إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 631 ـ 645
(631)
آل سام (1) ، أو دلّ على السقوط وإن عُدَّ ميسوراً عرفاً نأخذ به وإلا فلا يصحّ التمسّك بإطلاق القاعدة إلا فيما إذا صدق على المورد عرفاً انّه ميسوره ، ومثلاً لا ينتقل إلى الصلاة قاعداً مادام متمكناً من القيام ، فلو دار الأمر بين القيام معتمداً على شيء ، أو القيام غير مستقر ، وبين القعود بلا اعتماد أو مع الاستقرار ، يقدّم الأوّلان لأنّهما ميسورا القيام ، والمرجع هو العرف.
    التنبيه الرابع : في دوران الأمر بين الجزئيّة والمانعيّة ...
    إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته ، وبين مانعيته أو قاطعيته ، بمعنى انّا علمنا اعتبار شيء في المأمور به ، ودار الأمر بين كون وجوده مؤثراً في الصحّة ، أو كون وجوده مانعاً عنها ، وقد تقدّم الفرق بين المانعية والقاطعية وقلنا إنّ الاعتبار الصحيح فيهما كون وجودهما مزاحمين لا اعتبار عدمهما.
    وهذا كالجهر بالقراءة في صلاة الظهر يوم الجمعة لمن لم يصلّ الجمعة فدار أمر الجهر في الحمد بين كونه شرطاً للصحّة أو مانعاً عنها ، ونظيره تدارك الحمد لمن نسيه بعد ما أتمّ السورة أو دخل فيها ، حيث إنّ التدارك يدور أمره بين كونه شرطاً في الصحّة أو مانعاً عنها ، فهل المقام من مجاري التخيير أي من قبيل دوران الأمر بين المحذورين فيأتي فيه كلّ ما قلناه في ذلك المقام من إجراء البراءة عن جميع المحتملات من الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية ، كما عليه الشيخ الأنصاري ؟
    أو من مجاري الاحتياط ، أي من قبيل دوران الأمر بين المتباينين كدوران الواجب بين الظهر أو الجمعة ، فيجري فيه الاحتياط كما عليه المحقّق الخراساني ؟
    ولنذكر دليل الشيخ فقد استدل بوجهين :
    الأوّل : انّ العلم الإجمالي غير منجّز في المقام ، لأنّ آية منجِّزيته لزوم المخالفة
1. الوسائل : الجزء 1 ، الباب 39 من أبواب الوضوء ، الحديث 5.

(632)
القطعية عند جريان الأصل ، والمقام خارج عن تحت تلك القاعدة لعدم لزومها مع جريان أصل البراءة من جميع المحتملات ، لأنّ الإنسان في صلاة واحدة لا يخلو من فعل وترك والمخالفة القطعية غير ممكنة. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي إمكان الاحتياط لا لزوم المخالفة القطعيّة ، وهو أمر ممكن بتكرار الصلاة كما سيوافيك بيانه ، وقد مرّ في بيان مجاري الأُصول أنّ الموضوع للتخيير هو عدم إمكان الاحتياط ، لا عدم إمكان المخالفة ، وقلنا هناك إمّا أن يلاحظ الحالة السابقة أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن لا يمكن الاحتياط أو يمكن ، وعلى الثاني إمّا أن يكون في التكليف أو في المكلّف به ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى التخيير ، والثالث مجرى البراءة ، والرابع مجرى الاحتياط فلاحظ.
    الثاني : انّ المسألة مبنية على ما هو المختار في الأقل والأكثر ، فلو قلنا بالبراءة هناك ، تجري البراءة في المقام ، وإن قلنا بالاحتياط هناك فيكون المقام مثله وتعيّن الجمع بالاحتياط. قال قدَّس سرَّه ما هذا لفظه : التحقيق أنّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشكّ في الشرطية والجزئية وعدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذا لم تكن عملية ، فالأقوى التخيير هنا وإلا تعيّن الجمع بتكرار العبادة. (2)
    يلاحظ عليه : وجود الفرق بين المقامين إذ ليس هناك علم يأخذ شيء في المأمور به ، وإنّما الموجود هو الشك ، وهذا بخلاف المقام لوجود العلم بأخذ شيء فيه ، إمّا بما أنّ وجوده مؤثر ، أو بما أنّ وجوده مانع.
    أمّا القول الثاني : فهو خيرة المحقّق الخراساني ، ووجهه وجود العلم الإجمالي وإمكان الاحتياط بتكرار الصلاة ولكن بالتفصيل الآتي :
1. الفرائد : 298 طبعة رحمة اللّه.
2. الفرائد : 298 طبعة رحمة اللّه.


(633)
    1. إذا كان الواجب واحداً شخصياً ولم يكن له إلا فرد واحد ، كما إذا ضاق الوقت وانحصر الثوب في النجس منه ، فدار الأمر بين الصلاة عارياً ـ إذا كان الستر المذكور مانعاً في هذه الحالة ـ أو مع الثوب ، إذا كان شرطاً ، فالمرجع هو التخيير ، لعدم إمكان الموافقة القطعية ، والمخالفة القطعية بترك الصلاة غير جائزة ، فلم يبق إلا الموافقة الاحتمالية وهي تحصل لكلّ واحد من الفردين.
    2. إذا كانت الوقائع متعددة ولكن لم يكن لكلّ واقعة إلا فرد واحد ، كما إذا دار أمر الجهر في صلاة الجمعة بين كونه شرطاً أو مانعاً. فالمرجع هو التخيير لكن تخييراً ابتدائياً لا استمرارياً ، لانتهاء التخيير الاستمراري إلى المخالفة القطعية وقد تقدّم حكمه.
    3. إذا كانت الوقائع متعددة وللواجب أفراد طولية ، كدوران الأمر بين التمام والقصر للشكّ في كون الركعتين الأخيرتين شرطاً أو لا ، للشكّ في جزئيتهما ومانعيتهما ، فالمرجع هو الاحتياط بتكرار الصلاة.


(634)
    وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تفسير العنوان ، وهو انّ الشرط في مورد الأُصول على قسمين : تارة يكون شرطاً لجريان الأصل بحيث لولاه لما يكون المورد مجرى له ، وهذا كالفحص عن البيان الشرعي الذي لولاه لما تجري البراءة العقلية والنقلية ، إذ لا يصدق الموضوع أي العقاب بلا بيان ، بلا مخصص.
    وأُخرى يكون شرطاً للعمل بالأصل ، وهذا كعدم التعارض في العمل بالأصل ، فالعمل بالأصل المسببي مشروط بعدم وجود أصل سببي آخر.
    وما عن المحقّق المشكيني من جعل الفحص عن البيان شرطاً للجريان في البراءة العقلية وشرطاً للعمل في البراءة الشرعية ، غير تام ، لأنّ الدليل المهم للثانية هو حديث الرفع ، أعني قوله : « ما لا يعلمون » ولا يصدق قوله إلا لغير المتمكن من تحصيل العلم ، أعني : الحجة الشرعية لا المتمكن فانّ العالم بالقوة بحيث إذا رجع علم ، لا يعدّ غير عالم.
    إذا علمت ذلك فتارة نبحث عن شرائط جريان الاحتياط ، وأُخرى عن شرائط سائر الأُصول.
    أمّا الاحتياط فلا شكّ انّه حسن ، لكونها مجاهدة في طريق درك الحقّ والعمل به والعقل حكم بحسنه في العبادات والمعاملات لكن بشرطين :


(635)
    1. عدم استلزامه اختلال النظام وإلا يصبح أمراً مبغوضاً لا حسناً.
    2. عدم مخالفته لاحتياط آخر ، وإلا لايصدق عليه عنوان الاحتياط.
    وأمّا موارده فتحصر في المواضع التالية :
    1. الاحتياط المطلق في الشبهات وإن لم يكن في المورد علم إجمالي ولا حجّة شرعية.
    2. الاحتياط فيما إذا كان في المورد علم إجمالي.
    3. الاحتياط فيما إذا كان في المورد حجّة شرعية.
    ثمّ إنّه لا فرق في الاحتياط في العبادات بين ما يتوقف على التكرار وعدمه ، لما عرفت من أنّ الاحتياط بنفسه أمر حسن ، لأنّ الهدف إحراز الواقع على ما هو عليه ما لم يستلزم الاختلال في النظام ، بل لم يستلزم العسر والحرج ولم يكن مخالفاً للاحتياط الآخر ، وعلى ذلك فللعامي أن يترك التقليد والاجتهاد ويعمل بالاحتياط في العبادات والمعاملات.
    وربما يمنع عن الاحتياط مطلقاً لأنّه مفوِّت لقصد الوجه والتمييز من غير فرق بين كونه مستلزماً للتكرار وعدمه.
    يلاحظ عليه : أنّ الواجب في العبادات هو قصد الأمر ، بل إتيان الفعل للّه سبحانه ، وكلاهما حاصلان في العمل بالاحتياط في العبادات ، لأنّه يأتي مثلاً بالتسبيحة الثانية أو الثالثة في الركعتين الأخيرتين للّه سبحانه أو لأمره المحتمل. وهكذا يأتي بالصلاة الثانية إذ دار الأمر بين القصر والإتمام لذلك الغرض ، وإنّما الفائت هو الإتيان بالفعل بوصف وجوبه أو لغايته وهو أمر ليس بواجب.


(636)
في شروط جريان البراءة
    يقع الكلام في تحقيق شروط جريان البراءة العقلية في مواضع ثلاثة :
    الأوّل : في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي قبل التمسّك بها.
    الثاني : في استحقاق تارك الفحص العقاب وعدمه.
    الثالث : في صحّة عمل تارك الفحص إذا وافق الواقع.

    الموضع الأوّل : في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي
    اتّفقت كلمتهم على لزوم الفحص في جريان البراءة العقلية والنقلية ، أمّا البراءة العقلية فقد استدل على لزوم الفحص بوجوه نذكر منها وجهين :
    الوجه الأوّل : عدم استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان إلا بعد الفحص واليأس من الظفر بالحجّة.
    توضيحه : أنّ البيان الرافع لقبح العقاب بلا بيان ليس هو وجود البيان عند اللّه سبحانه أو عند حججه عليهم السَّلام ، بل المراد هو البيان الواصل إلى المكلّف هذا من جانب ، ومن جانب آخر ليس المراد من الوصول هو وصوله إلى كلّ واحد شخصاً ، بل المراد وجوده في مظان البيان بحيث لو رجع إليها لعثر عليه ، كما هو حال السيد بالنسبة إلى عبده والحكومات بالنسبة إلى شعوبها في الوقوف على تكاليفهم ووظائفهم أمام السيد والدولة ، وعند ذلك يكفي وجود البيان عند الرواة


(637)
وحملة العلم أو الكتب والجوامع الحديثية التي حفظت بيان الشارع ( أوامره ونواهيه ).
    وإن شئت قلت : إنّ تنجّز التكليف رهن أحد أمرين :
    1. العلم بالتكليف 2. احتمال العثور على التكليف في مظانّه ، وعلى ضوء ذلك فلا يكون الجهل عذراً إلا إذا رجع إليها ولم يعثر على البيان ، قال سبحانه : ( لِئَلاّ يَكونَ للنّاسِ عَلى اللّهِ حُجَّةٌ بعدَ الرُّسُل ). (1) فقبل الفحص عن الحجّة ، فالمولى هو صاحب الحجّة على عبيده ، وبعد الفحص وعدم العثور عليه ينقلب الأمر ويحتج العبد على مولاه.
    وإن شئت فعبّر بعبارة ثالثة : انّ المراد من البيان هو البيان الصالح لقطع العذر في وجه العبد لمخالفته للتكليف ، وليس هو إلا وجود البيان على نحو لو تفحّص عنه لعثر عليه ، وهذا النوع من البيان قاطع لعذر المكلّف في مخالفة التكليف. ولا يعلم وجود العذر وعدمه إلا بالفحص عن مظانّه.
    الوجه الثاني : ما استدل به المحقّق الاصفهاني وقال : إنّ الاقتحام في المشتبه مع أنّ أمر المولى ونهيه لا يعلم عادة بالفحص خروج عن رسم العبودية وزي الرقية.
    والفرق بين البيانين واضح ، لأنّ الباعث إلى الفحص ، في البيان الأوّل هو نفس التكليف الواقعي إذا احتمل انّه يعثر عليه إذا فحص ، وعلى الثاني الباعث هو انّ الاقتحام في المشتبه قبل الفحص ظلم وتعد على حقّ المولى فيجب الانتهاء عنه.
    ثمّ لو خالف الواقع فالعقاب على البيان الأوّل عقاب التكليف ، وعلى
1. النساء : 165.

(638)
البيان الثاني العقاب على نفس التجرّي وتحقّق عنوان الظلم. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الحكم الواقعي في صورة احتمال وجوده إمّا منجّز أو لا ، فعلى الأوّل فالباعث هو احتمال التكليف وصحّة العقاب عليه لا على كون الاقتحام بلا فحص ظلماً ، للإجماع على أنّ المعصية الواحدة ليست لها إلاعقاب واحد ، وعلى الثاني لا وجه لانطباق الظلم عليه إذ لا تكون مخالفة الحكم الواقعي الشأني ظلماً حتى يعاقب عليه.
    هذا كلّه في الشبهات الحكمية ، وأمّا الموضوعية ، فالمشهور انّ التمسّك بها ليس رهناً للتفحص ، فلو دار أمر المائع بين كون خلاً أو خمراً يجوز ارتكابه بلا فحص وإن انتهى إلى شرب الخمر.
    واحتجّوا عليه بأنّ الاحتجاج فرع ثبوت الصغرى والكبرى ، والثانية وإن كانت متحقّقة أي تعلم انّ كلّ خمر حرام ولكن الصغرى غير محرزة فلا يحتج بالكبرى المجرّدة عن الصغرى.
    يلاحظ عليه : أنّ الاحتجاج وإن كان فرع إحراز الصغرى ، لكنّه لو كان إحرازه أمراً سهلاً غير موجب للعسر والحرج يصحّ الاحتجاج بالصغرى التي لو تفحص عنها لعثر عليها.
    ولذلك أفتى الأصحاب بلزوم الفحص في بعض الشبهات الموضوعية حتى أنّ الشيخ استثنى الموارد الثلاثة : الدماء والأعراض والأموال ، كما أنّ الفقهاء أفتوا بوجوب الفحص في الموارد التالية :
    1. إذا شكّ في مقدار المسافة هل هي مسافة شرعية أو لا ؟
    2. إذا شكّ في بلوغ الأموال الزكوية إلى حدّ النصاب.
1. نهاية الدراية : 2/305 بتصرّف يسير.

(639)
    3. إذا شكّ في زيادة الربح على المؤونة حتى يخمس.
    4. إذا شكّ في حصول الاستطاعة إلى الحجّ.
    5. إذا شكّ في مقدار الدين مع العلم بضبطه في السجل إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع في الفقه ، فالأولى لزوم الفحص في التمسّك بالبراءة العقلية في الشبهات الحكمية والموضوعية معاً إلى حدّ لا ينتهي إلى العسر والحرج أو المشقة وربما يظهر من بعض الروايات انّ الأمر في باب الطهارة والنجاسة سهل.
    في شرط جريان البراءة النقلية
    اتّفقت كلمتهم على أنّه لا مجال للبراءة النقلية موضوعاً قبل الفحص وإن اختلفوا في كيفية إقامة الدليل ، ونحن نقدّم ما هو الأمتن من الأدلّة :
    الأوّل : ترك الفحص ولغوية بعث الرسل
    إنّ العقل مستقل بلزوم بعث الرسل وإنزال الكتب ، إذ لولا البعث ، لبقي الإنسان في تيه الضلال ولم يتحقق غرض الخلقة ، فلو وجب على اللّه سبحانه بعث الرسل من باب اللطف ، وجب على الناس سماع كلامهم ـ بعد ثبوت نبوّتهم بالطرق المألوفة ـ ، ولو جاز الإعراض عنهم ، لكان البعث لغواً ، وعادت الخلقة سدىً ، تعالى عنه سبحانه قال : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (1) وقال سبحانه : ( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرين ) (2) وقال تعالى : ( رُسُلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل ). وعلى ذلك فقد أتم سبحانه
1. المؤمنون : 115.
2. البقرة : 213.


(640)
ببعث الرسل الحجّة على العباد ، فلا عذر لهم في ترك ما أمروا به ، وفعل ما نهوا عنه ، فهو سبحانه يحتج عليهم بما بلّغه أنبياءهم ورسلهم ، فليس لهم الصفح عن تلك الحجج بترك التعلم والفحص عن الحكم الشرعي والتمسك بإطلاق قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون » أو : « انّ الناس في سعة ما لا يعلمون » من غير فرق بين مَنْ لم يتعلم شيئاً ، أو تعلم أشياء وشكّ في مورد خاص ، فلا محيص عن إنكار الإطلاق أو انصرافه إلى ما بعد الفحص ، وإلا يلزم الأمر بأمرين متنافيين فمن جانب يأمر الرسل ، بالتبشير والإنذار ، ومن جانب يرخّص في ترك التعلم ويعدُّ جهل العباد عذراً لهم ولا محيص في مقام الجمع عن حمل الحديثين وما أشبهها ، على ما إذا تفحّص ولم يعثر على شيء ، فبما أنّه أدّى الوظيفة ، فلو كان هناك بيان فهو معذور في تركه ، لأنّه سبحانه رفع عن الأُمّة ما لا يعلمون ، ولم يلزمهم بالاحتياط.
    وإن شئت قلت : إنّ حديث الرفع وأمثاله ، حديث امتنان ، فأيّ امتنان للجاهل بالإذن له في البقاء على الجهل ؟ أليست الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وإقرار الجاهل على جهله ، مفوّت للمصلحة أو موقع له في المفسدة ؟ ولأجل ذلك لا مناص من القول بانصراف أدلّة الأُصول كلّها عن مثل المتمكن من التعلم.
    الثاني : المورد قبل الفحص شبهة مصداقية
    إنّ المراد من « عدم العلم » المأخوذ موضوعاً في لسان أدلّة البراءة ليس العلم المنطقي ، أعني : الاعتقاد الجازم ، بل المراد الحجّة ، كما هو الحال في لفظ « اليقين » ، الوارد في أدلّة الاستصحاب فالمعنى رفع عن أُمّتي ما لم تقم الحجّة عليه ، ومن المعلوم أنّ الحجّة هو الكتاب والسنّة ، فإذا لم يرجع إليهما مع التمكن ، يكون المورد شبهة مصداقية لأدلّة البراءة ، لأنّه يشك في كونه ممّا قامت به الحجّة أم لم تقم ، ومنه


(641)
يظهر حال سائر الأدلّة ، أعني قوله : « إنّما يحتج على العباد ما آتاهم وعرفهم » ، وقال : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » ، فإذا احتمل وجود التعريف في الكتاب وورد النهي في السنّة ، يكون التمسك بأدلّة البراءة من قبيل التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية.
    ولعلّ في هذين الدليلين غنى وكفاية عن سائر الأدلّة ، وإن شئت التوسّع فاستمع لما يلي.
    الثالث : ما دلّ على وجوب السؤال فيما لا يعلم
    دل الذكر الحكيم على لزوم السؤال عند عدم العلم ، لا الصفح عنه قال سبحانه : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) والآية ضابطة كلية جارية في حقلي العقائد والأحكام ، وما روي في شأن نزولها ليس بمخصص لها ككون المورد ، علائم النبي الخاتم ، كما أنّ ما ورد في تفسير أهل الذكر من أنّ المراد أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام لا ينافي الاستدلال بها على المقام ، لأنّ تفسيرها بهم من باب الجري والتطبيق ، لا الحصر ، والحاصل أنّ وظيفة الجاهل هي السؤال لا الثبات على الجهل ، والرجوع إلى العالم ، لا إلى البراءة ، والفحص عن الدليل الاجتهادي ، داخل في الآية ، لأنّه سؤال عن أهل الذكر والحجج.
    الرابع : ما دلّ على وجوب التعلم في الروايات
    هناك قسم وافر من الروايات يدل على لزوم التعلم ، والمقام لا يسع بنقل جميعها ، فلنقتصر على بعضها :
    1. روى الفضلاء من أصحاب الإمام الصادق عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام ، أنّه
1. الأنبياء : 7.

(642)
قال لحمران بن أعين في شيء سأله : « إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون ». (1)
    2. روى ابن أبي عمير عن محمد بن سكين وغيره ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : قيل له : إنّ فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغسّلوه فمات ، فقال : « قتلوه ، ألا سألوا ألا يمّموه ، فانّ شفاء العي السؤال ». (2)
    3. ما ورد في تفسير قوله سبحانه : ( وَللّهِ الحُجَّةُ الْبالِغَة ) (3) عن مسعدة بن زياد قال : سمعت جعفر بن محمد عليهما السَّلام يقول : إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي كنت عالماً ؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت ، وإن قال : كنت جاهلاً ، قال : أفلا تعلّمت حتى تعمل فيخصمه ، فتلك الحجّة البالغة. (4)
    الخامس : ما دلّ على أنّ الواجب هو السؤال في خصوص الشبهة الحكمية
    يظهر من الروايات الواردة حول الشبهة الحكمية أنّ وجوب السؤال كان أمراً مفروغاً عنه عند أهل البيت ، وقد ذكرنا قسماً منها عند البحث في أدلّة الأخباريين ، وقد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي.
    منها : ما رواه عبد الرحمان بن الحجاج قال : سألت أبا الحسن عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء ـ إلى أن قال : ـ « إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا فتعلموا ». (5)
    وفيما ذكر من الأدلة غنى وكفاية وبعد هذا ، لا حاجة إلى الاستدلال
1. الكافي : 1/40 ، الحديث 2.
2. الكافي : 3/68 ، الحديث 5.
3. الأنعام : 149.
4. البرهان في تفسير القرآن : 1/560 ، الحديث 2.
5. لاحظ الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1 ، 3 ، 31 ، 43 ، 49.


(643)
بالإجمـاع ـ مـع احتمال أنّ مصدر المجمعين هو ما ذكرنا من الأدلّة ، ولا إلى الاستدلال بالعلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية ، ومعه لا يجوز الرجوع إليها ، وقد أورد عليه بأنّه أخصّ من المدعى ، لأنّه لا يثبت وجوب الفحص بعد انحلاله مع أنّ المدّعى هو الفحص في مورد الشبهة البدئية حتى بعد انحلال العلم الإجمالي.
    وبعبارة أُخرى : أنّ مورد ما ذكر من الدليل ، هو العلم الإجمالي بأصل التكليف ومعه لا يجري البراءة ، إلى أن ينحل العلم الإجمالي ، ومعه لا يكون له أيّ أثر ، لانعدامه ، والمدّعى هو الفحص الثاني في الشبهات الحكمية الطارئة بعد انحلاله ، ولزومه يحتاج إلى دليل آخر.
    وجوب الفحص في الأصلين : التخيير والاستصحاب
    لا شك أنّ التخيير أصل عقلي للمتحيّر الذي لا حيلة له ، ومن له حيلة لرفع التحيّر فلا يستقل العقل فيه بالتخيير.
    وأمّا الاستصحاب فهو أصل مجعول في حقّ الشاك وأدلّته منصرفة إلى الشكّ المستقر لا الزائل بالمراجعة والفحص ، وعليه استقرت سيرة العلماء.
    مضافاً إلى ما ذكر من الأدلّة على لزوم السؤال والتعلّم فانّها تعمّ موارد الأصلين.
    مقدار الفحص
    وهل يجب الفحص إلى أن يحصل اليقين لعدم الدليل أو يكفي الاطمئنان أو يكفي الظن ؟ لا سبيل إلى الأخير ، لأنّه لا يُغني من الحقّ شيئاً ، والأوّل مستلزم للعسر والحرج ، فتعيّن الثاني.
    ثمّ إنّ الفحص صار في الأزمنة الأخيرة أمراً سهلاً بعد جمع الروايات


(644)
وتبويبها على وجه يسهل للمستنبط الوقوف على الدليل الاجتهادي بعد الرجوع إلى مظانّه في الكتب الحديثية ، وإذا ضمّ إلى هذا تتبع المجتهدين بعد تأليف الكتب الأربعة وغيرها واعترافهم بعدم العثور على الدليل لحصل الاطمئنان بعدمه في مظانه.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بعد ما فرغ من لزوم الفحص عن الدليل ، قال ما هذا لفظه : « ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض بالعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام ومراده انّه بقي هنا بحثان وهما :
    1. إذا ترك الفحص فهل يعاقب أو لا ؟
    2. صحّة عمل الجاهل التارك للفحص.
    وهذان البحثان هما الموضع الثاني والثالث الّذين أشرنا إليهما في صدر المقام ، وإليك الكلام فيهما.
    الموضع الثاني : في عقوبة تارك الفحص
    إذا ترك الجاهل الفحص فهل يعاقب مطلقاً أو لا يعاقب ، أو يفصل بين مخالفة الواقع المنجّز وعدمه ؟ فلنذكر صور المسألة :
    الأُولى : إذا ترك الفحص واقتحم الشبهة ولم يكن مؤدِّياً إلى مخالفة الواقع.
    الثانية : لو ترك الفحص واقتحم الشبهة وأدّى إلى مخالفة الواقع ، وكان في المورد دليل لو تفحص عنه لعثر عليه.
    الثالثة : تلك الصورة ، ولكن لو تفحّص عنه لم يقف عليه.
    الرابعة : نفس الصورة أيضاً لكن لو تفحّص لوقف على ما يضادّ الواقع.
    الخامسة : تلك الصورة ، لكن إذا تفحص عن دليل المورد لم يقف عليه ، لكن


(645)
وقف على دليل مسألة أُخرى. كما إذا ترك الشاك في حكم التدخين وشربه ، ولكنّه لو تفحص عنه لوصل إلى دليل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال الذي كان مغفولاً عنه في هذه الحالة.
    وإليك بيان أحكام الصور :
    أمّا الصورة الأُولى : فخارجة عن موضوع البحث ، لأنّ الكلام فيما إذا ترك الجاهل الفحص وأدّى إلى مخالفة الواقع ، والمفروض في هذه الصورة عدمها.
    نعم يكون عمله تجرّياً ، ولو قلنا بعقاب المتجري يكون معاقباً وإلا فلا.
    أمّا الصورة الثانية : فلا شكّ أنّه يصحّ العقاب ، لأنّه خالف الواقع بلا عذر ، بل خالفه مع وجود الحجّة من جانب المولى على العبد لتمامية البيان الواصل عنه ، وإنّما قصر العبد في الوصول إليه ، ويكفي هذا في تصحيح العقاب ، وكونه جاهلاً بالمخالفة عند العمل لا يعدّ معذوراً.
    وإن شئت قلت : إنّ الواقع كما يتنجز بالعلم كذلك يتنجز بالاحتمال قبل الفحص ، وليس التنجز من خصائص العلم ، بل يكفي في ذلك احتمال العثور على الدليل إذا تفحص عنه ، فما في الأفواه من أنّ التنجّز من شؤون العلم فمحمول على الغالب أو على ما بعد الفحص.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني طرح سؤالاً وهو كون المخالفة مغفولة حين العمل ؟ فأجاب عنه بأنّها منتهية إلى الاختيار وهو كاف في صحّة العقوبة.
    يلاحظ عليه : أنّ البحث في الجاهل الملتفت ، التارك للفحص ، فكيف تكون المخالفة مغفولة ؟ نعم المخالفة ليست قطعية وإنّما هي محتملة ، ويكفي في كونه منجزاً قبل الفحص ، فالإشكال غير وارد حتى يحتاج إلى الجواب.
    وأمّا الصورة الثالثة ، والرابعة : فالظاهر عدم العقاب على نفس مخالفة الواقع لأنّ المفروض أنّه لو تفحص لم يقف على الدليل ، أو وقف على ما يؤدي إلى خلاف
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس