إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 16 ـ 30
(16)
    ب : قاعدة المقتضي والمانع
    إذا تعلّق اليقين بشيء والشكّ بشيء آخر يغايره ذاتاً وزماناً ، كما إذا أيقن بصب الماء على اليد ، وشكّ في وجود المانع عن وصول الماء إلى البشرة ، فهذا هو مورد القاعدة المعروفة بقاعدة المقتضي والمانع ، فالمقتضي هو صبّ الماء الذي يقتضي غسلَ البشرة ، والمانع هو احتمال وجود عائق عن وصول الماء إلى البشرة ، كاللون ، ففي المقام اختلف متعلقا اليقين والشكّ لازماناً بل جوهراً.
    وعلى ضوء ذلك تقف على الفرق الواضح بين الاستصحاب والقاعدتين المذكورتين في ناحية المتعلّق.
    ما يتّحد متعلّقا اليقين والشكّ ذاتاً وزماناً ، فهو مجرى لقاعدة اليقين.
    ما يتّحد متعلّقا اليقين والشكّ ذاتاً لازماناً ، فهو مجرى لقاعدة الاستصحاب.
    ما يختلف متعلّقا اليقين والشكّ ذاتاً ، فهو مجرى لقاعدة المقتضي والمانع.
    فعلى حجّية قاعدة المقتضي والمانع إذا شككنا في وجود العائق عن وصول الماء ، نقول : المقتضي موجود والمانع مرفوع بالأصل.
    ج : الاستصحاب القهقري
    الاستصحاب القهقري نفس الاستصحاب الرائج ، غير أنّ الفرق بينهما تقدّم زمان المتيقن على زمان المشكوك في الاستصحاب المتعارف ، وأمّا إذا انعكس فصار زمان المتيقن متأخراً زماناً ، والمشكوك متقدماً زماناً ، فهذا مورد للاستصحاب القهقهري ، كما إذا علمنا أنّ الصلاة والصوم كانا حقيقة في لسان الصادقين في الماهيات العبادية ، وشككنا في كونهما كذلك في عصر الوصي أو


(17)
النبي ، فهل يصحّ لنا إطالة عمر اليقين وجره تعبّداً إلى الزمان السابق حتى يثبت بذلك كونهما حقيقتين في الماهيات العبادية في عصرهما أيضاً ، على وجه لو وردا في كلامهما يحمل على هذه المعاني الشرعية لكونهما حقيقة في لسانهما في المعنى الذي صار حقيقته فيه في عصر الصادقين عليهما السَّلام ؟
    وبما أنّ أدلّة الاستصحاب ظاهرةً فيما إذا كان المقتضي متقدماً زماناً والمشكوك متأخراً زماناً على عكس الاستصحاب القهقري فلاتشمله أدلّته.
    نعم ربّما يتمسك في إثبات وحدة المعنى في العصرين بوجه آخر غير الاستصحاب القهقهري وهو أصالة عدم النقل وهو من سنخ الاستصحابات الدارجة ، فتثبت بها وحدة المعنى في العصرين ، وإلاّ يلزم النقل وهو منفيّ بالأصل.
    وسيوافيك الكلام في حجّية الأُصول اللفظية ولوازمها عند البحث في الأصل المثبت.
    وأمّا شمول أدلّتها القاعدة المقتضي والمانع ، فالمتبادر من الأدلّة وحدة المتعلّقين ذاتاً ، على خلاف مورد قاعدة المقتضي والمانع.

    الأمر الخامس : في تقسيمات الاستصحاب
    ينقسم الاستصحاب ، حسب المستصحب تارة ، والدليل الدال على حكمه أُخرى ، ومنشأ الشك ثالثة ، وإليك بيان الجميع على وجه الإيجاز.
    أمّا التقسيم باعتبار المستصحب : فإنّه تارة يكون أمراً وجودياً ، وأُخرى أمراً عدمياً.


(18)
    وعلى التقدير الأوّل قد يكون حكماً شرعياً ، وأُخرى موضوعاً لحكم شرعي.
    ثمّ الحكم الشرعي قد يكون كلياً ، وقد يكون جزئياً ، وعلى كلا التقديرين قد يكون من الأحكام التكليفية ، وأُخرى من الوضعية ، وأمثلة الكل واضحة.
    وأمّا التقسيم باعتبار الدليل الدال عليه : فتارة يكون دليله نقلياً كالكتاب والسنّة ، وأُخرى لبيّاً كالإجماع والعقل.
    وأمّا التقسيم من جهة الشكّ المأخوذ فيه : فالشكّ تارة يكون في مقدار استعداد المستصحب للبقاء ، ويسمى بالشكّ في المقتضي كالحيوان المردّد بين طويل العمر وقصيره ، وكنجاسة الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه ، فمرجع الشكّ إلى استعداد المستصحب للبقاء ، ونظيره استصحاب الليل والنهار ، فالشكّ في بقاء النهار يرجع إلى الشكّ في قابلية بقائهما في الفترة المشكوكة.
    وأُخرى يكون استعداده للبقاء أمراً محرزاً لكن يحتمل طروء رافع يرفع المقتضي ، كالطهارة فهي قابلة للبقاء ما لم يعرض هناك عارض ورافع كالنوم والبول. أو كعقد النكاح فالعلقة المنشأة قابلة للبقاء ما لم يطرأ رافع. فإذا شككنا في أنّ قولنا : « أنت خلية » رافع لحكم المقتضي أو لا ، يكون الشكّ من قبيل الشكّ في الرافع.
    ثمّ إنّ الشكّ في الرافع على أقسام ، لأنّ الشكّ تارة يتعلّق بأصل وجود الرافع كالحدث بعد الوضوء ، وأُخرى برافعية الأمر الموجود ، وهو على أقسام لأنّ منشأ الشكّ في رافعية الأمر الموجود أحد الأُمور التالية :
    1. تردّد المستصحب بين ما يكون الموجود رافعاً له ، وما لايكون رافعاً له ، كشغل الذمّة المستصحب يوم الجمعة بعد الإتيان بصلاة الظهر ، فانّ الشكّ في


(19)
رافعية الأمر الموجود ( صلاة الظهر ) لأجل عدم تعيّن المستصحب وتردّده بين كون الواجب هو الظهر أو الجمعة ، فعلى الأوّل ارتفع الاشتغال بالذمّة دون الثاني.
    2. الجهل بحكم الموجود ، كالمذي الخارج عن الإنسان ، فهل هو رافع شرعاً للطهارة مثل البول ، أو لا ؟
    3. الجهل بمصداقيته لرافع معلوم المفهوم كالبول ، كالبلل المردّد بين البول والوذي.
    4. أو الجهل بمصداقيته لرافع مجهول المفهوم كالتيمّم على الحجر ، المجهول كونه مصداقاً للصعيد المجهول المفهوم.
    وقد وقع الخلاف في حجّية الاستصحاب في هذه الموارد.
    هذه التقسيمات الرئيسيّة ذكرناها تمهيداً.


(20)
    استدلّ على حجّية الاستصحاب بوجوه :

    الأوّل : بناء العقلاء
    استقرّ بناء العقلاء على العمل على وفق الحالة السابقة ، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضياً ، والاستدلال مبني على ثبوت أمرين :
    1. استكشاف بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة تعبّداً ، أو لأجل الدواعي الأُخر ، كما سيوافيك.
    2. عدم الردع من جانب الشارع.
    أمّا الأوّل : فغير ثابت ، إذ لايبعد أن يكون عملهم عليه لأجل وجود الاطمئنان ، أو الظن ببقاء الحالة السابقة ، أو لغفلتهم عن الشك إن كان موجوداً في خزانة النفس.
    فعلى الأوّل والثاني : يختص جواز العمل بحصول الاطمئنان أو الظن ببقاء الحالة السابقة ، لا مطلقاً ، كما هو المطلوب.
    وعلى الثالث : لايجوز العمل به عند الشكّ مع الالتفات ، لأنّ بناء العقلاء على الجري على الحالة السابقة ، إنّما هو في صورة الغفلة عن الشكّ ، والمجتهد


(21)
المستصحِب ملتفت إلى شكّه.
    نعم لو ثبت كونه أصلاً تعبدياً عندهم وانّهم يعملون به لحفظ النظام ، كان دليلاً على حجّية الاستصحاب ، ولكنّه غير ثابت.
    وهناك مشكلة أُخرى وهي أنّهم إنّما يعملون به في الأُمور الحقيرة لاالخطيرة بل يتوقّفون حتى يحصل لهم الاطمئنان.
    وأمّا الثاني : فقد أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه يكفي في الردع ما دلّ في الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم ، أو ما دلّ على البراءة والاحتياط في مورد الشبهات.
    وأورد عليه المحقّق النائيني : بأنّ ما ذكره هنا ينافي ما تقدّم منه في باب حجّية الخبر الواحد حيث قال هناك : بأنّ ما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتباع غير العلم لايكون رادعاً لبناء العقلاء على العمل بخبر الواحد لاستلزامه الدور ، ولكنّه سلّم في المقام بأنّها صالحة لردع بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب مع أنّ بناء العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة لو لم يكن أقوى من بنائهم على العمل بالخبر الواحد فلاأقلّ من التساوي بين المقامين.
    يلاحظ على هذا الإشكال : بوجود الفارق بين قول الثقة والأخذ بالحالة السابقة ، فإنّ الأوّل عند العرف مساوق للعلم بمعنى الاطمئنان ، وهذا بخلاف الأخذ بالحالة السابقة ، إذ لايفيد إلاّ الظن دون الاطمئنان.
    وعلى ضوء ذلك فلاينتقل العرف من قوله سبحانه : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) إلى قول الثقة المفيد للعلم العرفي ، بخلاف الاستصحاب فبما أنّه مفيد
1. الإسراء : 36.

(22)
للظن الضعيف ينتقل إليه من هذه الآية ونظائرها إلى أنّها بصدد الرد على العمل بهذا الظن.
    والأولى أن يجاب بأنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن أو العمل بغير العلم ناظرة إلى ما كان عليه العرب في العصر الجاهلي ، حيث كان ديدنهم العمل ، وفق الخرص والتخيّل ، ولذلك يقول سبحانه : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظّنَّ وَما تَهْوَى الأَنْفُسُ ) (1) ، وقوله سبحانه : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّيَخْرُصُون ) (2). ففي الآية الأُولى عطف ( وما تهوى الأنفس ) ، على الظن ، كما أنّه في الآية الثانية فسّر ( الظن ) بالخرص ، كلّ ذلك شاهد على أنّ الآيات الناهية بصدد نفي ما كان عليه العرب في العصر الجاهلي من العمل بموازين موهومة ، فكانوا يقولون : بأنّ الملائكة بنات اللّه ، أو انّ عيسى ابن اللّه ، إلى غير ذلك وأين هذا من بناء العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة الذي يدور عليه نظام الحياة في غالب الأُمور ؟ فبناء العقلاء خارج عن مدلول الآيات تخصصاً وموضوعاً.

    الثاني : الاستقراء
    قال الشيخ : إنّا تتبّعنا موارد الشكّ في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع فلم نجد مورداً إلاّ وقد حكم فيه الشارع بالبقاء ، إلاّ مع أمارة توجب الظن بالخلاف. وهي لاتتجاوز عن موارد ثلاثة :
    أ : الحكم بنجاسة البلل الخارج قبل الاستبراء ، فانّ الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة ، وإلاّ لوجب الحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة ، بل لغلبة بقاء
1. النجم : 23.
2. يونس : 66.


(23)
جزء حتى البول أو المني في المخرج فرجّح الظاهر على الأصل ، وهو أصالة الطهارة.
    ب : غسالة الحمام عند بعض ، فانّ مقتضى الاستصحاب أو قاعدة الطهارة ، طهارة الماء ، إلاّ أنّ الظاهر هو انفعال هذه المياه القليلة بالنجاسة ، فقدّم الظاهر على الأصل.
    ج : ظهور فعل المسلم في الصحّة ، حيث يقدّم على أصالة الفساد التي هي مفاد الاستصحاب.
    يلاحظ عليه : أنّ الاحتجاج بالاستقراء على حجّية قاعدة يتوقف على تتبع الأحكام الشرعية من الطهارة إلى الديات حتى يعلم بعلم قطعي أنّه يحكم بالأخذ وفق الحالة السابقة في مورد الشك ، وتحصيل هذا العلم أمر مشكل.
    والاستدلال على الاستقراء بما ورد في الحديث : « يستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة » ، وقوله ( عليه السلام ) : « صم للرؤية وأفطر للرؤية » لايكون استقراء ناقصاً ، فكيف استقراء كاملاً ؟
    نعم حَكَم الشارع في مسألة استظهار الحائض قبل تجاوز العشرة ، أو يوم الشكّ على وفق الاستصحاب وهما موردان لايفيان بالمقصود.

    الثالث : الاستصحاب مفيد للظن
    إنّ الثبوت السابق مفيد للظن به في اللاحق ، وإليه استند شارح المختصر الحاجبي ، فقال : معنى استصحاب الحال : انّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء.


(24)
    يلاحظ عليه : بعدم ثبوت الكبرى أوّلاً ، لمنع إفادته للظن في كلّ مورد ، وبعدم الدليل على حجّية هذا الظن ثانياً.

    الرابع : الإجماع المنقول
    استدل صاحب المبادئ على حجية الاستصحاب بالإجماع ، فقال : الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم وقع الشكّ في أنّه طرأ ما يزيله أو لاوجب الحكم ببقائه على ما كان أوّلاً ، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه لم يثبت إجماع العلماء على الحجية ، وعلى فرض ثبوته لعلهم اعتمدوا على أحد هذه الوجوه المذكورة من سيرة العقلاء ، أو الاستقراء ، أو كونه مفيداً للظن ، ومعه لايبقى اعتمادعليه ، لأنّ مدارك حكمهم عندنا ضعيفة.

    الخامس : الأخبار المستفيضة
    تضافرت الأخبار على عدم جواز نقض اليقين بالشك ، وهي أوضح الوجوه في المقام ، وقد استمرّ الاستدلال بها من عصر الشيخ الجليل حسين بن عبد الصمد ( 918 ـ 984 هـ ) والد الشيخ بهاء الدين العاملي ( قدّس سرّهما ) إلى يومنا هذا ، واستدل بها في كتاب « العِقْد الطهماسبي » ، وإليك الروايات :

    1. مضمرة زرارة الأُولى
    روى الشيخ في التهذيب باسناده عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد ، عن
1. مبادئ الوصول في علم الأُصول : 56 ، ط طهران.

(25)
حريز ، عن زرارة قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟ فقال : « يا زرارة قد تنام العينُ ولاينام القلب والأُذن ، فإذا نامت العين والأُذن والقلبُ وجب الوضوء » .
    قلت : فإن حُرِّك الى جنبه شيء ولم يعلم به ؟ قال : « لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فانّه على يقين من وضوئه ، ولاتنقض اليقين أبداً بالشك وإنّما تنقضه بيقين آخر » . (1)
    والاستدلال يتوقف على صحّة السند ، والدلالة.
    أمّا السند ، فقد أخذ الشيخ الطوسي الحديث عن كتاب الحسين بن سعيد الأهوازي الثقة ، وهو يروي عن حمّاد ، أي حمّاد بن عيسى ( المتوفّى عام 209 ، أو 208 هـ ) المعروف بغريق الجحفة ، صاحب الرواية التعليميّة في الصلاة لا عن حمّاد بن عثمان ( المتوفّى عام 190 هـ ) لعدم رواية الحسين بن سعيد عنه ، وهويروي عن حريز بن عبد اللّه السجستاني الثقة ، عن زرارة ، عن أحدهما.
    وأمّا سند الشيخ إلى سعيد ، فهو صحيح في المشيخة والفهرست ، فقد ذكر في الأُولى إلى كتبه أسانيد مختلفة منها : انّه يرويها عن مشايخه الثلاثة : المفيد ، الغضائري ، وابن عبدون ، عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد ، عن أبيه محمد بن الحسن بن الوليد ، عن الحسين بن الحسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد. (2) وكلّهم ثقات على الأظهر ، والطريق صحيح.
    وأمّا الإضمار فلايضر بالاستدلال لجلالة زرارة ، فهو لايصدر إلاّ عن
1. الوسائل : الجزء 1 ، الباب 1 من أبواب الوضوء ، الحديث 1 ، والخطاب في قوله : « ولاتنقض » من قبيل الالتفات ، حيث عدل من الغيبة إلى الخطاب.
2. التهذيب : 10/386.


(26)
أحاديث الأئمّة المعصومين ، ومشاركة هذه الرواية مع سائر الروايات في التعبير ، ومع ذلك فقد رواه المحدّث الاسترآبادي وصاحب الحدائق والفصول عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، ولعلّهما وقفاً على ما لم نقف عليه. (1)
    وأمّا الدلالة فيتوقف البحث فيها على عدّة أُمور :
    أ : ما هو محور السؤال ؟
    لا شكّ انّ قوله : « فإن حرّك في جنبه شيء ، ولم يعلم به » ، سؤال عن شبهة موضوعية ، والشكّ في تحقّق النوم وعدمه بعد الوقوف على الحدّ الناقض منه.
    إنّما الكلام في السؤال الأوّل ، أعني قوله : « أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟ » ففيه احتمالات ثلاثة :
    1. أن يكون السؤال عن مفهوم النوم ، لا عن مفهومه الإجمالي بل عن مفهومه الدقيق ، فحاول التعرّف عليه حتى يطبقه على مورد الشبهة ، فتكون الشبهة عندئذ ، شبهة مفهوميّة.
    2. أن يكون عارفاً بمفهوم النوم ، إجمالاً وتفصيلاً ، وكان السؤال عمّا هو الموضوع للناقضية ، فهل هو مطلق تعطيل حاسّة من الحواس كالعين ؟ أو المرتبة الوسطى منه ، لتحصيل العين والسمع أو المرتبة العليا منه ؟ فأجاب الإمام بأنّ الموضوع هو المرتبة العليا ، أعني : إذا تعطّلت الحواس الثلاث.
    3. أن يكون السؤال عن ناقضية الخفقة ، مع العلم بعدم دخولها في النوم ، ولكن يحتمل أن تكون ناقضة برأسها.
1. الفوائد المدنية : 142 ، مبحث التمسّك بالاستصحاب ؛ الحدائق : 1/143 ، المقدمة الحادية عشرة ؛ وحكي عن رسال المحقّق البهبهاني انّه أيضاً أسندها إلى الإمام الباقر عليه السَّلام.

(27)
    والثالث غير مراد قطعاً ، لأنّ النواقض محدودة ومن البعيد أن لايعرف زرارة نواقض الوضوء ، مع أنّ جواب الإمام لايوافق هذا الاحتمال ، فدار الأمر بين الأوّل حيث تكون الشبهة عندئذ مفهومية تستعقب شبهة حكمية ، والثاني فتكون الشبهة شبهة حكمية محضة ، ولعلّه المتعيّن حيث إنّ الإمام بشرحه مفهوم النوم ، عيّن الناقض ، وانّه عبارة فيما إذا نامت فيه الحواس الثلاثة.
    ب : ما هو الجزاء لقوله : وإلاّ فإنّه على يقين ؟
    إنّ قوله « وإلاّ » قضية شرطية ، أي « وإن لم يجئ من ذلك بأمر بيّن » فيحتاج إلى الجزاء. فما هو الجزاء ؟ هنا احتمالات ثلاثة :
    1. أن يكون الجزاء محذوفاً : أي فلايجب الوضوء.
    2. أن يكون الجزاء قوله : « فإنّه على يقين من وضوئه » .
    3. أن يكون الجزاء قوله : « ولاتنقض اليقين أبداً بالشكّ » .
    أمّا الاحتمال الأوّل ، فهو أوضح الوجوه حيث حذف الجزاء وأُقيمت العلّة المركبة من صغرى وكبرى مكانه ، أعني قوله ( عليه السلام ) : « فإنّه على يقين من وضوئه ولاتنقض اليقين أبداً بالشك » وله نظائر في التنزيل مثل قوله سبحانه : ( إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) (1) ، وغير ذلك.
    وأورد عليه المحقّق النائيني : إنّ فرض الجزاء مقدّراً كقوله : « فلايجب الوضوء » يستلزم التكرار لسبق نظيره في قوله : « لا حتى يستيقن » ، أي لايجب الوضوء حتى يستيقن.
1. يوسف : 77.

(28)
    يلاحظ عليه : أنّ نكتة التكرار هو التركيز على عدم الوجوب ، مضافاً إلى أنّه إنّما يستهجن لو كان الجزاء مذكوراً لامحذوفاً مقدّراً.
    وأمّا الاحتمال الثاني أي كون الجزاء ، قوله : « فإنّه على يقين » ، فهولا يخلو إمّا أن يكون باقياً على ظاهره من الإخبار عن كونه على يقين من وضوئه ، أو غير باق بل يكون مؤوّلاً إلى الإنشاء ، أي « وليكن على يقين من وضوئه » ، فالأوّل لايصلح أن يقع جزاء ، لعدم الصلة عندئذ بين الشرط والجزاء ، وعدم ترتّبه على الشرط ؛ والثاني بعيد عن ظاهر الكلام حيث أطلق الجملة الخبرية وأُريد بها الإنشاء بلا قرينة.
    وأمّا الاحتمال الثالث بأن يكون الجزاء قوله : « ولاتنقض اليقين أبداً بالشك » ، ويكون قوله : « فهو على يقين » توطئة للجزاء فهو أبعد ، إذ لايدخل حرف العطف على الجزاء.
    نعم الجزاء عند الأُدباء هو قوله : « فانّه على يقين » لكنّهم يدرسون الظاهر وإلاّ فالجزاء محذوف.
    ج : دلالة الرواية على حرمة النقض في جميع الأبواب
    إذا قلنا بكون الجزاء محذوفاً تكون الجملة الواقعة بعده تعليلاً مركباً من صغرى وكبرى ، أعني :
    1. انّه على يقين من وضوئه ، 2. ولاتنقض اليقين أبداً بالشك.
    فدلالة التعليل على حرمة نقض اليقين في باب الوضوء لاغبار عليه ، إنّما الكلام في دلالته على حرمته مطلقاً في جميع الأبواب.


(29)
    فربما يحتمل اختصاص التعليل بباب الوضوء حيث إنّ اليقين في الصغرى تعلّق بالوضوء حيث قال : « وإلاّ فانّه على يقين من وضوئه » ، وعندئذ يكون الحدّ الوسط في الكبرى هو أيضاً اليقين بالوضوء ، أي ولاتنقض اليقين بالوضوء أبداً بالشكّ ، فلايعمّ الحديث عامة الأبواب.
    وبعبارة أُخرى : تكون « اللام » في الكبرى للعهد لاللجنس.
    وأجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ قوله : « من وضوئه » ، في الصغرى ليس من متعلّقات اليقين حتى يكون اليقين مقيداً به ، بل هو ظرف مستقر متعلّق بلفظ مقدّر ، أي هو من طرف وضوئه على يقين فيكون الحدّ الأوسط في الصغرى كالكبرى هو نفس اليقين.
    ولكنّه بعيد عن الذوق العربي إذ المتبادر من العبارة تعلّق الظرف باليقين ، والأولى أن يجاب بأنّ العرف يساعد على إلغاء التقيّد به ، وذلك للوجوه التالية :
    أ : انّ التعليل بأمر ارتكازي غير مختص بباب دون باب ، ومفاده : انّ اليقين أمر مبرم مستحكم لاينقض بالأمر الرخو.
    ب : قوله : « أبداً » يناسب عدم اختصاصه بباب.
    ج : ورود الكبرى في غير باب الوضوء أيضاً ، كما سيوافيك.
    وبذلك يعلم أنّه لو قلنا : إنّ الجزاءمحذوف تكون الجملتان أظهر في العموم والشمول ، بخلاف ما لو قلنا : إنّ الجزاء هو الصغرى ، أو الجزاء هو الكبرى ، فإنّ استفادة الشمول يكون أمراً مشكلاً كما لايخفى.

    2. الصحيحة الثانية لزرارة
    روى في « علل الشرائع » في الباب الثمانين تحت عنوان « علّة غَسْلِ المنيّ إذا


(30)
أصاب الثوب » عن أبيه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) : ...
    ورواه الشيخ في « التهذيب » مضمرة عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة قال : قلت له ...
    وعلى ذلك فلاغبار على الرواية سنداً ، أضف إليه ما ذكرناه في المضمرة السابقة في حقّ زرارة ، والرواية مشتملة على ستة أسئلة ، وسبعة أجوبة ، فإنّ للسؤال السادس شقين في كلام الإمام بهما صارت الأجوبة سبعة ، وإليك الأسئلة والأجوبة واللفظ للتهذيب.
    1. أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، أو شيء من مني ، فعلّمتُ أثره إلى أن أصيب له من الماء ، فأصبتُ وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيتُ ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك.
    قال : « تعيدُ الصلاة وتغسله » .
    2. قلت : فإنّي لم أكن رأيتُ موضِعَه ، وعلمتُ أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صلّيت وجدته ؟ قال : « تغسله وتعيد »
    3. قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرتُ فلم أر شيئاً ثمّ صليتُ فرأيت فيه ؟
    قال : « تغسله ولاتعيد الصلاة » .
    قلت : لم ذلك ؟
    قال : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً » .
    4. قلت : فإنّي قد علمتُ أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله ؟
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس