إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 616 ـ 630
(616)
المنسي ، غير أنّ الشكّ في الثاني بعد العمل ، وفي المقام قبله كما تقدم ، وقد عرفت أنّه لو كان لكلا الدليلين إطلاق ، أو كان لدليل الجزء إطلاق ، يحكم بتقديم إطلاق الجزء ، إمّا لأخصيته كما في الصورة الأُولى ، أو لعدم الإطلاق في دليل المركب كما في الصورة الثانية ، فيحكم بسقوط وجوب المركّب أخذاً بإطلاق الجزء الذي هو بمعنى عدم رفع اليد عنه في تلك الحالة.
    ومع ذلك كلّه يمكن تقييد إطلاق دليل الجزء بحديث الرفع ، لما عرفت من أنّ تعلّق الرفع بما لا يعلمون تعلّق ظاهري ، وبما اضطروا واستكرهوا ، تعلّق واقعي ، فيكفي في رفع وجوب الجزء ، تعلّق الاضطرار بتركه.
    نعم إنّما يثبت وجوب الباقي ، إذا كان لدليل المركّب إطلاق دون الصورة الثانية. بل يكون حكمها حكم الصورة الرابعة كما ستوافيك.
    وأمّا الصورة الثالثة ، أعني : ما إذا كان لدليل المركب إطلاق دون دليل الجزء ، فيحكم بوجوب الباقي ، وقد مرّت الأمثلة عند البحث في حكم الجزء المنسي.
    إلى هنا تمّ بيان حكم الدليل الاجتهادي.
    2. مقتضى الأُصول العملية
    إذا لم يكن لواحد من الدليلين إطلاق ، تصل النوبة إلى الأُصول العملية ، فيقع الكلام في مقتضى القاعدة الأوّلية أوّلاً ، ثمّ في مقتضى الأدلّة الثانوية الواردة في خصوص المورد ثانياً.
    لا شكّ انّوجوب الجزء المضطر إليه سقط بالاضطرار ، وإنّما الكلام في تعلّق الوجوب بالباقي والأصل البراءة ، وصدق العنوان على الباقي لا يلازم تعلّق الأمر به بعد كون المقيد مغائراً للمجرّد عنه ، هذا من غير فرق بين طروء التعذّر


(617)
قبل تعلّق الوجوب كما إذا بلغ غير عارف بالقراءة ، أو بعده ، كما إذا عجز عن القراءة بعد دخول الوقت.
    نعم لو كان لدليل المركب إطلاق ، لما كان للبراءة مجال.
    لا يقال : إنّ مقتضى حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكّن منه ، وعندئذ يبقى الحكم على الأجزاء الباقية.
    لأنّا نقول : الحكم بعدم وجوب الباقي ليس مستنداً إلى حديث الرفع حتى يقال : إنّ مقتضاه عدم الجزئية والشرطية إلا في حال التمكّن ، بل إلى فقد المقتضي ، وهو عدم وجود الإطلاق في دليل المركب.
    وبذلك تقف على أنّه لاحاجة للجواب عن الإشكال المزبور بما في الكفاية من أنّ حديث الرفع ورد في مقام الامتنان فيختص بما يوجب نفي التكليف لا إثباته (1) وذلك لأنّ عدم الوجوب مستند إلى فقد الدليل على الوجوب ، لا إلى حديث الرفع حتى يقال : بأنّه رافع للتكليف لا مثبت ، فلاحظ.
    ثمّ إنّه ربما يستظهر وجوب الباقي بالاستصحاب الحاكم على أصل البراءة ويقرّر بوجوه :
    1. استصحاب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي
    لا شكّ انّ هنا وجوبين : أحدهما : الوجوب الاستقلالي بالكل وقد ارتفع ، والآخر : الوجوب الضمني لكلّ جزء وهو أيضاً قد ارتفع بارتفاع الأوّل ، ومع ذلك كلّه فنحن نحتمل أن يتعلّق وجوب استقلالي ثان بالأجزاء الباقية ، فنفس هذا الاحتمال يكفي في احتمال بقاء الوجوب الجامع بين الوجوبين : الاستقلالي والضمني ، فإنّهما وإن ارتفعا قطعاً ، لكن الجامع بينهما محتمل البقاء ، لاحتمال
1. كفاية الأُصول : 2/240.

(618)
حدوث وجوب استقلالي ثان متعلّق بالأجزاء الباقية فيُستصحب.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ خطاب لا تنقض متوجه إلى العرف العام الدقيق ولا يشمل إلا الأفراد التي يلتفت إليها ذلك المخاطب بما انّه عرف عام ، ومن المعلوم أنّ هذا الفرد من المستصحب فرد عقلي لا يتوجه إليه إلا الأوحدي ، فشمول أدلّة الاستصحاب لهذا النوع من المصداق مورد تأمّل.
    وثانياً : أنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، والجامع بين الوجوبين ليس مجعولاً شرعياً وإنّما هو حكم منتزع عن الحكمين ، والمنتزع فعل العقل وليس مجعولاً للشرع.
    2. استصحاب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان التامة
    بيانه أن يقال قبل تعذر الأجزاء كان هناك وجوب استقلالي ونشك في بقائه فيستصحب البقاء.
    يلاحظ عليه : أنّ المطلوب هو وجوب الأجزاء الباقية لا بقاء أصل الوجوب واستصحاب الأخير لإثبات وجوب الأجزاء الباقية ، من الأُصول المثبتة ، وذلك لأنّ العقل يحكم بأنّ الوجوب الباقي عرض ، والعرض لا يقوم إلا بالموضوع ، وليس هو إلا الأجزاء الباقية ، فهو الموضوع للوجوب.
    3. استصحاب الوجوب الاستقلالي بنحو مفادكان الناقصة
    بيانه : انّ الأجزاء الباقية كانت واجبة بالوجوب النفسي غاية الأمر مقيّداً بالجزء المتعذر ، فإذا كان الجزء المتعذر مقوّماً للموضوع ، وموجباً لانعدامه فلا يجري الاستصحاب ، وأمّا إذا كان معدوداً من حالات الموضوع وعوارضه عند العرف ، فيجري الاستصحاب بحكم بقاء الموضوع عرفاً.


(619)
    وبعبارة أُخرى : نشك في أنّ هذا الجزء المتعذّر لو كان دخيلاً في الحكم حدوثاً وبقاءً لا يجري الاستصحاب ولو كان دخيلاً حدوثاً لا بقاءً يجري الاستصحاب ، ونفس هذا الشكّ مصحّح لجريان الاستصحاب بعد بقاء الموضوع ونسبة الواجد للجزء المتعذر ، بالنسبة إلى الفاقد له كنسبة موضوع طرأ عليه التغيير في بعض أحواله.
    يلاحظ عليه : أنّ الوجوب السابق كان على عشرة أجزاء ، والمقصود الآن إبقاء ذلك الوجوب على التسعة ، ومن المعلوم انّ إسراء حكم من عنوان إلى عنوان آخر هو نفس القياس المنكر في مذهبنا ، وأيّ عرف يتسامح ويقول إنّ العشرة هو نفس التسعة.
    وإن شئت قلت : إنّ عالم المفاهيم مثار الكثرة ، فكلّ عنوان في عالم المفاهيم يضاد العنوان الآخر ، وعلى ذلك لو ثبت الحكم على عنوان لا يمكن إسراؤه إلى عنوان آخر ، وذلك لأنّه نفس القول بالقياس.
    فإذن الحكم المتعلّق بالعشرة كيف يستصحب ويتعلّق بالتسعة ؟!
    فإن قلت : على هذا ينسد باب جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية ويختص بالموضوعات الخارجية ، مثلاً الماء المتغيّـر إذا زال تغيّـره بنفسه يحكم عليه ببقاء النجاسة مع أنّه من قبيل إسراء حكم من موضوع ( الماء المتغير ) إلى موضوع آخر ( الماء الذي زال تغيره ).
    ومثله استصحاب الحرمة لعصير الزبيب ، فإنّ الحكم ثبت على العصير العنبي إذا غلى ، فإسراء ذلك الحكم إلى العصير الزبيبي عند الغليان أشبه بالقياس ، فلو ثبت ما ذكرنا من الإشكال لانسدَّ باب الاستصحاب في الأحكام الكلية.


(620)
    قلت : ليس الهدف من الاستصحاب في المثالين المذكورين إسراء حكم من عنوان ( الماء المتغيّر ) إلى عنوان آخر ( الماء غير المتغيّر ) حتى يكون من باب القياس ، كما أنّه ليس الهدف إسراء حكم الحرمة من العصير العنبي إلى العصير الزبيبي ، فانّ ذلك أشبه بالقياس ولا نقول به.
    بل الهدف تسرية الحكم بعد انطباقه على الخارج من موضوع واجد لبعض الخصوصيات إلى موضوع فاقد لها ، بشرط أن تكون الخصوصية عند العرف بالنسبة إلى الموضوع الخارجي معدودة من الحالات لا من المقوّمات ، وذلك بالبيان التالي :
    إنّ الحكم الشرعي ، أعني : الماء المتغير نجس ، غير قابل للاستصحاب إلى موضوع آخر ، أعني : الماء إذا زال تغيره ، لأنّ الموضوعين متغايران والمفاهيم مثار الكثرة ، ولكن بعدما انطبق الدليل الكلي على ماء خارجي يكون الموضوع للاستصحاب هو المصداق الخارجي وهو هذا الماء لا العنوان الكلي ، وعندئذ يتخذ الفقيه المصداق الخارجي موضوعاً للحكم ، فلو كان التبدّل معدوداً من عوارض الموضوع وحالاته يشير إلى ذلك الموضوع ( لا إلى العنوان الكلي ) ويقول : كان هذا محكوماً بالنجاسة والأصل بقاؤه.
    وبذلك يظهر صحّة الاستصحاب في العصير العنبي ، فليس الهدف إسراء حكم العنب إلى الزبيب ، فإنّه قياس واضح.
    نعم لمّا انطبق الدليل الأوّل على مصداق خارجي وعنب معين ، يتخذه الفقيه موضوعاً ويشير إليه بهذا ويقول : كان هذا في بعض الحالات ( عندما كان رطباً ) إذا غلى يحرم ، والأصل بقاء حكمه عند ارتفاع تلك الحالات ، والمستشكل خلط بين الأمرين إسراء حكم من عنوان إلى عنوان آخر ، وبين إسراء حكم موضوع خارجي انطبق عليه الدليل في بعض الحالات ، إلى الحالة التي فقدها ولم تكن الحالة من مقوّماته فالأوّل قياس والثاني ليس من قبيله بل يعد استصحاباً.


(621)
    وبما أنّ ملاك البحث هو استصحاب الحكم الكلّي المتعلّق بعنوان العشرة فلا يمكن تسريته إلى عنوان التسعة.
    الرابع : استصحاب الحكم المتعلّق بالعنوان
    هناك بيان آخر يختلف مع ما مرّ ، وذلك لأنّ التقرير السابق كان مبنياً على تعلّق الحكم بالأجزاء مباشرة ، وعندئذ يتوجّه إشكال مغايرة القضية المشكوكة مع المتيقّنة. وانّ العشرة ، تغاير التسعة ، وأمّا لو قلنا ـ كما مرّ في المركب المنسي بعض أجزائه ـ بأنّ الأمر يتعلّق بالعنوان الذي هو وجود إجمالي للأجزاء ، وهي وجود تفصيلي له ، وله مع وحدة مفهومه عرض عريض ، يصدق على الواجد والفاقد ، بقرينة صدقه على صلاة الحاضر والمسافر ، والقادر والعاجز ، فإذا تعذّر بعض الأجزاء وشككنا في كيفية دخله في الموضوع ، فهل هو مطلوب مطلقاً ، أو عند التمكن يصحّ لنا ، استصحاب الوجوب المتعلّق به إلى أن يعلم ارتفاعه ، لوحدة القضيتين ، لصدق العنوان على الفاقد والواجد وهذا المقدار من الوحدة يكفي في جريان الاستصحاب.
    وعلى ضوء ذلك يكون المحكّم هو الاستصحاب لا البراءة.
    حكم القواعد الثانوية
    هذا حكم القواعد الأوّلية ودونك الكلام في حكم الأدلّة الثانوية الواردة في خصوص هذا الموضوع.
    الحديث النبوي
    أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : خطبنا رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال :


(622)
أيّها الناس قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا ، فقال رجل : أكلّ عام يا رسول اللّه ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً قال : لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم ، ثمّ قال : ذروني ما تركتكم ، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ». (1)
    ورواه النسائي في كتاب الحجّ باب وجوبه بالنحو التالي :
    « فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ». (2)
    ورواه البيهقي في سننه (3) بلفظ قريب ممّا نقله مسلم.
    هذا ما لدى السنّة وأمّا الشيعة فلم يروه أصحاب الكتب الأربعة ولا غيرها ، إلا ابن أبي جمهور الأحسائي في كتابه غوالي اللآلي وهو من علماء القرن التاسع الهجري.
    قال : روي أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « إنّ اللّه قد كتب عليكم الحجّ » قال فقام الأقرع بن الحابس فقال : في كلّ عام يا رسول اللّه ؟ فسكت ، ثمّ قال : « لو قلت نعم لوجب ، ثمّ لا تسعون ولا تطيعون ، ولكنّه حجّة واحدة ». (4)
    واستدلّ به السيد عميد الدين على ما حكاه الشهيد في الذكرى في مسألة صلاة العاري ، حيث كان يقوِّي صلاته جالساً ليومئ للسجود عارياً استناداً إلى أنّه حينئذ أقرب إلى هيئة الساجد فيدخل تحت قوله : فأتوا به ما استطعتم. (5)
1. التاج الجامع للأُصول : 2/100 ، كتاب الحج.
2. سنن النسائي : 5/111 ، ومعها تعليقات السيوطي.
3. سنن البيهقي : 4/326.
4. غوالي اللآلي : 1/169.
5. بحار الأنوار : 80/214.


(623)
    وعلى أيّ حال فالرواية عندنا مرسلة وعند غيرنا مسندة ينتهي سندها إلى أبي هريرة الذي لا يركن إلى رواياته ، ولكن إتقان المضمون يشهد على صدقه ولذلك يعلوه سمو النبوة ونورها.
    وأمّا الدلالة فالظاهر أنّها غير صالحة للاستدلال به للمقام بوجهين :
    1. موردها الحجّ على ما عرفت ، فيكون دليلاً على لزوم الإتيان في ذوي الأفراد ، لا في ذوي الأجزاء خصوصاً انّ النسائي رواه : « فخذوا به » مكان « فأتوا منه » ، والأوّل صريح في ذوي الأفراد ، هذا لو فسرنا الرواية بملاحظة الصدر أمّا مع الغض عنه فنقول : قوله : « فأتوا به ما استطعتم » فيه احتمالات :
    فإنّ لفظة « ما » إمّا مصدرية ، أو موصولة.
    وعلى الأُولى إمّامصدرية غير زمانية ، أو مصدرية زمانية ، و « من » للتعدية بمعنى « الباء » وعلى الثانية فلفظة « من » إمّا بيانية أو تبعيضية.
    فتلك احتمالات أربعة :
    1. أن تكون مصدرية غير زمانية والجار بمعنى الباء للتعدية : نظير قوله سبحانه : ( فَاتَّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ). (1) أي فأتوا به قدر الاستطاعة ، وتكون النتيجة محبوبية تكرار العمل الواجب أو المستحب بقدر الوسع ، ولا صلة لهذا المعنى بالمقام.
    2. أن تكون مصدرية زمانية فالجار أيضاً بمعنى الباء للتعدية مثل الأُولى ، ويكون المعنى فأتوا به زمان الاستطاعة ، وهذا خيرة السيد الأُستاذ والمحقّق الخوئي ، وعندئذ يكون إرشاداً لحكم العقل ولا يفيد معنى جديداً.
    3. أن تكون « ما » موصولة مفعولاً لقوله : « فأتوا » والجار بيانيّة والمعنى فأتوا
1. التغابن : 16.

(624)
الذي استطعتم من إفراد ذلك الشيء ويتحد مع المعنى الأوّل.
    4. أن تكون « ما » موصولة مفعولاً لقوله « فأتوا » والباء تبعيضية.
    والمعنى : فأتوا الذي استطعتم من بعض ذلك الشيء وهذه المحتملات الأربعة ولا صلة لها بالمقام إلا المعنى الرابع.
    والحقّ انّ المعنيين الأخيرين بعيدان لاستلزامهما تقدّم عائد الموصول ( منه ) على الموصول أعني : « ما » وهو غير جائز إلا عند الضرورة.
    والظاهر أنّ المتبادر هو المعنى الأوّل ، وهو منطبق على المورد ( الحج ).
    العلويان
    روى صاحب غوالي اللآلي : وقال ( عليه السَّلام ) : « لا يُترك الميسور بالمعسور ». وقال عليه السَّلام : « ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك كلُّه ».
    وقد استدلّ به الوحيد البهبهاني في كتاب « مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع » في باب الوضوء عند قول المصنف : « وترك الاستعانة » فقال ما هذا لفظه : نعم مع الاضطرار يجوز ان يولّي طهارته غيره ، واستدلّ بالعلويين.
    وقال بحر العلوم في منظومته :
    وفي اضطرار يسقط المعســور في الكلّ فالفــرض هو الميسور
    وليس في كتب القدماء من الحديثين عين ولا أثر ، وعلى ذلك فالاعتماد عليهما في إثبات الحكم الشرعي مشكل.
    وأمّا دلالة الأوّل على لزوم الإتيان بالأجزاء الباقية فمبني على أنّ المراد : الميسور من أجزاء المركب لا يسقط بالمعسور من أجزائه.


(625)
    وقد أُورد على الاستدلال بالحديث وجوه :
    1. ما أشار إليه المحقّق الخراساني في عدم ظهور الرواية في ذي الأجزاء من الواجب ، لاحتمال كون المراد هو ذي الافراد كالحج.
    يلاحظ عليه : أنّ الأولى بالذكر هو الأوّل ، لأنّ توهم السقوط في المركبات ذات الأجزاء المتلاحمة أقوى من توهم السقوط في الأفراد المتبائنة ، فاحتمال سقوط الجلّ لأجل سقوط الكلّ أكثر من احتمال سقوط بعض الأفراد لسقوط البعض الآخر ، فالأوّل أولى بالذكر.
    ويمكن أن يقال : انّ إطلاق لفظة « الميسور » يعم ميسور كلّ شيء ، سواء كان ذا أفراد أو ذا أجزاء.
    2. انّ الرواية تعمّ الواجبات والمستحبات ، ومعه يحمل قوله : « لا يسقط » على مطلق المحبوبية ، ولا يتم الاستدلال على لزوم الإتيان بالأجزاء الباقية في الواجب.
    يلاحظ عليه : بما أشار إليه المحقّق الخراساني من أنّ المراد هو ما لا يسقط بما له من الحكم إن كان واجباً فيبقى الوجوب ، وإن كان مستحباً فيبقى الاستحباب.
    3. ما أشارإليه المحقّق الخوئي انّ السقوط فرع الثبوت ، فالرواية مختصة بتعذّر بعض أفراد الطبيعة باعتبار انّ غير المتعذّر منها كان وجوداً ثابتاً قبل طروء التعذّر فيصدق انّه لا يسقط بتعذّر غيره ، بخلاف بعض أجزاء المركب فإنّه كان واجباً بوجوب ضمني قد سقط بتعذّر المركب من حيث المجموع ، فلو ثبت وجود بعد ذلك فهو وجوب استقلالي حادث ، فلا معنى للإخبار عن عدم سقوطه بتعذر غيره. (1)
1. مصباح الأُصول : 2/184.

(626)
    يلاحظ عليه : أنّه إنّما يتم لو قلنا بوجوب الأجزاء الباقية بوجوب ثان ، ولكن عرفت أنّ كلّ جزء ، واجب بنفس الوجوب المتعلّق بالكلّ ، ولمّا سقطت دعوة الأمر إلى الكلّ ، بقيت دعوته إلى الأجزاء الباقية بحالها ، والحديث كشف عن بقاء الدعوة.
    أضف إلى ذلك انّا نفترض أنّ الأجزاء الباقية وجبت بوجوب ثان ولكن لما كانت النتيجة واحدة يصحّ أن يقال عرفاً انّ الوجوب لم يسقط.
    4. انّ التمسك بهذا الحديث وإثبات مطلوبية الباقي مستلزم الدور ، لأنّ كون الأجزاء الباقية ميسوراً للمكلّف فرع كونها واجدة للملاك وإثبات الملاك فرع تعلّق الأمر بالباقي ، وتعلّق الأمر فرع إحراز كونه ميسوراً للسابق ومطلوباً ثانوياً له.
    يلاحظ عليه : أنّ المراد من الميسور ما يعد ميسوراً في العرف للعمل المتعذر ، ويكفي في صدقه عدّه منزلة نازلة للمعسور ، من دون نظر إلى كونه ذا ملاك حتى يتوقف صدق الميسور على إحرازه ، وإحراز الملاك ، على إحراز الأمر المتوقّف على صدق الميسور.
    وبالجملة ليس المراد من المماثلة هو المماثلة في الملاك الذي هو أمر غيبي ، بل المماثلة في الشؤون الظاهرية بحيث يعد الباقي عرفاً انّه ميسور ذلك ، كالتسعة بالنسبة إلى العشرة ، لا الاثنين بالنسبة إليها.
    ذكر سيدنا الأُستاذ انّ في الحديث احتمالات أربعة :
    1. أن يراد من الميسور والمعسور ، معسور الطبيعة وميسورها.
    2. أن يراد منهما ، معسور الأجزاء ، من الطبيعة وميسورها.
    3. أن يراد من الأوّل ، معسور الطبيعة ومن الثاني ميسور الأجزاء.


(627)
    4. عكس الاحتمال الثالث.
    أقول : لا سبيل إلى الأخيرين بحكم وحدة السياق ، فالأوضح هو الاحتمال الأوّل لولم نقل انّ هنا احتمالاً خامساً وهو إرادة الجامع بين معسور الطبيعة ومعسور الأجزاء أخذاً بإطلاق لفظ الميسور.
    الحديث الثاني
    العلوي الثاني عبارة عن قوله ( عليه السَّلام ) : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » وفيه احتمالات تستخرج من كون المراد من لفظ « كل » في كلا الموردين ، العامّ الاستغراقي أو العام المجموعي.
    وإليك الاحتمالات المفروضة في هذا المجال :
    1. أن يراد من لفظة « كل » في كلتا الجملتين العام الاستغراقي.
    2. أن يراد منهما العامُ المجموعي.
    3. أن يراد من الصدر العام الاستغراقي ومن الذيل العام المجموعي.
    4. عكس الاحتمال الثالث.
    لا شكّ انّ المعنى الأوّل ، أعني : إرادة العام الاستغراقي من كلتا الفقرتين ، أمر غير معقول ، لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بكلّ فرد وجزء من الواجب ، فكيف يؤمر بأن لا يترك كلّ فرد وجزء منه ، وهل هذا إلا كون الذيل مناقضاً للصدر ؟
    أمّا الثاني : أي إذا أُريد من كلتا الجملتين ، العامُّ المجموعي ، فهو أمر معقول بشرط أن يُفسَّر الذيل بعدم ترك المجموع لا بالإتيان بالمجموع ، ومعنى الحديث : إذا لم يمكن الإتيان بمجموع الأفراد أو الأجزاء فلا يترك المجموع بمعنى سلب


(628)
العموم ، ويحصل الامتثال بالإتيان ببعض الأفراد أو الأجزاء ، لأنّه يصدق انّه لم يترك المجموع.
    نعم لو فسّرنا النهي عن ترك المجموع بالإتيان بالمجموع كما عليه السيد الأُستاذ في تهذيبه والسيد الخوئي في مصباح الأُصول كان مفاده غير معقول (1) لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بالمجموع كيف يؤمر بالإتيان به ؟
    وأنت خبير بأنّ النهي تعلّق بترك المجموع ، أي لا تترك المجموع ، وعدم تركه يحصل بالإتيان بالبعض ; وأمّا تفسير النهي عن ترك المجموع بالإتيان به ، فلا يدل عليه اللفظ بالدلالة العرفية.
    وأمّا الثالث : أعني إذا أُريد من الصدر : العامُّ الاستغراقي ، ومن الذيل : العام المجموعي ، فهو معنى معقول ، أي إذا لم يمكن الإتيان بكلّ فرد أو جزء ، فلا يترك مجموع الأفراد والأجزاء.
    وأمّا الرابع : أعني ما إذا أُريد من الأوّل العام المجموعي ومن الآخر الاستغراقي ، فهو أيضاً غير معقول ، لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بالمجموع فكيف يتمكن من عدم ترك كلّ واحد أو جزء ؟
    وليعلم أنّ ملاك الامتناع جعل لفظة « كل » في الذيل لعموم الاستغراق ، وعلى ذلك فالصورتان : الأُولى والرابعة ، باطلتان ; والثانية والثالثة ، مقبولتان. ولعلّ المتبادر هو المعنى الثالث ، وهو صادق على ذي الأفراد وذي الأجزاء ، بل ظهوره في ذي الأجزاء أوضح من ظهوره في ذي الأفراد ، وذلك لأجل لفظة « كل » ، بما انّه مقابل للجزء.
1. تهذيب الأُصول : 2/406 ؛ مصباح الأُصول : 2/480.

(629)
    الإشكالات الواردة على الاستدلال بالحديث
    ثمّ إنّه استشكل على الاستدلال بالحديث بوجهين :
    1. عموم القاعدة للواجب والمستحب
    إنّ عموم الموصول يقتضي شموله للواجب والمستحب ، وعلى ذلك لابدّ من حمل النهي في قوله : « لا يترك » على مطلق المحبوبية ، فلا يدل على وجوب الإتيان بالباقي ، بل يدل على رجحان عدم الترك.
    يلاحظ عليه : بما ذكرنا في مبحث الأوامر من أنّ الوجوب والحرمة خارجان من مداليل الأمر والنهي ، فالأمر يدل على البعث ، والنهي على الزجر ، وأمّا كون البعث إلزاميّاً أو كون الزجر كذلك ، أو غير إلزامي ، فإنّما يستفاد من دليل خارج ، فالعقل يدل على أنّ بعث المولى لا يترك بلا جواب فيحكم بلزوم الامتثال بالفعل في الأمر والترك في النهي إلى أن يدل دليل على الرخصة فيهما.
    وعلى ذلك فحمل النهي على رجحان عدم الترك لا يكون منافياً لوجوب الأجزاء الباقية أو الأفراد الممكنة ، فلأنّه على كلّ تقدير مستعمل في مطلق البعث أو الزجر الشامل للواجب والمستحب.
    وإن شئت قلت : إنّ الحديث ظاهر في أنّ ما يمكن من الأفراد والأجزاء لا يترك بما له من الحكم ، كما مرّذكره في تفسير قوله : « لا يسقط ».
    2. ورود التخصيص الكثير عليها
    إنّ الأصحاب لم يعملوا بها في غير باب الصلاة ، فلا تكون سنداً إلا إذا عمل بها الأصحاب.


(630)
    يلاحظ أنّ الأصحاب عملوا بها في كتاب الطهارة ، والصلاة في مختلف أبوابها ، وأمّا عدم العمل به في باب الصوم فلأنّه عمل بسيط يدور أمره بين الوجود والعدم ومثله لا يعد تخصيصاً في القاعدة.
    ما هو الشرط لجريان القاعدة ؟
    ثمّ إنّه يشترط في جريان القاعدة ، عدّ الميسور ، ميسوراً للطبيعية ، فتعد الجبيرة في بعض الأجزاء ميسوراً للوضوء ولا تعد الجبيرة في معظمها ميسوراً من غير فرق بين الموضوعات العرفية والشرعية.
    وأمّا دلالة العلويين على هذا ، فلو قلنا بأنّ المراد هو ميسور الطبيعية ومعسورها ، فمعناه انّ للطبيعة فردين ، ميسوراً ومعسوراً ، وكلاهما من مصاديقها.
    وأمّا لو قلنا بالاحتمال الثاني ، أي أجزاء المعسورة من الطبيعة وميسورها منها ، فلا وجه لاشتراط صدق الطبيعة على الميسور بل يكفي عدّ الميسور جزء من المعسور ، لا مصداقاً له ، ولكن بما أنّ القاعدة إرشاد إلى ما عند العقلاء منالإتيانبميسور المطلوب عند معسوره لا محيص عن شرطية صدق ميسور الطبيعة.
    وأمّا العلوي الثاني فدلالته غير واضحة ، لأنّ المراد من الموصول هو الشيء ، والضميران في لفظة « كلّه » في الموضعين يرجع إليه ، والمعنى ما لا يدرك كلّ أجزاء الشيء فلا يترك كلّها ، واللازم كون المأتي به ، من أجزاء المعسور ، أمّا لزوم صدق الشيء عليه فلا. ويجري فيه ما ذكرناه في العلوي الأوّل من كونها إرشاداً إلى بناء العقلاء ، فيحمل على ما إذا عدّ فرداً نازلاً للطبيعة.
    وعلى ذلك فلو دلّ الدليل الخارجي على لزوم الإتيان وإن لم يصدق عليه ميسور الشيء المعسور كما في المسح على المرارة في رواية عبد الأعلى مولى
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس