إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 571 ـ 585
(571)
    أ : المطلق والمشروط.
    ب : المطلق والمقيد.
    ج : العام والخاص.
    أمّا الأوّل : فلأنّ مصب الشكّ ليس وجوبهما الغيريين بل المصب هو الوجوب النفسي لهما مثل سائر الأجزاء ، حيث إنّ واقع الشكّ يتعلّق بانحلال الصلاة إليهما وعدم انحلاله ، فلو كانا دخيلين في الموضوع له فهي تنحل إليهما وإلا فلا.
    ومن المعلوم أنّ الأمر بالعنوان إنّما يكون حجّة فيما علم انحلاله إليه لا ما شك.
    أمّا الثاني : فلأنّ القيد وإن لم يكن داخلاً في مفهوم المقيّد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، لكن لو كان الواجب هو الرقبة المؤمنة فالإيمان يكون واجباً وجوباً نفسياً كوجوب الرقبة ، والشك في مثل هذا الوجوب يكون مصححاً لجريان البراءة.
    وأمّا الثالث : فلأنّه لو كان الواجب وراء الحيوان شيء آخر ، وهو كونه غنماً ، وجب بنفس وجوب الحيوان ، والشكّ في مثل هذا الوجوب مجرى للبراءة ، نعم الاستدلال يتمُّ لو قلنا بوجوب الأجزاء التحليلية بالوجوب المقدمي وقد سبق اختصاصه على فرض صحّته بالأجزاء الخارجية لا التحليلية العقلية.
    وأمّا الوجوب النفسي فهو يعمّ الشرط والقيد والخاص بلا فرق بينها.
    هذا كلّه حول الدليل الأوّل.
    وأمّا الدليل الثاني : فلأنّ ما ذكره مبني على تعلّق الأوامر بالموضوع الخارجي فعندئذ يصحّ ما ذكره من أنّ الصلاة مع الخصوصية غير الصلاة بدونها ،


(572)
لأنّ الفاقد لا يتحقّق إلا مع خصوصية أُخرى لامتناع تحقّق الجامع بلا فصل وخصوصية.
    ومثله الأرض فإذا شككنا في لزوم كون التيمم على التراب ، أو مطلق الأرض ، نجد أنّ الثاني لا يتحقّق إلا في ضمن فصل آخر ككون الأرض حجراً أو رملاً ، ومن المعلوم أنّ الحجر والتراب متباينان.
    ولكنّ الأوامر لا تتعلّق إلا بالطبائع الكلية ، والمفاهيم المجرّدة ، وعندئذ يكون الموضوع من قبيل الأقل والأكثر ، حيث يشكّ في أنّ المأمور به هو مطلق الصلاة ، أو الصلاة المشروطة بشيء ، وعندئذ يكون من قبيل الأقل والأكثر ، ويقع الثاني مجرى للبراءة ، وبعبارة أُخرى يشك في انحلال الموضوع إلى الطهور والتستر أولا.
    وخلاصة القول : إنّ الدليل مبني على وجوب الأجزاء التحليلية بالوجوب الغيري ، وقد عرفت خلافه ، كما أنّ الدليل الثاني مبني على تعلّق الوجوب بالخارج ، وقد عرفت أنّه متعلّق بالأُمور الكلية.
    إلى هنا تمت دراسة الموارد الثلاثة وأنّها تقع مصبّاً للبراءة العقلية ، وأنّ المكلّف لو تركها كان العقاب عليه عقاباً بلا بيان.
    في جريان البراءة النقلية
    هذا كلّه حول البراءة العقلية ، وأمّا البراءة النقلية ، فقد فصّل المحقّق الخراساني بين المشروط وشرطه ، والمطلق وقيده ، وبين العام والخاص ، فقال بجريانها في الأوّلين وعدمه في الثالث.
    أمّا جريانها فيهما فلدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية وقيديّة ما شُكّ في شرطيّته ، أو قيديّته ، وليس كذلك خصوصية الخاص.


(573)
    والفرق بينهما أنّ الشرط والقيد من الأُمور الزائدة على الطبيعة المأمور بها ، فيدخل المورد تحت الأقل والأكثر دون خصوصيّة الخاص ، فانّها أمر منتزع من نفس الخاص ـ على وجه لولاه لما كان للعام تحقّق ـ فلا يدور الأمر بين الأقل والأكثر ، بل بين المتبائنين ، لأنّ الخاص نفس العام تحقّقاً ، وليس شيئاً زائداً عليه.
    توضيح مراده : انّ العام في كلّ مورد يتحقّق بفصله ، ولا تحقق للعام بدون الخاص ، كما قال السبزواري :
إبهامَ جنس حسب الكون خذا إذ هــو الــدائـر بـين ذا وذا
    وعلى ذلك فكما أنّ الأكثر يتحقق في ضمن خاص أعني الغنم ، وهكذا الأقل أعني الحيوان لا يتحقّق مجرّداً عن الفصل ، بل لابدّ في تحقّقه من فصل ، ويتحصل العام في ضمن الإبل والبقر والمعز ، والنسبة بينها وبين الغنم هو التباين فيدخل المورد تحت دوران الأمر بين المتبائنين.
    يلاحظ عليه : أنّه من باب خلط المسائل الفلسفية بالأُمور الاعتبارية ، فانّ ما ذكره صحيح حسب الأُصول الفلسفية في المقام ، وذلك لأنّ مدار كون المورد من قبيل الأقل والأكثر ، هو كون ما وقع تحت دائرة الطلب ، هو مطلق الحيوان ، أو الحيوان الخاص ، أعني : الغنم ، فبما أنّ الخصوصية مجهولة تقع مجرى للبراءة ، ويكون مرفوعاً حسب حديثي الرفع والحجب.
    وإن شئت قلت : إنّ المعيار وجود الكلفة الزائدة في أحد الطرفين دون الآخر ، ولا شكّ في الالتزام بكون المذبوح غنماً كلفة زائدة ليست في الطرف الآخر ، لأنّه في الخيار بذبح أيّ حيوان.
    ثمّ إنّه كان على الشيخ الأنصاري أن يبحث في هذا القسم عن مسائل أربع ، لأنّ الشكّ في الجزء التحليلي يكون نابعاً تارة عن فقدان النص ، وأُخرى عن


(574)
إجمال النص ، وثالثة عن تعارض النصين ، ورابعة عن خلط الأُمور الخارجية ، لكنّه قدَّس سرَّه اعتماداً على ما سبق ، طوى الكلام عنها واختصر على أصل البحث.
    الشكّ في المحصل
    ثمّ إنّه كثيراً ما يدور في لسان الأُصوليين مصطلح الشكّ في المحصل ، أو الشكّ في السقوط ، ولم يذكره المحقّق الخراساني في الكفاية ، وذكره الشيخ في المسألة الرابعة من الشكّ في الأقل والأكثر ، فزعم أنّ الشكّ في المحصِّل عبارة عن الشكّ في الأقل والأكثر من باب خلط الأُمور الخارجية. فقال : إذا شكّ في جزئية شيء المأمور به من جهة الشكّ في الموضوع الخارجي ، كما إذا أمر بمفهوم مبين ، مردّد مصداقه بين الأقل والأكثر ، ومنه ما إذا وجب صوم هلالي ، وهو ما بين الهلاليين فشكّ في أنّه ثلاثون ، أو ناقص ، ومثل ما لو أمر بالطهور لأجل الصلاة ، أعني : الفعل الرافع للحدث أو المبيح لها ، فشكّ في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين ( أو المبيحين ) ، واللازم في المقام الاحتياط ، لأنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم مبين معلوم تفصيلاً ، وإنّما الشكّ في تحققّه بالأقل ، فمقتضى أصالة عدم تحقّقه وبقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به ولزوم الإتيان بالأكثر .... (1)
    يلاحظ عليه : أنّ هنا مسألتين :
    إحداهما : ما هو الموسوم بالشكّ في المحصّل ، أو الشكّ في السقوط ؟
    ثانيهما : ما هو الموسوم بالشكّ في الشبهة الموضوعية من قسم الأقل والأكثر ؟
    والفرق بين المسألتين كالتالي :
    إذا كان متعلّق الأمر واضح المفهوم مبيّن المعنى لا تردّد ولا قلّة ولا كثرة وإنّما الإجمال والتردد في محقِّقه وسببه ، وهذا كما في الأمر بالطهور إذا فسر بالحالة
1. الفرائد : 283 ـ 284.

(575)
النفسانية الحاصلة للمتوضئ بعد الوضوء ، فلا إجمال ولا إبهام في المأمور ، وإنّما الإبهام في أمر خارج عن المأمور به ، وهو أنّه هل تتحقّق تلك الحالة بنفس الغسلات والمسحات ، أو يتوقف ـ وراءها ـ على غسل الاذن أيضاً ؟ فالأقل والأكثر في ناحية السبب ، لا المسبب.
    وأمّا إذا كان متعلّق الأمر والنهي مردّداً بين الأقل والأكثر كما في الشبهة الحكمية كإجمال جزئية السورة في الأُولى ، أو كان مصداق المتعلّق مردّداً بينهما فاحتمال كون زيد عالماً وراء سائر الأفراد المعلومة ، فهو من قبيل الشكّ في الأقل والأكثر حكمياً أو موضوعياً.
    ومنه يظهر أنّ ما مثل به الشيخ من قبيل القسم الأوّل كالطهور أو صوم ما بين الهلالين ليس بصحيح ، لأنّ الشكّ في المثالين ليس في متن المأمور به ، وإنّما الشكّ في محقّقه ، وانّه هل يتحقّق بنفس الغسلات والمسحات ، أو بتسعة وعشرين يوماً ، أو لا ؟
    إذا عرفت ذلك فلنأخذ كلّ واحد بالبحث.

    الكلام في الشكّ في المحصِّل
    الشكّ في المحصِّل بالمعنى الذي عرفته من خصائص الشبهة الحكمية ، فإذا أمر المولى بمسبب توليدي ، ودار الأمر في سببه المولّد بين جزئية شيء أو شرطيته ، فالحقّ ـ وفاقاً لأهله ـ لزوم الاحتياط ، وقد أوضح ذلك الشيخ في كلامه السابق بقوله : إنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم بيّن معلوم تفصيلاً ، إنّما الشكّ في تحقّقه بالفعل ، فمقتضى أصالة الاشتغال عدم الاكتفاء ولزوم الإتيان بالأكثر.
    فما هو المأمور به ، ليس فيه قلّة ولا كثرة حتى تجري فيه البراءة ، وما فيه القلّة والكثرة ليس بمأمور به.


(576)
    فإن قلت : هذا إذا كان السبب عقليّاً ، أو عاديّاً ، كما إذا أمر المولى بقتل المرتد ، ودار السبب بين ورود ضربة عليه أو ضربتين ، أو أمر بتنظيف البيت ، ودار أمره بين كنسه فقط ، أو كنسه ورشّه ، ففي تلك الموارد يجب الاحتياط ، إذ ليس بيان السبب من وظائف الشارع ، وأمّا إذا كان السبب شرعيّاً ، كالوضوء بالنسبة إلى الطهور فتجري فيه البراءة وتحكم بعدم دخله في السبب.
    قلت : إنّ أصالة البراءة وإن كان يعالج الشكّ في ناحية السبب فيحكم بعدم دخله في السببية ، لكن لا يعالج الشكّ في ناحية المسبب ، فالشكّ فيه باق بحاله فالعقل يحكم بأنّ ذمة المكلّف مشغولة بالمفهوم المبيّن ، ولا يحصل الفراغ إلا بضم المشكوك إلى المتيقن.
    فإن قلت : إنّ الشكّ في تحقّق الظهور وعدمه ناجم من شرطية غسل الاذن في المسبب وعدمها ، فإذا جرى الأصل في ناحية السبب ، وقلنا بأنّ شرطية غسل الاذن مجهولة مرفوعة بحديث الرفع لا يبقى شكّ في ناحية المسبب وانّه حاصل قطعاً.
    قلت : إنّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على الأصل المسببي إذا كان هناك دليل اجتهادي يتخذ نتيجة الأصل السببي صغرى لنفسه فيتركب الدليل من صغرى وكبرى ويكون الكبرى حاكماً على الأصل المسببي ، وهذا كما في المثال المعروف : إذا غسل النجس ، بماء مستصحب الطهارة ، فانّ استصحاب طهارة الماء حاكم على استصحاب نجاسة الثوب ، وذلك لأنّ الشكّ في بقاء النجاسة وعدمه نابع عن طهارة الماء ، فإذا كان الماء محكوماً بالطهارة ، والثوب النجس مغسولاً به ، يكون مفاد الأصل السببي صغرى لكبرى اجتهادية ، ويقال هذا الثوب النجس غسل بماء طاهر ( بحكم الاستصحاب ) وكلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر وهذا هو الكبرى ، فينتج هذا الثوب المغسول بماء طاهر طاهر ،


(577)
وليس المقام كذلك فانّ استصحاب عدم وجوب غسل الاذن لا يحقق موضوعاً لكبرى شرعية ، وهي كلّما لم يكن غسل الاذن واجباً يكون الوضوء متحققاً بالغسلتين والمسحتين.
    وإن شئت قلت : إنّ الأصل في المقام مثبت ، لأنّ رفع وجوب غسل الاذن يلازم عقلاً انحصار الواجب في الأجزاء المتبقية ، وهو يلازم تحقق الوضوء المسببي بحكم العقل بأنّه كلّما تحققت العلّة يتحقق المعلول أيضاً ، والكلّ من الأُصول المثبتة.

    الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر الارتباطيين
    قد عرفت أنّ الشكّ في الأقلّ والأكثر من جهة المصداق ، غير الشكّ في المحصّل ، وإن خلط الشيخ الأعظم قدَّس سرَّه بينهما ، وقد مرّ حكم الشكّ في المحصِّل وبيانه ، ولنأخذ الشكّ في المصداق بالبحث فنقول :
    إنّ العناوين الواقعة تحت دائرة الطلب تتصوّر على وجوه :
    1. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو العام الاستغراقي.
    2. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو العام المجموعي.
    3. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو صرف الوجود ، ونقض العدم.
    والفرق بين الأوّلين واضح.
    إذ على الأوّل : فيه أحكام ، وبالتالي امتثالات وعصيانات لكلّ فرد.
    بخلاف الثاني ففيه حكم واحد ، وبالتالي امتثال وعصيان واحد ، فلو قال : أكرم مجموع العلماء ، وكان عددهم مائة فأكرم تسعة وتسعين عالماً ، وترك إكرام واحد منهم لما امتثل أصلاً ، لكون المجموع موضوعاً واحداً.
    ثمّ الحكم المتعلّق بالعنوان تارة يكون الوجوب ، وأُخرى الحرمة ، وعلى


(578)
التقديرين فالوجوب أو الحرمة تارة نفسيان وأُخرى غيريان فيقع الكلام في مقامات أربعة :
    1. حكم الشبهة المصداقية في الواجب النفسي
    إذا شككنا في مصداقية فرد لعنوان تعلّق به الوجوب النفسي ، فإن كان العنوان مأخوذاً بنحو الاستغراقي فالمرجع هو البراءة ، للشكّ في أصل التكليف في حقّ الفرد المشكوك ، ويكون العام من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين.
    وأمّا إذا كان مأخوذاً بنحو العام المجموعي ، كما إذا قال : أكرم مجموع علماء البلد ، فشكّ في كون فرد عالماً أو لا ، فذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المرجع ، البراءة ، والسيد الأُستاذ قدَّس سرَّه إلى الاشتغال ، ولعلّ الحقّ التفصيل بين مورد ومورد.
    أمّا الأوّل : فلأنّ مرجع الشكّ في عالمية بعض ، إلى الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنّه ليس هنا إلا تكليف واحد تعلّق بإكرام مجموع العلماء من حيث المجموع ، فيكون إكرام فرد من العلماء بمنزلة الجزء لإكرام العلماء كجزئية السورة للصلاة ، فيرجع إلى الشكّ بين الأقل والأكثر الارتباطيين. (1)
    وأمّا الثاني : فبوضوح الفرق بين المقامين ، فانّ الأمر في الأقل والأكثر الارتباطيين تعلّق بالاجزاء بلحاظ الوحدة وليست الصلاة عنواناً متحصّلاً منها بحيث يشكّ في تحقّقها مع ترك الجزء والشرط ، فالشكّ في الجزئية يرجع إلى الشكّ في انبساط الأمر بالنسبة إليها. بخلاف المقام فانّه تعلّق بعنوان خاص أعني المجموع بما هو هو ، وقد قامت الحجّة بما هو هو ، ومرجع الشكّ إلى انطباق المأتي به على المأمور به ، فالشكّ في المقام ، شكّ في تحقّق العنوان المأمور به ، بخلاف الآخر
1. فوائد الأُصول : 4/202.

(579)
فإنّه شكّ في تقيد الصلاة بشيء.
    ويمكن أن يقال : إنّه إذا أخذ العنوان موضوعاً بما هو هو فالمرجع هو الاشتغال ، لأنّ الذمة مشغولة بإيجاده فإذا شكّ في عالمية فرد ، يجب إكرامه إذ مع ترك إكرامه يشكّ في حصول العنوان ، وفراغ الذمة ، فلا تجري البراءة في مشكوكها ، بخلاف ما إذا كان العنوان مأخوذاً بنحو المرآتية إلى الخارج فيكون الشكّ راجعاً إلى قلّة الاجزاء وكثرتها فتجري البراءة.
    وأمّا إذا كان تعلّق الحكم بنحو صرف الوجود وناقض العدم وإيجاد الطبيعة فقط ، فإذا شكّ في كون فرد عالماً أو لا ، لا يجوز الاكتفاء بإكرام المشكوك بل يجب إكرام من يعلم أو مصداقه.
    2. حكم الشبهة المصداقية في الواجب الغيري
    هذا كلّه إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعية في الواجب النفسي ، وأمّا إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعية من الواجبات الغيرية ـ بناء على القول بالوجوب الغيري ـ ككون الشيء مصداقاً للجزء أو الشرط أو لا ، فالأقسام الثلاثة الماضية وإن كانت متصوّرة في المقام ، لكن الواقع هو القسم الثالث ، أعني : صرف الوجود وناقض العدم إذ لم يعهد في الشريعة ، اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً بنحو العام الاستغراقي أو المجموعي.
    فإذا دار أمر شيء مصداقاً للجزء أو الشرط أو لا ، كما إذا شككنا في سورة الانشراح هل هي سورة كاملة ـ بناء على وجوب قراءة السورة الكاملة في الصلاة ـ أو لا ، أو في كون مائع خارجي أنّه ماء أو خل ، فلا يجوز الاكتفاء بالمشكوك ، بل يجب إحراز كونها سورة كاملة ، أو ماء مطلقاً.
    هذا كلّه حول الحكم الوجوبي النفسي والغيري.


(580)
    3. حكم الشبهة المصداقية في التحريم النفسي
    إنّ حكم الشبهة المصداقية في التحريم النفسي ، مطلقاً هو البراءة ، سواء أُخذ العنوان بنحو العام الاستغراقي أو بنحو العام المجموعي ، أو ترك الطبيعة.
    أمّا الأوّل : فكما إذا قال : لا تكرم الفسّاق ، فشكَّ في كون زيد فاسقاً أو لا ، فرجع الشكّ إلى تعلّق الحكم المنحل به ، وهوأشبه بالأقل والأكثر الاستقلاليين.
    وأمّا الثاني : فكما إذا قال : لا تكرم مجموع الفساق من العلماء ، فيجوز إكرام من علم فسقه فضلاً عن إكرام المشكوك ، ويكفي في صدق الامتثال ترك واحد ممن علم فسقه ، حتى يصدق أنّه : لم يكرم المجموع من حيث المجموع.
    وأمّا الثالث : فكما إذا قال : لا تشرب الخمر ، فصرف الترك ، وإن كان يتحقق ، بترك فرد من الطبيعة عقلاً ، لكن العرف لا يساعده بل يرى صرف الترك ، بترك عامّة أفراده ، لكن الكبرى حجّة في معلوم الفردية دون مشكوكها ، فيجوز شرب مشكوكه.
    4. حكم الشبهة المصداقية في التحريم الغيري
    يتصوّر الحكم التحريمي الغيري فيما إذا كان الشيء مانعاً أو قاطعاً ، والمراد من الأوّل ، ما يكون وجوده مضاداً للمأمور به كنجاسة الثوب أو بدنه ، ومن الثاني ما يكون وجوده قاطعاً للهيئة الاتصالية للفرد المتحقق من الطبيعية كالأكل والشرب والضحك.
    إنّ العنوان المأخوذ في التحريم الغيري وإن كان يمكن أن يؤخذ بنحو العام الاستغراقي أو المجموعي أو صرف الوجود ، لكن الموجود منه في الشريعة هو القسم الأوّل فتكون البراءة هي المحكم للشكّ في تعلّق النهي الانحلالي بذاك الفرد.


(581)
    وعلى ذلك يترتّب جواز الصلاة في اللباس المشكوك لاحتمال كونه مصنوعاً من وبر أو شعر ما لايؤكل لحمه ، لأنّ المأخوذ في لسان الدليل هو أخذه مانعاً بنحو العام الاستغراقي ، فكلّ ما صدق عليه أنّه ممّا لا يؤكل فهو مانع ، لا المشكوك كونه ، وذلك لأنّ الشكّ في كونه منه أو من غيره راجع إلى انحلال النهي التحريمي الغيري إلى ذاك الفرد أو لا ، وقد عرفت أنّه لا يحتج بالكبرى بدون إحراز الصغرى ، ومثله الشكّ في كون شيء ـ كحمل الطفل حال الصلاة ـ قاطعاً أو لا فالبراءة هي المحكم.
    هذا من غير فرق بين تفسير المانعيّة بكون وجوده ضداً للفرد المتحقّق منه ، أو أخذ عدم المانع شرطاً ، لأنّ مرجع الشكّ في كونه ممّا لا يؤكل لحمه على الثاني أيضاً إلى أخذ عدم هذا الفرد ، في الصلاة أو لا فتجري البراءة.
    ثم لإكمال البحث نعقد تنبيهات :

    التنبيه الأوّل : في النقيصة السهوية
    وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :
    الأوّل : هذا التنبيه منعقد لبيان حكم النقيصة السهوية ، كما أنّ التنبيه الآتي منعقد لبيان الزيادة العمدية والسهوية ، وأمّا النقيصة العمدية فلا حاجة إلى البحث فيها لأنّ البطلان لازم الجزئية.
    ثمّ إنّ الشيخ عنون التنبيه بقوله : « إذا ثبتت جزئية شيء وشكّ في ركنيته ، فهل الأصل كونه ركناً أو لا ؟ وبما انّ هذا التنبيه مختص لبيان حكم النقيصة السهوية فيلزم أن يفسر الركن بالمعنى اللغوي ، أي ما يكون نقصه مخلاً.
    وأمّا تفسير الركن بما يخلّ نقيصه وزيادته ، فهو اصطلاح خاص للفقهاء ولا بأس به إذا جعلنا التنبيهين تنبيهاً واحداً.


(582)
    الثاني : أنّ لسان دليل الجزء على أقسام :
    1. ما يكون لسانه ، لسان الحكم الوضعي كقوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » الظاهر في الجزئية المطلقة.
    2. ما يكون بلسان الحكم التكليفي ، لكن إرشاداً إلى الجزئية ، كقوله سبحانه : ( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاة فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (1) وهذا أيضاً مثل السابق ظاهر في الجزئية أو الشرطية المطلقة.
    3. ما إذا ثبتت جزئية الشيء بدليل لبي ، كما في الاستقرار المعتبر في الصلاة ، فإنّ عمدة دليله هو الإجماع ، ولا إطلاق له ، بل القدر المتيقن منه حال الذكر دون النسيان والغفلة.
    الثالث : انّ صور المسألة أربع :
    1. إمّا أن يكون لدليل المركب عند نسيان الجزء إطلاق بالنسبة إلى ما عدا المنسي ، ولدليل الجزء والشرط والقاطع والمانع إطلاق ، يطلبه الشارع في عامة الحالات ولا ترفع عنه اليد.
    2. أن يكون لدليل الجزء المنسي إطلاق ، دون دليل المركب بالنسبة إلى ما عدا المنسي.
    3. أن يكون الأمر بالعكس.
    4. أن لا يكون إطلاق لا في دليل الجزء ، ولا في دليل المركّب بالنسبة إلى ما عدا المنسي.
    إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقتضى الدليل الاجتهادي ، وأُخرى في مقتضى الأصل العملي.
    والبحث في حكم الصور الثلاث الأُول بحث في مقتضى الدليل
1. المائدة : 6.

(583)
الاجتهادي ، كما أنّ البحث عن حكم الصورة الرابعة بحث عن مقتضى الأصل العملي.
    وليعلم أنّ البحث في المقام مركّز على تبيين مقتضى القواعد الأُصولية العامة من غير فرق بين باب دون باب أو كتاب دون كتاب.
    وأمّا التصديق الفقهي في كلّ مسألة فموكول ـ وراء ذلك ـ إلى ملاحظة سائر ما ورد في المورد من الروايات المرخِّصة أو المانعة. وعلى ذلك فلو قلنا ببطلان الصلاة مثلاً في بعض الصور ، فإنّما هو حسَب مقتضى القواعد ، وفي الوقت نفسه يمكن تصحيحه بقواعد أُخرى مختصة بباب خاص كقاعدة « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » أو غيرها.
    إذا علمت ذلك فلنتناول مقتضى القواعد الاجتهادية بالبحث وله صور ثلاث :
    الصورة الأُولى : إذا كان لكلا الدليلين ، أعني دليل جزئية الجزء ، أو شرطية الشرط ، أو مانعية المانع ، أو قاطعية القاطع ، إطلاق كالإطلاق الموجود في دليل المركّب بالنسبة إلى ماعدا المنسي.
    ثمّ إنّ معنى الإطلاق في دليل الجزء هو كونه مطلوباً في حالتي الذكر والنسيان ، وأنّ المولى لم ترفع اليد عنه ، فهو مقوّم للطبيعة ، فيكون مقتضاه بطلان الصلاة عند نسيانه.
    كما أنّ معنى إطلاق دليل المركب بالنسبة إلى ماعدا المنسي ، هو كون الباقي مطلوباً في حالة النسيان وإن لم يكن معه الجزء المنسي.
    وبعبارة أُخرى : الباقي مطلوب مع الجزء في حال الذكر ، وأمّا في حال النسيان فهو مطلوب أيضاً وإن لم يكن معه الجزء المنسي.


(584)
    وعلى ذلك فالإطلاقان يتعارضان ، فمقتضى الإطلاق الأوّل بطلان الصلاة عند نسيان الجزء ومقتضى الإطلاق الثاني صحّته ، لكن يقدّم إطلاق دليل الجزء على إطلاق دليل المركّب لأنّه أخصّ منه ، فتكون النتيجة هي البطلان.
    مثلاً إذا ورد : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب (1). أو ورد : لا صلاة لمن لم يقم صلبه (2) ، الظاهر في مطلوبية الفاتحة ، أو إقامة الصلب في كلتا الحالتين. وورد أيضاً : لا تترك الصلاة بحال ، المنطبقة على الأجزاء الباقية فيقدّم دليل إطلاق الجزء على الثاني.
    اللّهم إلا أن يقال : إنّ قوله : « الصلاة لا تترك بحال » حاكم على أدلّة القيود ، لأنّه تعرض لما لم يتعرض له تلك الأدلة وهو مقام الترك المتأخر عن اعتبارهما وهذا أيضاً نحو من الحكومة. (3)
    نعم سيوافيك تصحيح الصلاة من طريق آخر فانتظر.
    الصورة الثانية : إذا كان لدليل الجزء وغيره إطلاق دون المركب ، كما هو الحال في قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » بالنسبة إلى قوله : ( أَقِمِ الصَّلاة لِدُلُوكِ الشَّمس ) فيدل إطلاقه على كونه مطلوباً للمولى في حالتي الذكر والنسيان ، فمقتضى إطلاق دليل الجزء عدم الاكتفاء بالمأتي به.
    فإن قلت : إنّ الجزئية ، والشرطية ، أو القاطعية ، والمانعية من الأحكام الوضعية المنتزعة من الأحكام التكليفية ، وهو فرع صحّة خطاب الناسي بالمنسي ، ومن
1. الوارد من طرقنا : كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهو خراج أي ناقص ، نعم ورد من غير طرقنا عن أبي هريرة قال : أمرني رسول اللّه أن أُنادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللآلي ، لاحظ : جامع أحاديث الشيعة : 5/322.
2. الوسائل : 4 ، الباب 16 من أبواب الركوع ، الحديث 1 و 2.
3. تهذيب الأُصول : 2/392.


(585)
المعلوم عدم صحّته ، فكيف يصحّ انتزاع الجزئية في حقّ الناسي مع عدم وجود منشأ الانتزاع ؟
    قلت : ما ذكر من الإشكال مبني على كونها منتزعة من الأحكام التكليفية ، وأمّا على القول باستقلالها بالجعل فلا ، كما هو مفاد قوله : « لا صلاة إلابطهور » وغيره ، فإنّ لسانها جعل الجزئية في كلتا الحالتين ، فتكون النتيجة بطلان الصلاة كالصورة الأُولى.
    أضف إلى ذلك : أنّ ما ورد بلسان التكليف كقوله : « كبّر » ، « اسجد » ، « تشهّد » أيضاً إرشاد إلى الجزئية ، فيعم الدليل كلتا الحالتين.
    فإن قلت : يمكن التمسك بحديث « ما لا يعلمون » لرفع جزئية الجزء في حال النسيان أو لا ؟
    قلت : الأصل دليلٌ حيث لا دليل ، والمفروض وجود الدليل الاجتهادي على الجزئية في حال النسيان ، وخطابه وإن كان ممتنعاً بالنسبة إلى المنسي ولكن أثر الجزئية إنّما هو بطلان الصلاة ولزوم قضائها بعد رحيله.
    تصحيح الصلاة في الصورتين من طريق آخر
    يمكن تصحيح الصلاة في هاتين الصورتين من طريق آخر وهو : أنّ نسبة الرفع إلى « ما لا يعلمون » وإن كان رفعاً ظاهرياً مشروطاً بفقد الدليل الاجتهادي ، والمفروض وجوده ، ولكن نسبة الرفع إلى النسيان والاضطرار والإكراه رفع واقعي ، وليس الرفع مقيّداً بعدم وجود الدليل الاجتهادي ، بل مشروط بوجوده حتى يكون حاكماً عليه كسائر العناوين الثانوية من الضرر والحرج ، فيتمسك بها مع وجود الدليل الاجتهادي على خلافها ، فيقدّم حكم العنوان الثانوي على حكم العنوان الأوّلي.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس