إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 31 ـ 45
(31)
    قال : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك » .
    5. قلت : فهل عليّ إن شككتُ في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟
    قال : « لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تُذْهِبَ الشكَ الذي وقع في نفسك » .
    6. قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة ؟
    فأجاب الإمام بأنّ له صورتين.
    أ : قال : « لاتنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » .
    ب : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ، لأنّك لاتدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك » . (1)
    إنّ الكلام في مقامات :
    الأوّل : في سند الحديث
    إنّ سند الرواية صحيح ، فقد رواه الشيخ بسنده الماضي ، عن الحسين بن سعيد الأهوازي ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة ، قال قلت له : ... وهي أيضاً كسابقتها مضمرة ، ولكن لايضر الإضمار كما مر.أضف إليه انّ الصدوق نقله مسنداً.

    الثاني : في توضيح الأسئلة الواردة فيها
    إنّ الرواية مشتملة على أسئلة وأجوبة ستة غير انّ للسؤال السادس شقّين ـ
1. التهذيب : 1/ 446 ح 1335 ، باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ؛ الوسائل : 2/1053 و1061 و1605 ، ح1 و2 ، الباب 41 و44 و37 من أبواب النجاسات.

(32)
كما يظهر من جواب الإمام ـ والفرق بين الأسئلة واضح.
    فالأوّل من الأسئلة يركز على وجود العلم التفصيلي بإصابة النجس الثوبَ مع العلم بمحله مشخصاً ، لكنّه صلّى فيه نسياناً.
    والثاني منها يركز على العلم الإجمالي بإصابة النجس الثوبَ مع عدم العلم بمحله مشخصاً ، فقد حكم الإمام بالإعادة في كلتا الصورتين ، وانّ النسيان ليس بعذر مع سبق العلم تفصيلاً أو إجمالاً.
    والثالث منها ناظر إلى الظن بوجود النجاسة دون العلم حيث ظن ونظر ولم ير شيئاً ، ثمّ صلّى فرأى فيه النجاسة. وفي السؤال احتمالان كما سيوافيك.
    والرابع منها ناظر إلى كيفية تحصيل البراءة اليقينية إذا علم بإصابة النجس الثوب ولم يعرف مكانه مشخصاً ، فأجاب الإمام بأنّه تغسل الناحية التي قد أصابها.
    والخامس ناظر إلى وجوب الفحص عن إصابة النجاسة وعدمه ، فأجاب الإمام بعدمه ، مع أنّ مقتضى القاعدة هو وجوب الفحص لسهولة تحصيل العلم بالواقع ، لكن الجواب حاك عن وجود السهولة في باب النجاسات.
    وأمّا السؤال السادس بكلا شقيه فسيوافيك الكلام فيه.
    الثالث : في إيضاح السؤال الثالث
    جاء في السؤال الثالث قول الراوي : « فإن ظننت انّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أرَشيئاً ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه » فقد فسر بوجهين :
    1. انّه ظن الإصابة دون أن يتيقّن ، وبعد الفراغ عن الصلاة رأى فيه


(33)
النجاسة التي ظن بها قبل الصلاة ، وهذا هو أحد الاحتمالين عند الشيخ حيث قال : أن يكون مورد السؤال إن رأى بعد الصلاة نجاسة يعلم أنّها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة ، فالمراد من اليقين هو اليقين قبل ظن الإصابة ، ومن الشك هو الشكّ حين إرادة الدخول في الصلاة ، فيكون ظرف الاستصحاب هو قبل الدخول في الصلاة.
    2. أن يكون مورد السؤال رؤيةَ النجاسة بعد الصلاة مع احتمال وقوعها بعدها ( لامع العلم بوجودها قبل الصلاة كما في الاحتمال الأوّل ) فالمراد أنّه ليس ينبغي ـ بعد الفراغ عن الصلاة ـ أن تنقض اليقين بالطهارة بمجرّد احتمال وجود النجاسة حال الصلاة ، فالعلم بطهارة الثوب قبل الصلاة ، لايُنقض بالشك إلى الفراغ منها. نعم لايثبت بالأصل ، تأخّرها عن الصلاة ، فيكون ظرف الاستصحاب هو بعد الصلاة ، بخلافه على الاحتمال الأوّل فانّ ظرفه هو قبلها.
    يلاحظ عليه : انّه مخالف لقول السائل : « فصلّيت فيه فرأيت فيه » أي رأيت النجاسة التي ظننت إصابتها للثوب قبل الدخول في الصلاة.

    الرابع : في كيفية الاستدلال بالفقرة الثالثة
    إذا كان المراد هو ما اخترناه ، فالمراد انّه كان قبل ظن الإصابة على يقين من طهارة ثوبه ، فإذا شكّ حين الدخول في الصلاة فليس له أن ينقض اليقين بالطهارة ، بالشك في الإصابة حين الدخول.
    وهنا إشكال واضح : انّ عدم جواز نقض اليقين بالشكّ حين الدخول ، صالح لتجويز الدخول في الصلاة المشروطة بالطهارة ، حيث إنّ الامتناع عن الدخول فيها نقض لآثار تلك الطهارة المحرزة قبل الدخول ، ولايصلح علة


(34)
لعدم الإعادة إذ ظرف الإعادة إنّما هو بعد الصلاة ، ولو حكم بها يكون من قبيل نقض اليقين بالطهارة ، باليقين بالنجاسة حيث إنّ المفروض أنّه رأى بعد الصلاة نفس النجاسة التي خفيت عليه حين الدخول.
    وحاصل الإشكال : انّ كلام الإمام ـ أعني : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً » ـ راجع إلى إحدى الحالتين :
    أ : حالة ما قبل الدخول في الصلاة ، وهناك يقين بالطهارة وشكّ في طروء النجاسة ، فأركان الاستصحاب موجودة ، لكنّه يصلح أن يكون علّة لجوازالدخول في الصلاة. وليس هناك موضوع للإعادة.
    ب : حالة الفراغ من الصلاة ، فهناك تبدّل اليقين بالطهارة إلى اليقين بالنجاسة ، فلايصحّ تعليل عدم الإعادة باستلزامه نقض اليقين بالشكّ ، لأنّ المفروض تبدّل يقينه إلى يقين آخر فأركان الاستصحاب مختلّة.
    وقد أُجيب عن الإشكال بوجوه :
    1. ما نقله الشيخ الأعظم عن بعضهم : أنّ عدم الإعادة بملاحظة اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء ، فتكون الصحيحة من حيث تعليلها دليلاً على القاعدة وكاشفة عنها.
    يلاحظ عليه : أنّ الرواية لاتعلّل الصحة بالقاعدة وهو انّ ثوب المصلّي حين الدخول كان محكوماً بالطهارة وكان المصلي مأموراً بالصلاة معها ، وامتثال الأمر الظاهري مجز عن امتثال الأمر الواقعي ، بل تعلل بأنّه لو أعاد الصلاة لكان هذا نقضاً لليقين بالشكّ مع أنّه لو حكم بالإعادة لزم نقض اليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة.


(35)
    2. انّ ظاهر قوله : « صلّ في الثوب الطاهر » هو لزوم إيقاع الصلاة في الطاهر الواقعي ، فلو تبيّن الخلاف وانّ الثوب كان نجساً ، تبيّن فقدُ الصلاة ، الشرط اللازم.
    لكن بعد ضمِّ قاعدة الطهارة أو الاستصحاب إلى الدليل المذكور ، تتسِّع دائرةُ الشرطِ ويكون المأخوذ في صحّة الصلاة ، هو إحراز الطهارة من حين الدخول إلى الفراغ عنها ، كان الثوب طاهراً في الواقع أم لا.
    وعلى ضوء هذا فلو صلّى الرجل في ثوب كان محكوماً بالطهارة بحكم الأصل أو القاعدة ، فقد صلّى في ثوب جامع لشرط الصحة ، وبذلك يعلم أنّ ظرف الاستصحاب إنّما هو حالة الدخول في الصلاة لاالفراغ عنها.
    إذا علمت هذا فنرجع إلى فقه الرواية فنقول :
    إنّ الإمام ( عليه السلام ) فرّق بين الصورتين الأُوليين والصورة الثالثة ، فحكم بالبطلان في صورة نسيان النجاسة والصحة في صورة الجهل بها ، مع اشتراك الصور في شيء واحد ، وهو إيقاع الصلاة في ثوب نجس ، ولذلك تعجب زرارة عن التفريق ، فصار الإمام بصدد الجواب بوجود الفرق بين الأُوليين والثالثة ، وذلك بعدم الاستصحاب المحرز فيهما ، لسبق العلم بالنجاسة وإن عرض له النسيان ، ومعه لا موضوع للاستصحاب ، بخلاف الصورة الثالثة فانّ الأصل المحرِز كاف في إحراز الشرط ( الطهارة المحرِزة ) ولايلزم الطهارة الواقعية ، فلو وجبت الإعادة يلزم عدم حجّية الاستصحاب وجواز نقض اليقين بالطهارة بالشكّ فيها والمفروض عدم جوازه.
    وبعبارة أُخرى : انّ لازم الأخذ باليقين السابق هو كون الصلاة مشتملة على الشرط اللازم ، ومعه لا وجه للإعادة ، والحكم بها يعد دليلاً على عدم الاعتبار.


(36)
    ثمّ إنّ صاحب الكفاية بعد الإشارة إلى هذا الجواب بوجه موجز أعقبه بذكر إشكالين وجوابين بما لاحاجة إليهما.
    3. انّ صحة الصلاة وعدم وجوب الإعادة رهن أمرين حاصلين :
    أ : كون الثوب محكوماً بالطهارة شرعاً ، بفضل الاستصحاب الجاري حين الدخول فيها.
    ب : امتثال الأمر الظاهري المتعلّق بإقامة الصلاة فيه مقتضياً للإجزاء وسقوط الأمر الواقعي به.
    وعلى هذا ، يصحّ تعليل صحّة الصلاة بالأمر الأوّل ، وحده ، وبالثاني كذلك ، وبهما مجموعاً كما في تعليل حدوث العالم ، فتارة يعلّل بأنّه متغيّر ، وأُخرى بأنّ كلّ متغيّر حادث ، وأُخرى يؤتى بكليها. والإمام ( عليه السلام ) اقتصر في المقام بالأمر الأوّل وانّ المصلي كان حين الدخول محرزاً لها ، والصلاة جامعة للشرط ، وكان مأموراً بإقامة الصلاة معه ، ولو ضُمَّ إليه الأمر الثاني وهو أنّ امتثال الأمر الظاهري موجب للإجزاء ، يكون التعليل كاملاً مركباً من صغرى وكبرى.
    ولعلّ هذا مراد من قال بدلالة الرواية على إجراء الأمر الظاهري.

    الخامس : دراسة الفقرة السادسة بكلا شقيها
    إنّ زرارة تابع الأسئلة الخمسة المتقدمة بسؤال سادس ، وهو :
    قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة ؟
    فأجاب الإمام بأنّ له صورتين :
    أ : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته » .


(37)
    ب : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ، لأنّك لاتدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك » . يقع الكلام في موضعين :
    الأوّل : ما هو المقصود من الشقّ الأوّل ؟
    هل المراد منه السؤال عمّا سبق العلم الإجمالي بالنجاسة ، بأن علم طروء النجاسة على ثوبه إجمالاً ، ثمّ عرض النسيان ؟ أو السؤال عن الشكّ البدوي ، وانّه شكّ قبل الدخول في الصلاة ولم ير شيئاً ، ثمّ رآه في أثناء الصلاة ؟ الظاهر هو الأوّل ، بالقرائن التالية :
    أ : تعبيره في الشقّ الثاني بقوله : « وإن لم تشك » الظاهر في أنّ الفرق بين الشقين هو وجود الشكّ في الأوّل دون الثاني ، لاسبق العلم الإجمالي في أحدهما دون الآخر.
    ب : ظاهر الرواية أنّ الحكم بالإعادة لأجل رؤية النجاسة في أثناء الصلاة دون العلم الإجمالي المتقدّم ، ولو كان هناك علم إجمالي متقدّم لكان البطلان مستنداً إليه كما في السؤال الثاني حيث قال : قلت : فإنِّي لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته ؟
    ج : انّ السؤال السادس ترتب على السؤال الخامس ، وكان السؤال في الخامس عن الشبهة البدوية حيث قال : قلت : فهل عليّ إن شككتُ في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟ فقال : « لا » .
    فعندئذ خطر بباله أنّه لو كان الوضع كذلك فلو شكّ قبل الدخول ، ولم يجد شيئاً ودخل في الصلاة فرآه في أثنائها فما هو واجبه ؟ فأجاب الإمام : لو علم


(38)
بأنّ المرئي ، هو المشكوك الذي احتمله قبل الدخول فيها ولايحتمل أنّه شيء أُوقع عليه في الأثناء ، فيعيد وإلاّ فلا.
    وهذا الوجه يقتضي حمل الفقرة الأُولى من الجواب على الشكّ البدئي حين الدخول في الصلاة ثمّ تبدّله إلى العلم في أثنائها.
    الثاني : ما هو الفرق بين هذا الشق ومورد السؤال الثالث ؟
    إنّ الشقّ الأوّل من السؤال السادس يشارك مورد السؤال الثالث في أمر ويفارقه في آخر.
    يشاركه في الدخول في الصلاة مع الشكّ في كون الثوب نجساً أو لا.
    ويفارقه في أنّ الشكّ تبدّل إلى اليقين بعد الفراغ في مورد السؤال الثالث ، وفي الأثناء في هذا الشق.
    وعندئذ يتوجّه إشكال على الجواب بوجوب الإعادة في هذا الشقّ وعدمه في مورد السؤال الثالث مع اشتراكهما في وقوع الصلاة في النجس إمّا كلاً أو بعضاً مع أنّ الثاني أولى بالصحة.
    الجواب عن الإشكال
    إنّ بين الصورتين وراء اختلافهما في وقوع جميع الصلاة أو بعضها في النجس ، فرقاً آخر ، وهو أنّ من المحتمل أن يكون المانع عن صحة الصلاة هو النجاسة المعلوم حالها ، وهو موجود في الصورة الأُولى دون هذا الشقّ.
    وبعبارة أُخرى : ادّعاء الأولوية ممنوعة ، إذ من الممكن أن تكون النجاسة المكشوفة حال الصلاة ، المقترنة معها من أوّلها إلى زمان الوقوف عليها ، مانعة ، دون


(39)
ما إذا لم تنكشف إلاّ بعد الصلاة.
    بقي الكلام في الشقّ الثاني من السؤال السادس ، أعني : ما إذا دخل في الصلاة ، متيقناً بطهارة ثوبه فإذا رأى الدم الرطب في ثوبه ، فقال الإمام : « قطعت الصلاة وغسلته ، ثمّ بنيت على الصلاة ، لأنّك لاتدري لعلّه شيء أُوقع عليك ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » .
    فظرف الاستصحاب في هذا الشق إنّما هو حالة عروض الشك ، لاقبله فتستصحب طهارة ثوبه إلى زمان الرؤية فلم يثبت كون الصلاة مقرونة بالمانع ، فلا وجه للبطلان والإعادة ، فله أن يقطع الصلاة ويغسل الثوب على وجه لايكون العمل ماحياً لصورتها ويبني على ما مضى.
    ويبقى اقتران جزء صغير من الصلاة بها ولعلّه لصغرها معفو عنه ، واللّه العالم.
    السادس : الرواية تهدف إلى الاستصحاب
    قد عرفت الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، وأنّ اليقين محفوظ في ظرفه حين الشكّ في الاستصحاب دونه في قاعدة اليقين ، فانّ الشكّ يسري إليه في ظرفه.
    وبعبارة أُخرى : انّ في الاستصحاب في ظرف الشكّ يقيناً فعلياً وشكاً كذلك ، بخلاف قاعدة اليقين إذ ليس في ظرف الشكّ أي يقين.
    فعلى هذا فلابدّ لنا من دراسة قوله : « لاتنقض » في السؤال الثالث والشقّ الثاني من السؤال السادس ، فهل ينطبق على الاستصحاب أو على قاعدة اليقين ؟


(40)
    واعلم أنّ الكبرى الكلية وردت في الصحيحة في موردين : أحدهما : جواب السؤال الثالث ، والأُخرى : جواب الشقّ الثاني من السؤال السادس ، فنقول :
    أمّا الوارد في جواب السؤال الثالث من قوله : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت » فهنا احتمالان :
    1. اليقين الحاصل قبل ظن الإصابة.
    2. اليقين الحاصل بعده ، وبعد الفحص وعدم الرؤية شيء.
    فقال المحقّق الخراساني : لو كان المراد من اليقين هو الوجه الأوّل لانطبق على الاستصحاب ، وأمّا لو كان المراد اليقين الحاصل بعد الفحص ، فينطبق على قاعدة اليقين لزواله بعد الرؤية.
    الظاهر هو الوجه الأوّل ، لما قلنا من أنّ ظرف الاستصحاب إنّما هو قبل الدخول في الصلاة ، لما مرّ عند بيان كون الاستصحاب سبباً لعدم الإعادة ، من أنّ المصلّي في تلك الحالة مخاطب بعدم نقض اليقين بالشك ، وليس هذا اليقين ، إلاّ اليقين قبل ظن الإصابة.
    أضف إلى ذلك ، عدم حدوث اليقين بعد الفحص غاية الأمر عدم رؤية شيء بعد الفحص ، لاالإذعان بالعدم كما هو واضح.
    وأمّا الوارد في الشقّ الثاني من السؤال السادس ، أعني : قوله : « وإن لم تشك ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ، ثمّ بنيت على الصلاة لأنّك لاتدري لعلّه شيء أُوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك أبداً » ، فلا شكّ أنّه ليس فيه إلاّ يقين واحد ، لافتراض أنّه لم يشكّ إلى زمان رؤية الدم في ثوبه أثناء الصلاة ، لكنّه يحتمل طروءه قُبَيل الصلاة ، أو أثناءها ، فيستصحب اليقين السابق ، لأنّه كان


(41)
متيقِّناً بطهارة ثوبه في زمان ، لكنّه يشكّ انتقاضه قبيل الدخول في الصلاة ، والأصل بقاؤه فينطبق على الاستصحاب.

    3. الصحيحة الثالثة لزرارة
    روى الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن هاشم ، عن حمّاد ابن عيسى ، عن حريز ، عن زرارة قلتُ له : مَنْ لم يدرِ في أربع هو أم في ثنتين ، وقد أحرز الثنتين ؟ قال : « يركع بركعتين ، وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه ؛ وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع ، وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها أُخرى ولا شيء عليه ، ولاينقض اليقين بالشك ، ولايُدخل الشكَّ على اليقين ، ولايُخْلِطْ أحدهما بالآخر ، ولكنّه يَنقُض الشكّ باليقين ويُتمُّ على اليقين ، فيَبني عليه ، ولايَعتدُّ بالشكّ في حال من الحالات » . (1)
    وتحقيق المقام يتوقف على البحث في أُمور :
    1. صحّة السند
    رواها الكليني تارة بالسند المذكور ، عن حمّاد بن عيسى ؛ وأُخرى بسند آخر ، أعني : عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى. وقد ذكرنا في محله أنّ المراد من محمد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني ويروي هو عن الفضل ، هو محمد بن إسماعيل النيسابوري الثقة ، فالرواية على كلا السندين صحيحة.
1. الوسائل : الجزء 5 ، الباب 13 من أبواب الخلل الحديث 4 ؛ والباب 10 منها ، الحديث 3.

(42)
    2. كيفية الاستدلال
    الاستدلال مركّز على بيان متعلّق اليقين في قوله : « ولاينقض اليقين بالشك » في الفقرة الثانية ، فقد استظهر غير واحد أنّ المتعلّق عبارة عن عدم الإتيان بالأكثر ، أو اليقين بالأقلّ ، الملازم لليقين بعدم إتيان الأكثر ، فعندئذ ينطبق على الاستصحاب ، وتكون الكبرى المذكورة دليلاً لقوله المتقدّم عليه ، أعني : « قام وأضاف إليها أُخرى ولا شيء عليه » وكأنّ قائلاً يقول لماذا ؟ فقال : لأنّه لاينقضُ اليقين بعدم الإتيان بالشكّ فيه.
    وقد أُشكل على الاستدلال بوجوه أربعة :
    الأوّل : الحمل على الاستصحاب لايوافق المذهب
    إنّ مقتضى الاستصحاب عندئذ الإتيان بالمشكوك موصولاً ، مع أنّ المذهب المتفق عليه هو الإتيان به مفصولاً ، فتكون الرواية معرضاً عنها ، ويؤيد الاتصال لفظا : « الإضافة » و « النقض » فانّ مقتضاهما هو الاتصال ، فانّ الأوّل يدل على أنّ المضاف من جزء المضاف إليه ، ومقتضى الجزئية الإتيان به موصولاً كما أنّ كلمة النقض حاك عن الاتصال ، قال تعالى : ( وَلاتَكُونُوا كَالّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّة أَنكاثاً ) (1) ، فلو قلنا : إنّ معناه لاتنقض المتيقّن بالمشكوك ، تكون النتيجة ضمه إلى المتيقّن.
    وقد أُجيب عن الإشكال بوجوه :
    1. ما أجاب به المحقّق الخراساني : انّ أصل الإتيان بالمشكوك هو مقتضى
1. النحل : 92.

(43)
الاستصحاب ، غاية الأمر إتيانه موصولاً ، لاينافي الاستصحاب بل ينافي إطلاق النقض ، وقد قام الدليل على أنّ المشكوك لأنّه أن يؤتى بها مفصولاً.
    2. ما أجاب به المحقّق النائيني ، حاصله : انّ الاتصال مقتضى إطلاق الاستصحاب وليس مقتضى مدلوله قال : إنّ الموجب لتوهّم عدم انطباق الرواية على الاستصحاب ليس إلاّ تخيّل أنّ الاستصحاب في مورد الرواية يقتضي الإتيان بالركعة الموصولة ، وذلك ينافي ما عليه المذهب ، ولكن هذا خطأ ، فانّ اتصال الركعة المشكوكة ببقية الركعات إنّما يقتضيه إطلاق الاستصحاب ، لا انّ مدلول الاستصحاب ذلك ، بل مدلول الاستصحاب إنّما هو البناء العملي على عدم الإتيان بالركعة المشكوكة ، وأمّا الوظيفة بعد ذلك هو الإتيان بها موصولة فهو ممّا لايقتضيه عدم نقض اليقين بالشك. (1)
    والفرق بين الجوابين واضح : فانّ الاستصحاب على الأوّل لايمس كرامة المذهب ، وإنّما ينافيه لفظ النقض ، بخلاف الثاني فانّه يمس كرامته ، لكن المنافي إطلاقه ، لاأصل مدلوله.
    يلاحظ على كلا الجوابين : أنّ الاستصحاب من الأُصول التنزيلية ، أي تنزيل الشاك في الإتيان ، بمنزل المتيقّن بعدمه ، والتنزيل التشريعي رهن ترتّب أثر عليه وإلاّ يكون لغواً ، وليس الأثر إلاّ ما يقوم به المتيقّن وهو الإتيان به موصولاً ، فيكون الحكم بالإتيان مفصولاً مخالفاً لمدلوله.
    نعم يمكن توجيهه بالنحو الثاني.
    إنّ لتنزيل الشاك منزلة المتيقن أثرين :
1. فوائد الأُصول : 4/362.

(44)
    1. الحكم بعدم الإتيان بالمشكوك أصلاً.
    2. الحكم بالإتيان به موصولاً.
    فنأخذ بالأثر الأوّل ونرفع اليد عن الأثر الثاني بحكم ضرورة المذهب ، وعلى كلّ تقدير فالإتيان موصولاً كنفس الإتيان من آثار الاستصحاب.
    3. ما أجاب به الشيخ الأنصاري ، وحاصله : انّه ربما يتوهم ورود الرواية تقيّة ، لأنّ مقتضى الاستصحاب هو الإتيان بالمشكوك موصولاً ، ولكن التقية في تطبيق الكبرى على المورد لا في نفس الكبرى ، وكم لها من نظير في الفقه.
    منها قوله ( عليه السلام ) لمنصور الدوانيقي : « ذلك إلى الإمام إن صمتَ صُمنا وإن أفطرتَ أفطرنا » (1) فالحكم بوصفه الكلي صحيح ، وليس فيه التقية ، وإنّما التقية في تطبيقه على الحاكم السائد آنذاك.
    ومنها : قوله ( عليه السلام ) في صحيحة البزنطي ، في الرجل يُستَكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة مايملك ، أيلزمه ذلك ؟ فقال : « لا ، قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : وُضِعَ عن أُمّتي ما أُكرهوا عليه ، وما لم يُطيقوا ، وما أخطأوا » . (2)
    فانّ الحلف بالطلاق ، وماعطف عليه باطل في كلتا الحالتين اختياراً واضطراراً ، والإمام استدل على البطلان بحديث الرفع ، إذ لم يكن في وسعه ، القول ببطلان الحِلْف مطلقاً فتطرق إلى بيان الحكم عن طريق قاعدة مسلمة ، وتطبيقها على المورد تقية.
    إلى هنا تمّ الإشكال الأوّل مع أجوبته الثلاثة ، وإليك الكلام في سائر الإشكالات المتوجهة إلى تطبيق الحديث على الاستصحاب.
1. الوسائل : الجزء 7 ، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث 5.
2. الوسائل : الجزء16 ، الباب 12 من أبواب الايمان ، الحديث 12.


(45)
    الثاني : الحمل على الاستصحاب يستلزم التفكيك
    إنّ لازم حمل قوله : « لاتنقض » على الاستصحاب لزوم التفكيك في الفقرات الست أو السبع حيث انّه يحمل اليقين والشك في قوله ( عليه السلام ) « لاينقض اليقين بالشك » وقوله : « ولكن ينقض الشكّ باليقين » على نفس معانيهما ، أعني : الحالة النفسانية ، ولكنّهما في سائر الفقرات تُحمل على الركعات المتيقّنة والمشكوكة ، أعني :
     « ولايدخل الشكّ في اليقين ، ولايُخلِطُ أحدهما بالآخر ، ويُتمّ على اليقين ، فيبني عليه ـ أي الركعة المتيقّنة ـ ولايعتد بالشك ـ بالركعة المشكوكة ـ » وهذا النوع من التفكيك ، يوجب القدح في ظهور الرواية.
    ويمكن الجواب عنه : بأنّه لمّا كان الإمام بصدد بيان أمرين :
    1. البناء على عدم الإتيان بالركعة المشكوكة.
    2. الإتيان بها مفصولة لاموصولة.
    أوجب ذلك استعمال اللفظين ( اليقين والشك ) تارة في الحالة النفسانية ، وأُخرى في الركعات المتيقّنة والمشكوكة.
    الثالث : الصحيحة مختصة بباب المشكوك
    إنّ الصحيحة لو تمّت دلالتها على حجّية الاستصحاب ، تختص بباب شكوك الصلاة وأين مفادها من إثبات قاعدة كلية في عامّة الأبواب ؟
    وربما يقال بتوجّه الإشكال إذا قرئت الأفعال بصيغة المعلوم الظاهرة في
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس