|
||||
(91)
القول بجعل السببية ، فانّهما من أفعال الشارع ، غاية الأمر فعلاً تسبيبيّاً لامباشرياً.
وحاصل الوجه الثاني : انّ السببية غير مجعولة لاتشريعاً ( خلافاً للمشهور ) ولاتكويناً ( خلافاً للمحقّق الخراساني ) على وجه الاستقلال ، بل جعلها ، بجعل ذات السبب قال : انّ المجعول إنّما هو ذات السبب ، أمّا السببية فهي من لوازم ذاته كزوجية الأربعة ، فانّ السببية عبارة عن الرشح والإفاضة القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المسبب ، وهذا الرشح والإفاضة من لوازم الذات لايمكن أن تنالها يد الجعل التكويني ، فضلاً عن الجعل التشريعي ، بل هي كسائر لوازم الماهية تكوينها إنّما يكون بتكوين الماهية ، وإفاضة الوجود إلى الذات ، فعلّية العلّة وسببيّة السبب كوجوب الواجب وإمكان الممكن وامتناع الممتنع ، إنّما تكون من خارج المحمول تنتزع عن مقام الذات ليس لها ما بحذاء ، لا في وعاء العين ولا في وعاء الاعتبار ، فالعلية لاتقبل الإيجاد التكويني فضلاً عن الإنشاء التشريعي. (1) يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره صحيح في السببية التكوينية حيث إنّ السببية بالنسبة إلى المسبب من قبيل ذاتي باب البرهان والخارج المحمول ، وما هو مثله لاتتعلّق به يد الجعل ، لأنّ مناط الجعل الفقر والحاجة ، والسببية بعد جعل السبب متحقّقة ضرورة فلاحاجة إلى جعل آخر ، وهذا من خواص ذاتي باب البرهان حيث إنّ جعل الموضوع يلازم جعل المحمول الذاتي ، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة. وأمّا المقام فليست السببية أمراً ذاتياً بالنسبة إلى السبب أي الدلوك حتى لا 1. فوائد الأُصول : 4/394 ـ 395. (92)
تتعلّق بها يد الجعل ، لإمكان التفكيك بين الدلوك والسببية ، وعلى ذلك فلا مانع من تعلّق الجعل التشريعي بالسببية ، بعد إيجاد الدلوك تكويناً.
القسم الثاني : ما تناله يد الجعل تبعاً لااستقلالاً إنّ القسم الثاني عبارة عن الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية ، لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعه وقاطعه ، فقد اختار أنّه لايتطرق إليها الجعل التشريعي بالأصالة ، فلايصحّ جعلها ابتداء وإنّما يجعل تبعاً للأحكام التكليفية ـ قال : وجه ذلك انّ اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لايكاد يكون إلاّ بالأمر بجملة أُمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي ، ولايتصف شيء بذلك أي كونه جزءاً أو شرطاً للمأمور به إلاّ بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل عليه مقيداً بأمر آخر ، وما لم يتعلّق به الأمر كذلك لما صحّ وصفه بالجزئية أو الشرطية وإن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية ابتداءً. وجعل الماهية وأجزائها ليس إلاّ تصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها ، فتصورها بأجزائها وقيودها لايوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطيته قبل الأمر بها ، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنّما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به بلا حاجة إلى جعلها له ، وبدون الأمر به لااتصاف بها أصلاً وإن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصوّر أو لذي المصلحة. (1) وحاصل ما أفاده : أنّ أمر هذه الأُمور دائر بين كون الجعل فيها محالاً ، أو تحصيلاً للحاصل ، فلو استقل بالجعل قبل الأمر بالمأمور به ، فهو محال ، لعدم اتصاف الأجزاء بالمأمور به قبل الأمر ولو قام بالجعل بعد الأمر بالكل ، فهو أمر 1. الكفاية : 3/305. (93)
لغو وتحصيل للحاصل لاتصافها بها بعد الأمر بالكل.
يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ جعل الجزئية الفعلية لجزء من أجزاء المأمور ، فرع تعلّق الأمر بالمركّب المأمور به ، وبعد تعلّق الأمر بالكلّ الذي يدخل فيه هذا الجزء ، يكون جعل الجزئية له أمراً لغواً وتحصيلاً للحاصل ، وأمّا جعل الجزئية الشأنية للمركب المأمور به شأناً لافعلاً بمكان من الإمكان كأن يقول الحمد جزء للصلاة التي سوف أمر بها. وثانياً : يكفي في جعل الجزئية الفعلية تعلّق أمر بعنوان ، وضع لاجزاء لايشمل الجزء الذي نحن بصدد جعلها له ، كما إذا كانت الصلاة أسماء للأركان ، غير شامل للحمد ، أو للمنع عن بعض الموانع كإقامتها مع ما لايؤكل لحمه ، إلى غير ذلك ، فيقول : جعلت الحمد جزءاً للصلاة المأمور بها ، وهكذا المانع. بل يمكن أن يقول إنّ قوله سبحانه : ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (1) وقوله : « لاتصل في وبر ما لايؤكل لحمه » إرشاداً إلى جعل الشرطية للاستقبال ، والمانعية لما لايؤكل لحمه ، فعندئذ يتعلّق الجعل الاستقلالي بالجزئية والشرطية والمانعية للمكلّف به. القسم الثالث : ما تناله الجعل استقلالاً فقد مثّل المحقّق الخراساني لهذا القسم بالحجّية والقضاوة ، والولاية والنيابة والحريّة والرقيّة والزوجيّة والملكيّة ، وقال : إنّ من الممكن انتزاع هذه الأُمور من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها كما يمكن جعلها بإنشاء أنفسها ، إلاّ أنّه لا شكّ في صحّة انتزاعها من مجرّد جعله تعالى أو مَنْ بيده الأمر من قبله ـ جل 1. البقرة : 144. (94)
وعلا ـ بإنشائها بحيث يترتب عليها آثارها ، وذلك بوجوه ثلاثة :
1. صحّة انتزاع الملكية والزوجيّة والطلاق والحرّية بمجرد العقد والإيقاع ممّن بيده الاختيار من دون ملاحظة التكاليف والآثار ، ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصح اعتبارها إلاّ بملاحظتها. 2. لو كانت هذه العناوين منتزعة من الأحكام التكليفية في موردها لزم أن لايقع ما قُصِد ووقع ما لم يقصد ، فانّ العاقد لايقصد إلاّ جعل الزوجية ، لاشيئاً آخر. 3. لاينبغي أن يشكّ في عدم حجية انتزاعها من مجرّد التكليف في موردها فلاينتزع الملكية عن إباحة التصرفات ، والزوجية من جواز الوطء لأنّ النسبة بين إباحة التصرّف والملكية ، وهكذا بين جواز المس والزوجيّة عموم من وجه ، وهكذا سائر الاعتبارات من أبواب العقود والإيقاعات. تحقيق فيه تفصيل أقول : إنّ المحقّق الخراساني ذكر نماذج من هذا القسم ولم يستقص ، وزعم أنّ الجميع مجعول بجعل استقلالي ، ولكن الظاهر أنّ الأحكام الوضعية الباقية غير الداخلة في القسمين الأوّلين على أصناف أربعة : 1. ما لايقبل الجعل أصلاً ، لااستقلالاً ولاتبعاً للأحكام التكليفية ، وذلك كالتنجّز والتعذّر ، والطريقية والكاشفية ، والنظافة والقذارة العرفيتين. أمّا الأوّلان فلأنّهما يدوران حول إصابة القطع ـ مثلاً ـ الواقع ، فلو أصاب يكون منجزاً الواقع وإلاّ معذِّراً ، وهذا حكم عقلي ، ومعه لاحاجة إلى جعلهما استقلالاً أو بتبع الأحكام التكليفية. (95)
وأمّا المتوسطان : أعني : الكاشفية والطريقية ، فهما من الأُمور التكوينية لاتنالهما يد الجعل التشريعي فلو كان الشيء طريقاً بالذات ، سواء كان طريقاً كاملاً أو ناقصاً ، لاستغنى عن إفاضتهما عليه ، وإلاّ فلايكون إفاضتهما عليه ، طريقاً ولاكاشفاً.
نعم كان بعض مشايخنا السادة (1) يقول بأنّ المجعول في باب الأمارة هو تتميم الكشف أو إكمال طريقيته ، فلو أراد تتميمها تكويناً فهو غير ممكن بالجعل الاعتباري ، وإن أراد تتميمها بالاعتبار فهو وإن كان أمراً ممكناً ، لأنّ الاعتبار خفيف المؤنة ، لكنّه بعيد عن الأذهان ، أعني : تتميم الأمر الحقيقي بالأمر الاعتباري. أمّا الأخيرتان : أي النظافة والقذارة العرفيتين ، فهما بهذا المعنى من الأُمور التكوينية الخارجة عن حدود الجعل والاعتبار قال سبحانه : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (2) ( كُلُوا مِنْ طَيِّبات ما رَزَقْناكُمْ ) (3). 2. ما تناله يد الجعل استقلالاً ، وليس منتزعاً من الأحكام التكليفية الموجودة في مورده ، وهذا كالزوجية والملكية ، وقد برهن المحقّق الخراساني على كونهما مجعولين مستقلاً لاتبعاً للأحكام الشرعية بوجوه ثلاثة كما عرفت. 3. ما يكون منتزعاً من الأحكام التكليفية ، غير مجعول استقلالاً ، وهذا كالرخصة والعزيمة فانّهما أمران انتزاعيان من حكم الشارع بجواز الترك أو لزومه ، والأوّل كسقوط الأذان والإقامة لمن دخل وقد أُقيمت صلاة الجماعة ، والثاني 1. السيد الحجّة الكوهكمري ( قدَّس سرُّه ) في درسه الشريف. 2. الفرقان : 48. 3. البقرة : 57. (96)
كسقوط الركعتين في حال السفر.
4. ما يصحّ فيه كلا الأمرين : جعله مستقلاً ، وانتزاعه من الأحكام التكليفية لكن الأظهر انّه مجعول مستقلاً وهو المتبادر من الروايات ، وإليك بيان أفراد هذا الصنف ، أعني : 1. الخلافة ، 2. الحكومة ، 3. القضاء ، 4. الولاية ، 5. الحجية ، 6. الضمان ، 7. الكفالة ، 8. الصحة ، 9 و10. الطهارة ، والنجاسة الشرعيتين ، وإليك بيانها : أمّا الخلافة : فيكفي في تعلّق الجعل الاستقلالي بها قوله سبحانه : ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَليفَةً في الأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبعِ الهَوَى فَيضلَّكَ عَنْ سَبيلِ اللّه ). (1) أمّا الحكومة : فقد ورد في مقبولة عمر بن حنظلة : « ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً » . (2) وأمّا القضاء : فقد ورد في رواية سالم بن مُكْرَم المعروف بأبي خديجة عن الصادق ( عليه السلام ) : « ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا ، فاجعلوه بينكم فانّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه » . (3) وأمّا الولاية : فيكفي قول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في حقّ علي يوم الغدير : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » وقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « يا علي أنت وليُّ كلّ مؤمن ومؤمنة » . أمّا الحجّية : بمعنى إفاضة الحجية للشيء بعدما لم يكن حجّة بالفعل ، فهذا 1. ص : 26. 2. الكافي : 1/68 ، ط دار الكتب الإسلامية. 3. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 1 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 5. (97)
يقبل الجعل الاستقلالي كما إذا قال : خبر الثقة حجّة ، كما يمكن انتزاعها من الأحكام التكليفية في مورده ، كما إذا أوجب العمل على وفق خبره في مقام الطاعة.
أمّا الضمان والكفالة : فيتقبلان الجعل الاستقلالي كما في قوله سبحانه : ( وَأَنَا بِهِ زَعيم ) (1) يمكن انتزاعهما من الأحكام التكليفية في موردهما ، أعني : إلزام الشخص برد مثل ما اشتغلت به ذمّة المضمون عنه ، أو إلزام الشخص بتسليم المكفول عنه. أمّا الصحّة : فالعقلية منها غير قابلة للجعل ، أعني : مطابقة المأمور به للمأتي به ، وأمّا الشرعية منها أعني : قبول الناقص مكان الكامل كما في مورد قاعدتي الفراغ والتجاوز ، فيصح جعلها استقلالاً ، كما في قوله : « كلّما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فامضه ولا إعادة عليك » (2) فالمتبادر جعل الصحة الشرعية على العمل الناقص كما يمكن انتزاعها من الحكم التكليفي الوارد في موردها كالحكم بعدم الإعادة. أمّا الطهارة والنجاسة الشرعيتان : فهما أعم من العرفية ، إذ قد يعدّ الشرعُ القِذر طاهراً ، كما في عرق الإنسان ، والديدان والوذي والمذي والدم المتخلّف في عروق الحيوان ، أو يحكم بنجاسة ما لايعدّه العرف قذِراً كنجاسة الكفّار وأولادهم ، ونجاسة الخمر ، فهما قابلتان للجعل استقلالاً ، مثل قوله : ( إِنَّما المُشْرِكُون نَجس ) (3) بناء على أن الآية بصدد جعل النجاسة عليهم ، كما هما قابلتان للجعل تبعاً للآثار والأحكام التكليفية ، كوجوب الاجتناب عن الخمر 1. يوسف : 72. 2. الوسائل : الجزء 1 ، الباب 41 من أبواب الوضوء ، الحديث 6. 3. التوبة : 28. (98)
والكافر.
ومن هنا تبيّن أنّما عدّه من القسم الثالث ليس على نمط واحد بل هو على أقسام أربعة : 1. مالا يقبل الجعل أصلاً لااستقلالاً ولاتبعاً. 2. ما يقبل الجعل التبعي ، لاالاستقلالي. 3. ما يقبل الاستقلالي دون التبعي. 4. ما يقبل كلا الأمرين. فلاحظ وأمّا ثمرة البحث : فتظهر في جريان الاستصحاب في كلا الحكمين إذا كان مجعولاً مستقلاً أو تبعاً للحكم التكليفي ، إذ يلزم أن يكون المستصحب إمّا حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، والحكم الشرعي عبارة عمّا يكون مستنداً إليه ومجعولاً بنحو من أقسام الجعل. تمّ الكلام حول التفاصيل في حجّية الاستصحاب وبقي هناك تفصيلان : 1. التفصيل بين استصحاب الحكم الشرعيّ المستنبط من الكتاب والسنّة والمستنبط من حكم العقل ، فيجري في الأوّل دون الثاني ، اختاره الشيخ الأنصاري ( قدَّس سرُّه ). 2. التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي ، والحكم الجزئي ، والموضوعات الخارجية ، فلايجري في الأوّل دون الأخيرين وهو خيرة المحقّق النراقي والمحقّق الخوئي ( قدّس سرّهما ) وسيأتي الكلام فيهما في ضمن التنبيهات. (99)
يظهر من السيد المحقّق الخوئي ( قدَّس سرُّه ) جريان الاستصحاب في الأمر الاستقبالي كجريانه في الأمر الحالي. وقد أفتى على وفق الاستصحاب في الأُمور الاستقبالية ، نذكر منها ما يلي : 1. إذا كان جنباً في شهر رمضان في الليل لايجوز له أن ينام قبل الاغتسال إذا علم أنّه لايستيقظ قبل الفجر للاغتسال ، فلو شكّ في الاستيقاظ فقال : الصحيح حرمته ، لأنّ النوم المحتمل فيه عدم الاستيقاظ ، محكوم بالاستمرار إلى الفجر ، بمقتضى الاستصحاب ، فهذا نوم مستمر إلى الصباح متعمّداً وقد صدر باختياره فهو عامداً إليه. (2) 1. هذا التنبيه من إضافات شيخنا الأُستاذ ـ مدّظلّه ـ. 2. مستند العروة الوثقى : كتاب الصوم : 207. (100)
ومثله إذا عجز عن خصال الكفّارة ، ولكن يحتمل تجدّد القدرة. فهل يجوز أن ينتقل إلى البدل ، أعني : صيام ثمانية عشر يوماً ، أو التصدّق بما يطيق ؟ فقيل نعم استناداً إلى استصحاب العجز بناءً على جريانه في الأُمور الاستقبالية كما هو الصحيح.
فالمحكّم في الأُمور الاستقبالية هو الحكم باستمرار ما سبق إلى المستقبل فيترتب عليه البدار إلاّ إذا دلّ الدليل على عدم الجواز ، كما هو الحال في المعذور في الطهارة الحدثية كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، قال : سمعته يقول : « إذا لم تجد ماء وأردتَ التيمّم فأخّر التيمّم إلى آخر الوقت فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض » . (1) فمقتضى الاستصحاب هو بقاء العذر والبدار إلى البدل لكن منع عنه النص. (2) يلاحظ عليه : أنّ أدلّة الاستصحاب إمضاء لما عليه العقلاء في حياتهم ومعاشهم وهو عندهم الحكم ببقاء ما مضى إلى زمان الحال ، وأمّا الحكم بالبقاء من زمان الحكم إلى الوقت المستقبل فليس بمعهود عندهم. ولو صحّ ما ذكر يلزم أن يحكم على الدم في أيّام الاستظهار ، بالحيض تارة والاستحاضة أُخرى ، فلو قذفت الدم في غير أيام العادة ولكن تحتمل انقطاعها قبل الثلاثة ، فمقتضى الاستصحاب استمرارها فلابدّ أن تكون محكومة بالحيض. وإذا تجاوز الدم عن أيّام العادة ولم يتجاوز العشرة ، فمقتضى الاستصحاب الحكم باستمرارها بعد العشر ولابدّ من الحكم عليها بالاستحاضة ، لأنّ دم الحيض لايتجاوز أيّام العادة إلاّ إذا انقطعت قبل العشرة. 1. الوسائل : الجزء 2 ، الباب 22 من أبواب التيمم ، الحديث 1. 2. مستند العروة : كتاب الصوم : 355. (101)
نعم لو كان الموضوع مجرّد اليقين والشكّ سواء كان اليقين متعلّقاً بالماضي والشك بالحال ، أو كان اليقين متعلّقاً بالحال ـ كما في المثالين ـ والشكّ بالاستقبال كان لما ذكره وجه ، لكن الموضوع عندهم هو القسم الأوّل لا غير.
فالمرجع في المثالين إطلاق دليل البدل ، لو كان ، وإلاّ فالأصل العملي ، أعني : الاشتغال إذا ارتفع العذر. (102)
1. اليقين بالحدوث. 2. الشكّ في البقاء. 3. وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة بإلغاء الزمان. 4. ترتب الأثر على بقاء المتيقّن. والمهم في المقام هو الأمران الأوّلان ، أعني : 1. لزوم اليقين بالحدوث ، ولايكفي نفس الحدوث واقعاً وإن لم يتعلّق به اليقين لظهور قوله : « لاتنقض اليقين بالشك » في لزوم فعلية اليقين في ذهن المستصحب. مضافاً إلى أنّ العبد يحتج بالاستصحاب على المولى ومن أركان الاحتجاج هو اليقين بالحدوث ، ولا معنى للاحتجاج بثبوت الشيء ، مع عدم اليقين به ، وعدم الاطّلاع عليه. وبعبارة أُخرى : ما يصلح للاحتجاج هو العلم واليقين بوجود الشيء سابقاً ، لاثبوته وإن لم يعلم. (103)
فإن قلت : إنّ اليقين في مورد الاستصحاب مأخوذ بنحو الطريقية ، والمراد منه المتيقّن أي لاتنقض المتيقّن ، فإن كان المتيقّن حكماً شرعياً ، يجب إبقاؤه ، وإن كان موضوعاً ذا حكم شرعي ، يجب ترتيب آثاره عليه في ظرف الشكّ ، وإلاّ فاليقين بمجرد طروء الشكّ يكون منقوضاً ، ومعنى كونه طريقاً ، العناية بالمتيقّن لا اليقين.
قلت : لا مانع من أخذ اليقين في مقام ترتيب الأثر طريقياً إلى التعلّق ، وأخذه موضوعياً في مقام الاحتجاج. ففي مقام ترتيب الأثر يكون اليقين مغفولاً عنه ، وفي مقام الاحتجاج على المولى يكون ملحوظاً استقلالاً ، وأمّا قوله في صحيحة ابن سنان : « فانّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن انّه نجسه » ، فليس دليلاً على عدم شرطية فعلية اليقين بتوهم أنّه قال : « وهو طاهر » ولم يقل « انّك متيقّن أنّه طاهر » وذلك لأنّ الذيل ، أعني : « ولم تستيقن » دليل على تقدير اليقين في الصدر أي انّك كنت متيقّناً بطهارته ولم تستيقن أنّه نجّسه. 2. لزوم الشكّ ، وذلك لنفس الدليل المذكور في اعتبار فعلية اليقين ، وانّ ملاك الاحتجاج على المولى هو عدم نقض اليقين بالشك. أضف إلى ذلك أنّ مفاد الاستصحاب حكم ظاهري وهو يتقوّم بالشك ، ولذلك قالوا : تعتبر في الاستصحاب فعلية اليقين والشكّ ، فلااستصحاب مع الغفلة عن اليقين أو الشكّ ، ولو فرض انّه لو التفت لأيقن ، أو لشك ، لايكون مصحّحاً لجريان الاستصحاب. ثمّ إنّه يترتب على ما ذكرنا فروع فقهيّة. (104)
الفرع الأوّل
إذا أحدث ثمّ غفل وصلّى ، ثمّ شكّ في أنّه تطهّر قبل الصلاة أو لا ؟ قالوا بصحّة الصلاة ، لأنّ الشكّ بعد الصلاة مجرى لقاعدة الفراغ ، ولايجري استصحاب الحدث حين الصلاة ، لغفلته وعدم شكّه فيه حين الصلاة. ولكن الحقّ بطلان الصلاة ، لجريان الاستصحاب وعدم جريان قاعدة الفراغ. أمّا الثاني أي عدم جريان قاعدة الفراغ فلاختصاصها بما إذا كانت الغفلة محتملة فترتفع احتمالها بأذكريّة المصلّي حينَها ، وأمّا إذا كانت الغفلةُ معلومَة كما في المقام واحتمل وقوع العمل صحيحاً ( باحتمال التوضّؤ ) من باب الصدفة ، فالأدلّة منصرفة عنه. ولأجل ذلك قالوا : ببطلان الوضوء في الصورتين التاليتين : 1. لو توضّأ والخاتم على اصبعه ولم يُحرّكه ، وشكّ بعد العمل في أنّه هل جرى الماء تحته أو لا ؟ فلاتجري قاعدة الفراغ للعلم بالغفلة حين العمل ، وانّه لو جرى عليه الماء لكان من باب الصدفة. 2. لو علم بأنّ أحد الماءين مضاف ، ثمّ توضّأ غفلة وشكّ بعد العمل في أنّه هل توضأ بالماء المطلق أو بالماء المضاف ، فلاتجري القاعدة بنفس البيان السابق. وأمّا جريان الاستصحاب فلكفاية الشكّ بعد الصلاة في أنّه هل تطهر بعد الحدث وقبل الصلاة أو لا ؟ فيحكم ـ بعد الصلاة ـ ببقاء الحدث السابق من لدن حدوثه إلى الحالة التي توجّه فيها إلى كيفية وقوع العمل ، وليس هذا من قبيل (105)
الاستصحاب القهقريّ ، لأنّه عبارة عن جر المتيقّن بالفعل إلى الأزمنة الماضية ككون الأمر حقيقة في الوجوب فعلاً فيحكم بكونه كذلك إلى عصر الرسالة ، ولكن المقام على عكسه أي من قبيل جرّ الحالة السابقة ( الحدث المتيقّن قبل الصلاة إلى الحالة اللاحقة ) أي من قبلِ الصلاة إلى حالها ، وبعدها ، والشكّ وإن كان حادثاً بعد الصلاة لكن المشكوك هو الحدث المتقدّم على الصلاة المشكوك بقاؤه فيحكم ببقائه إلى ما بعد الصلاة.
الفرع الثاني إذا أحدث ثمّ شكّ في ارتفاعه ثمّ غفل وصلّى ثمّ شكّ في أنّه توضّأ أم لا ؟ قال الشيخ والمحقّق الخراساني ببطلان الصلاة لحدوث الشكّ قبل الصلاة ، وإن غفل عنه لكنّه كان موجوداً في صقع ذهنه ، وعدم جريان قاعدة الفراغ لاختصاصها بما إذا كان الشكّ حادثاً بعد العمل والمفروض حدوثه قبله ولكنّه غفل عنه. أقول : الصلاة باطلة كما صرّحا به ، لجريان الاستصحاب إمّا لكفاية الشكّ المذهول عنه الموجود في صقع النفس ، أو لكفاية التوجّه إلى الشكّ المذهول عنه بعد الصلاة ، فيحكم ببقاء الحدث من لدن وجوده إلى زمان الفراغ من الصلاة كما تقدّم في الفرع الأوّل. وأمّا عدم جريان قاعدة الفراغ فلوجهين : أحدهما : ما أفاده من أنّ مجراها هوالشكّ الحادث بعد العمل لاالمتقدّم عليه ، الموجود في صُقع النفس. ثانيهما : أنّ مجراها إنّما هو احتمال ترك الجزء أو الشرط مستنداً إلى احتمال |
||||
|