إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 511 ـ 525
(511)
    الرابع : ما أفاده المحقّق النائيني استنتاجاً من الضابطة التي قرّرها لتميز غير المحصورة عنها ، وحاصله : انّه إذا كانت المخالفة القطعية غير محرمة ، لعدم التمكن العادي من استعمالها ، فإذا لم تحرم المخالفة ـ كما هو المفروض ـ لم يقع التعارض بين الأُصول ، ومع عدم التعارض لا تجب الموافقة القطعية وتجوز المخالفة الاحتمالية. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ عدم حرمة المخالفة القطعية لو كان مستنداً مباشرة إلى ترخيص الشارع ، فهو يلازم عدم وجوب الموافقة القطعية ، أو جواز المخالفة الاحتمالية ، وأمّا إذا كان مستنداً إلى عجز المكلّف فلا يلازم عدم حرمتها ، عدمَ وجوبها ، وجواز مخالفتها احتمالاً.
    ألا ترى أنّه لو كان له عدّة زوجات منقطعات يعلم حرمة مسّ واحدة منهن لأجل الحيض ، فمع أنّه غير قادر على مسّهن في ليلة واحدة ومع ذلك لا تجوز المخالفة الاحتمالية بمسّ واحدة منهنّ.
    وأمّا جريان الأُصول الشرعية في الأطراف لأجل عدم حرمة المخالفة فلا يكون مجوزاً ، لجواز المخالفة الاحتمالية ، لما عرفت من أنّه إذا كان السبب الحقيقي لجريان الأُصول هو العجز عن المخالفة ، لا ينتج جواز المخالفة الاحتمالية.
    إذا عرفت أنّ هذه الوجوه غير كافية ، فاعلم أنّ الصالح للاستدلال هو الوجهان الآتيان.
    الخامس : بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم النابع من كثرة الأطراف كما أوضحناه ، وقد أمضاه الشارع أو لم يردع عنه.
    السادس : الروايات الواردة في أبواب أربعة :
    1. ما ورد حول الجبن.
1. الفوائد : 4/119.

(512)
    2. ما ورد حول شراء الطعام والأنعام من العامل الظالم.
    3. روايات قبول جائزة الظالم.
    4. روايات المال الحلال المختلط بالربا.
    وإليك دراسة هذه الروايات :
    روايات الجبن
    قد ورد عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) في الجبن روايات بظاهرها ثلاث ، ولكنّها في الواقع اثنتان :
    1. ما رواه عبد اللّه بن سليمان ، قال : سألت أبا جعفر ( عليه السَّلام ) عن الجبن ؟ فقال لي : « سألتني عن طعام يُعجبني » ثمّ أعطى الغلام درهماً ، فقال : « يا غلام ابتع لنا جبناً » ، ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه فأتى بالجبن فأكل وأكلنا ، فلمّا فرغنا من الغداء قلت : ما تقول في الجبن ؟ قال : « أو لم ترني آكله » قلت : بلى ، ولكن أُحبّ أن أسمعه منك فقال : « سأُخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ». (1)
    والسند نقيّ غير عبد اللّه بن سليمان فإنّه لم يوثَّق ، ولكن روايات الجبن متضافرة كما ستظهر ، مضافاً إلى نقل المشايخ عنه كأبان ، وصفوان ، وابن أبي عمير ، وهذا يلحقه بالحسان.
    ثمّ إنّ قوله : « فيه حلال وحرام » ليس بمعنى احتمال الحلال والحرام ، حتى ينطبق على الشبهة البدئية بل فعلية القسمين ، فينطبق على المحصورة وغير المحصورة ، والمورد قرينة على الثانية ، مضافاً إلى أنّ الترخيص في المحصورة يحتاج إلى التنصيص القاطع للاحتمال لأنّ الترخيص فيه بنظر العرف ، ترخيص في
1. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 1.

(513)
المعصية ، فلا يصار إليه إلا بالدليل الحاسم.
    2. صحيحة معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا ، قال : كنت عند أبي جعفر فسأله رجل عن الجبن ، فقال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : « إنّه لطعام يُعجبني وسأُخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه ». (1) ومن المحتمل انّ الرجل السائل هو عبد اللّه بن سليمان ، ويشهد بذلك تقارب ألفاظهما ، وقد عرفت مفاد الضابطة.
    3.ما رواه محمد بن سنان ، عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر ( عليه السَّلام ) عن الجبن ، فقلت له : أخبرني من رأى انّه يجعلُ فيه الميتة ، فقال : « أمن أجل مكان واحد ، يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين ، إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكُلْ ، واللّه إنّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، واللّه ما أظن كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان ». (2)
    والسند مخدوش بأبي الجارود ، كالراوي عنه ، أعني : محمد بن سنان ، لكن عرفت أنّ روايات الجبن متضافرة. نعم أورد الشيخ الأعظم على دلالته بوجهين :
    الأوّل : أنّه ظاهر في الشبهة البدئيّة ببيان انّ المراد : انّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن ، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان.
    يلاحظ عليه : أنّ مجموع الروايات الواردة في الجبن حاكية عن ابتلاء الناس بظاهرة جعل الميتة في الجبن وعقد اللبن بها ، أعني : الانفحة المأخوذة عن المعز الميّت ، وانّها كانت متفشية فيها ، فكان مردّداً بين كونه من الميتة وعدمه ، ففي ذلك المورد حكم الإمام بالجواز ، ومثله لا ينطبق إلا على الشبهة غير المحصورة.
    الثاني : انّ الحلية لأخذه من سوق المسلم بناء على أنّ السوق أمارة شرعية
1. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 7 ، 5.
2. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 7 ، 5.


(514)
لحلّ الجبن المأخوذ منه ولو من يد مجهول الإسلام. (1)
    يلاحظ عليه : ان لو كانت الحلية مستندة إلى سوق المسلم وأمارة لها ، فما معنى : « واللّه ما أظن كلّهم يُسمّون هذه البربر وهذه السودان » ؟ فانّها على طرف النقيض من كون مثل هذا السوق أمارة للحلّية ، فانّه بصدد تضعيف كونه أمارة ، فلا وجه للحلية إلا كون الشبهة غير محصورة.
    إلى هنا تمّ ما روي عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) وقد عرفت أنّه لا يتجاوز عن كونه حديثين ، وأمّا ما روي عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) حول الجبن فهي خمسة ويحتمل وحدة الخامس مع الرابع ، وإليك نقلها :
    4. روى عبد اللّه بن سليمان ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) في الجبن ، قال : « كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان فيه ميتة ». (2)
    5. روى عبد اللّه بن سنان : قال سأل رجل أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) عن الجبن ، فقال : « إنّ أكله ليعجبني » ثمّ دعا به فأكله. (3) ويحتمل اتحاده مع سابقه ، وقد نقلا بالمعنى والاختصار بأن يكون المراد من قوله : « رجل » هو عبد اللّه بن سليمان ، كما يحتمل تغايرهما.
    6. ما رواه بكر بن حبيب ، قال : سئل أبو عبد اللّه عن الجبن وانّه توضع فيه الأنفحة من الميتة ، قال : « لا يصلح » ثمّ أرسل بدرهم ، فقال : « اشتر من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء ». (4)
    والمسبب للحلّية هو كون المورد من قبيل الشبهة غير المحصورة ، وأمره بالشراء من مسلم ، لأجل رفع غبار الشكّ عن قلب السائل ليتّخذه دليلاً على كونه مذكّى وإن كان الدليل واقعاً غيره ، ولذلك قال : « ولا تسأله عن شيء ».
1. الفرائد : 259.
2. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 2 ، 3 ، 4.
3. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 2 ، 3 ، 4.
4. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 2 ، 3 ، 4.


(515)
    7. صحيح حماد بن عيسى ، قال : سمعت أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) يقول : « كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق فيشترى بها جبناً ويسمّي ويأكل ولا يسأل عنه ». (1)
    8. خبر عمر بن أبي شبيل ، قال : سألت أبا عبد اللّه عن الجبن ؟ قال : « كان أبي ذكر له منه شيء فكرهه ثمّ أكله ، فإذا اشتريته فاقطع واذكر اسم اللّه عليه وكل ». (2)
    فمجمل القول في هذه الروايات أنّ فيها احتمالات :
    1. راجعة إلى الشبهة غير المحصورة.
    2. راجعة إلى الشبهة المحصورة وغيرها خرجت الأُولى بالدليل وبقيت الثانية.
    3. راجعة إلى الشبهة البدئية كما احتملها الشيخ في خبر أبي الجارود.
    4. انّ الحلّية مستندة إلى سوق المسلم ويده.
    والترجيح مع الأوّل خصوصاً مع ملاحظة المجموع من حيث المجموع مع ملاحظة تفشّي ظاهرة جعل الميتة في الجبن.
    نعم هنا إشكال آخر.
    إنّ كلّ شيء من الميتة حرام إلا الانفحة خلافاً لأهل السنّة ، ومع كونها حلالاً ، فما هذا الاضطراب في أكل الجبن ؟ وتصور انّ الطهارة مختصة بالرضيع لا ما إذا كان معلوفاً فانّها نجسة ، مدفوع بانّ عقد اللبن بها يختص بما إذا كان رضيعاً وإلا فلا يعقد به.
    ولعلّ الظروف لم تكن مساعدة لبيان الحكم الواقعي للسائلين ، فحاولوا أن يبيّنوا وجه الحلية من طريق آخر.
1. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 8 ، 6.
2. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث 8 ، 6.


(516)
    2. جواز شراء الطعام والأنعام من العامل الظالم
    هناك لفيف من الروايات يدل على جواز شراء الطعام والأنعام من العامل الظالم ، والمبيع إمّا زكاة وصدقة أخذه من الفلاّحين ، وإمّا خراج الأراضي المفتوحة عنوة ، المسمّى باسم المقاسمة ومن المعلوم انّ أموالهم كانت غير نقية من الحرام ، ومع ذلك سوّغ الإمام المعاملة معه. وإليك بعض الروايات :
    1. صحيح عبد الرحمان بن الحجّاج قال : قال لي أبو الحسن موسى ( عليه السَّلام ) : « مالك لا تدخل مع عليّ في شراء الطعام إنّي أظنّك ضيقاً » قال : قلت : نعم ، فإن شئت وسعت عليّ ، قال : « اشتره ». (1)
    ولعلّ المراد من « عليّ » هو علي بن يقطين كما ذكره المجلسي في ملاذ الأخيار.
    وقوله : « فإن شئت وسعت » ليس دليلاً على أنّ الحلّية من باب الولاية ، لأنّه واقع في كلام الراوي.
    2. مرسل محمد بن أبي حمزة ، عن رجل ، قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم ويقول ظلمني ، فقال : « اشتره ». (2)
    3. صحيح أبي عبيدة ( الحذّاء ) عن أبي جعفر قال : سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم ، قال : فقال : « ما الإبل إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه ». (3)
    واحتمال انّ التسويغ من باب الولاية يردّه صحيح الحذَّاء حيث ضرب القاعدة وهو جواز الشراء ما لم يعلم بعينه.
    4. صحيح معاوية بن وهب ( البجلي الثقة ) قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) :
1. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 ، 3 ، 5.
2. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 ، 3 ، 5.
3. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 ، 3 ، 5.


(517)
أشتري من العامل الشيء وأنا أعلم أنّه يظلم ؟ فقال : « اشتر منه ». (1)
    5. ما رواه إسحاق بن عمّار مضمراً. (2)
    6. ما رواه عبد الرحمان بن أبي عبد اللّه البصري مضمراً. (3)
    ولفظ العامل قرينة على أنّ المبيع كان زكاة وصدقة ، أو خراجاً ومقاسمة ، فقد جوز الشراء إلا إذا علم الحرام مشخصاً ، ومن المعلوم كون الحرام بالنسبة إلى الحلال كان قليلاً ، أشبه بالشبهة غير المحصورة.
    3. ما يدل على أخذ جوائز العامل للظالم
    وهناك روايات تدل على جواز أخذ جوائز العامل للظالم وأكل طعامه ، نذكر منها ما يلي :
    1. صحيحة أبي ولاّد ، قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم وأنا أمرّ به فأنزل عليه فيُضيّفني ويُحسن إليّ وربّما أمر لي بالدرهم والكسوة وقد ضاق صدري من ذلك ، فقال لي : « كل وخذ منه فلك المهنّا وعليه الوزر ». (4)
    2. صحيحة أبي المغراء قال : سأل رجل أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) وأنا عنده فقال : أصلحك اللّه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدرهم آخذها ؟ قال : « نعم » ، قلت : وأحجُّ بها ؟ قال : « نعم ». (5)
    4. التصرف في مال مختلط بالربا
    وردت روايات في باب الربا من أنّ من ورث مالاً فيه ربا ، لا يحرم عليه إلا
1. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 ؛ والباب 53 من نفس الأبواب الحديث 2 و 3.
2. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 ؛ والباب 53 من نفس الأبواب الحديث 2 و 3.
3. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 ؛ والباب 53 من نفس الأبواب الحديث 2 و 3.
4. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 و 2 ، ولاحظ الحديث 3 و 5.
5. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 و 2 ، ولاحظ الحديث 3 و 5.


(518)
إذا عرفه بعينه نقتصر بروايتين صحيحتين :
    الأُولى : صحيحة أبي المغراء قال : قال أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : « ... لو أنّ رجلاً ورث من أبيه مالاً وقد عرف أنّ في ذلك المال رباً ، ولكن قد اختلط في التجارة بغيره حلال كان حلالاً طيّباً فليأكله ، وإن عرف منه شيئاً أنّه رباً فليأخذ رأس ماله وليردّ الرّبا ». (1)
    الثانية : صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : أتى رجل أبي ( عليه السَّلام ) فقال : إنّي ورثت مالاً وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي ، وقد عرف أنّ فيه رباً واستيقن ذلك وليس يطيب لي حلاله ، لحال علمي فيه ، وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحل أكله ، فقال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : « إن كنت تعلم بأنّ فيه مالاً معروفاً ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطاً فكله هنيئاً ، فإنّ المال مالك واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، فإنّ رسول اللّه : قد وضعَ ما مضى من الربا وحَرّمَ عليهم ما بقي ، فمن جهل وسع له جهله حتى يعرفه ، فإذا عرف تحريمه ، حرم عليه ». (2)
    والروايتان ظاهرتان في الشبهة المحصورة ، فإذا جاز التصرف فيها ففي غيرها أولى. نعم ليس لها شمول لغير مورد الربا ، ولعلّ التسويغ لأجل التسهيل ، وقدكان السيد الأُستاذ يحمل ما دلّ على الحلّية ما لم يعلم بعينه على خصوص الشبهة المحصورة من باب الربا وقد نوّهنا بذلك عند تفسير روايات باب البراءة.
    ولعلّ هذه الروايات ، مع بناء العقلاء والسيرة الجارية بين المتشرعة كافية في رفع اليد عن إطلاق الدليل لو قلنا بأنّ له إطلاقاً لصورة انتشار الحرام بين الكثير.
1. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 5 من أبواب الربا ، الحديث 2.
2. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 5 من أبواب الربا ، الحديث 3.


(519)
    بقي هنا أُمور :
    الأوّل : جواز ارتكاب الكلّ وعدمه

    هل يجوز ارتكاب عامة المشتبهات في غير المحصورة ، أو يجب إبقاء مقدار الحرام ، أو يفصّل بين ما قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكلّ مقدمة له ، أو قصد الجميع من أوّل الأمر ، وبين ما إذا انجر الأمر إليه ، فلا مجوز في الصورتين الأُولتين دون الثالثة ، مستدلاً على ذلك بأنّهما تستلزمان طرح الدليل الواقعي الدال على وجوب الاجتناب عن المحرم الواقعي ، والتكليف لايسقط من المكلَّف مع العلم غاية ما ثبت في المقام ، الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات فيكون البعض المتروك بدلاً عن الحرام وإلا فإخراج الخمر الموجود يقيناً بين المشتبهات عن عموم قوله : « اجتنب عن الخمر » اعتراف بعدم حرمته واقعاً وهو معلوم البطلان. (1)
    الظاهر انّه لا يختلف الحكم باختلاف المباني.
    فلو كان المستند ما اختاره الشيخ من كون التكليف موهوماً بكثرة الأطراف ، فيكون مفاده الجواز مطلقاً لأنّ كلّ واحد من الأطراف موهوم التكليف فيجوز اجتنابه ، وإن كان ينجر الأمر عند الانتهاء إلى مخالفة التكليف غير انّ الترخيص في كلّ واحد يكون دليلاً على رفع الشارع اليد عن التكليف الواقعي وصيرورته إنشائيّاً في تلك المرحلة.
    و ما ربما يقال : من « انّ الجائز من أوّل الأمر ، هو ارتكاب مقدار من الأطراف يكون الاحتمال فيه موهوماً وأمّا الأزيد فلا » ، غير تام إذ ليس الموضوع
1. الفرائد : 260.

(520)
للجواز ، الكميّة الخاصة التي يكون التكليف فيه موهوماً ليتوقف الجواز إذا انتهى إلى مقدار لا يكون كذلك ، بل الموضوع للجواز هو كلّواحد واحد ، لأجل كون التكليف فيه موهوماً ، وهذا صادق عند ارتكاب كلّ واحد إلى نهايته.
    كما أنّه لو كان الدليل هو الروايات المتقدمة ، فالظاهر جواز الارتكاب حتى يعلم الحرام بعينه.
    إنّما الكلام على مبنى المحقّق النائيني ، فالظاهر جواز ارتكاب الجميع أيضاً ، لأنّه جعل عدم المتمكن العادي موضوعاً لعدم حرمة المخالفة القطعية ، وسقوط العلم عن التأثير فعند ذلك يجوز ارتكاب الجميع ، لأنّ التمكّن الشخصي لا ينافي عدم التمكّن العادي ، والمسقط للعلم عن الحجية هو الثاني سواء كان هناك تمكّن شخصي أو لا. لأنّه إنّما قال بعدم حرمة المخالفة القطعية لأجل عدم التمكن العادي من المخالفة وفرع عليه جواز المخالفة الاحتمالية.
    الثاني : حكم الكثير في الكثير
    إذا كان المردّد في الشبهة غير المحصورة أفراداً كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الأُمور المحسوسة ، كما إذا علم بوجود مائة شاة محرمة في ضمن ألف شاة فانّ نسبة المائة إلى الألف ، نسبة الواحد إلى العشرة ، وهذا ما يسمّى بشبهة الكثير في الكثير ، فهل العلم منجّز في هذه الصورة أو لا ؟
    الظاهر انّه يختلف الحكم حسب اختلاف المباني.
    فعلى مبنى الشيخ من موهومية التكليف فالعلم منجّز ، لأنّ التكليف في كلّ واحد من الشياه ليس بموهوم وذلك ينجّز العلم الإجمالي ولا ينافي ما قلنا بأنّ الميزان عامة مراتب الوهم فإنّ المراد من الوهم ما لا يعتد به العقلاء ومع فرض مراتب له لكن الجميع محكوم عندهم بعدم الاعتداد ، وهذا بخلاف المقام


(521)
فالعقلاء يعتدون بواحد في مقابل العشرة.
    وأمّا على مبنى المحقّق النائيني وهو عدم حرمة المخالفة القطعية لأجل عدم التمكن من المخالفة القطعية ، فالظاهر عدم تنجيز العلم الإجمالي لكون المقام ممّا لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية عادة ، فهو جعل عدم التمكن العادي دليلاً على جواز المخالفة القطعية ، فلو كانت المخالفة القطعية غير ممكنة عادة كما هو المفروض ، فيجوز الارتكاب.
    الثالث : في كون الساقط هو العلم أو هو مع الشكّ
    لا شكّ أنّ العلم الإجمالي بوجود الحرام في الأطراف ينتج الشكّ في كل واحد منها ، فالشكّ نابع من العلم ومن نتائجه.
    وعلى ذلك فلو قلنا بسقوط العلم ، فهل الساقط هو نفس العلم فقط على وجه لو كان للشكّ أثر شرعي من الاشتغال يجب ترتيب أثره عليه لكون المفروض انحصار السقوط بالعلم دون الشكّ ، أو الساقط هو العلم والشكّ معاً ؟
    وتظهر الثمرة في ما إذا علم بماء مضاف بين الأواني الكثيرة غير المحصورة ، فالعلم بوجود الماء المضاف يوجب وجود الشكّ في كلّ واحد من الأواني ، فلو قلنا بسقوط العلم والشكّ معاً يجوز التوضّؤ بواحد منها والاقتصار عليه ، لكون الشكّ ساقطاً عن الاعتبار فيصبح كلّ واحد من الأواني محكوماً بالإطلاق.
    وأمّا لو قلنا بأنّ الساقط هو العلم دون الشكّ فيكون الشكّ هنا موضوعاً للاشتغال مثل ما إذا شكّ في إطلاق ماء على نحو الشبهة البدوية ، فلو شكّ في ماء أنّه مطلق أو مضاف لا يجوز له الاقتصار بالتوضّي بهذا الماء ، ويكون المقام مثله إذا قلنا بسقوط العلم دون الشكّ.
    والتحقيق انّه على مبنى الشيخ يسقط العلم والشكّ معاً ، لأنّ إلغاء العلم


(522)
وجعله كالمعدوم إلغاء لأثره الناتج منه ، أعني : الشك ، فليس هنا شك تعبّداً حتى يكون موضوعاً للاشتغال.
    وبعبارة أُخرى : انّ الحكم بموهومية التكليف عند العقلاء يلازم وجود أمارة على كون الماء مطلقاً لا مضافاً ومعه لا موضوع للاشتغال.
    وأمّا على مبنى المحقّق النائيني ، فقد ذهب المحقّق الخوئي إلى أنّ الساقط هو العلم دون الشكّ ، وقال : إنّ الملاك في عدم التنجيز عدم حرمة المخالفة القطعية ، لعدم القدرة عليها ، وانّ وجوب الموافقة القطعية متفرّع عليها ، فالعلم بالتكليف المردّد بين أطراف غير محصورة يكون كعدمه.
    وأمّا الشكّ في كلّ واحد من الأطراف فهو باق على حاله ، وهو بنفسه مورد لقاعدة الاشتغال ، إذ يعتبر في صحّة الوضوء إحراز كون ما يتوضّأ به ماء مطلقاً ، فنفس احتمال كونه مضافاً كاف في الحكم بعدم صحّة الوضوء به ، ولو لم يكن علم إجمالي بوجود مائع مضاف ، فلابدّ حينئذ من تكرار الوضوء بمقدار يعلم منه وقوع الوضوء بماء مطلق. (1)
    ولكن المحقّق الكاظمي نقل في تقريره لدروس أُستاذه أنّه كان يميل إلى سقوط حكم الشكّ ، وهو الظاهر طبقاً لمبناه ، وذلك لأنّه قال : لا تحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن العادي عليها ، وبما انّ المانع من جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي لزوم المخالفة القطعية ، فإذا لم تحرم تجري الأُصول بلا معارض ، فاستصحاب الإطلاق في الماء الذي يريد التوضّؤ به محرز للموضوع ولا يعارضه أصل آخر ، ومعه يكون الشكّ فاقد الأثر لوجود الأصل المحرز.
    وأمّا ما ذكره المحقّق الخوئي من وجود الشكّ في قرار ذهنه ، فيرد عليه أنّ الموضوع ليس مطلق الشكّ بل الشكّ الذي لم يحكم عليه بحكم ، وهذا نظير :
1. مصباح الأُصول : 2/378.

(523)
« لا شكّ لكثير الشكّ » ، أو « لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام » ، فمثل هذا الشكّ المحكوم بحكم ، خارج عن أدلّة الشكوك ، أعني قوله : إذا شككت فابن على الأكثر ، ومثله المقام فإنّ الشارع بما أنّه لم يُحرِّم المخالفة القطعية وحكم بجريان الأُصول في كلّ آنية ، صارت النتيجة كون الماء مطلقاً ، ومعه لا شكّ تعبداً حتى يحكم بالاشتغال.
    الرابع : لزوم كون العلم الإجمالي محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ؟
    يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون مبدأ لحكم فعلي يطلبه الشارع على كلّ حال ، فهذا الحكم الفعلي النابع من العلم الإجمالي فرع أن يكون العلم محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، وإلا فلو أحدث التكليف إذا كان المعلوم في هذا الطرف ولم يكن محدثاً له إذا كان المعلوم في الطرف الآخر لا يكون هناك علم فعلي بالحكم أوّلاً ، ولا تتعارض الأُصول في الطرفين ثانياً ، إذ لا يجري فيمالم يحدث تكليفاً ويبقى جارياً فيما نحتمل إحداث التكليف فيه.
    وعلى ذلك فلو علم بنجاسة أحد الثوبين وفي الوقت نفسه علم بغصبية الثوب المعيّن منهما ، فليس لمثل هذا العلم تأثير على كلّ تقدير ، لأنّ النجاسة لو كانت في غير الثوب المغصوب يحدث تكليفاً ويمنع عن استعماله في الصلاة. وأمّا لو كان في الثوب المغصوب فالعلم بنجاسته لا يحدث تكليفاً لأنّه ممنوع الاستعمال سواء كان طاهراً أم نجساً (1) ، ولذلك لا تجري أصالة الطهارة في الثوب المغصوب إذ لا أثر للطهارة فيه لما عرفت من أنّه ممنوع الاستعمال في كلتا الصورتين وعندئذ تجري أصالة الطهارة في جانب الثوب الآخر بلا معارض.
1. فعدم إحداث التكليف فيه صار سبباً لأمرين : 1. فقدان العلم بالحكم الفعلي المنجّز. 2. عدم تعارض الأُصول في ناحية ما يحتمل حدوث التكليف فيه.

(524)
    وإن شئت قلت : ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بلزوم الاجتناب عن الثوب المغصوب قطعاً ، إمّا لكونه مغصوباً فقط ، أو لكونه مغصوباً ونجساً ؛ وإلى شكّ بدوي في ناحية الثوب الآخر.
    الخامس : كفاية اندراج الطرفين تحت عنوانين
    لا يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي اندراج الطرفين تحت عنوان واحد كالنجاسة ، بل يكفي اندراجهما تحت أحد عنوانين محدثين للتكليف ، كما إذا علم بنجاسة هذا الثوب أو غصبية الآخر لما عرفت من أنّ الميزان كون العلم الإجمالي محدِثاً للتكليف الفعلي على كلّ حال.
    وعلى ضوء ذلك ، فلو كان ذلك الثوب نجساً فهو يحدث التكليف ، كما أنّه لو كان الآخر غصباً فكذلك ، فالعلم بتحقّق أحد العنوانين في أحد الطرفين يُنتج حكماً فعلياً قطعياً باسم الاجتناب عن المغصوب للشارع ولا يحصل إلا باجتنابهما ويتعارض الأصلان.
    وعلى ضوء ذلك ، فإذا علمنا بخروج بلل مردّد بين البول والمني يكفي في التنجيز في بعض الظروف فلو كان متطهراً من الحدث الأصغر والأكبر فعلم بوجود ناقض للطهارة على كلّ تقدير ، فمثلاً لو كان البلل بولاً في الواقع فقد نقض طهارته على وجه يوجب التوضّؤ ، ولو كان منيّاً تنقض طهارته أيضاً على وجه يورث الغسل.
    وبالتالي وقف على حكم فعلي مردّد بين التوضّؤ والغسل ، فيجب الامتثال على وجه تحصل الموافقة القطعية.
    نعم لو كان محدثاً بالحدث الأصغر فخرج مثل ذلك البلل ، فهو يحدث التكليف على فرض ، أعني : إذا كان منيّاً دون ما إذا كان بولاً ، لأنّ المفروض أنّه


(525)
محدث بالحدث الأصغر ، وعلى ذلك لا ينتج العلم الإجمالي حكماً فعلياً قطعياً يجب امتثاله بل ذلك العلم مؤثر على وجه وغير مؤثر على وجه آخر ، ففي مثله ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وهو وجوب الوضوء على كلّ حال وشكّ بدوي وهو وجوب الغسل.
    وإن شئت قلت : ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب رفع الحدث الأصغر ، وإلى شكّ في وجود الحدث الأكبر. ومع الشكّ تجري البراءة في الناحية الثانية.
    لا يقال انّ الأثر مترتب أيضاً على فرض كون الخارج بولاً ، للزوم غسل المخرج ، لأنّا نقول إنّ العلم بوجوب الغَسْل نتيجة علم تفصيلي بنجاسة المخرج لخروج النجس منه سواء أكان منياً أم بولاً ، لا على خصوص كون الخارج بولاً.

    التنبيه الرابع : في حكم ملاقي الشبهة المحصورة
    وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :
    الأوّل : انّ محل البحث في لزوم الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة وعدمه ، إنّما هو فيما إذا لاقى الشيء أحد الطرفين مثلاً ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الطرفين من السجادة ، ثمّ لاقى شيء رطب أحد الطرفين ; وأمّا إذا لاقى كليهما مع الرطوبة فهو يعد ملاق للنجاسة ، وليس ملاقياً للمشتبه.
    ومثله ما إذا لاقى شيء رطب أحد الطرفين وشيء آخر ، الطرف الآخر ، فيحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد الملاقيين زائداً على العلم الإجمالي المتعلّق بنفس الشيئين.
    الثاني : انّ الكلام في ما إذا لاقى أحد الطرفين ، وأمّا إذا انقسم أحد الطرفين بالملاقاة قسمين فهو خارج عن محط البحث ، كما إذا غمس إحدى يديه في الإناء وأخرجها منه وكانت القطرات عالقة عليها ، فمادام الحال كذلك ، فهي تعد من
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس