إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 46 ـ 60
(46)
كون الموضوع هو اليقين المتعلّق بالركعة ، لافيما إذا قرئت بصيغة المجهول الظاهرة في أنّ الموضوع هو ذات تعلّق اليقين والشكّ وأنّ ذكر المتعلّق لأجل بيان حكم المورد.
    والأولى أن يجاب بأنّ المتبادر من الرواية أنّ الحكم ثابت لنفس اليقين ، لاللمتيقّن ، وذلك لأنّ اليقين لاستحكامه وإبرامه ، لاينقض بمثل الشكّ الذي هو شيء رخو غير صلب.
    ويؤيد ذلك قوله : « ولايعتد بالشكّ في حال من الحالات » مضافاً إلى ورود الكبرى المذكورة في غير واحد من الروايات التي هي صريحة في بيان الاستصحاب.
    الرابع : الاستصحاب مثبت
    وهذا آخر الإشكالات على هذا التفسير وحاصله : أنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لايُثبت كون ما يأتي به ركعة رابعة حتى يترتب عليها أثرها الشرعي ، أعني : وجوبَ التشهد والتسليم ، إذ يشترط في وجوب الإتيان بهما إحراز وقوعهما في تلك الركعة.
    والحاصل : انّ بين المستصحب ، وهو عدم الإتيان بالرابعة ، وأثرها الشرعي ، أعني لزوم الإتيان بالتشهد والتسليم ، واسطة ، وهي كون ما يأتيه بحكم الاستصحاب هو الركعة الرابعة.
    يلاحظ عليه : ــ مضافاً إلى خفاء الواسطة عند العرف وإنّما تتوجّه إليه الأذهان الدقيقة ـ أنّ الموضوع لوجوب الإتيان بالتشهد والتسليم ليس هو الركعة الرابعة ، بل الموضوع الإتيان بهما بعد الفراغ عن الركعات ، والمفروض أنّه محرز بالوجدان.


(47)
    التفسير الثاني للرواية
    قدعرفت أنّ استفادة دلالة الرواية على حجّية الاستصحاب مبنيّة على كون متعلّق اليقين والشك هو عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، وهناك احتمال آخر لها ـ ذكره الشيخ الأنصاري ـ وهو أنّ المراد من اليقين هو « اليقين بالبراءة » الذي هو رهن العمل في باب الشكوك بالطريقة المروية عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، لا على الطريقة التي عليها أهل السنّة ، والذي يشهد بذلك أمران :
    1. موثقة إسحاق بن عمّار : قال : قال لي أبو الحسن الأوّل ( عليه السلام ) : « إذا شككت فابن على اليقين » قال : قلت : هذا أصل ؟ قال : « نعم » . (1)
    2. ما رواه عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : « ألا أُعلّمك شيئاً إذا فعلتَه ثمّ ذكرتَ أنّك أتممت أو انقضت لم يكن عليك شيء ؟ » قلت : بلى : قال : « إذا سهوتَ فابن على الأكثر ، فإذا فرغتَ وسلّمت ، فقم فصلّ ما ظننت أنّك نقصت ، فإن كنتَ قد أتممتَ لم يكن عليك في هذه شيء ، وإن ذكرتَ أنّك كنتَ نقضتَ كان ما صلّيتَ تمام ما نقصت » . (2)
    إلى غير ذلك من الروايات الحاثّة على أنّ البناء على الأكثر والإتيان بالمشكوك مفصولاً هو المحصِّل لليقين بالبراءة ، وعلى ذلك فالمراد من عدم نقض اليقين ، والبناء على اليقين ، هو الأخذ باليقين والاحتياط بالبناء على الأكثر ، دون الأقل.
    يلاحظ عليه : أولاً : أنّه لا دليل لحمل الأولى على باب الشكوك في الركعات ، بل هو قاعدة تعمّ جميع أبواب الفقه ، ومفاده : كلّما شكّ المكلّف في شيء فعليه
1. الوسائل : الجزء 5 ، الباب 8 من أبواب الخلل ، الحديث 2.
2. الوسائل : الجزء 5 ، الباب 8 من أبواب الخلل ، الحديث 3.


(48)
البناء على اليقين ، غاية الأمر خرج عنه باب الشكوك حيث يبنى فيها على الأكثر ، نعم ذكره صاحب الوسائل في باب الشكوك ، وذكره في ذلك الباب لايُضفي عليها الظهورَ فيها.
    وأمّا الموثقة الثانية فلا وجه للاستشهاد بها في تفسير الصحيحة لعدم الصلة بينهما.
    وثانياً : وجود تلك الكبرى في غير واحد من الروايات الظاهرة في الاستصحاب يمنع عن حملها على غيرها أي على اليقين بالبراءة.
    وثالثاً : لايقين بالبراءة في كلا المذهبين ، فانّ في طريقة أهل السنّة مظنّة زيادة الركوع ، وفي طريقنا ، مظنّة زيادة التشهد والسلام والتكبيرة ، وغيرها ، كقيام الركعتين جالساً مكان الركعة الواحدة ، حيث لايجوز في حال الاختيار إبدالها بهما ، نعم المحذور في طريقتنا أقلّ من طريقتهم ، إذ أين زيادة التشهد والسلام والتكبيرة ، من زيادة الركعة التامة ؟! فالطريقة المألوفة عندنا أقلّ محذوراً.

    4. موثّقة إسحاق بن عمّار
    روى إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن الأوّل ( عليه السلام ) قال : « إذا شككت فابن على اليقين » قال : قلت هذا أصل ؟ قال : « نعم » . وسند الصدوق إلى إسحاق بن عمّار صحيح في المشيخة ، لكنّه نقل الرواية بصورة الإرسال حيث قال : روي عن إسحاق بن عمار ، وهو ظاهر في الإرسال لا أنّه أخذه من كتابه وذكر سنده إليه في آخر الكتاب.
    وعلى كلّ تقدير ففي الرواية احتمالات :
    1. الرواية ناظرة إلى ما عليه العامّة من البناء على الأقل ، والإتيان بالركعة


(49)
المشكوكة موصولة ، وعلى هذا وردت تقيّة.
    يلاحظ عليه : أنّه لا دليل على أنّ الرواية واردة في باب شكوك الصلاة ، وذكرها في الوسائل في باب الشكوك لايضفي عليها الظهور في هذا المورد ، بل هي رواية عامة سارية في جميع الأبواب غير أنّه خرج عنها باب الشكوك.
    2. الرواية ناظرة إلى لزوم تحصيل اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر ، والإتيان بالركعة المشكوكة مفصولة بناء على أنّه أكثر تحصيلاً لليقين بها ، وهوخيرة الشيخ الأنصاري.
    ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما أوردناه على الوجه الأوّل ـ : أنّ ظاهر الرواية البناء على اليقين الموجود بالفعل ، وعلى ما ذكره فليس اليقين موجوداً بالفعل بل يجب عليه أن يكتسبه.
    3. الرواية ناظرة إلى الاستصحاب كما قوّيناه.
    4. الرواية ناظرة إلى قاعدة اليقين.
    والظاهر هو الثالث لظهورها في فعلية اليقين والشك ، وهذا متحقّق في الاستصحاب دون قاعدة اليقين ، لعدم فعلية اليقين هناك ، وما هذا لأنّ متعلّقهما في الأوّل متعدّد فيبقيان بحالهما ، بخلاف الثانية فانّ الشكّ يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين فيزول.

    5. حديث الأربعمائة
    حديث الأربعمائة من الأحاديث المعروفة الذي علّم به أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب ممّا يصلح للمسلم في دينه ودنياه ، وقد نقله


(50)
الصدوق في « الخصال » في أبواب المائة فما فوقه ، وقال :
    حدّثني أبي ( رضي الله عنه ) قال : حدّثنا سعد بن عبد اللّه ، قال : حدّثني محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، عن القاسم بن يحيى ، عن جدّه الحسن بن راشد ، عن أبي بصير ومحمد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، وجاء في هذا الحديث قوله :
     « احسبوا كلامَكم مِنْ أعمالكم ، ليقلَّ كلامكم إلاّ في خير. أنفقوا ممّا رزقكُم اللّه عزّوجل فانّ المنفِق بمنزلة المجاهد في سبيل اللّه ، فمن أيقن بالخلف جادّ ، وسخت (1) نفسه بالنفقة. من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه فانّ الشكّ لاينقض اليقين » . (2)
    أمّا رجال السند فكلّهم ثقات على الأقوى.
    نعم تكلّم ابن الوليد أُستاذ الصدوق في محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني فاستثناه من رجال نوادر الحكمة ، لمحمد بن أحمد بن يحيى الأشعري ، ولكن ردّ عليه من جاء بعده ، نقل النجاشي عن شيخه أبي العباس بن نوح أنّه قال : ولقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه وتبعه أبو جعفر بن بابويه رحمه اللّه في ذلك إلاّ في محمد بن عيسى بن عبيد ، فلاأدري ما را به فيه ، لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة. (3)
    كما تكلّم ابن الغضائري في القاسم بن يحيى ، حيث قال : القاسم بن يحيى بن الحسن بن راشد مولى المنصور ، روى عن جدّه وهو ضعيف. وتبعه في ذلك العلاّمة فذكره في الخلاصة ، وابن داود في رجاله.
1. من السخاء بمعنى الجود.
2. الخصال : 619.
3. رجال النجاشي : 2/242 برقم 940 ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى.


(51)
    نعم سعى الوحيد البهبهاني في إصلاح حاله ، وقال : ما في الخلاصة مأخوذ من الغضائري ولاوثوق به ، ورواية الأجلة مثل أحمد بن محمد بن عيسى عنه تشير إلى الاعتماد عليه. (1)
    وعلى كلّ حال فالحديث تعلو هامته آثار الصدق ، فمن لغير علي ( عليه السلام ) مثل هذا الحديث.
    هذا كلّه حول السند ، وأمّا الدلالة فقد فسرت الرواية بوجهين :
    الأوّل : أنها ناظرة إلى قاعدة اليقين
    إنّ الرواية ناظرة إلى قاعدة اليقين ، ويدّل عليه بوجوه ثلاثة :
    أ : تقدّم اليقين على الشكّ
    إنّ الرواية ظاهرة في تقدّم اليقين على الشكّ ، بشهادة لفظ « كان » ، وهو يناسب قاعدة اليقين ، إذ فيها يتقدّم اليقين على الشكّ زماناً ، بخلاف الاستصحاب فلايشترط فيه التقدّم ، بل يصحّ العكس ، وربما يحصلان معاً.
    ب : وحدة متعلّق اليقين والشكّ
    إنّ الرواية ظاهرة في وحدة متعلّق اليقين والشكّ من جميع الجهات ذاتاً وزماناً ، وهذا ينطبق على القاعدة دون الاستصحاب لاختلافها زماناً.
1. تنقيح المقال : 2/26 برقم 9618.

(52)
    ج : زوال اليقين
    إنّ قوله : « ثمّ شكّ » ظاهر في زوال اليقين وهو ينطبق على قاعدة اليقين لزوال اليقين فيه دون الاستصحاب ، ولايخفى ضعف الوجوه :
    أمّا الأوّل : فلأنّ اليقين يتقدّم على الشكّ غالباً في الاستصحاب ، ودائماً في قاعدة اليقين ، فلعلّ القيد في الرواية قيد غالبي لااحترازي ، إذ قلّما يتقدّم الشكّ على اليقين أو يحصلان معاً.
    فإن قلت : الأصل في القيد أن يكون احترازياً فيخرج الاستصحاب عن الرواية.
    قلت : ما ذكر صحيح ، لولا وجود المشابهة بين هذه الرواية والروايات السابقة الصريحة في الاستصحاب.
    وأمّا الثاني : فلأنّ الرواية ظاهرة في وحدة متعلّق اليقين والشكّ ، وهو متحقّق في الاستصحاب والقاعدة معاً ، لأنّ متعلّقهما واحد ذاتاً وجوهراً.
    نعم إنّما يختلفان زماناً ، وليس في الرواية ما يدل على وحدتهما زماناً أيضاً.
    وأمّا الثالث : فهو مجرّد ادّعاء لايدعمه الدليل ، إذ ليس معنى قوله : « ثمّ شك » : هو زوال اليقين من رأس بل يحتمل أن يكون زواله بقاءً لاحدوثاً.
    والحاصل : انّ اليقين زائل في قاعدة اليقين حدوثاً ، وفي الاستصحاب بقاءً ، وليس قوله : « ثمّ شكّ » ناظر إلى الزوال حدوثاً ، بل يحتمل زواله بقاء.
    هذا هو الوجه الأوّل وقد عرفت ضعف ما أيّد به.


(53)
    الثاني : ناظرة إلى الاستصحاب
    ربما يقال بأنّ الرواية ناظرة إلى الاستصحاب من خلال التمسّك بذيل الرواية « فليمض على يقينه » حيث إنّه ظاهر في فعلية اليقين وتحقّقه في ظرف الشكّ ، وهذا ينطبق على الاستصحاب دون قاعدة اليقين.
    يلاحظ عليه : أنّ المضيّ على اليقين كما يقال أن يكون بملاك وجوده بعد الشك ، كذلك يمكن أن يكون المضي بملاك وجوده قبل الشك.
    والحاصل : أنّ المضي على اليقين يشير إلى وجود يقين إمّا بعد الشك ، كما في الاستصحاب ؛ أو قبل الشك ، كما في قاعدة اليقين.
    فهذه الوجوه الاستحسانية لاتُثبت للرواية ظهوراً ، والأولى أن يقال : إنّها ظاهرة في الاستصحاب ، بقرينة الصحاح السابقة فانّ التشابه في اللفظ والتعبير كاشف عن وحدة المعنى.
    ويؤيده أنّ الهدف في قاعدة اليقين هو إضفاء الصحة على الأعمال السابقة ، كما أنّ الهدف من الاستصحاب إضفاؤها على الأعمال اللاحقة ، والرواية ظاهرة في الثاني.
    وربما يقال : بأنّ الرواية بصدد بيان حجّية كلتا القاعدتين ، بمعنى إذا شكّ فليمض على يقينه سواء شكّ في الحدوث فيرتب عليه أثر الحدوث ، أو شكّ في البقاء فيرتب عليه أثر البقاء.
    ولكنّه بعيد عن الأذهان العرفية ، ولعلّ ظهورها في إحدى القاعدتين ، أعني : الاستصحاب ، أظهر.


(54)
    6. مكاتبة القاساني
    روى الشيخ في « التهذيب » باسناده إلى محمد بن الحسن الصفّار ، عن علي بن محمد القاساني ، قال : كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا ؟فكتب : « اليقين لايدخل فيه الشك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » . (1)
    الاستدلال يتوقف على صحّة السند ووضوح الدلالة.
    أمّا الأوّل : فسند الشيخ إلى الصفّار ، صحيح ، وأمّا الصفّار فهو من مشايخ الحديث والرواية ، فهو ثقة بلا كلام ، إنّما الكلام في علي بن محمد القاساني : فعرّفه النجاشي بقوله : علي بن محمد بن شيرة القاساني كان فقيهاً ، مكثراً في الحديث ، فاضلاً ، غمز عليه أحمد بن محمد بن عيسى وذكر أنّه سمع منه مذاهب منكرة. وليس في كتبه ما يدل على ذلك ، له كتاب التأديب وهو كتاب الصلاة وهو يوافق كتاب ابن خانبه وفيه زيادات في الحجّ ، وكتاب الجامع في الفقه كبير.
    يروي عنه : محمد بن علي بن محبوب ، وسعد بن عبد اللّه القمي ، وإبراهيم بن هاشم.
    وفي نقل هؤلاء المشايخ عنه ، وإعراض النجاشي (2) عن غمز أحمد بن محمد بن عيسى ، دليل على وثاقته ؛ نعم ضعّفه الشيخ في رجاله حيث عدّه من أصحاب الهادي ( عليه السلام ) ، وقال : علي بن محمد القاساني ضعيف ، اصبهاني. ولعلّ السبب في
1. الوسائل : الجزء 7 ، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث 13.
2. رجال النجاشي : 2/79 برقم 667.


(55)
تضعيفه غمز ابن عيسى ، ولعلّ هذا المقدار يكفي في الاعتماد.
    أمّا الدلالة : فللرواية تفسيران :
    أحدهما : ما اختاره الشيخ قال : إنّ الرواية أوضح ما في الباب ، فانّ تحديد كلّ من الصوم والإفطار على رؤية هلال رمضان وشوال لايستقيم إلاّ بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولاً بالشكّ أي مزاحماً به. (1) وعلى ما ذكره يكون المراد من اليقين هو اليقين بشهر شعبان ، أو اليقين بشهر رمضان ، فهذان اليقينان لاينقضان بالشكّ في شهر رمضان في الأوّل أو شهر شوال في الثاني.
    ولعلّ تفسير « الدخول » بالنقض لأجل أنّ دخول شيء من شيء يوجب انتقاض وحدته وتفرّق أجزائه فيكني به عنه.
    ثانيهما : ما اختاره المحقّق الخراساني من أنّ المراد من اليقين ، هو : اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، لا اليقين بشهر شعبان ، وأين هذا من الاستصحاب ؟
    وحاصله : انّه يستفاد من الروايات أنّ لشهر رمضان خصوصية بها يمتاز عن سائر العبادات ، فانّ الصلاة تقبل الظن والشك ، ولكن صوم رمضان لايقبلهما ، بل يبتدئ باليقين ويختتم به.
    وبعبارة أُخرى : انّ الشارع اعتبر أن يكون الدخول في شهر رمضان والخروج منه عن يقين.
    وهذا التفسير يعتمد على ما ورد في شهر رمضان من الروايات المؤيدة :
    1. روى محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « إذا رأيتم الهلال
1. الفرائد : 334.

(56)
فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولابالتظنّي ولكن بالرؤية » . (1)
    2. روى سماعة : « صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن » . (2)
    3. روى إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) عن كتاب علي ( عليه السلام ) : « صم لرؤيته وأفطر لرؤيته ، وإيّاك والشكّ والظن ... فإن خفي عليكم فأتموا الشهر الأوّل بثلاثين » . (3)
    وعلى ذلك ، قوله : « اليقين لايدخله الشك » ناظر إلى اليقين بشهر رمضان لا اليقين بشهر شعبان حتى ينطبق على الاستصحاب.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه لا وجه لجعل هذه الروايات قرينة على تفسير هذه الرواية ، إذ ليست مجملة حتى نستعين بها في رفع إجمالها ، وذِكر صاحب الوسائل الجميعَ في باب واحد لايضفي عليه الظهور ، ولو أراد الإمام من قوله : « اليقين لايدخل فيه الشك » ما استظهره المحقّق الخراساني : من لزوم تحصيل اليقين حتى يصام ، وانّ الشكّ لايكفي ، يلزم أن تكون العبارة غير وافية بمقصدها ، بخلاف ما لو حمل على الاستصحاب فيكون مفاده : اليقين ( السابق ) لايدخله الشك ، فعليك البقاء عليه.
    وثانياً : لامنافاة بين القاعدتين ، أي قاعدة استصحاب الشهر السابق ، وقاعدة لزوم تحصيل اليقين ، بكون اليوم من شهر رمضان ، أو من شوال ، لأنّ الأوّل ، دليل الثاني ، فلاغرو في أن تتكفّل هذه الرواية ليبيان سبب مفاد القاعدة الثانية.
    وربما يورد على الاستصحاب في المقام بأنّه مثبت ، لأنّ وجوب الإمساك ، أو
1. الوسائل : الجزء 7 ، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث 2.
2. الوسائل : الجزء 7 ، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث 6.
3. الوسائل : الجزء 7 ، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث 11.


(57)
الإفطار مترتبان على كون ذلك اليوم من شهر رمضان أو كونه من شوال ، على مفاد كان الناقصة ، فيترتب على نفي ذاك الموضوع بالنفي الناقص ، عدم ذينك الأثرين.
    لكن النفي الناقص ليس له حالةً سابقة ، إذ لم يكن اليوم متحقّقاً في طرف وموصوفاً بأنّه من غير رمضان حتى يستصحب ، والنفي التام وإن كانت له حالة سابقة ، لكنّه لايجدي في وصف اليوم بأنّه ليس من رمضان ، أو من شوال.
    أقول : المثبت هو الاستصحاب العدمي ، وأمّا الوجودي فليس بمثبت أي استصحاب بقاء شعبان ، فيترتب عليه الإفطار به أو استصحاب بقاء رمضان فيترتب عليه الإمساك. وأمّا جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات مع أنّها متدرجات ومقتضيات غير قارة الذات ، فسيأتيك بيانه في التنبيهات.

    7. صحيحة عبد اللّه بن سنان
    روى الشيخ باسناده ، عن سعد ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبد اللّه بن سنان ، قال : سأل أبي أبا عبد اللّه ( عليه السلام ) وأنا حاضر : إنّي أُعيرُ الذمّيّ ثوبي ، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ، ويأكل لحم الخنزير ، فيردّه عليّ فأغسلَه قبل أن أُصلّي فيه ؟ فقال أبو عبد اللّه ( عليه السلام ) : « صلّ فيه ولاتَغسله من أجل ذلك ، فانّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن تصل فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه » . (1)
    إنّ سند الشيخ إلى سعد بن عبد اللّه القمي صحيح في التهذيب ، والرواة كلّهم ثقات ، والرواية صحيحة سنداً.
1. الوسائل : الجزء 2 ، الباب 74 من أبواب النجاسات ، الحديث 1.

(58)
    وأمّا الدلالة حيث إنّ الإمام لم يعلّل طهارته بعدم العلم بالنجاسة حتى تنطبق على قاعدة الطهارة الّتي يكفي فيه الشك في النجاسة ، بل علّلها بأنّك دفعته إيّاه ، وهو طاهر ولم تستيقن الخلاف فعليك الأخذ باليقين السابق حتى تستيقن أنّه نجّسه.
    نعم الرواية خاصة بباب الطهارة ، وإلغاء الخصوصية يحتاج إلى دليل ، وهذه هي مهمات روايات الباب ، وهناك روايات ثلاث قد حاول بعض المتأخرين أن يفسرها بالاستصحاب ، وإليك الروايات.

    8. موثّقة عمّار
    روى الشيخ في « التهذيب » باسناده ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أحمد بن الحسن ، عن عمرو بن سعيد ، عن مصدق بن صدقة ، عن عمّار قال : « كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك » . (1)
    وسند الشيخ إلى محمّد بن أحمد بن يحيى صاحب نوادر الحكمة صحيح ، والرواة كلّهم ثقات ، وإن كان غير واحد منهم من الفطحية ، والمراد من أحمد بن الحسن ، هو أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن فضال ، بقرينة روايته عن عمرو بن سعيد ، قال النجاشي : يقال : إنّه كان فطحياً وكان ثقة في الحديث.

    9. معتبرة حمّاد بن عثمان
    روى الشيخ في « التهذيب » باسناده ، عن سعد بن عبد اللّه ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن أبي داود المنشد ، عن جعفر بن محمد ، عن يونس ،
1. الوسائل : الجزء 2 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحديث 4.

(59)
عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : « الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنّه قذر » . (1)
    وأبو داود المُنْشِد هو سليمان بن سفيان المسترق الذي توفّي عام 431 هـ ـ كما أرَّخه النجاشي ـ وثّقه الكشي. وأمّاجعفر بن محمد ، فلعل المراد منه جعفر بن محمد الأشعري كما في حاشية التهذيب (2) والسند لاغبار عليه ، غير جعفر بن محمد ، وهو من رجال نوادر الحكمة ولم يُستثن ، ولعلّه آية الوثاقة.
    واحتُمل أن يكون حماد بن عثمان مصحّف حمّاد بن عيسى ، لقلّة رواية الأوّل عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) بخلاف الثاني.

    10. موثّقة مسعدة بن صدقة
    روى الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، قال : سمعته يقول : « كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك » . (3)
    وهارون بن مسلم بن سعدان ثقة. وأمّا مسعدة بن صدقة العبدي ، وهو عامي أو زيدي بتري ، لم يوثّق ، والقرائن تدل ّعلى وثاقته.
    هذه هي الروايات التي ربّما حاول بعضهم أن يستدلّ بها على الاستصحاب ، وقد فسّرت بوجوه تالية :
    1. انّها بصدد إفادة قاعدتي الطهارة والحلية الظاهرتين ، وهذا هو المشهور.
1. الوسائل : الجزء 7 ، الباب 1 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 5.
2. تهذيب الأحكام : 1/228.
3. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4.


(60)
    2. انّ الصدر بصدد إفادتهما ، والذيل بصدد إفادة الاستصحاب ، اختاره صاحب الفصول.
    3. انّ الصدر ورد لبيان الحكم الواقعي للأشياء ، أعني : الطهارة والحلّية بما هي هي ، والذيل لبيان استصحاب الحكم الواقعي ، وهو خيرة المحقّق الخراساني في « الكفاية » .
    4. الحديث بصدد بيان القواعد الثلاث : الحكم بالطهارة والحلية الواقعيتين ، والظاهريتين واستصحابهما ، وهو خيرة المحقّق الخراساني في تعليقته على « الفرائد » . وإليك دراسة المعاني الثلاثة واحداً تلو الآخر.
    النظرية الأُولى : جعل الطهارة الظاهرية و...
    إنّ الحديثين بصدد جعل الطهارة والحلية الظاهريتين.
    وبعبارة أُخرى : جعل الطهارة والحلية على المشكوكة طهارته أو حليته ، وعلى هذا يكون المراد من الشيء في الحديثين : الشيء المشكوك ، ولامناص لاستفادة ذلك إلاّ بجعل الغاية قيداً للموضوع فقط ، وكأنّه قال :
    كلّ شيء حتى تعلم أنّه قذر ، نظيف ؛ أو كلّ شيء حتى تعلم أنّه حرام ، حلال ، وهذا هو المعنى المتبادر من الحديثين ، ويؤيده ذيل الحديث حيث أكّد على الاجتناب عند العلم دون غيره ، وقال : « فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم ليس عليك » فيكون مفادهما جعل الطهارة أو الحلية الظاهريتين اللّتان يعبّر عنهما بقاعدتي الطهارة والحلّية.
    النظرية الثانية : جعل الطهارة الظاهرية واستصحابها
    اختارها صاحب الفصول ، ونسبت إلى المحقّق النراقي أيضاً ، وحاصلها :
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس