إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 556 ـ 570
(556)
وقيام الحجّة عليه نفس قيامها على الأجزاء ، لما عرفت من نسبتها إليه ليس من قبيل نسبة المحصَّل إلى المحصِّل ، بل نسبة المفصَّل إلى المجمل ، لكن الاحتجاج بالأوّل على وجوب الأجزاء إنّما يصحّ فيما إذا علم انحلاله إلى جزء وجزء حتى يكون داعياً إليه ، وأمّا مع الشكّ من كونه جزءاً لا يكون الأمر به حجّة عليها وداعياً إليها ضرورة انّ قوام الاحتجاج بالعلم ، والعلم بتعلّق الأمر بالمركب ، إنّما يكون حجّة على الأجزاء التي علم بتركب المركب إليها دونما ما لا يكون.
    وإن شئت نزّل المقام على ما إذا تعلّق الأمر بالأجزاء بلا توسط عنوان ، فكما أنّه لا يحتج إلا على الأجزاء المعلومة دون المشكوكة ، فهكذا المقام فإنّ الأمر وإن تعلّق بالعنوان مباشرة دونها ، لكن عرفت أنّ نسبة العنوان إليها نسبة المجمل إلى المفصل ، فالأجزاء في مرآة الإجمال عنوان ، وفي مرآة التفصيل أجزاء.
    والحاصل أنّ العبد إذا بذل جهده للعثور على الأجزاء ، التي ينحلّ العنوان إليها ، فلم يقف إلا على التسعة منها دون الجزء العاشر المحتمل ، يستقل العقل بأنّه ممتثل حسب قيام الحجّة ويعدّ العقاب على ترك الجزء المشكوك عقاباً بلا بيان.
    فإن قلت : إنّ الحجّة قد قامت على العنوان الإجمالي فلابدّ من الإتيان بالأكثر حتى يحصل العلم بالإتيان لما قامت الحجّة عليه ، وبالجملة إذا قام الدليل على وجوب عنوان ، مجمل يجب علينا العلم بالبراءة العقلية وهي رهن الإتيان بالأكثر.
    قلت : الإشكال مبني على الخلط بين المقام والشك في المحصِّل ، فانّ ما ذكرته صحيح في الثاني حيث إنّ المحصِّل كالغسلات والمسحات ، غير المحصَّل كالطهارة النفسانية ، ولو شككنا في اعتبار شيء في المحصِّل بنحو لولاه ، لما حصل المحصَّل ، يحكم العقل بالاشتغال إلا إذا أتى بالمشكوك ، وهذا بخلاف المقام فانّ


(557)
العنوان بالنسبة إلى الأجزاء من قبيل الجمع في التعبير مثلاً تارة يقول : زيد ، عمرو ، بكر ، سعد ، خالد ; وأُخرى يقول : خمسة أشخاص ، فلا فرق بين التعبيرين سوى بالإجمال والتفصيل ، وقد قامت الحجّة على المقدار المعلوم انحلاله إليه ، دون المشكوك انحلاله إليه ، فيكون العقاب بالنسبة إليه من قبيل العقاب بلا بيان.

    أدلّة القائلين بالاشتغال عقلاً
    إلى هنا تمّ ما يمكن أن يقال لتصحيح جريان البراءة العقلية ، بقي الكلام في أدلّة القائلين بالاشتغال عقلاً ، وهي عشرة ، نأتي بالمهم منها :
    التقريب الأوّل لمنع البراءة :
    ما أفاده المحقّق الخراساني من استلزام جريان البراءة العقلية أمرين :
    1. يلزم من فرض تنجز الأقل ، عدم تنجزه.
    2. يلزم من فرض الانحلال عدمه.
    وبيان الأمرين ـ وإن كان لباً واحداً وهو الخلف ـ يحتاج إلى مقدمة ، وهي انّ كلّ علم تفصيلي إذا كان متولّداً من علم إجمالي فلا يكون سبباً لانحلاله وإلا يلزم أن يكون المعلول هادماً لعلّته وباقياً بعد فنائها ، لأنّ المفروض انّه نابع من ذاك العلم الإجمالي ، فكيف يمكن أن يكون باقياً بعد إفنائه ؟ فالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، نتيجة العلم الإجمالي بأنّه واجب نفسي أو غيري ، فلو صار ذاك العلم سبباً لنفي أحد العِدْلين ، وهو كونه واجباً للغير ، يلزم كون المعلول هادماً لعليّته وباقياً بعد انتفائها.
    فلو شككنا في وجوب نصب السلم ، ودار الأمر بين كونه واجباً لنفسه أو لغيره ، أي للصعود إلى السطح ، فالعلم التفصيلي حاصل بوجوب نصب السلم ، ولكن الاحتفاظ به فرع حفظ علّته ، وهو العلم الإجمالي لوجوبه إمّا نفسياً أو لغيره ،


(558)
ولا يمكن أن يكون محفوظاً مع رفض كونه واجباً للغير والاكتفاء بوجوبه النفسي.
    إذا علم ذلك ، فنقول :
    يلزم من القول لوجوب الأقل وعدم وجوب الأكثر إشكالان وانّ روحهما واحداً :
    يلزم من تنجّز الأقل عدم تنجّزه.
    يلزم من الانحلال عدم الانحلال.
    وكلاهما خلف.
    أمّا الأوّل ، فبيانه أنّه يلزم من فرض تنجّز التكليف بالأقل فعلاً عدم تنجّزه كذلك ، لأنّ فرض تنجّزه فعلاً إمّا لنفسه أو لغيره فرع تنجّز التكليف بالأكثر أيضاً ، حتى يصحّ أن يقال : انّه واجب إمّا نفسياً أو غيرياً ، فلو كان وجوبه كذلك ، سبباً لوجوبه ، دون وجوب الأكثر ، يلزم عدم تنجز الأقل أيضاً كذلك ، أي على كلّ حال إمّا لنفسه أو لغيره لذهاب المعلول بذهاب علّته.
    وأمّا لزوم عدم الانحلال من الانحلال ، فلأنّ الانحلال يستلزم عدم تنجّز التكليف المتعلّق بالأكثر على فرض وجوبه ، وهو يستلزم عدم العلم بوجوب الأقلّ مطلقاً ، وهو يستلزم عدم الانحلال ، فيلزم من فرض وجوده عدمه ، وهذا هو المقصود من الدور هنا أي مفسدته ، أي عدم الشيء من فرض وجوده.
    يلاحظ عليه : أنّ الخلف بكلا الوجهين نابع من كون وجوب الأقلّ مقدميّاً أو ضمنياً ناشئاً من وجوب الأكثر ، وعندئذ يلزم من القول بتنجّز الأقل مطلقاً عدم تنجّزه كذلك شأن كلّ علم تفصيلي ناجم من العلم الإجمالي ، إذا صار الأوّل سبباً لانهدام الثاني ، وأمّا إذا كان وجوب الأقل نابعاً من الوجوب المتعلّق بالعنوان ، المحرز بالوجدان ، فلا يلزم الخلف لأنّه من قبيل علم تفصيلي نابع من علم تفصيلي آخر ، ثابت غير متزلزل ، والشكّ إنّما هو في مقدار ما ينحلّ إليه العنوان الواجب ، فهل ينحلّ إلى الأقل فقط أو الأكثر أيضاً.


(559)
    وإن شئت قلت : إذا كان وجوب الأجزاء بعين وجوب الكل وكان امتثال كلّ جزء امتثالاً تدريجياً له ، فوجوب الأقل على كلّ تقدير لا يتوقف على إحراز وجوب الأكثر وحفظ العلم الإجمالي ، بل يتوقف على العلم بوجوب العنوان أو المركب والمفروض انّ العلم بوجوبهما أمر محرز ثابت ، لقوله سبحانه : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْل ). (1)
    وعلى ضوء ذلك فهو يأتي بالأجزاء المعلومة بنية الأمر بالكلّ من أوّلها إلى آخرها فلا إشكال ، سواء أكان الواجب هو الأقلّ أم كان هو الأكثر ، لأنّ العنوان على وجه ينطبق على كليهما.
    فظهر انّ العلم بوجوب الأقل مطلقاً يتوقف على العلم بوجوب العنوان المحرز ، لا على وجوبه إمّا نفسياً أو غيرياً ، أو نفسياً أو ضمنياً حتى لزم المحذور.
    ومنه يعلم اندفاع المحذور الثاني إذ لو كان الانحلال مبنياً على وجوب الأقل مطلقاً إمّا نفسياً أو غيرياً لزم المحذور ، لأنّ الانحلال يستلزم عدم وجوب الأكثر ، المستلزم لعدم وجوب الأقل مطلقاً ، المستلزم لعدم الانحلال ، لا ما إذا كان الانحلال نابعاً من العلم بوجوبه النفسي سواء أكان الأكثر واجباً أم لا ، وذلك لأنّ الانحلال يلازم عدم وجوب الأكثر ، لكن عدم وجوبه لا يلازم عدم وجوب الأقل حتى يلزم عدم الانحلال ، لما عرفت من أنّ وجوب الأقل ليس نابعاً من العلم الإجمالي حتى يتوقف بقاؤه على حفظ العلم الإجمالي ، بل وجوبه يتوقف على وجود العلم بوجوب العنوان ، الصادق على الأقل والأكثر ، فوجوب الأقل يتوقف على صدق العنوان ، ووجوبه لا يتوقف على شيء ، لأنّه محرز بالوجدان ، لكن لا يحتج به على وجوب الجزء المشكوك بل يحتج على المتيقن منه.
    والعجب انّ عصارة الجواب موجودة في كلام المحقّق النائيني قال :
1. الإسراء : 78.

(560)
إنّوجوب الأقل لا يكون إلا نفسياً على كلّ تقدير سواء كان متعلّق التكليف هو الأقلّ أو الأكثر ، فإنّ الأجزاء إنّما تجب بعين وجوب الكل ولا يمكن أن يجتمع في الأجزاء كلّ من الوجوب النفسي والغيري. (1)
    ولو أنّ المحقّق النائيني سار على هذا الجواب لاستغنى عن كثير ممّا ذكره نقضاً وإبراماً.
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الخلف بوجه آخر ، قال : إنّ دعوى توقّف وجوب الأقل على تنجز الأكثر ( لأنّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدمة لوجود الأكثر ) إنّما يتوقف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجّز التكليف به ، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً وإن لم يبلغ مرتبة التنجّز.
    وكذا تنجّز التكليف بالأقل ، لا يتوقّف على تنجز التكليف بالأكثر بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه ، فانّ تنجّز كلّ تكليف إنّما يتوقف على العلم بذلك التكليف ، ولا دخل لتنجّز تكليف آخر في ذلك. (2)
    وحاصله : أنّ وجوب الأقل مقدّمة تابع لوجوب الأكثر واقعاً ، والبراءة رافعة لتنجّز التكليف بالأكثر لا واقع وجوبه وإن كان غير منجز والانحلال وإجراء أصل البراءة إنّما ينافي تنجّز التكليف بالأكثر ، لا وجوبه الواقعي ، وما هو العلّة لوجوب الأقل مطلقاً هو وجوب الأكثر واقعاً وهو باق ، وإن كان تنجّز الأكثر مرفوعاً بالبراءة.
    وأمّا وجوب الأقل نفسياً فهو يتوقف على العلم بوجوبه ، وهو حاصل من دون توقّف على تنجز التكليف بالأكثر.
    يلاحظ عليه : أنّ الشق الأوّل غير تام ، لأنّ المقصود إثبات التنجّز بالأقل
1. الفوائد : 4/157.
2. الفوائد : 4/158.


(561)
على كلّ تقدير وهو فرع حفظ تنجّز الأكثر ، وأمّا حفظ الوجوب الواقعي له الأعم من الإنشائي أو الفعلي غير المنجز فلا يكون منتجاً لتنجّز الأقل مطلقاً ، لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين ، وعندئذ لا يحصل منه العلم بتنجّز الأقل مطلقاً بل أمره دائر بين كونه واجباً غير منجز ، وواجباً منجزاً.
    إلى هنا تمّ تحليل ما ذكره المحقّق الخراساني ، وهناك تقريبات أُخرى لمنع جريان البراءة العقلية وقد ذكر المحقّق النائيني تقريبين نأتي بهما.
    التقريب الثاني لمنع البراءة العقلية
    لا إشكال في أنّ العقل يحكم بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ، ضرورة انّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضي التكليف الاحتمالي ، وأمّا التكليف القطعي فهو يقتضي الامتثال القطعي ، لأنّ العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً ولا يكفي احتمال الفراغ فانّه يتنجز التكليف بالعلم به ولوإجمالاً ويتمّ البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحّة العقاب عليه ، فلو كان التكليف في الطرف الآخر غير المأتي به ، لا يكون العقاب على تركه بلا بيان ، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف.
    ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلاً ، لأنّه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين ولا يحصل العلم بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة.
    ثمّ إنّه قدَّس سرَّه أتى في كلامه بشيء آخر ، وهو تقريب مستقل لا صلة له بما ذكر بل هو مأخوذ من تقريب المحقّق صاحب الحاشية الذي نقله عنه قبل هذا التقريب. (1)
1. لاحظ الفوائد : 4/152 ـ 155.

(562)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من الضابطة ممّا لا غبار عليها ، لكن يجب الخروج عمّا اشتغلت الذمّة قطعاً ، لا ما اشتغلت به الذمّة احتمالاً ، والأقل ممّا اشتغلت به الذمّة قطعاً فيجب الإتيان به ، دون الأكثر لعدم العلم بالاشتغال فيه.
    فكما إذا تعلّق الأمر بنفس الأجزاء ودار الأمر بين وجوب الأقل والأكثر تجري البراءة في الأكثر ، فهكذا إذا تعلّق الأمر به بواسطة عنوان ، إذ لا فرق بينهما سوى انّ الأمر بالاجزاء على الأوّل في حال الكثرة ، وفي الثاني في حال الوحدة.
    وأمّا ما أفاده من أنّ العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً ولا يكفي احتمال الفراغ ، فانّه قد تنجّز التكليف بالعلم به ولو إجمالاً ، كلام تام ، لكن إذا كان العلم الإجمالي قائماً بحاله ، بأن يكون الترديد موجوداً في النفس ويُشكّ في أنّ الواجب هل هذا أو ذاك وهذا إنّما يصحّ في المتبائنين لا في مثل المقام فانّ العلم بوجوب الأقلّ حاصل وجوباً ، سواء أوجب الآخر أم لا ؟ وإنّما الشكّ في وجوب الأكثر والاحتمال المجرّد ، لا يكون منجِّزاً باعثاً للمكلّف نحو الامتثال.
    التقريب الثالث
    وهذا التقريب أيضاً للمحقّق النائيني ، وحاصله :
    الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط ، وإن كان عقلاً لا يقتضي التنجيز ، واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو ، للجهل بتعلّق التكليف به ، فالعقاب على ترك الخصوصية يكون بلا بيان ، إلا أنّ هناك جهة أُخرى تقتضي التنجّز واستحقاق العقاب على ترك الخصوصية ، على تقدير تعلّق التكليف بها ، وهي احتمال الارتباطيّة وقيديّة الزائد للأقل ، فإنّ هذا الاحتمال بضميمة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلاً ، فانّه لا رافع لهذا الاحتمال ، وليس من وظيفة العقل وضع القيدية أو


(563)
رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، ولا حكم للعقل من هذه الجهة فيبقى حكمه بلزوم الخروج من عهدة التكليف المعلوم ، والقطع بامتثاله على حاله فلابدّ من ضمّ الخصوصية. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه صرّح في صدر كلامه بأنّ الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة لا يقتضي التنجّز واستحقاق العقاب على مخالفته ، وإذا كان الأمر كذلك فأيّ فرق بين كون الخصوصية وجوب الجزء وكونها احتمالَ الارتباطيّة ، مع اشتراك الأمرين في أنّ العقاب عليهما من قبيل العقاب بلا بيان.
    وما ذكره في ذيل كلامه من أنّه ليست وظيفة العقل وضع القيدية أو رفعها بل ذلك من وظيفة الشارع وإن كان صحيحاً ، لكن الهدف من إجراء البراءة العقلية ليس وضعها أو رفعها ، بل شأن العقل نفي العقاب المحتمل من ترك القيد المحتمل سواء أكان ذلك القيد ، هو وجوب الجزء ، أو الارتباط بين الأقل والأكثر. وأمّا الرفع أو الوضع فيأتي الكلام فيهما عند البحث في البراءة الشرعية.
    وبالجملة فالغرض من إجراء البراءة العقلية تحصيل الأمن من العقاب من ترك الأكثر ، لا رفع القيد وإنّما هو من شؤون البراءة الشرعية كما سيوافيك.
    فإن قلت : لو كان الأقل في نفس الأمر مرتبطاً بالأكثر حيث جعل الشارع الجميع بنعت الوحدة موضوعاً للحكم ، فلا يفيد الإتيان بالأقل.
    قلت : إحراز كون الأقل مفيداً في نفس الأمر أو غير مفيد ليس من وظائف العبد ، بل ذمته رهينة لما ثبت تعلّق الأمر به والمفروض انّ الثابت هو الأقل لا الأكثر.
1. فوائد الأُصول : 4/161.

(564)
    التقريب الرابع :
    ما ورد في كلمات الشيخ الأعظم بصورة الإشكال وقال :
    إن قلت : إنّ الأوامر الشرعية كلّها من هذا القبيل لابتنائها على مصالح في المأمور به فالمصلحة إمّا من قبيل العنوان في المأمور به ، أو من قبيل الغرض ، وبتقرير آخر المشهور بين العدلية : أنّ الواجبات الشرعية ، إنّما وجبت لكونها ألطافاً في الواجبات العقلية ، فاللطف هو المأمور به حقيقة ، أو غرض للأمر فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف ولا يحصل إلا بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته. (1)
    وقرّره في الكفاية معتمداً عليه وقال : إنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلا بالأكثر بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهيّ عنها. وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً من إطاعة الأمر وسقوطه ، فلابدّ من إحرازه في إحرازها. (2)
    ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أجاب عن الاستدلال بوجهين :
    الأوّل : انّ جريان البراءة وعدمه في المقام ليس مبنيّاً على مذهب العدلية القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، بل يجري على القول بعدم التبعية كما عليه الأشاعرة.
    الثاني : انّ الإتيان بالأكثر ليس محصِّلاً للغرض على وجه اليقين ، لاحتمال دخل قصد الوجه في حصوله ، مع عدم التمكّن منه لاستلزامه التشريع ، وعلى ذلك لا قطع بحصول الغرض على كلا التقديرين.
1. الفرائد : 3/273.
2. كفاية الأُصول : 2/232.


(565)
    وأنت خبير بعدم إتقان الجوابين ، أمّا الأوّل فلأنّ الاستدلال ـ عندئذ ـ يكون جدليّاً ، لا برهانياً ، لأنّ المستدل والمجيب قائلان بالتبعية ، فكيف يكون المجيب في مقام الإجابة أشعرياً.
    وأمّا الثاني فللاتفاق على عدم وجوب قصد الوجه وإلا لامتنع الاحتياط ، ومن قال بوجوبه فإنّما قال عند التمكّن ، لا في مثل المقام.
    ولذلك نرى أنّ المحقّق الخراساني نقد كلام الشيخ الأنصاري بوجه مبسّط لم يعرف منه ـ ذلك التبسيط ـ في مقام آخر.
    والأولى في مقام الجواب أن يقال : إذا كان الغرض ، متعلقاً للأمر كما إذا أمر المولى بصنع معجون يقوّي الأعصاب ، فشك العبد في الأجزاء المحصلة لهذا الغرض هل هي تسعة أو عشرة فلا شكّ في وجوب الاحتياط ، لأنّ المأمور به أمر بسيط ، غير دائر أمره بين الأقل والأكثر ، وما يدور أمره بينهما غير مأمور به.
    وأمّا إذا تعلّق الأمر بمركب ذي أجزاء أمر المولى به لأجل غرض له ، وشكّ في أنّ الغرض المحصِّل له هو الأجزاء التسعة أو العشرة ، ففي مثل ذلك لا يجب الاحتياط ، لأنّ الواجب على العبد في مجال الإطاعة ، الإتيان بما تعلّق به الأمر كاملاً ، سواء أكان محصلاً للغرض أم لا ، وذلك انّه لو لم تكن الأجزاء المعلومة محصلة لغرضه كان عليه البيان إمّا بالعنوان الأوّلي ، كأن يبيّن الجزء المشكوك ويكون البيان واصلاً ، أو بالعنوان الثاني ، كأن يقول : إذا شككت في جزئية شيء للمأمور به فعليك بالاحتياط.
    وعلى ضوء ذلك فالزائد على الأقل لم تقم الحجّة عليه لا تكليفاً ولا غرضاً.
    أضف إلى ذلك انّه لو كان مانعاً من جريان البراءة العقلية ، يجب أن يكون مانعاً من جريان البراءة الشرعية ، مع أنّ المحقّق الخراساني الذي اعتمد على هذا الدليل ، قد ذهب إلى جريان البراءة النقلية كما سيوافيك.


(566)
    التقريب الخامس
    إنّ الأمر المتعلّق بالأقل دائر بين كونه صالحاً للتقرّب إذا كان نفسياً وغير صالح له إذا كان مقدمياً توصلياً وأمّا الأكثر فأمره صالح للتقرّب ، لأنّه إمّا هو الواجب ، أو كونه مشتملاً عليه ويقصد التقرّب بما هو المقرّب في الواقع.
    يلاحظ عليه : أنّ الأمر المتعلّق بالأقل نفسي لكونه مصداقاً للصلاة إنّما الشكّ في انحلال العنوان الجامع للكثرات ، إلى الجزء المشكوك وغيره ، وعلى كلّ تقدير فسواء أثبت الانحلال أم لم يثبت فهو يأتي الاجزاء بالأمر المتعلّق بالعنوان ، لا بالأمر المتعلّق بالأجزاء قليلة كانت أم كثيرة ، فالأمر المقصود على كلتا الصورتين ، أمر نفسي ، والشكّ في مقدار انحلال المتعلّق ، لا يجعل الأمر متعدّداً.
    التقريب السادس
    إنّ نفي العقاب من جانب ترك الأكثر ، لا يُثبت تعلّق الأمر بالأقل والغاية إثبات تعلّقه به.
    أقول : هذا الإشكال مشترك بين البراءتين : العقلية والشرعية ، فنحيل الجواب إلى البحث التالي :

    أدلّة القائلين بجريان البراءة الشرعية
    ذهب الأُصوليون إلى جريان البراءة الشرعية ، حتى أنّ من منع جريان البراءة العقلية قال بجريان البراءة الشرعية ، وفي مقدّمهم المحقّق الخراساني فقد أفاد ما هذا توضيحه :
    إنّ جزئية السورة مجهولة ومحجوبة ، فترفع بفضل حديثي الرفع والحجب.


(567)
    فإن قلت : يشترط في الرفع التشريعي كون المرفوع أثراً مجعولاً شرعياً كالوجوب ، أو موضوعاً ذا أثر شرعي كنجاسة الثوب فانّ أثر نجاسته عدم جواز الصلاة فيه ، والجزئية في المقام ليس من أحد القسمين ، وأمّا لزوم الإعادة فهو أثر عقلي لجزئية السورة ، أو هو من آثار بقاء الأمر بعد التذكر ، فالعقل عندئذ يستقل بلزوم الإعادة.
    قلت : إنّ الجزئية أمر انتزاعي ينتزع من تعلّق الوجوب الشرعي بالسورة وهذا كاف في تعلّق الرفع بها.
    فإن قلت : إنّ حديث الرفع ، حديث رفع لا وضع ، فما الدليل على تعلّق الأمر بالعبادة الخالية عن الجزء ؟
    قلت : هذا هو الإشكال الذي مضى عند الكلام في جريان البراءة العقلية أيضاً ، وقد تكرّر هذا الإشكال في كلمات المحقّق النائيني من أنّ حديث الرفع ، حديث رفع لا وضع فلا دليل على تعلّق الأمر بالخالي.
    فأجاب المحقّق الخراساني بقوله : إنّ نسبة حديث الرفع إلى الأدلّة الدالة على بيان الأجزاء إليها ، نسبة الاستثناء وعندئذ يكون المجموع دالاًّ على جزئيتها إلا مع الجهل بها.
    توضيحه : انّ الواقع لا يكون خالياً من أحد أمرين إمّا أن لا تكون السورة جزء الواجب ، أو تكون ; فعلى الأوّل ، فالأمر متعلّق بالخالي واقعاً وإن لم يكن المكلَّف واقفاً عليه.
    وعلى الثاني : يكون حديث الرفع بمنزلة الاستثناء كأنّه يقول : أقم الصلاة بجميع أجزائها إلا السورة في حالة الجهل ، فالأمر تعلّق بحكم الاستثناء بالطبيعة الخالية عن الجزء.


(568)
    وعلى ما ذكرنا لا حاجة إلى ما ذكره ، لما قلنا من أنّ تعلّق الأمر بالعنوان عين تعلقه بالأقل ، إنّما الكلام في انحلاله إلى الجزء المشكوك وعدمه فتعلّقه بالأقل محرز. ولعلّ ما ذكره قدَّس سرَّه يرجع إلى ما ذكرنا.
    ثمّ إنّ الشيخ الأعظم حسب عادته طرح الشكّ في جزئية الشيء ضمن مسائل أربع.
    أنّ الشكّ في الجزئية تارة يكون ناشئاً من عدم النصّ ، وأُخرى من إجمال النصّ ، وثالثة من تعارض النّصين ، ورابعة من خلط الأُمور الخارجية والذي يسمّى بالشبهة الموضوعية ، وبما أنّ الدليل واحد في الجميع نقتصر بهذا المقدار تبعاً لصاحب الكفاية ، ولا نعقد لكلّ مسألة عنواناً مستقلاً.
    نعم سيأتي الكلام في الشبهة الموضوعية بمناسبة البحث في الشكّ في المحصِّل.

    المقام الثاني : في الشكّ في الأجزاء التحليلية
    قد عرفت في صدر البحث في الأقل والأكثر أنّ الشك في الجزء على قسمين : تارة يكون للجزء المشكوك وجوبه ، وجود خارجي مستقلّ تحتمل مدخليته في الواجب ، وهذا هو الذي مرّ البحث فيه في المقام الأوّل.
    وأمّا المقام الثاني : فهو عبارة عمّـا إذا لم يكن للجزء المشكوك وجوبه ، وجود مستقل ، وإن كان في بعض المواضع له منشأ انتزاع مستقل ، ولكن الجميع داخل تحت عنوان الجزء التحليلي أي ما يحتمل دخله في الواجب وليس له وجود مستقل ، وله أقسام.
    الأوّل : ما يكون الجزء التحليلي منتزعاً من أمر خارجي كالتستر من إلقاء الستر على الرأس ، والطهور من الغسلات والمسحات ، فالشرط أمر تحليلي باسم


(569)
التقيّد ، وإن كان المنشأ أو القيد ذا وجود مستقل.
    الثاني : ما يكون الجزء التحليلي قائماً بالموضوع دون أن يكون مقوّماً له نظير الإيمان بالنسبة إلى الرقبة.
    وقد أشار المحقّق الخراساني إلى القسمين الأُوليين بقوله : « إنّه ظهر ممّا مرّ حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه » وإلى القسم الثالث بقوله : « و بين الخاص وعامه كما في الحيوان ».
    ثمّ إنّه قدَّس سرَّه منع من جريان البراءة العقلية في الأقسام الثلاثة بوجهين تطرّق إليهما الشيخ أيضاً.
    الأوّل : انّ الأجزاء التحليلية لا توصف بالوجوب من باب المقدمة ، وقد أشار الشيخ إلى هذا الدليل أيضاً حيث قال : إنّ ما كان متّحداً في الوجود الخارجي كالإيمان في الرقبة المؤمنة لا يتعلّق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب أصل الفعل ، ولو مقدمة ، فلا يندرج فيما حجب اللّه عن العباد » (1) فلا يصحّ أن يقال : إنّ وجوب الإيمان في الرقبة لم يرد فيه بيان فالعقاب عليه عقاب بلا بيان.
    وقد فسّرنا كلام الشيخ في المحصول (2) بوجه آخر فلاحظ ، وما ذكرنا هنا هو الأوفق لظاهر كلامه.
    الثاني : انّ وجود الطبيعي في ضمن الواجد للمشكوك ، مباين لوجوده في ضمن الفاقد له وعليه فلا يكون هناك قدر متيقن في البين لينحلّ به العلم الإجمالي وتجري أصالة البراءة.
    وقد أشار الشيخ إلى هذا الدليل بقوله : إنّ الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه ، معذور في ترك التسليم لجهله ، وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم
1. الفرائد : 284.
2. المحصول : 3/557.


(570)
يأت من الخارج ما هو معلوم تفصيلاً حتى يكون معذوراً من الزائد المجهول ، بل هو تارك للمأمور رأساً ، وبالجملة فالمطلق والمقيّد من قبيل المتبائنين. (1)
    وحاصل الدليل الأوّل : انّه ليس هنا وجوب ليقع مصبّاً للبراءة ، لأنّ الأجزاء التحليلية لا توصف بالوجوب ، كما أنّ حاصل الدليل الثاني ، انّوجود المطلق والمقيّد في الخارج لما كانا متبائنين ، فلو كان الواجب هو المقيّد ، لم يكن الآتي بالمطلق آتياً بالأقل وتاركاً للأكثر ، بل لم يأت منه شيء.
    وقبل دراسة هذين الدليلين نقدّم أمراً يعلم به ملاك جريان البراءة العقلية وهو :
    انّ ملاك جريانها عبارة عن حاجة المورد إلى البيان الزائد ، فكلّ مشكوك كان الوقوف عليه رهن بيانه فهو مجرى للبراءة العقلية.
    ويقال : إنّ وجوب هذا الشيء لم يرد فيه بيان وكلّ ما كان كذلك وكان واجباً في الواقع لكن تركه المكلّف يكون العقاب عليه عقاباً بلا بيان ، هذا ، من غير فرق بين أن يتعلّق الوجوب بعنوان كالصلاة وشكّ في انحلاله إلى الشرط المشكوك كالطهارة والتستر أو يتعلّق الحكم بالمطلق ونشك في تقيّده بالقيد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، أو يتعلّق الأمر بالعام ونشك في دخل الخاص المقوّم فيه كما إذا تردد الواجب بين كونه ذبح حيوان أو غنم ، أو تردد وجوب التيمم على الشيء بين الأرض والتراب ، فالملاك في الجميع هو حاجة الشيء المشكوك إلى البيان الزائد ، فلو لم يرد وكان واجباً لكن لم يصل إلى المكلّف يكون العقاب على تركه عقاباً بلا بيان.
    إذا علمت ذلك فلندرس الدليل الأوّل في الموارد الثلاثة :
1. الفرائد : 284.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس