إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 136 ـ 150
(136)
الوجود بعد العدم ، وما هذا شأنه لايتصوّر فيه البقاء ، والليل والنهار من الأُمور ذات الأجزاء كلّ جزء ، يعد جزء من الكل والأجزاء سنخها الوجود بعد عدم الجز ءالمتقدم ، ومثل هذا لايتصور له البقاء.
    وقد أجاب عنه شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري ( قدَّس سرَّه ) : بأنّه يكفي في الاستصحاب ، اليقين بالشيء ، والشكّ فيه ، ولم يرد في الأدلة عنوان البقاء فعدم صدقه غير مخلّ بجريانه.
    يلاحظ عليه : أنّه وإن لم يرد عنوان الشكّ في البقاء في لسان الأدلّة لكنّه لازم إمكان اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد ، وذلك بتعلّق اليقين بالحدوث ، والشكّ بالبقاء ، ولولا هذا القيد لامتنع اجتماعهما فيه ضرورة انتقاض اليقين بالشكّ ، فهو مدلول التزامي لاجتماعهما وعدم انتقاض الأوّل بالثاني.
    والتحقيق أن يقال : المراد من البقاء هو البقاء لدى العرف الذي هو المخاطب بهذه الخطابات لاالبقاء العقلي ، ولو كان الميزان هو الثاني ، لما صدق إلاّ في مورد نادر ، وعلى ذلك ، فالليل والنهار موجود شخصي ، لهما حالات كأوّله ووسطه ونهايته ، كالإنسان الذي تطرأ عليه حالات مثل الصبا والشباب والكبر ، فكما أنّ لكلّ فرد من أفراد الإنسان بقاءً وإن كبر وشابَ أو شاخ ، فهكذا للنهار والليل بقاء ، وإن وصلا إلى القمة.
    والذي يصحّح صدق البقاء ، هو اتصال الأجزاء وتلاصقها الذي يجعل الأجزاء المتلاحقة ، كشيء واحد ، ويشك الإنسان في طوله وقصره ، والقائل بعدم البقاء يصب النظر إلى كلّ جزء من الزمان مستقلاً عن الجزء الآخر ، ويغفل عن أنّ ملاك صدق البقاء هو تلاصق الأجزاء وتلاحمها على وجه يعد جميع البعد الزماني كالبعد المكاني شيئاً واحداً.


(137)
    الثاني : عدم بقاء الموضوع
    من شرائط جريان الاستصحاب بقاء الموضوع ، إذ لولاه لعاد الاستصحاب قياساً ويكون من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وبما انّ الزمان أمر غير قارّالذات ، متصرّم الحقيقة ، فالجزء الموصوف بالنهار المتيقّن غير الجزء المشكوك كونه نهاراً.
    يلاحظ عليه : أنّه ليس إشكالاً جديداً بل تعبيراً ثانياً عن الإشكال الأوّل ، ويعلم جوابه ممّا ذكرناه حول الإشكال الأوّل.
    وحاصله : انّ الموصوف بالنهارية ، ليس الجزء المنفك عن الجزء الأول بل الوجود الشخصي الذي يتحقّق بطلوع الفجر وأخذ يتحرّك فنشكّ في بقاء ذلك الموجود الشخصي ، وعلى ضوء ذلك يكون الموضوع باقياً.
    3. الاستصحاب مثبت
    إنّ استصحاب بقاء الليل والنهار يتصوّر على وجهين :
    الأوّل : استصحابه على نحو القضية التامة بأن يقال : كان الليل موجوداً ، والأصل بقاء الليل.
    الثاني : استصحابه على نحو القضية الناقصة ، بأن يقال : هذا الجزء كان ليلاً ، والأصل بقاؤه.
    فالأوّل منهما وإن كان له حالة سابقة ، لكنّه يلازم عقلاً كون الجزء المشكوك نهاراً ، ويترتب عليه أثره الشرعي وهو حرمة الأكل في اليوم وجواز إقامة الصلاة أداء.


(138)
    وعلى ذلك فهناك أُمور ثلاثة :
    أ : المستصحب : بقاء النهار أو الليل.
    ب : الأثر العقلي : هذا الجزء من النهار أو من الليل.
    ج : الأثر الشرعي : حرمة الأكل أو إقامة الصلاة أداء المترتب على كون هذا الجزء نهاراً أو ليلاً ، والهدف من الاستصحاب هو ترتّب الأثر الشرعي ، ولكنّه لايترتب على المستصحب إلاّ بواسطة عقلية ، وهذا هو الأصل المثبت.
    وأمّا الثاني فهو وإن كان غيرَ مثبِت ولكنّه فاقد للحالة السابقة ، إذ لم يكن هذا الجزء موجوداً في السابق وموصوفاً بكونه من اللّيل أو من النهار حتى يُستصحب.
    يلاحظ عليه : انّا نختار الشق الأوّل ، ولكنّ الأصلَ هنا حجّة وإن كان مثبتاً ، وذلك لخفاء الواسطة على وجه يرى العرفُ الأثرَ الشرعي مترتِّباً على المستصحب لا على الواسطة.
    وإن شئت قلتَ : يرى العرفُ بقاء الليل على النحو الكليّ ، عين وصف الجزء المعيّن بالنهارية فيترتب عليه أثره.
    ونختار الشقّ الثاني ، ونقول : إنّ الإشكال مبني على فصل الجزء المشكوك عن الجزء السابق ولحاظه مستقلاً ، وأمّا إذا قلنا انّ الجزء المشكوك بقاء للجزء السابق المحكوم بالنهارية أو الليلية فيصحّ لنا أن نقول : كان هذا الزمان موصوفاً بالنهارية ، والأصل بقاؤه ، لأنّ المفروض انّ الزمان أمر واحد متلاصق ، متلاحم. فالجزء الذي نشكّ في وصفه هو امتداد لنفس اليوم الطالع عند الفجر الصادق إلى الآن الذي نشكّ فيه.


(139)
    وربما يتمسك باستصحابات أُخرى غير السابق :
    1. ما ذكره المحقّق الخراساني ، وهو استصحاب المقيّد ( الإمساك ) فيقال : كان إمساكي قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان ، ثمّ أمر بالتأمّل.
    ولعلّ وجه التأمّل انّ التعلّق عقلي نظير قولك في الصلاة بأن يقال : لو كنت أُصلّي قبل هذا كانت صلاتي واقعة في النهار والآن كما كان ، والاستصحاب التعليقي حجّة فيما إذا كان التعليق شرعياً ، كما في قولنا : « العصير العنبي إذا غلى يحرم » لا في المقام ، فإنّه عقلي فانّ ترتّب قوله : « كانت صلاتي واقعة في النهار » على المقدّم عقلي.
    2. استصحاب عدم الغروب أو عدم الطلوع.
    يلاحظ عليه : أنّه مثبت ، فلايُثبت كون الجزء المشكوك نهاراً أو ليلاً إلاّ بالملازمة العقلية ، ولو قيل بخفاء الواسطة فلاحاجة إليه بعد تصحيح استصحاب النهار أو الليل به. لو كان لهما أثر شرعي يترتب عليهما.
    3. استصحاب وجوب الإمساك أو جواز الأكل الذي هو استصحاب حكمي ، وهذا لا بأس به.
    الموضع الثاني : جريان الاستصحاب في الأُمور التدريجية غير الزمان
    إنّ التدريج تارة يكون أمراً ثابتاً بالبرهان وأُخرى بالحس ، والأوّل كمجموع عالم المادة فانّه بناء على القول بالحركة الجوهرية أمر غير ثابت متجدّد في كلّ آن ، والجوهر والعرض في الآن الأوّل غيرهما في الآن الثاني ، ومثله النور المتلألأ من المصابيح الكهربائيّة أو الدهنيّة ، وأُخرى يكون أمراً حسياً ، كنبع الماء وقذف الرحم


(140)
الدمَ ، والمشي والتكلم إلى غير ذلك ، والكلام إنّما هو في القسم الثاني ، وأمّا الأوّل فالبقاء فيه واضح وعدم تصوّر البقاء فيه عند العقل الخاضع لبرهان الحركة الجوهرية لاينافي صدق البقاء في نظر العرف الدقيق ، من غير فرق بين أن لايتخلّل العدم بين أجزائها المتلاحقة كسيلان الماء وقذف الدم ، أو يتخلّل بصورة لاتخل بوحدة الفعل كالقراءة والتكلّم.
    إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا صوراً :
    الصورة الأُولى : إذا أحرز المتيقّن وشكّ في الرافع
    إذا أُحرز انّه كان قاصداً للسفر إلى أربعة فراسخ ولكن يحتمل عروضَ مانع من برد أو حرّ ، ومثله ما إذا أحرز كون القناة قابلة لنبع الماء سنين ولكن يُشكّ في سيلانها ونبعها ، لأجل احتمال حدوث مانع يمنع عن جريانه ، كسقوط الصخرة على المجرى ، أو امتلاء الطريق بالطين ، أو غير ذلك من الموانع ، ومثله ما إذا علمنا وجود واع في نفس المتكلّم يدفعه إلى أن يتكلّم ساعة لكن يحتمل انصرافه عنه لأجل طروء رادع يصرفه عن الاستمرار في الكلام ففي هذه الصورة يجري الاستصحاب لما عرفت من وجود الوحدة العرفية وصدق الشكّ في البقاء.
    وإن شئت قلت : إنّ لكلّ شيء بقاء واستمراراً ، فلو كان الشيء أمراً قارّاً فبقاؤه باجتماع جميع أجزاء وجوده في زمان واحد أو مكان واحد ، وأمّا إذا كان أمراً غير قار فبقاؤه استمراره وامتداده فهو باق بامتداده ووجوده التصرمي وثابت بوجوده التجدّدي ، ولولا ذلك بطلت هويّته وزالت شخصيته.
    وبذلك يعلم النظر فيما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الشكّ ليس في بقاء جريان شخص ما كان ، بل في حدوث جريان جزء آخر شكّ في جريانه من جهة


(141)
الشكّ في حدوثه. (1)
    وجه النظر واضح انّ المستشكل نظر إلى الموجود التدريجي من منظار العقل فهو عنده شكّ في الحدوث ، لا من منظار العرف الدقيق فهو أمر واحد شخصي شكّ في طول وجوده وقصره.
    الصورة الثانية : إذا شكّ في استمراره لأجل الشكّ في بقاء المقتضي
    كأن لم يعلم مقدار ما نواه من السفر ، فهل نوى السفر فرسخين أو أربع فراسخ ، وجريان الاستصحاب يتوقف على وجود الإطلاق في أدلّة الاستصحاب حتى يعم الشكّ في النقض ، وقد مرّ.
    الصورة الثالثة : في احتمال نيابة داع آخر مكانه
    إذا شكّ في الاستمرار بعد العلم بانتفاء الداعي الأوّل واحتمال نيابة داع آخر مكانه ، كما إذا علمنا أنّه نوى السفر إلى فرسخين ولكن يحتمل عروض داع آخر ، لأنّ يستمر في سفره إلى أربعة فراسخ ، وربّما يقال بعدم الجريان ، لأنّ وحدة السير بوحدة الداعي فلو تعدّد ، يتعدّد السير ، فإذا شك في حدوث داع ثان يوجب استمراره في السير ، فهو في الحقيقة شكّ في حدوث سير آخر والأصل عدمه.
    يلاحظ عليه : أنّه في نظر العرف استمرار لوجود واحد وإن اختلف الداعي ، والمقام أشبه بحفظ خيمة واحدة بدعامتين ، فتعويض الدعامة الأُولى بنصب الثانية لايوجب تعدّداً في جانب البقاء ، فهكذا المقام.
    والحاصل : أنّ وحدة العمل تابع لتلاصق أجزائه ، وتعدّد الداعي بعد
1. الكفاية : 2/316.

(142)
تلاحقها لايؤثّر في كيفية العمل الخارجي.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار إلى تصوير استصحاب الكلّي بأقسامه الثلاثة في المقام وقال : إنّ استصحاب بقاء الأمر التدريجي إمّا يكون من قبيل استصحاب الشخصي أو من قبيل استصحاب الكلّي بأقسامه ، فإذا شكّ في أنّ السورة المعلومة ـ التي شرعت فيها ـ تمّت قراءتُها أو بقي شيء منها صحّ استصحاب الجزئي والكلّي وإذا شكّ فيه من جهة تردّدها بين القصيرة والطويلة كان من القسم الثاني ، وإذا شكّ من أنّه شرع من أُخرى مع القطع بأنّه قد تمّت الأُولى كان من القسم الثالث.
    الموضع الثالث : الفعل ( القارّ ) المقيّد بالزمان
    إذا أمر المولى بالإمساك إلى الغروب ، أو الجلوس في المسجد إلى الظهر ، فتارة تكون الشبهة موضوعية ، وأُخرى حكميّة.
    أمّا الأوّل : فكما إذا شكّ في تحقّق المغرب والظهر ، وهذا ما فرغنا منه في الموضع الأوّل فانّه كان مخصَّصاً لاستصحاب الزمان كالليل والنهار فيما إذا كان قيداً للواجب.
    وأمّا الثاني : وهو كما إذا قطع بتحقّق الظهر لكن يشكّ في بقاء الحكم لاحتمال أن يكون التعبّد به إنّما هو بلحاظ كمال المطلوب ، لاأصله.
    وبذلك يعلم أنّ الموضع الأوّل والثالث من مقولة واحدة وهو كون الزمان قيداً للفعل غير أنّ الشبهة تارة تكون موضوعية ويكون الشكّ متعلّقاً ببقاء الزمان وعدمه ، وأُخرى حكميّة ، ويكون الشكّ متعلّقاً ببقاء الحكم لأجل احتمال بقائه ، حتى بعد القطع بانتفاء الزمان ، والمتكفل لبيان حكم الشبهة الموضوعية هو


(143)
الموضع الأوّل ، والمتكّفل لبيان حكم الشبهة الحكمية هوالموضع الثالث ، ولقد قدّم المحقّق الخراساني البحث في الزمانيات ( الموضع الثاني ) ثمّ طرح البحث في الموضع الأوّل والثالث معاً.
    وبذلك يعلم أنّ ذكره استصحابَ الليل والنهار عند البحث في الموضع الثاني في غير محله ، لأنّه من قبيل استصحاب الزمان لاالزمانيات.
    وإلى ما ذكرنا ( استصحاب الزمان والفعل المقيد به ) ينظر قول المحقّق الخراساني : « وأمّا الفعل المقيد بالزمان فتارة يكون الشكّ في حكمه من جهة الشكّ في بقاء قيده (1) وطوراً مع القطع بانتفائه ، من جهة أُخرى كما إذا احتمل أن يكون التعبد ، إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب لاأصله ومع احتماله يصحّ استصحاب الحكم بشرط آخر إذ انّ القيد ـ أي الزمان ـ ظرف لاقيد ، وذلك لأنّ الأمر الوجودي المجعول إن لوحظ الزمان قيداً له ( للوجوب ) أو لمتعلّقه ( الجلوس ) بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيد بكونه إلى الزوال شيئاً ، والمقيد بكونه بعد الزوال شيئاً آخر متعلّقاً للوجوب فلامجال لاستصحاب الوجوب للقطع بارتفاع ما علم وجوده والشكّ في حدوث ما عداه ، ولذا لايجوز الاستصحاب في صم يوم الخميس إذا شكّ في وجوب صوم يوم الجمعة ، وإن لوحظ الزمان ظرفاً لوجوب الجلوس فيجري استصحاب وجوب الجلوس.
    فإن قلت : إنّ الزمان لامحالة يكون من قيود الموضوع وإن أُخذ ظرفاً لثبوت الحكم في دليله ضرورة دخل مثل الزمان فيما هو المناط لثبوته فلامجال للاستصحاب لتبدّل الموضوع.
    قلت : العبرة في تعيين الموضوع هو العرف لاالعقل ، والفعل في كلا الزمانين
1. أي تكون الشبهة موضوعية ، وهذا هوالموضع الأوّل حسب تقسيمنا.

(144)
واحد ، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الأوّل وشكّ في بقائه في الزمان الثاني.
    هذا ما يرجع إلى المقام.
    ثمّ الشيخ الأنصاري نقل عن المحقّق النراقي شبهة في جريان استصحاب الحكم الشرعي المجعول ، بأنّه معارض باستصحاب عدم جعله في الزمان المشكوك وأطال الكلام ، كما أنّ المحقّق الخراساني نقل نفس الشبهة في ضمن إشكال أورده على نفسه وقال : لايقال كلّ واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلا النظرين ، ثمّ أجاب :
    ولكنّ الحقّ أنّ البحث حول تعارض الاستصحابين لا صلة له باستصحاب الفعل المقيّد بالزمان ، بل هو شبهة كلية له صلة بمبحث آخر وهو منع جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية من رأس ، وذلك لتعارض استصحاب بقاء الحكم في زمان الشكّ مع أصالة عدم جعله فيما عد المتيقّن ، وكان اللازم على الشيخ وتلميذه عقد تنبيه خاص لهذا الموضوع ونقد إشكال المحقّق النراقي بعده ، ولأجل ذلك خصصنا تنبيهاً مستقلاً له كالآتي.


(145)
التنبيهات
6
    كان التنبيه السابق معقوداً لبيان جواز استصحاب الزمان والزمانيّات ، وقد عرفت حقيقة الحال فيهما ، وبقي البحث في استصحاب القسم الثالث ، أي الفعل المقيّد بالزمان ، كالإمساك في النهار إذا شكّ في بقاء وجوبه بعد غروب الشمس ، وقد جعله الشيخ ذيلاً للتنبيه السابق ، وتبعه المحقّق الخراساني.
    وبما انّ الأعلام خصُّوا الكلام بما إذا كان القيد زماناً كالنهار بالنسبة إلى الإمساك جعلوه ذيلاً للتنبيه السابق ، وبما أنّه لاخصوصية لكون القيد زماناً ، يأتي البحث في سائر القيود أيضاً عند ارتفاعها والشك في بقاء الحكم الكلّي كما في المثالين التاليين :
    أ : إذا دلّ الدليل على أنّ الماء المتغيّر نجس ، فلو زال تغيّره بنفسه ، يقع الكلام في بقاء النجاسة بعد ارتفاع القيد.
    ب : إذا ورد الدليل على أنّه يحرم مسُّ الحائض ، فلو حصل النقاء ولم تغتسل ، يقع الكلام في بقاء حرمة المس.


(146)
    وبذلك يظهر أنّ ملاك البحث هو استصحاب الحكم الشرعي الكلّي بعد ارتفاع بعض قيوده سواء أكان القيد زماناً أم غيره.
    وعلى ضوء ذلك : كان اللازم على الشيخ عقدَ تنبيه خاص لجواز جريانه فيه وعدمه ، لكنّه اكتفى بما في ذيل التنبيه السابق ، ولأجل الحفاظ على النظام السائد في كتاب « الفرائد » و « الكفاية » نقتفي أثر الشيخ والمحقّق الخراساني أوّلاً ، ثُمّ نوسِّع البحث في استصحاب كل حكم كلّي شرعي عند انتفاء بعض قيوده ثانياً.
    إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ منشأ الشك في بقاء الحكم الشرعي ، تارة يكون خلط الأُمور الخارجية ، وهو المعبَّر عنه بالشبهة الموضوعية ، وأُخرى فقدان النص أو إجماله أو تعارضه ، وهذا ما يعبَّر عنه بالشبهة الحكمية.
    أمّا الأوّل : فلا شكّ في جريانه عند قاطبة الأخباريّين والأُصوليّين ، فمثلاً إذا شُك في بقاء النهار يُستصحب بقاؤه ، ومثله إذا شُكّ في بقاء الليل.
    إنّما الكلام إذا كان الشكّ في الشبهة الحكمية ، فهناك أقوال خمسة :
    الأوّل : التعارض بين الاستصحابين ، أي استصحاب العدم واستصحاب الوجود. وهذا هو خيرة المحقّق النراقي والمحقّق الخوئي.
    الثاني : التفصيل بين كون القيد المرتفع ظرفاً فيجري استصحاب الوجود. أو قيداً فيجري استصحاب العدم. وهذا هو خيرة الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني.
    الثالث : عدم جريان الاستصحاب العدمي ، وجريان خصوص الاستصحاب الوجودي. وهو خيرة المحقّق النائيني. وقد قوّيناه لكن بطريق آخر.


(147)
    الرابع : جريان الاستصحاب الوجودي والعدمي بلا منافاة بينهما. وهو خيرة شيخ مشايخنا الحائريّ والسيّد الأُستاذ ( قدّس سرّهما ).
    الخامس : عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية الكلّية أصلاً ، واختصاصه بالحكم الجزئي والشبهة الموضوعية. وهو خيرة الأخباريين. (1) وإنّما أخّرنا هذا القول عن الأقوال الأربعة ، لأجل انطباق البحث على « الفرائد » و « الكفاية » ، وإلاّ فطبع الحال كان يقتضي تقديمه على الأقوال كلّها.
    القول الأوّل : جريان الاستصحابين وتعارضهما
    ذهب المحقّق النراقي إلى جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي الكلّي ، لكن تكون النتيجة هي تعارض الاستصحابين ، وقال : إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة ، وعلم انّه واجب إلى الزوال ، ولم يعلم وجوبه فيما بعده ، فاستصحاب وجوبه بعده ، معارض بعدم وجوبه مطلقاً قبل التكليف ، فخرج الجلوس قبل الزوال وبقي ما بعده تحت عدم الوجوب الأزلي. (2)
    وحاصل الاستدلال : وجود التعارض بين جرّ وجوب الجلوس إلى ما بعد الزوال ، واستصحاب عدم جعل الوجوب بتاتاً ، لاقبل الزوال ولابعده ، خرج عنه ، الجلوسُ إلى الزوال بالدليل الشرعي ، فيُستصحب عدم الوجوب المطلق من بعد الزوال إلى الغروب.
1. هذا هو القول الخامس من بين الأقوال البالغة أحد عشر قولاً في حجية الاستصحاب في الفرائد ، لاحظ ص 347.
2. الفرائد : 376 ط رحمة الله.


(148)
    القول الثاني : التفصيل بين كون الزمان ظرفاً وقيداً
    ذهب الشيخ والمحقّق الخراساني إلى جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي الكلّي من دون أن يكون هنا تعارض ، وذلك لأنّ الزمان في دليل المستصحب لايخلو إمّا أن يكون قيداً للموضوع ومفرِّداً له ، وبين كونه ظرفاً للفعل (1) فإن كان قيداً للموضوع ، بمعنى أنّ الجلوس المقيد إلى الزوال واجب ، فلايجري استصحاب الحكم الوجودي ، لتبدّل الموضوع ، وعدم صدق النقض لو لم نقل بجريانه ، بل يكون أشبه بالقياس ، بل يجري استصحاب عدم الوجوب لأنّ انتقاض عدم الوجود المقيّد لايستلزم انتقاض المطلق ، والأصل عدم الانتقاض كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الجمعة ولم يثبت غيره.
    وإن أُخذ الزمان ظرفاً للفعل ، بتصوّر أنّ الجلوس فعل لايتحقّق إلاّ في الزمان ، فلايجري إلاّ الاستصحاب الوجودي ، لأنّ العدم المطلق انتقض بالوجود المطلق وقد حكم عليه بالاستمرار بمقتضى أدلة الاستصحاب. (2)
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بعد ما ذكر ـ في مقام الإجابة عن التعارض ـ خلاصة كلام الشيخ أورد على نفسه إشكالاً ليس في كلام الشيخ ، وهو : انّه لما كان كل من النظرين ( كون الزمان قيداً أو ظرفاً ) أمراًمحتملاً ، يجري كلا الاستصحابين ، لأنّ كلاً منهما محتمل البقاء.
    فأجاب عن الإشكال بأنّه إنّما يصحّ إذا كان في أخبار الباب ما بمفهومه يعمّ كلا الاستصحابين ، وإلاّ فلايكون هنا إلاّ استصحاب واحد لما عرفت من أنّ
1. وما في الكفاية : ظرفاً للحكم لايخلو من تسامح.
2. الفرائد : 377 ، ط رحمة الله.


(149)
استصحاب الأمر الوجودي فرع لحاظ الزمان ظرفاً ، واستصحاب الأمر العدمي فرع لحاظه قيداً ولايمكن الجمع بين اللحاظين في دليل واحد.

    نقد تفصيل الشيخ
    ثمّ إنّ المحقّق الخوئي أنكر احتمال أن يكون الزمان المأخوذ في لسان الدليل ظرفاً ، وقال : بأنّه قيد دائماً ، وعلى هذا يكون المورد صالحاً للاستصحاب العدمي دون الوجودي ، وقال ماهذا حاصله :
    إنّ الإهمال في مقام الثبوت غير معقول ، فالأمر بالشيء إمّا أن يكون مطلقاً ، أو يكون مقيداً بزمان خاص ، ولانتصور الواسطة ، ومعنى كونه مقيَّداً بزمان خاص عدم وجوبه بعده ، فأخذ الزمان ظرفاً للمأمور به ـ بحيث لاينتفي المأمور به بانتفائه في مقابل أخذه قيداً للمأمور به ـ مما لايرجع إلى معنى معقول ، فانّ الزمان بنفسه ظرف لايحتاج إلى الجعل التشريعي ، فإذا أخذ زمان خاص في المأمور به فلامحالة يكون قيداً له ، فلا معنى للفرق بين كون الزمان قيداً أو ظرفاً ، فانّ أخذه ظرفاً ليس إلاّ عبارة أُخرى عن كونه قيداً. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ معنى كون الزمان أو مطلق القيود ظرفاً ليس بمعنى عدم مدخليته حدوثاً وبقاءً ، وإلاّ يكون أخذه في لسان الدليل لغواً ، بل المراد مدخليته حدوثاً لابقاءً مقابلَ مدخليته حدوثاً وبقاءً.
    فعلى الأوّل يكون الزمان ظرفاً وعلى الثاني قيداً.
    وبذلك صحّحنا استصحاب نجاسة الماء المتغيّر الذي زال تغيّره بنفسه ، فانّ النجاسة ليست محمولة على مطلق الماء ، ولاعلى الماء مادام متغيّراً حتى تلزم
1. مصباح الأُصول : 3 / 131.

(150)
طهارته إذا زال تغيره بنفسه ، بل على الماء الذي صار متغيّراً في آن من الآنات فهو محكوم بالنجاسة إلى أن تثبت طهارته.
    وإن شئت قلت : إنّ القيود بعامتها سواء أكانت زماناً أم غيره من قبيل الواسطة في الثبوت ، التي تكفي في استمرار الحكم وجود القيد آناً ما ( كالتغيّر ) لاالواسطة في العروض التي يدور استمرار الحكم على وجود الواسطة حدوثاً وبقاءً كجريان الماء على الميزاب المصحّح لنسبة جريانه إلى الميزاب مادام الجريان حاصلاً بالفعل.
    إلى هنا تمت النظريتان : نظرية التعارض ، ونظرية التفصيل ، وإليك النظرية الثالثة ، وهي تعني جريان خصوص الاستصحاب الوجودي دون العدمي.
    القول الثالث : جريان خصوص الاستصحاب الوجودي
    ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المورد صالح للاستصحاب الوجودي دون العدمي ، حتى ولو كان الزمان قيداً ، وحاصل ما أفاد هو مايلي :
    إنّ العدم الأزلي هو العدم المطلق الذي يكون كلّ حادث مسبوقاً به ، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كلّ حادث إنّما يكون بحدوث الحادث وشاغليّته لصفحة الوجود ، فلو ارتفع الحادث بعد وجوده ، فهذا العدم غير العدم الأزلي ، بل هو عدم آخر حادث بعد وجود الشيء.
    وذلك لأنّ العدم المقيّد بقيد خاص من الزمان أو الزماني إنّما يكون متقوّماً بوجود القيد ، كما أنّ الوجود المقيّد بقيد خاص إنّما يكون متقوّماً بوجود ذلك القيد ، ولايعقل أن يتقدّم العدم أو الوجود المضاف إلى زمان خاص عليه (1) ، بل يكون
1. في النسخة المطبوعة أخيراً « عنه » والظاهر « عليه » أي على الزمان.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس