لكنّ الموضوع لبّاً هو النجس المبتلى به عادة والشكّ في الابتلاء مصداقاً شكّ في وجود جزء الموضوع وعدمه فلا يصحّ التمسّك به فيرجع في الإناء الموجود إلى البراءة للشكّ في التكليف.
    الثالثة : إذا شكّ في الابتلاء مفهوماً
    إذا شكّ في صدق عنوان الابتلاء على أحد طرفي العلم الإجمالي لأجل عدم وضوح مفهومه ، كما إذا علم بوقوع قطرة من الدم إمّا في الإناء أو الأرض التي يمكن أن يسجد عليها أو يتيمّمه في المستقبل ، فهل المرجع هو إطلاق الخطاب أو أصل البراءة والمقام من مصاديق دوران أمر المخصص أو المقيّد بين الأقل


(501)
والأكثر مصداقاً فالابتلاء له مصداق قطعي ، كما إذا دار أمر الماء بين الإناءين الّذين يريد استعمال مائهما ومصداق مشكوك لأجل إجمال مفهوم الابتلاء ، كما في المثال المزبور ، نظير عنوان الفاسق إذا خُصِّص به عموم أكرم العلماء فمرتكب الكبيرة فاسق قطعاً ، ومرتكب الصغيرة مشكوك جدّاً ، فهل المرجع في الثاني إطلاق العام أو أصل البراءة ؟
    ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ المرجع إطلاقات الخطابات ، وقال : إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرمات مطلقة غير معلقة ، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق بالابتلاء. وأمّا إذا شكّ في قبح التنجيز ، فيرجع إلى الإطلاقات ، فالأصل في المسألة وجوب الاجتناب إلا ما علم عدم تنجز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم ( التفصيلي ) بكونه الحرام. (1)
    أقول : إنّ الخارج عن تحت العام ليس خصوص ما علم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق بالابتلاء ، بل خصوص ما كان الخطاب فيه قبيحاً في نظر العقلاء في الواقع سواء علمنا قُبْحَه أو لا.
    وعند ذلك فإذا تردد الأمر بين كون الخطاب مستهجناً فيه أو غير مستهجن فيدور أمره بين بقائه تحت العام وخروجه عنه ، ومعه كيف يصحّ التمسك بالخطاب ؟ والعجب أنّ الشيخ قد سلك في المقام خلاف ما سلكه في المواقع الأُخرى.
    فإذا شكّ في سعة مفهوم العام المخصص وضيقه مثل قولك : أكرم العالم غير الفاسق ، حيث دار أمره بين مرتكب خصوص الكبيرة أو الأعمّ منه ومن الصغيرة ، وبالتالي شكّ في خروج زيد ـ المفروض انّه مرتكب للصغيرة ـ عن تحت
1. الفرائد : 252.

(502)
العام إذا كان شاملاً لكلا القسمين ، وعدمه إذا كان مختصّاً بالكبيرة فقط فلا يصحّ أن يتمسّك بالعام ، بحجّة أنّ الخارج هو معلوم الفسق وهو مرتكب الكبيرة ، دون مشكوكه وهو مرتكب الصغيرة.
    والحاصل : أنّ الملاك في عدم التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية وبه في الشبهة المفهومية للمخصص الدائر أمره بين الأقل والأكثر ، واحد ، وهو الشكّ في انطباق العام بما هو حجّة فيه على المورد.
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني أوضح مقالة الشيخ وقال : إنّه لا إشكال في إطلاق ما دلّ على حرمة شرب الخمر وشموله لكلتا صورتي الابتلاء وعدمه ، والقدر الثابت من التقييد هو إذا كان الخمر خارجاً عن مورد الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف ، فإذا شكّ في استهجان النهي فالمرجع هو إطلاق الدليل لما تبين في مبحث العام والخاص من أنّ التخصيص بالمجمل مفهوماً ، المردد بين الأقل والأكثر لا يمنع عن التمسك. (1)
    ثمّ إنّه قدَّس سرَّه أورد على نفسه وقال ما هذا حاصله :
    فإن قلت : المخصص المجمل المتصل يسري إجماله إلى العام ولا ينعقد له ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصص عليه إذا كان المخصص لفظيّاً أو لبيّاً ضروريّاً لا نظريّاً ، والمقام من قبيل الثاني فيجعل العام حجّة فيما عدا عنوان المخصص سواء كان صدقه على مورد قطعياً أو احتمالياً.
    قلت : إنّ إجمال المخصص المتصل سواء كان لفظياً أو عقلياً إنّما يسري إذا كان الخارج عن العموم عنواناً واقعياً غير مختلف المراتب ، وتردّد مفهومه بين الأقل
1. والفرق بين البيانين طفيف ، فالبيان الأوّل يعتمد على أنّ الخارج هو خصوص ما علم أنّه خارج عن محلّ الابتلاء دون ما شكّ فيه ، ولكن الثاني يعتمد على أنّ الخارج خصوص ما علم استهجانه ، لا ما شكّ فيه.

(503)
والأكثر ، كما في تردد الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ، وأمّا إذا كان الخارج عن العموم عنواناً ذا مراتب مختلفة ، وعلم بخروج بعض أفراده وشكّ في خروج بعض آخر ، فإجمال المخصص وتردده بين خروج جميع المراتب أو بعضها لا يسري إلى العام ، لأنّ الشكّ في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى الشكّ في ورود مخصص آخر للعام غير ما علم التخصيص به. (1)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ التفريق بين الفسق والابتلاء وجعل الثاني من أقسام ذات المراتب دون الأوّل غير تام ، لأنّ الأوّل مثل الثاني ، لأنّ الفسق كالكفر ذو مراتب فالمسلم القاتل فاسق والمسلم الكاذب أيضاً فاسق وأين هذا من ذاك ؟!
    وثانياً : أنّما أفاده من أنّ المخصص إذا كان ذا مراتب فعلمنا بخروج مرتبة ، وشككنا في خروج مرتبة أُخرى فإجمال المخصص لا يسري إلى العام ، لأنّ مرجع الشكّ إلى التخصيص الزائد ، غير تام. لأنّه إنّما يتم لو خرجت كلّ مرتبة بوجه على حدة ، وأمّا إذا كان الكلّ خارجاً بعنوان واحد يعمّ جميع المراتب فإنّ كثرة الخارج وعدمها ، لا توجب كون التخصيص أزيد من واحد كما لا يخفى.
    تأييد آخر للعلاّمة الحائري
    إنّ لشيخ مشايخنا العلاّمة الحائري مقالاً في تأييد الشيخ.
    وحاصله : انّه لا يصحّ التمسّك بالخطاب ، لأنّ المفروض الشكّ في أنّ خطاب الشرع في هذا المورد حسن أو لا ؟ فلابدّ من الرجوع إلى القاعدة ، ولكن القاعدة في المقام هي الاحتياط والاشتغال ـ لا البراءة ـ لأنّ البيان المصحح للعقاب عند العقل هو العلم بوجود مبغوض من المولى بين أُمور ، حاصل ؛ وإن شكّ في الخطاب الفعلي من جهة الشكّ في حسن التكليف وعدمه ، وهذا المقدار
1. الفوائد : 2/57 ـ 60 نقل بتلخيص.

(504)
يكفي حجّة عليه ، نظير ما إذا شكّ في قدرته على الإتيان بالمأمور به وعدمها بعد إحراز كون ذلك الفعل موافقاً لغرض المولى ومطلوباً له ذاتاً ، وليس له أن لا يُقْدم على الفعل بمجرّد الشكّ في الخطاب الناشئ من الشكّ في قدرته. والحاصل أنّ العقل بعد إحراز المطلوب الواقعي للمولى أو مبغوضه لا يرى عذراً للعبد في ترك الامتثال. (1)
    وأظن انّ الجواب للسيد المحقّق الفشاركي ـ أُستاذ المحقّق الحائري ـ بشهادة وجود ما يقرب من هذا الجواب في تقريرات المحقّق النائيني ، وقد تتلمذا على السيـد الفشاركي ـ قدس اللّه أسرارهم ـ ، فقد جاء في تقريرات الثاني : انّ القدرة العقلية والعادية ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الأوّلية ، بل هي من شرائط حسن الخطاب ، لقبح التكليف عند عدمها ، ولكن الملاك محفوظ في كلتا الصورتين : وجود القدرة وعدمها ، والعقل يستقل بلزوم رعاية الملاك وعدم لغويته مهما أمكن ، ومع الشكّ في القدرة تلزم رعاية الاحتمال تخلّصاً عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كما هو الشأن في المستقلات العقلية ، فلو صار المشكوك فيه طرفاً للعلم الإجمالي يكون حاله حال سائر موارد العلم الإجمالي بالتكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية ، ولا يجوز إجراء البراءة في الطرف الذي هو داخل في محلّ الابتلاء. (2)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ لازم هذا البيان الاجتناب عن الطرف المشكوك حتى في ما إذا علم خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء قطعاً ، للتحفظ على الملاك بقدر ما أمكن ، وهؤلاء لا يقولون به.
    وثانياً : انّ العلم بالملاك مع الشكّ في حسن الخطاب ، يحتاج إلى دليل ، لأنّ
1. درر الأُصول : 2/121.
2. الفوائد : 4/55.


(505)
الملاك إنّما يستكشف من خطاب المولى ، ومع عدمه ، كما في الخروج القطعي عن محلّ الابتلاء ، ومع الشكّ فيه ، كما في المقام ، لا علم لنا بوجود ملاك قطعي لازم الإحراز ، فلعلّ للقدرة العادية تأثيراً في تمامية الملاك كما هو الحال في القدرة الشرعية كما في الاستطاعة.

    التنبيه الثالث : في الشبهة غير المحصورة
    خصّص المحقّق الخراساني التنبيه الثالث لبيان حال الشبهة غير المحصورة ، وكان الأولى عليه أن يخصصه بملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة ، ثمّ يخوض بعد إنهاء البحث عن المحصورة في بيان حكم غير المحصورة.
    وإنّما جعل ذلك لنكتة ، وهو انّ كون الأطراف محصورة أو غير محصورة لا يؤثر في نظر المحقّق الخراساني بل الملاك عندئذ فعلية التكليف وعدمها ، فعلى الأوّل يتنجّز الحكم الواقعي من غير فرق بين المحصورة وغيرها.
    ثمّ أفاد : إنّ كثرة الأطراف ربّما تكون سبباً لعسر الموافقة القطعية في المحرّمات والواجبات ، أو طروء ضرر ، أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء كما هو الحال في قلّة الأطراف المعبّر عنها بالمحصورة. وعلى كلّ تقدير فليس الميزان كثرة الأطراف أو قلّتها ، بل فعلية التكليف وعدمها ، لأجل طروء العناوين الثلاثة ولو شكّ في عروض واحد منها ، فالمتبع هو إطلاق الدليل.
    هذا ما أفاده ، ولذلك لم يولِ لغير المحصورة من الشبهة عناية وافرة خلافاً للآخرين.
    ولكن تحقيق الكلام يتوقّف على البحث في مقامين :
    1. ما هو المعيار لكون الشبهة غير محصورة ، وما هو حدّها ؟
    2. ما هو حكمه من التنجّز وعدمه ، على فرض صدق الحد ؟


(506)
    المقام الأوّل : ما هو المعيار لكون الشبهة غير محصورة ؟
    قد ذكروا لتمييز المحصورة عن غيرها معايير مختلفة :
    1. ما نقله الشيخ عن المحقّق والشهيد الثانيين والميسي وصاحب المدارك من أنّها عبارة عمّا يعسر عدّه لا ما امتنع عدّه ، لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعد.
    وأُورد عليه بأنّ الألف معدود من الشبهات غير المحصورة مع أنّ عدّه غير متعسّر.
    2. نفس التعريف لكن بإضافة قيد ، وهو تعسّر العد في زمان قصير ، لئلاّ يخرج الألف عن تحت التعريف.
    3. المرجع في تمييز المحصورة عن غيرها هو العرف ، ولعلّ مرجعه إلى الأوّل ، لأنّ المراد من الأوّل ما يعسر عدّه عرفاً وما لا يعسر عدّه كذلك.
    4. ما ذكره الشيخ الأنصاري : إنّ غير المحصورة ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى درجة لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها ، ألا ترى انّ المولى إذا نهى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل مع واحد من أهل قرية كثيرة الأهل يعلم وجود زيد فيها لم يكن ملوماً وإن صادف الواقع ، وقد ذكر انّ المعلوم بالإجمال قد يؤثر مع قلّة الاحتمال ، ما لا يؤثّر مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما إذا نهى المولى عن سبّ زيد وهو تارة مردّد بين اثنين وثلاثة ، وأُخرى بين أهل بلدة ونحوها. (1)
    وما ذكره الشيخ هو خيرة المحقّق العراقي حيث قال : إنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن تكون كثرة الأطراف بحدّ يوجب ضعف الاحتمال في
1. الفرائد : 261.

(507)
كلّ واحد من الأطراف بحيث يكون موهوماً بدرجة لا يعتني العقلاء بذلك الاحتمال ، بل ربّما يحصل الاطمئنان بالعدم. (1)
    ثمّ أورد على نفسه إشكالاً ، حاصله : انّ الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية ، فكيف يجتمع العلم بوجود الحرام والمبغوض في الأطراف ، مع الظنّ بالعدم في كلّ طرف بنحو السلب الكلي ؟
    وأجاب ما هذا توضيحه : انّ الأفراد إذا لوحظت دفعة واحدة ، فليس فيها إلا العلم بالحرام ولا خبر عن الظن فضلاً عن الاطمئنان بعدمه ، فهذه الصورة هي معقد العلم لا معقد الظن بالعدم.
    وأمّا إذا لوحظت الأفراد واحدة بعد واحدة ، ففي كلّ واحد ظن أو اطمئنان بعدمه ، والموجبة الجزئية لا تجتمع مع السالبة الكلية ، أعني : ما إذا لوحظت الأفراد دفعة واحدة ، لكنّها تجتمع مع السالبة الجزئية ، أعني : ما إذا لوحظ كلّ فرد بلحاظ مستقل منقطع عن لحاظ آخر.
    ثمّ إنّ المحقّق الخوئي نقل عن شيخه النائيني أنّه أورد على التعريف المختار عند الشيخ بوجهين :
    الأوّل : أنّه احالة إلى أمر مجهول ، فإنّ للوهم مراتب كثيرة ، فأيّة مرتبة منه تكون ميزاناً لكون الشبهة غير محصورة.
    الثاني : انّ موهومية التكليف لا تمنع عن تنجّز التكليف ، ولذا يتنجّز التكليف المردّد بين طرفين ولو كان احتماله في أحدهما ظنياً وفي الآخر موهوماً. (2)
    يلاحظ على الأوّل : المعيار هو كون التكليف موهوماً في كلّ واحد من
1. نهاية الأفكار : 3/330.
2. مصباح الأُصول : 3/373.


(508)
الأطراف من دون التزام بمرتبة خاصة من الوهم ، فما دام وجود الحرام في كلّ واحد ـ إذا لوحظ وحده ـ موهوماً ، لا يعتني به العقلاء ولا يترتب على العلم بالتكليف في المجموع أثر.
    ويلاحظ على الثاني : أنّ السبب لعدم تنجيز التكليف ليس مجرّد الموهومية بل الموهومية المستندة إلى كثرة الأطراف ، التي تُسبّب قلّة اهتمام العقلاء بالنسبة إلى ذلك الاحتمال ، فيكون الحجّة في الواقع هو بناء العقلاء في هذا القسم على موهومية التكليف ، لا مطلق الموهومية وإن كان مسبباً عن أمر آخر كما في مثاله.
    5. ما ذكره المحقّق النائيني بأنّ إذا بلغ أطراف الشبهة حدّاً لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال في أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك ، ثمّ قال : وليس عدم التمكن من الاستعمال عادة هو الملاك ، إذ ربما لا يتمكن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضاً محصورة كما إذا كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب ، بل لابدّ من اجتماع الأمرين ، كثرة العدد ، وعدم التمكن من جمعه في الاستعمال ، وبهذا تمتاز الشبهة المحصورة عن غير المحصورة. (1)
    وبالإمعان في كلامه يظهر انّ ما أورد عليه تلميذه الجليل غير وارد حيث قال : إنّ عدم التمكّن من ارتكاب الجميع لا يلازم كون الشبهة غير محصورة ، فقد يتحقّق ذلك مع قلّة الأطراف وكون الشبهة محصورة ، كما إذا علمنا إجمالاً بحرمة الجلوس في إحدى غرفتين في وقت معين فانّ المكلّف لا يتمكن من المخالفة القطعية بالجلوس فيهما في ذلك الوقت ، وكذلك لو تردّد الحرام بين الضدين في وقت معين. (2)
    وجه عدم الورود : انّ الإشكال إنّما يرد لو كان الميزان عدم التمكّن العادي
1. فوائد الأُصول : 4/117 ـ 118.
2. مصباح الأُصول : 3/375.


(509)
من المخالفة القطعية وهو قدَّس سرَّه صرّح بأنّه وحده ليس هو الميزان وإلا ربما تكون الشبهة محصورة ولا يتمكن المكلّف عادة من المخالفة ، كما في الخارج عن محلّ الابتلاء ، بل عدم التمكن المستند إلى كثرة الأطراف ومورد النقض ليس كذلك.
    نعم أورد عليه سيدنا الأُستاذ قدَّس سرَّه بأنّه إن أراد من عدم التمكن ، الاستعمال دفعة ، فيلزم أن تكون أكثر الشبهات المحصورة غير محصورة ، وإن أُريد الأعم منه وهو التدريج فيلزم أن يكون أكثر الشبهات غير المحصورة ، محصورة ، إذ قلّما يتفق أن لا يمكن الجمع بين الأطراف ولو في ظرف سنين. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ المراد الأعم من الدفعي والتدريجي ، لكن المقصود من الإمكان هو العادي لا الفعلي ، والأوّل غير موجود في الشبهة غير المحصورة حتى في أزمنة مختلفة إلا ما شذّ وندر.
    إلى هنا تبيّن انّ التعريف الحقّ هو ما عرف به الشيخ الأعظم وتبعه الشيخان : الحائري والعراقي ، ولا بأس بتعريف المحقّق النائيني.
    المقام الثاني : ما هو الدليل على عدم تنجّز العلم بالتكليف في غير المحصورة ؟
    وربما يقال : لم يرد عنوان المحصورة وغيرها في النصوص فما هو الوجه لتحديدهما ؟
    والجواب : انّ العنوانين أُخذا مشيرين إلى القسمين من العلم الإجمالي ، أي ما تكون قلّة الأطراف وكثرتها مؤثرتين في اعتناء العقلاء بالعلم وعدمه ، أو كون التكليف موهوماً في كلّ طرف وعدمه.
1. تهذيب الأُصول : 2/294 ؛ مصباح الأُصول : 2/374.

(510)
    المقام الثالث : ما هو الدليل على سقوط العلم الإجمالي في غير المحصورة ؟
    قد استدل على سقوطه بوجوه مذكورة في الفرائد :
    الأوّل : الإجماعات المنقولة المستفيضة ، وقد حكاه الشيخ عن المحقّق الثاني في جامع المقاصد ، وروض الجنان للشهيد الثاني ، والمحقّق البهبهاني في فوائده ، لكنّه غير مفيد ، لاحتمال أن يكون اتّفاقهم ، مستنداً إلى الروايات التي وردت في مختلف الأبواب ، فيكون الاتّفاق مدركياً غير كاشف عن دليل وصل إليهم ولم يصل إلينا.
    الثاني : ما استدل به جماعة من لزوم المشقة في الاجتناب ، وحمله الشيخ على لزومه في أغلب أفراد هذا النوع من الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ، فيشمله أدلّة نفي العسر والحرج ، حتى بالنسبة إلى غير الأغلب.
    يلاحظ عليه : أنّ العسر والحرج موجب لسقوط العلم الإجمالي في المحصورة أيضاً ، فلا وجه لعنوان غير المحصورة بخصوصها ، مضافاً إلى أنّ الميزان في باب العسر والحرج هو الضيق الشخصي لا النوعي ، فلو كان ضيقاً على الأكثر وسهلاً للأقل فلا وجه لعطف الأقل على الأكثر.
    وجهه انّ حديث العسر حديث امتنان ، ولا امتنان لتفويت المصلحة على من له إمكان القيام بالتكليف بسهولة.
    الثالث : انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلا ببعض معين من محتملات الشبهة غير المحصورة ويكون الباقي خارجاً عن محلّ الابتلاء.
    يلاحظ عليه : أنّ الخروج من الابتلاء يوجب سقوط العلم الإجمالي مطلقاً في المحصورة وغيرها ، فما هو الوجه لعنوان المحصورة برأسها فلابدّ أن يستدل بدليل يختص به ؟
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس