إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 541 ـ 555
(541)
    بقيت هنا أُمور :
    الأوّل : ما هي الضابطة لتميز موارد الاجتناب عن غيرها

    إنّ الضابطة لتمييز موارد الاجتناب عن غيرها عبارة عن وقوع الملاقي طرفاً للعلم حين حدوثه سواء كانت الطرفية محرزة حين حدوث العلم أو صارت مكشوفةً بالعلم الثاني ، ولأجل إيضاح القاعدة نأتي بأمثلة :
    1. لو كان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطرفين متقدماً على الملاقاة والعلم بها ، فلا شكّ انّه يجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى لما عرفت من البيانين :
    أ : انّ العلم الإجمالي الأوّل منجز دون العلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة الملاقي والطرف الآخر.
    ب : تقدّم الأصل السببي على المسببي فيتعارض الأصل في السببي ( الملاقى ) مع طرف الآخر
    ويجري في المسببي ( الملاقي ) بلا تعارض.
    2. لو كان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطرفين متقارناً مع العلم بالملاقاة ، فلا شكّ أنّ الملاقي طرف للعلم ضرورة حدوث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى والملاقي والطرفِ الآخر.
    وعلى ذلك فكلّما كانت الملاقاة وجوداً وعلماً بها متأخرة لا يجب الاجتناب عن الملاقي لانعقاد العلم الإجمالي مؤثراً قبل الملاقاة ، فلا يكون الملاقي طرفاً للعلم ، بخلاف ما إذا حصل العلم الإجمالي والملاقاة والعلم بها دفعة واحدة فيقع الملاقي باعتبار وحدة الزمان طرفاً للعلم لا خارجاً عنه.
    3. لو كان العلم الإجمالي متأخّراً عن الملاقاة علماً لا معلوماً ( وجوداً ) كما إذا


(542)
وقعت قطرة من الدم بين الإناءين يوم الخميس ولم يقف عليه ، ثمّ علم بملاقاة الثوب لأحد الإناءين يوم الجمعة ، ثمّ علم يوم السبت بوقوع قطرة بين الإناءين يوم الخميس على وجه يكون المعلوم ( وقوع القطرة ) متقدماً ، والعلم بها متأخراً ، فهل يجب الاجتناب عن الملاقي أو لا ؟ الظاهر نعم ، إذ لا أثر لتقدم المعلوم ( وقوع القطرة في أحد الإناءين يوم الخميس ) ولذلك لم يتنجّز الحكم بالاجتناب عن الإناءين لعدم العلم والتنجز من آثار العلم لا من آثار المعلوم ، والمفروض انّ العلم بالملاقاة كان متقدّماً على العلم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين ، فإذا طرأ العلم الإجمالي يكون الملاقي طرفاً للعلم ويشبه الصورة الثانية التي قلنا بوجوب الاجتناب عن الجميع.
    4. إذا تقدّم حدوث النجاسة وجوداً وتحقّقت الملاقاة وجوداً كذلك بلا علم بهما ، ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين والملاقاة مترتباً.
    وفي المقام تحقّقت الملاقاة قبل العلم الإجمالي ولكن حصل العلم بها بعده ، فالعلم الإجمالي بنجاسة المشتبهين متوسط بين وقوع الملاقاة ، والعلم بها.
    فهل يلحق بالصورة الأُولى بحجّة انّ العلم بالملاقاة متأخّر أو يلحق بثانية الصور وثالثتها ؟
    الظاهر هو الثاني ، لأنّ العلم بالملاقاة وإن كان متأخّراً عن العلم الإجمالي لكنّه كشف عن وجود الملاقاة واقعاً قبل العلم الإجمالي ، والعلم الإجمالي وإن تعلق بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر لكن بعد العلم بالملاقاة وتحقّقها قبل العلم الإجمالي ينقلب متعلّق العلم ويصير أحد طرفيه مركباً والآخر بسيطاً وانّ العلم كان ناقصاً من حيث بيان الطرف فيجب الاجتناب عن الجميع.
    وبذلك اتّضحت الضابطة الكلية في حكم الملاقى وانّ المقياس هو كون الملاقي طرفاً واقعياً للعلم حين حدوثه أو علم طرفيّته بعد حدوثه.


(543)
    الثاني : في شرطية العزم على الإتيان بالجميع في صدق الامتثال
    ذهب الشيخ في الشبهات البدئية إلى أنّه يكفي في تحقّق الامتثال مجرد قصد الأمر المحتمل ولكنّه اشترط في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لزوم قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير ، ولازمه أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين ، قاصداً للإتيان بالآخر ، ولولا ذلك لا يتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير ، قال : إنّ النيّة في كلّ من الصلوات المتعدّدة بالنحو التالي : ينوي في كلّ منهما فعلها احتياطاً لإحراز الواجب الواقعي المردّد بينها وبين صاحبها تقرباً إلى اللّه على أن يكون القرب علّة للإحراز الذي جعل غاية للفعل ، ويترتّب على هذا انّه لابدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازماً على فعل الآخر إذ النيّة المذكورة لا تتحقق بدون ذلك ، لأنّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصداً لامتثال الواجب الواقعي ، على كلّ تقدير بل هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقاً. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ اللازم في امتثال الأُمور العبادية هو الإتيان بها لأجله سبحانه ، إمّا لأجل أمره قطعياً كان أو احتمالياً ولأجل ذلك يصح الاغتسال للجنابة وإن لم يعلم بها ، وهذا الملاك متحقّق في الأمرين الّذين يعلم بوجوب أحدهما ، وما ذكره من « أنّه يجب أن يأتي لإحراز الواجب الواقعي تقرباً إلى اللّه وهو لا يتحقّق عند الاقتصار بأحد الفعلين » غير تامّ ، لأنّ لإحراز الواجب مرتبتين ، تارة تكون الغاية من الإتيان ، هو الإحراز على كلّ تقدير ، وأُخرى الإحراز على بعض التقادير ، وعلى كلّ تقدير فهو بصدد إحراز الواجب لأجله سبحانه غير انّ الإحراز تارة يكون قطعياً وأُخرى ظنّياً والإحراز الظنّي قسم منه.
1. الفرائد : 270 و 271 ، طبعة رحمة اللّه.

(544)
    الثالث : في تقدّم الامتثال القطعي على التعليقي
    إذا كان الواجب المشتبه ، أمرين مترتبين شرعاً كالظهر والعصر المردّد بين القصر والإتمام أو المردّد بين الجهات الأربع ، فهل يعتبر في صحّة الدخول في محتملات الواجب اللاحق ، الفراغ اليقيني من الأوّل بإتيان جميع محتملاته كما صرح به في الموجز وشرحه ، والمسالك ، والروض والمقاصد العلية أو يكفي فعل بعض محتملات الأول بحيث يقطع بحصول الترتيب بعد الإتيان بمجموع محتملات المشتبهين كما عن نهاية الأحكام والمدارك فيأتي بظهر وعصر قصراً ، ثمّ يأتي بهما تماماً ، وقد ذكر الشيخ لكلّ من الاحتمالين وجهاً. (1) وقوّى القول الثاني بقوله : إنّ أصالة عدم الأمر بالنسبة إلى الإتيان بـ « محتملات العصر » إنّما تقتضي عدم مشروعية الدخول في المأمور به ومحتملاته التي يحتمله على تقدير عدم الأمر واقعاً كما إذا صلّى العصر إلى غير الجهة التي صلّى الظهر.
    وأمّا ما لا يحتمله إلا على تقديره وجود الأمر ، كما إذا صلّى العصر إلى الجهة التي صلّى إليها الظهر ، فلا يقتضي الأصل المنع عنه. (2)
    ولكن ذهب المحقّق النائيني إلى عدم الجواز قائلاً : إنّ الامتثال التفصيلي مقدّم على الامتثال الإجمالي ، فإنّ إحراز القبلة على وجه التفصيل وإن كان غير ممكن إلا أنّ إحراز فراغ ذمّته عن صلاة الظهر عند الشروع في العصر وانّ العصر واقع بعده أمر ممكن فيجب تحصيله. (3)
    يلاحظ عليه بوجهين :
    1. انّه مبني على تقدم الامتثال التفصيلي على الإجمالي ، وهو ممنوع ، لما عرفت
1. الفرائد : 270 و 271 ، طبعة رحمة اللّه.
2. الفرائد : 272.
3. فوائد الأُصول : 4/139 ـ 140 بتلخيص.


(545)
من جواز العمل بالاحتياط وترك الاجتهاد والتقليد.
    2. انّ ما يتوخّاه المستدل ( إحراز فراغ ذمّته عن صلاة الظهر عند الشروع بالعصر وانّ العصر واقع بعده ) حاصل في كلتا الصورتين ، لأنّ ما بيده من محتملات العصر لا يخلو من أحد أمرين : إمّا أن يكون إلى القبلة ، فعندئذ يعلم أنّ ذمته فرغت عن صلاة الظهر ويكون ما بيده واقعاً بعد الظهر حتماً ويكون كلا الأمرين حاصلين ، غاية الأمر بصورة تعليقية ؛ أو لا يكون إلى القبلة ، فتكون الصلاتان ، أشبه بالحركات الفارغة أو الصلوات التمرينية التي لا يترتب عليها أثر حتى يحتاج إلى إحراز شرطه وهو فراغ ذمّته عن الظهر أوّلاً ، وكون العصر واقعاً بعده إذ المفروض انّه ليس بصلاة بل صورتها.
    والحاصل انّ الشرط إمّا حاصل تفصيلاً ولكن تعليقاً ، وإمّا لا حاجة إلى إحراز الشرط.
    الرابع : في حكم الخنثى المشكل
    العلم الإجمالي بالتكليف تارة يكون ناجماً من الترديد في المكلَّف به ، كدوران الواجب بين الظهر والجمعة ، والحرام بين أحد الإناءين ، وأُخرى من الترديد في نفس المكلَّف ، وأنّه هل هو رجل أو امرأة ، كما هو الحال في الخنثى المشكل ، بناء على انّه ليس طبيعة ثالثة ، بل هو إمّا رجل أو امرأة.
    لا شكّ أنّ هناك أحكاماً مشتركة بين الجنسين كالصلاة والصوم والخمس والزكاة فيجب عليه امتثالها سواء أكان رجلاً أم امرأة ، لكنّ هناك أحكاماً مختصة بكلّ جنس ، فهو يعلم أنّه مخاطب بحكم أحد الجنسين كالأحكام التالية :
    أ : حرمة لبس أحد لباسي الرجل أو المرأة المختصين بهما.
    ب : حرمة النظر إمّا إلى الرجل أو المرأة.


(546)
    ج : حرمة التكلّم مع الرجل أو المرأة ـ بناء على حرمته ـ إلا في الأُمور الضرورية.
    د : حرمة استماع كلام الرجل ، أو المرأة على القول به.
    هـ. حرمة كشف أحد قبليه ، وأمّا الدبر فهو محرّم الكشف مطلقاً.
    و : حرمة التزويج أو التزوج لوجوب إحراز الرجولية في الزوج أو الانوثية في الزوجة.
    ولكن يجوز لكلّ من الرجل والمرأة النظر إليه ، والتكلّم معه واستماع صوته لكون المورد بالنسبة إليهما من قبيل الشبهة الموضوعية.
    نعم مقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط ، والجمع بين التكليفين ، ولكنّه يتوقف على ثبوت أمرين :
    الأوّل : انّ الخنثى هو الذي له ذكر وفرج امرأة ، وينقسم إلى مشكل وغير مشكل ، فما فيه علامات الذكورية أو الأُنوثية يحكم عليه حسب العلامات ، وإنّما الكلام في القسم المشكل الذي حاول الفقهاء أن يبيّنوا الحكم الشرعي في حقّه.
    واعلم أنّ المحاولة في المقام لحلّ مشكلة الخنثى على أساس أنّه ليست طبيعة ثالثة ، وانّه إنّما هو ذكر أو أُنثى ، ويمكن استظهاره من قوله سبحانه : ( أَيَحْسَبُ الإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثى ) (1) فالآية تبيّن أنّ الإنسان إمّا ذكر أو أُنثى ، حيث جعل المقسم ، الإنسان ، والخنثى داخل في المقسم فيكون داخلاً في أحد القسمين ، فكان قوله سبحانه : ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ ) بمعنى صيّره وقسّمه إلى قسمين : الذكر والأُنثى :
1. القيامة : 36 ـ 39.

(547)
    ويؤيده أيضاً قوله سبحانه : ( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُور ) (1) ، والآية ظاهرة في حصر الولد في أحد الأمرين ولو كان طبيعة ثالثة يبطل الحصر وتؤيده الروايات حيث ورّثوه حسب الاختبارات المذكورة في كتاب الإرث.
    ففي صحيحة داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : سئل عن مولود ولد ، له قبل وذكر ، كيف يُورث ؟ قال : « إن كان يبول من ذكره فله ميراث الذكر ، وإن كان يبول من القبل فله ميراث الأُنثى ». (2)
    إلى غير ذلك من الروايات الواردة في اختباره.
    كلّ ذلك يعرب عن أنّ الإسلام يعامله أحد الجنسين لا جنساً ثالثاً.
    وأخيراً قد أصبح معرفة الخنثى وأنّه هل هو ذكر أو أُنثى من السهولة بمكان ، وذلك بفضل التقدم العلمي الهائل في مجال الطب ، حتى أصبح بالإمكان إجراء عملية جراحية بغية التعرّف على أنّه من أيّ واحد من الجنسين.
    الثاني : انّ مقتضى القاعدة الأوّلية في حقّه هو الاحتياط فلا يتزوج أبداً ، ولا ينظر إلا إلى المحارم ، ولا يُري بدنه إلا لهم ويتجنب عن مختصات الجنسين ، لكنّها إنّما تتم إذا لم يوجب حرجاً وإلا فله الأخذ بأحد الاحتمالين مطلقاً أو بقيد القرعة ويستمرّ ، عليه إذ التخيير بدويّ لا استمراريّ.
1. الشورى : 49.
2. الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب ميراث الخنثى ، الحديث 1.


(548)
المقام الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر
    وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً :
    1. قد عرفت أنّ الشكّ في المكلّف به ينقسم إلى شبهة تحريمية وشبهة وجوبية ، ومنشأ الشكّ في كلّ ، تارة فقدان النص ، وأُخرى إجمال النص ، وثالثة تعارض النصين ، ورابعة اختلاط الأُمور الخارجية.
    وبما أنّ تقسيم الشبهة التحريمية إلى المسائل الأربع ، تصوير ذهني ليس لها واقع خارجي ، سوى الشبهة الموضوعية ركّزنا البحث في الشبهة التحريمية عليها وقسمناها إلى محصورة وغير محصورة.
    وأمّا الشبهة الوجوبية فلها وراء المسائل الأربع تقسيم آخر ، وهو أنّ الواجب يدور تارة بين المتبائنين وأُخرى بين الأقل والأكثر ، وبما انّ حكم المتبائنين واضح وهو وجوب الاحتياط بين المشتبهين ركزنا البحث على الأقل والأكثر.
    2. انّ الأقل والأكثر ينقسمان إلى الاستقلاليين والارتباطيين ، والفرق بينهما بأنّ الأقل الاستقلالي يغاير الأكثر الاستقلالي ـ على فرض وجوبه ـ حكماً ووجوباً ، ملاكاً وغرضاً ، طاعة وامتثالاً ، كالفائتة المرددة بين الواحد والكثير ، والدّين المردّد بين الدرهم والدرهمين ، بخلاف الأقلّ الارتباطي فانّه على فرض وجوب الأكثر ، متّحد معه حكماً ووجوباً ، ملاكاً وغرضاً ، طاعة وامتثالاً ، ولا استقلال له في شيء من الأُمور الثلاثة ، كالشكّ في وجوب الصلاة مع السورة وعدمها.


(549)
    وبما ذكرنا يعلم أنّ ما هو المقصود من الشبهة التحريمية ـ أعني : الشبهة الموضوعية ـ ليس له إلا قسم واحد ، وهو الأقل والأكثر الاستقلاليين ، ولا يتصوّر له إلا قسم واحد ، بخلاف الشبهة الوجوبية فبما انّ البحث فيها لا ينحصر بالموضوعية بل يعمّ المسائل الثلاث ، ينقسم إلى الأقلّ والأكثر الاستقلاليين أو الارتباطيين ، وقد أشار الشيخ إلى ما ذكرنا في الفرائد ، قال : إنّا لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشكّ في المكلّف به صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة إلى الشكّ في أصل التكليف ، لأنّ الأقلّ حينئذ معلوم الحرمة والشكّ في حرمة الأكثر.
    3. انّ (1) المشكوك من الشبهة الوجوبية ، تارة يكون الجزء الخارجي كالسورة والقنوت ، وجلسة الاستراحة بعد السجدتين ، وأُخرى الخصوصية الموجودة في العبادة ، المنتزعة من الأمر الخارجي كالطهارة الحاصلة عن الغسلات والمسحات بنية التقرب ، وثالثة الخصوصية المتحدة مع المأمور به كما إذا دار أمر الواجب بين مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة ، أو دار أمر الواجب بين واحد معين من الخصال ، أو المردّد بين الأُمور الثلاثة.
    وسيوافيك انّ التقسيم الأخير ، لا تأثير له في الحكم ، ولكن المحقّق الخراساني طرح أمر الجزء في المقام وأحال البحث عن الأمرين إلى التنبيهات ، ولكن الشيخ قد بحث في كلّ قسم مستقلاً. (2) ونحن إثر الشيخ قدَّس سرَّه ونبحث في مقامين نقدّم البحث في الجزء على البحث في الشرط والقيد المشكوك :
    4. انّ الأقوال في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لا تتجاوز عن ثلاثة :
    أ : جريان البراءة العقلية والشرعية.
    ب : القول بالاحتياط وعدم جريانهما.
    ج : التفصيل بين العقلية والشرعية تجري الأُولى دون الثانية.
1. الفرائد : 262.
2. لاحظ الفرائد : 272 في القسم الأوّل و 284 في القسم الثاني.


(550)
    المقام الأوّل : في الجزء المشكوك
    إذ اعرفت ذلك ، فاعلم أن القائلين بجريان البراءتين في الجزء المشكوك استدلوا بوجوه :
    الأوّل : الأقل واجب إمّا نفسيّاً أو غيرياً
    قال الشيخ الأعظم : إنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل مطلقاً وجب الأقل أو الأكثر ، وشك بدويّ في وجوب الأكثر ، فتجري البراءة في المشكوك دون المعلوم ، أمّا كون الأقل واجباً على كلّ تقدير ، لأنّه لو كان الواجب هو الأقل ، يكون واجباً نفسياً ولو كان الواجب هو الأكثر يكون الأقل واجباً غيرياً ، فإلزام المولى في مورده مقطوع وفي غيره مشكوك. (1)
    يلاحظ عليه بأُمور :
    1. أنّه مبني على وجوب مقدّمة الواجب ، وقد فرغنا من عدم وجوبها بل لغوية وجوبها ، ولأنّ الهدف من إيجابها هو إيجاد الداعي ، فلو كان الأمر بذي المقدمة كافياً في الدعوة إلى ذيها ، لكفى في الدعوة إلى المقدّمة وإلا لما كان الأمر المقدمي داعياً إلى المقدمة.
    2. إذا قلنا بوجوب المقدّمة فإنّما نقول بوجوبها في المقدمات الخارجية ، أعني : فيما إذا كانت هناك اثنينية بين المقدمة وذيها ، دون ما إذا كانت المقدّمة نفس ذي المقدمة وكانت المغايرة بينهما اعتبارية.
    3. انّ غايته هو العلم بالوجوب الجامع بين النفسي والمقدّمي ، ومثل هذاوجوب انتزاعي يدركه العقل ، ومثل هذا لا يكون سبباً للانحلال ، لأنّ المراد من الانحلال هو العلم لوجوب الأقل شرعاً وجوباً مجعولاً لا وجوباً منتزعاً.
1. الفرائد : 274.

(551)
    الثاني : الأقل واجب إمّا استقلالي أو ضمني
    إنّ الكل واجب بوجوب استقلالي ، والأجزاء واجبة بوجوب ضمني ، وعلى هذا لو كان الواجب هو الأقل يكون وجوبه استقلالياً ولو كان الواجب هو الأكثر يكون وجوبه ضمنياً واجباً في ضمن الأكثر ، وعلى كلّ تقدير يكون التكليف بالأقل معلوماً ، والعقاب على تركه عقاباً مع البيان.
    والحاصل انّ هنا أمراً واحداً متعلّقاً بالمركب بما هو هو ، غير انّ انبساط الأمر عليه يوجب وجوب كلّ جزء جزء بوجوب ضمني ، والأمر الضمني هو مقتضى انبساط الأمر على الأجزاء ، ولذلك يكون الآتي بكلّ جزء موجباً لسقوط الأمر الضمني المتعلّق ، دون الأمر المتعلّق بالمركب ، على ذلك يكون العقاب على ترك المركب لأجل ترك الأجزاء المعلومة ( الأقل ) عقاباً مع البيان لكن العقاب على تركه بترك الجزء المشكوك ، عقاباً بلا بيان. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ لازم أو صريح ذلك التقريب وجود أمرين في كلّ مركب أحدهما استقلالي والآخر ضمني ، ويتعدّد الضمني حسب تعدّد الأجزاء لكنّه غير تام ، وذلك لأنّ الإتيان بالأجزاء بنفس دعوة الأمر المتعلّق بالكلّ لا بأمر ضمني كما في التقرير الثاني ولا بأمر غيري كما في التقرير الأوّل ، بل بنفس الأمر المتعلّق بالمركب.
    فإذا قال المولى : ابن مسجداً ، فالإتيان بالمواد الأوّلية ووضعها في مكانها إنّما هو بدعوة الأمر ببناء المسجد ويعد امتثالاً لذلك الأمر المتعلّق بالعنوان ، لكن امتثالاً تدريجياً وليس لبنائه حقيقة وراء الامتثال التدريجي.
1. نسبه المحقّق الخوئي في مصباح الأُصول : 2/428 إلى الشيخ الأنصاري ، ولم أعثر عليه في كلماته ، نعم كان سيد مشايخنا المحقّق البروجردي يعتمد على ذلك الوجه في درسه الشريف.

(552)
    وثانياً : أنّ الجمع بين الأوامر الضمنية الحقيقية والأمر الاستقلالي جمع بين المخالفين ، فانّ الأمر الاستقلالي المتعلّق بالعنوان الوحداني يتوقف على ملاحظة الأجزاء فانية في العنوان ولا تتوجه النفس إلا إلى العنوان ، ولكن تعلّق الأمر الضمني بكلّ جزء يلازم لحاظ كلّ واحد من الأجزاء مستقلاً غير فان في العنوان وهما لا يجتمعان.
    والحاصل : أنّ الأمر الضمني في هذا التقرير ليس أمراً وهميّاً بل أمر واقعي ، والجمع بينه وبين الأمر الاستقلالي جمع بين لحاظين مختلفين ، فتعلّق الأمر الاستقلالي رهن فناء الأجزاء في العنوان وعدم لحاظها إلا فانية فيها ، لكن تعلّق الأمر الضمني رهن لحاظ الأجزاء مستقلة كلّ واحدة تلو الأُخرى.
    وهذا التقرير سمعناه من سيد مشايخنا المحقّق البروجردي في بحث الصلاة والفرق بينه وبين التقرير السابق واضح. وهناك تقرير ثالث للقول بالبراءة العقلية أبدعه سيدنا الأُستاذ بترتيب مقدّمات مختلفة ، ونأتي به في ضمن أمرين.
    الثالث : الأقل واجب نفسيّاً
    وهذا الوجه ممّا أبدعه سيدنا الأُستاذ ، وتوضيحه مبني على مقدّمات نأتي بملخّصها :
    المقدّمة الأُولى : انّ المركب إمّا حقيقي أو صناعي أو اعتباري ، ففي الأوّل تتفاعل الأجزاء بعضها مع بعض وتخرج الأجزاء عن الاستقلال والفعلية ويحصل من التفاعل صورة وحدانية تفنى فيها الأجزاء ولا يبقى لها فعلية.
    وهذا كالمحاليل الكيمياوية والمعاجين فانّ أجزاءها تفقد فعليّتها ويؤثّر كلّ في الآخر بنفي صورته ويحصل من ذلك التفاعل ، صورة ثالثة تعرف بها ، كالماء المركب من جزءين هما الاوكسجين والهيدروجين ، وكالملح المركب من


(553)
الصوديوم والكلور ، إلى غير ذلك من الأمثلة.
    وفي الثاني تبقى الأجزاء محتفظة بفعليتها التكوينيّة ، غير انّها لا تلحظ بهذا الوصف عند ملاحظتها تحت عنوان واحد ، وهذ نظير البناء فانّ كلّ جزء فيه باق على فعليته لكنّه غير ملحوظ بشخصه عند ملاحظته تحت عنوان واحد كعنوان البناء.
    ويقرب من الثاني مثل الفوج والعشرة والصلاة ، فانّ كلّ جزء باق على فعليته ، غير فان في الكلّ ، ولكنّه غير ملحوظ بحياله واستقلاله عند لحاظ جميع الأجزاء تحت عنوان واحد كالفوج وغيره.
    وبعبارة أُخرى : انّ المركب الاعتباري الذي هو موضوع البحث له صورة اعتبارية تنحلّ فيها الأجزاء في مقام الاعتبار تحليلاً اعتبارياً حقيقياً ، وفي الوقت نفسه تبقى الأجزاء محتفظة بفعليتها.
    المقدمة الثانية : انّ وحدة الإرادة تابعة لوحدة المراد ، فإذا كان المراد واحداً حقيقة أو متكثراً ولكن ملحوظاً تحت عنوان واحد ، تتعلّق به إرادة واحدة ، وهذا بخلاف ما إذا كان متكثراً حقيقة فلا يعقل تعلّق إرادة واحدة به.
    وبصياغة فنية انّ تشخص الإرادة بتشخص المراد فيتبع في وحدتها وكثرتها ، وحدته وكثرته.
    ومنه يعلم حال الأمر فانّ وحدة الأمر وتعدّده تابع لوحدة المتعلّق وكثرته ، فلو كان المتعلق كثيراً بالذات فلا يمكن أن يتعلّق به أمر واحد.
    اللّهمّ إلا إذا لوحظت الكثرات في ثوب الوحدة ويتخذ لنفسه عنواناً واحداً ، فعندئذ يتعلّق به أمر واحد.
    المقدّمة الثالثة : انّ الصور في المركبات الاعتبارية ليست أمراً مغايراً للأجزاء بالأسر بل هو عينها حقيقة ، إذ ليس المراد من الصورة إلا الأجزاء في لحاظ


(554)
الوحدة ، كما أنّ الأجزاء عبارة عن الأُمور المختلفة في لحاظ الكثرة ، وهذا لا يوجب أن يكون وجود الصورة غير وجود الأجزاء.
    وبتعبير آخر : انّ الصورة هي نفس الأجزاء بلحاظ الوحدة كما أنّ الأجزاء نفس الصورة لكن بلحاظ الكثرة ، فالأجزاء تفصيل الصورة البسيطة كما أنّ الصورة إجمال الأجزاء المفصّلة المختلفة.
    ومن هنا يعلم أنّ المقام يختلف عن باب المحصِّل ( بالكسر ) والمحصَّل ( بالفتح ) الذي اتّفق المشهور على جريان الاشتغال فيه ، حيث إنّ الأجزاء باسم الأجزاء المحصّلة ( بالكسر ) غير الواجب المحصّل ( بالفتح ) ، مثلاً :
    لو قلنا بأنّ الوضوء اسم للطهارة النفسانية ، والغسلات والمسحات محقِّقة لها ومحصّلة إيّاها ، وعندئذ لو شككنا في وجوب شيء خامس كالمضمضة أو الاستنشاق وراء الغسلتين والمسحتين يجب الاحتياط ، لأنّ ما تعلّق به الأمر ليس فيه قلّة ولا كثرة ، حتى ينحل العلم الإجمالي وتجري فيه البراءة ، وما فيه القلة والكثرة ، ليس متعلّقاً للأمر وإنّما هو محصِّل للواجب والعقل ـ عندئـذ ـ يحكم بأنّ الاشتغال اليقيني بأمر معلوم الجزء المشكوك يحصل اليقين بحصول الحالة النفسانية.
    وهذا بخلاف المقام فإنّ الأجزاء عين الصورة لكن في لحاظ الكثرة كما أنّ الصورة عين الأجزاء لكن في لحاظ الوحدة ، فليس بينهما فرق إلا بالإجمال والتفصيل ، كما هو الحال في العشرة ، فهي نفس الأفراد لكن بصورة الجمع في التعبير ، والأفراد نفس العشرة لكن بصورة التفصيل في البيان ، فليس هناك اثنينية وتعدّد حتى يكون أحدهما محصِّلاً والآخر محصَّلاً ، فيدور أمر الواجب بين القليل والكثير.


(555)
    المقدّمة الرابعة
    إنّ دعوة الأمر إلى إيجاد الأجزاء إنّما هو بعين دعوتها إلى الطبيعة لا بدعوة مستقلة ولا بدعوة ضمنية ولا بأمر انحلاليّ ولا بحكم العقل الحاكم بأنّ الإتيان بالكل لا يحصل إلا بالإتيان بالأجزاء ، وذلك لأنّ الطبيعة تنحل إلى الأجزاء انحلال المجمل إلى مفصَّله ، المفروض انّها عين الأجزاء لكن في لحاظ الوحدة ، لا شيئاً آخر ، فالدعوة إلى المركب الاعتباري عين الدعوة إلى الأجزاء ، مثلاً الأمر بصيام عشرة أيام نفس الأمر بصوم هذا اليوم وذاك اليوم ، كما أنّ الدعوة إلى رفع الجدار بنفس الدعوة إلى بناء البيت لا بدعوة ثانية ، والأمر كما هو حجّة على إيجاد الكلّ فهو بنفسه حجّة على إيجاد الجزء ، كما أنّ القيام بكلّ جزء جزء تدريجياً امتثال لنفس الأمر بالكل ، وليس امتثالاً للأمر الضمني المتعلّق به كما قيل والامتثال كما يكون فورياً ، يكون تدريجيّاً أيضاً.
    المقدّمة الخامسة
    إنّ مصب الوجوب إنّما هو نفس العنوان لا ذات الأجزاء المردّدة بين الأقل والأكثر بنعت الكثرة وإن كان العنوان عين الأجزاء في لحاظ الوحدة ، ومع ذلك فمتعلّق الأمر إنّما هو العنوان.
    نعم التعبير بأنّ الواجب دائر بين الأقل والأكثر يومي إلى تعلّق الحكم بالأجزاء رأساً وانّ الواجب بذاته مردّد بينهما ، وهو خلاف التحقيق ، بل الحكم تعلّق بعنوان غير مردّد في نفسه بين القليل والكثير ، وإن كان ما ينحل إليه العنوان مردّداً بينهما.
    إذا عرفت هذه المقدّمات يتضح لك جريان البراءة العقلية.
    وذلك لأنّ الحجّة قامت على وجوب العنوان نحو قوله : ( أَقم الصلاة ) ،
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس