إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 151 ـ 165
(151)
العدم بعد الزوال كالوجود المقيّد به ، ويكون قوامه وتحقّقه بعد الزوال ، ولايكون له تحقّق قبل الزوال فلايمكن استصحاب العدم بعد الزوال إلاّ إذا آن وقت الزوال ، ومن المعلوم ليست لهذا العدم المقيد حالة سابقة آن وقت الزوال.
    فتكون النتيجة ، أنّ العدم المطلق وإن كان ذا حالة سابقة ، لكنّه انتقض بوجوب الجلوس إلى الزوال ، وأمّا العدم المضاف إلى الزوال الذي لايتحقّق إلاّ بتحقّق الزوال فليس له حالة سابقة إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ حدوث كلّ فرد مسبوق بعدم نفسه ، فكما أنّ وجوب الجلوس إلى الزوال كان مسبوقاً بعدم نفسه ، فهكذا وجوب الجلوس بعد الزوال مسبوق بعدم نفسه ، بشهادة أنّه حادث ، وكلّ حادث مسبوق بالعدم ، وعلى ذلك يكون عدمه نفس العدم الأزلي.
    وما ذكره من أنّ هذا العدم إنّما يتحقّق عند الزوال ، فهو خلط بين العدم المضاف إلى « الزوال » والعدم المقيّد بالزوال ، فالأوّل مضاف إلى المعدوم وهو عدم أزلي سابق ، والثاني أي ما يكون العدم مقيّداً بالزوال فهو عدم مقارن مع الزوال وليس أزلياً.
    فالأوّل منه متحقّق قبل الزوال مع إضافة العدم إليه ، بخلاف الثاني فانّه يتوقف على حلول الزوال.

    نظرية النراقي بثوبها الجديد
    ثمّ إنّ المحقق الخوئي أحيا نظرية المحقّق النراقي ببيان آخر ، وحاصله : أنّ للأحكام مرحلتين :
1. فوائد الأُصول : 4 / 445 ـ 446.

(152)
    1. مرحلة الإنشاء والجعل.
    2. مرحلة الفعلية والتحقّق.
    أمّا الأُولى : هو عبارة عن إنشاء الحكم على العنوان إذا لم يكن هناك مصداق له ، كإنشاء وجوب الحج على المستطيع مع عدم مصداق له.
    وأمّا الثانية : فهي عبارة عن تحقّق الموضوع ، أي وجود المستطيع مع عامة شرائطه. هذا وبإمكاننا أن نعبّر عن الأُولى بمرحلة الجعل ، وعن الثانية ، بمرحلة المجعول.
    إذا عرفت هذا فنقول : إنّ الشكّ في المجعول في الشبهات الحكمية على قسمين :
    أ : ما كان الزمان مفرِّداً للموضوع ، وكان الحكم انحلاليّاً ، كحرمة وطأ المرأة الحائض حسب أفرادها ، وكوطئها قبل النقاء أو بعده قبل الاغتسال ، ففي مثله لايجري استصحاب الحرمة ، لأنّ الفرد المحقّق بعد النقاء وقبل الاغتسال لم تعلم حرمته من أوّل الأمر ، فيكون الاستصحاب في المقام من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر.
    ب : ما إذا لم يكن الزمان مفرِّداً للموضوع ، أو لم يكن الحكم انحلالياً ، كنجاسة الماء القليل المتمَّم كرّاً ، فانّ الماء شيء غير متعدد حسب امتداد الزمان في نظر العرف ، ونجاسته حكم مستمر لكنّه مبتلى بالمعارض ، فلنا يقين متعلّق بالمجعول ، ويقين متعلّق بالجعل ، فبالنظر إلى المجعول يجري استصحاب النجاسة ، وبالنظر إلى الجعل يجري استصحاب عدمها ، إذ المتيقن جعلها للماء النجس غير المتمَّم كراً ، وأمّا جعلها مطلقاًحتى للقليل المتمَّم فهو مشكوك فيه ،


(153)
فيستصحب عدمه ، فتقع المعارضة بين بقاء المجعول وعدم الجعل ، ومثله استصحاب الملكية والزوجية إذا رجع البائع وشككنا في بقاء الملكية به ، أو طلَّق الزوج بلفظ نشك في كونه صيغة طلاق ، مثل قوله : أنتِ خلية. فباعتبار المجعول يجري استصحاب الملكية والزوجية ، وباعتبار الجعل يجري استصحاب عدمهما ، ويكون المقام من قبيل الأقل والأكثر ويجري الأصل في الأكثر. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ تفسير الحكم الإنشائي والفعلي بما ذكر خلاف ما هو المصطلح الدارج من عصر الشيخ إلى يومنا هذا ، فالحكم الإنشائي هو الحكم المجعول الذي لم يصل إلى حد الإعلام للناس والفعلي هو الحكم المجعول الذي بلّغه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على نحو لو تفحَّص المكلف مظان الحكم لوصل إليه.
    فالحكم الشرعي الذي بلّغه الرسول ولم يعثر عليه المكلّف ، فعلي غير منجز ، فإذا وقف عليه أو على طريقه صار الحكم منجزاً.
    وثانياً : أنّ لازم ما ذكره القول بعدم جريان استصحاب عدم النسخ ، مثلاً اتّفق الفريقان على مشروعية المتعة قبل عام الفتح ، أو عام خيبر ، فادّعت السنّة منسوخيتها ، والشيعة على استمرارها أخذاً بأصالة عدم النسخ ، مع أنّ لازم ما ذكره عدم جريانه لأنّ الأصل عدم جعل الجواز عليها بعد عام الفتح ، مع أنّ استصحاب عدم النسخ مما اتّفق عليه الأخباري والأُصولي كما نقله الشيخ الأعظم في فرائده من الأمين الاسترابادي. (2)
    وثالثاً : أنّ الجمع بين استصحابي الجعل والمجعول جمع بين المتنافيين ، فانّ استصحاب المجعول مبنيّ على أخذ الجلوس بما هو هو موضوعاً للحكم حتى
1. مصباح الأُصول : 3 / 37 ـ 39.
2. الفرائد : 347.


(154)
يصح استصحابه إلى ما بعد الزوال. ولكن استصحاب عدم الجعل مبني على تقسيم الجلوس إلى قبل الزوال وما بعده حتى يقال بأنّ القدر المتيقّن هو الأوّل دون الثاني ، وهو نفس أخذ الزمان قيداً وجعله موضوعاً مستقلاً. فلم يكن الأصلان جاريين في ظرف واحد.
    وأظن انّه ( قدَّس سرُّه ) لما لم يتصوّر معنى واضحاً لظرفية الزمان ، لم يكن له بدّ إلاّ من جعل الزمان قيداً ومعه لايجري إلاّ الاستصحاب العدمي فقط.
    إلى هنا تمّ بيان الأقوال الثلاثة ، وإليك بيان القول الرابع.

    القول الرابع : لاتعارض بين الاستصحابين
    وحاصله : انّه لاتعارض بين الاستصحابين ، إذ لا مانع من أن يكون الجلوس بما هو هو « كما هو مقتضى الاستصحاب الوجودي » واجباً وبما هو جلوس مقيدٌ بالزوال إلى المغرب غير واجب ، ولأجل اختلاف الموضوعين يختلف الحكمان ، لأنّ لازم الاستصحاب الوجودي أخذ الجلوس بما هو هو موضوعاً للحكم ، وجعل الجلوس من الزوال استمراراً للجلوس السابق من دون نظر استقلاليّ إليه حتى يتسنَّى استصحاب الحكم السابق ، واسراؤه من الزمان السابق إلى الزمان اللاحق. فيحكم على مطلق الجلوس بالوجوب.
    ولكن لازم الاستصحاب العدمي هو أخذ الجلوس منقطعاً عن السابق ومحدّداً بالزوال إلى المغرب ، موضوعاً للوجوب ، ومن المعلوم انّ الحكم بعدم الوجوب للمقيّد لاينافي الحكم بالوجوب على المطلق.
    وهذا ـ كما عرفت ـ خيرة شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري ، قال ( قدَّس سرَّه ) : لا مانع من جريان الاستصحابين ، وكون الجلوس بعد الزوال محكوماً بحكمين مختلفين ،


(155)
فهو بما انّه جلوس وأنّه من مصاديق مطلق الجلوس وأفراده ، محكوم بالوجوب ، وبما انّ جلوسه مقيّد ، محكوم بعدمه ، وهذا بمكان من الإمكان ، بل لا مانع من حصول القطع بذينك الحكمين فلاغرو في أن نقطع بوجوب الجلوس بعد الزوال بما هو جلوس ، وبعدمه بما انّه جلوس مقيد. (1) وقد اختاره السيد الأُستاذ.
    وحاصل كلامهما يرجع إلى اختلاف الحيثيتين ، فمن حيثية يحمل عليه بالوجوب ، ومن حيثية أُخرى يحمل عليه بعدمه ، فلاتعارض في مقام الجعل ، لكن يبقي الكلام في مقام الامتثال.
    فهل يصح للعبد أن يترك الجلوس بعد الزوال محتجّاً باستصحاب عدم الوجوب ؟
    الظاهر : لا ، وذلك لعدم التزاحم في مقام الامتثال ، فانّ عدم الوجوب لحيثية لاينافي الوجوب من حيثية أُخرى ، فليس هناك أيّ تزاحم بين الحكمين في مقام الامتثال ، فللمولى أن يحتج على العبد بالاستصحاب الوجودي.

    نظرية المحقّق النائيني بثوبها الجديد
    و هذا القول يُشاطر القول الثالث ، أعني : قول المحقّق النائيني ، في اختصاص المقام بالاستصحاب الوجودي دون العدمي ، ولكن يختلف معه في الدليل.
    وحاصل دليل هذا القول ، هو : انّ أدلّة الاستصحاب لاتشمل استصحاب العدم الأزلي ، ولايعدُّ عدمُ الاعتداد بهذا النوع من اليقين نقضاً له ، وذلك لأنّ الظاهر من الأدلّة هو الأمر بحفظ اليقين في الأُمور التي لها مساس بالحياة العملية
1. درر الفوائد : 2 / 159.

(156)
سواء أكانت أمراً تكوينياً أم تشريعياً ، فلو تعلّق اليقين بواحد من هذه الأُمور فلايصح نقضها.
    وأمّا الأمر الخارج عن هذا الإطار والذي يرجع إلى ما قبل الخلقة ، فلايشمله قوله : « لاتنقض اليقين بالشك » ولايعدّ عدم العمل به نقضاً لليقين ، لأنّ المفروض أنّ المتيقن هو الأُمور الخارجة عن إطار الحياة العملية.
    وبالجملة : انّ استصحاب العدم الأزلي وإن كان فرداً عَقلانياً لليقين ولكنّه ليس فرداً عُقلائياً عرفياً له ، ولذلك لايتبادر من أدلة الاستصحاب هذا الفرد من اليقين والمتيقن.
    وبذلك تبين انّه لايجري في المورد إلاّ الاستصحاب الوجودي.

    إيقاظ
    عقد المحقّق الخراساني في المقام عنواناً أسماه « إزاحة وهم » فحاول به دفع نظرية النراقي في تعارض الاستصحابين ، وقد أخذ ما ذكره من الشيخ الأنصاري في ذيل التنبيه الثاني ، حيث قال الشيخ في جواب ما أورد على نفسه :
    قلت : لابدّأن يلاحظ انّ منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي [ هل هو ] الشكّ في مقدار تأثير الوضوء ؟ أو في رافعية ما أحدثه الوضوء من الأمر المستمر .... (1)
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني تناول الشقَّ الثاني بالبحث وقال ما حاصله : من انّه إذا كان المقام من قبيل الشكّ في الرافع فلامجال لاستصحاب العدم الأزلي ، وذلك لأنّه بعد ما وقفنا على أنّ الوضوء سبب للطهارة المستمرة التي لاترتفع إلاّ
1. لاحظ الفرائد : 377 ، طبعة رحمة الله.

(157)
بما جعله الشارع سبباً ، أو جعل ملاقاة النجس مع الماء القليل سبباً للنجاسة المستمرة ، لايكون هنا أيّ شكّ في المقتضي ، ولو كان هنا شك فإنّما هو في الرافع ، وهو هل المذي رافع للأمر المستمر أو انّ إتمام الماء كراً رافع للنجاسة أو لا ؟
    فإذا كان كذلك ، فليس هناك مجال إلاّ لاستصحاب الأمر المستمر المتيقن سابقاً والمشكوك لاحقاً ، ولايصحّ التمسّك بعدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي ، أو عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرة. إذ لانشكّ في إنشاء الأمر المستمر من دون تحديد بحدّ. وعلى ضوء ذلك فليس هناك شكّ في تأثير مقدار المقتضي ، بل العلم حاصل في أنّه أثر بلا تحديد وتقييد ، وإنّما الشكّ في القاطع والرافع فليس المرجع إلاّ أصالة عدم الرافع.
    القول الخامس : عدم الحجية في الحكم الشرعي الكلّي
    إلى هنا تمّت التفاصيل في جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي الكلّي بعد البناء على حجيته في ذلك المجال. وهناك من يمنع حجيته في الشبهة الحكمية بتاتاً ، ومعه لاتصل النوبة إلى التعارض ، واستدلّ على ذلك بوجهين :
    الأوّل : اختصاص مورد روايات الاستصحاب بالشبهات الموضوعية كما هو الحال في صحاح زرارة الثلاث وغيرها. فانّ السؤال والجواب منصبَّان على الشبهة الموضوعية ، ومعه كيف يمكن التمسّك بها لتصحيح استصحاب الحكم الكلّي ؟
    والجواب : انّ المورد غير مخصّص كما هو واضح ، والمسوّّغ للاستصحاب هو اليقين الذي هو أمر مبرم لاينقضه الشك الذي هو أمر موهون من غير فرق بين تعلّقه بالموضوع أو بالحكم ، والمجوِّز للاستصحاب هو استحكام اليقين ووهن الشك وهو موجود في كلا المقامين.


(158)
    الثاني : انّ استصحاب الحكم الكلّي أشبه بالقياس ، لأنّ الموضوع في المتيقّن غير الموضوع في المشكوك ، فالموضوع في الأوّل :
    المرأة الحائضة التي لم تزل ترى الدم.
    أوالماء القليل قبل الإتمام بكرّ.
    ولكن الموضوع في الثاني هو :
    المرأة التي حصل لها النقاء من الحيض.
    أو الماء القليل المتمم كرّاً.
    فكيف يصح إسراء العنوان الأوّل إلى العنوان الثاني مع أنّ الماهيات والعناوين مثار الكثرة والوجود مثار الوحدة ؟
    قال الأمين الاسترابادي : إنّ صور الاستصحاب المختلف فيها راجعة إلى أنّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته ، نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه فما سمُّوه استصحاباً راجع في الحقيقة إلى إجراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر. (1)
    وسوف نرجع إلى حلّ هذا الإشكال في التنبيه القادم.
1. الفرائد : 347 ، نقلاً عن الفوائد المدنية.

(159)
التنبيهات
7
    وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :
    1. إذا كان الحكم الشرعي محمولاً على الموضوع بلا قيد ولاشرط ، فالحكم تنجيزيّ وإلاّ فتعليقي ، سواء عُبِّر عنه بالجملة الخبرية التي قصد منها الإنشاء في نحو قولك : العصير العنبيّ حرام إذا غلى ، أو بالجملة الإنشائية نحو قولك : اجتنب عن العصير العنبي إذا غلى ، وقد مرّ الكلام في إمكان تقييد الهيئة في الأوامر.
    وإن شئت قلت : محل الكلام إنّما هو في استصحاب الوجوب المشروط بالمعنى الذي اختاره المحقّق الخراساني خلافاً للشيخ الأعظم الذي ارجع القيد إلى الواجب على ما مرّ.
    2. انّ الشكّ في بقاء الحكم الشرعي تارة ينشأ من الشكّ في بقاء موضوعه كحياة زيد ، أو بقاء المائع على الخمرية وعدم تبدّله إلى الخلّية ، وأُخرى من الشكّ في بقاء نفس الحكم الشرعي.
    أمّا الأوّل : فلا شكّ في جريان الاستصحاب فيه ، إنّما الكلام في جريانه في الثاني وهو على قسمين :
    تارة يكون الشك متعلِّقا بسعة الجعل ، كما إذا احتملنا استمرار مشروعية


(160)
حلّية المتعة إلى عام الفتح فقط.
    وأُخرى نعلم سعة الجعل وشموله لعامّة الأزمان والأجيال ، لكن حصل التغيير في جانب الموضوع بارتفاع بعض القيود كصيرورة العنب زبيباً ، والماء المضاف مطلقاً ، فجريانه في القسم الأوّل منهما مورد اتفاق ، إنّما الكلام في جريانه في القسم الثاني.
    وإن شئت فسمِّه الشك في سعة المجعول ـ حسب اصطلاح السيد الخوئي ـ حيث صار الحكم فعلياً بتحقّق موضوعه وفعليته في برهة من الزمان ، لكن طرأ التغيّر على بعض القيود فتعلّق الشك بسعة المجعول.
    3. انّ العنوان المأخوذ في الموضوع على أقسام : فتارة يدور الحكم مداره ، كما في قولنا : الكلب نجس ، والخمر حرام ، فلو انقلبا ملحاً أو خلاّ ، ارتفع الحكمان.
    وأُخرى يدور مدار ذات الشيء لاعنوانه ، كالحنطة ، فهو حلال ومملوك وإن انقلب دقيقاً وخبزاً.
    وثالثة يُشك في أنّه من أي من القسمين ، كما هو الحال في الماء المتغيّر بالنجاسة. والحاجة إلى الاستصحاب إنّما هو في القسم الأخير دون الأوّلين ، لوضوح ارتفاع الحكم في الأوّل وبقائه في الثاني قطعاً ، وطروء الشك في الثالث فلو كان الموضوع هو الماء ، والتغيّر دخيلاً ثبوتاً لابقاءً ، يبقى الحكم وإن زال تغيّره ، وإن كان الموضوع هو الماء المتغيّر مادام متغيراً يرتفع الحكم بارتفاع القيد.
    4. المثال المعروف للاستصحاب التعليقي هو قولهم : « العنب حرام إذا غلى » ، فلو طرأ التغيّر في جانب الموضوع وصار زبيباً ، فهل تستصحب الحرمة التعليقية بحجة أنّ الرطوبة والجفاف من حالات الموضوع كالخبز الناعم واليابس أو لا ؟


(161)
    لكن التمثيل به في غير محله ، إذ لم يقع العنب موضوعاً للحكم في لسان النص ، على ما مثّلنا ، بل الوارد هو العصير العنبي إذا غلى ، بأن يكون المغليّ ماء العنب ، لاالماء الخارجي ، وإذا صار زبيباً وجفّ ماؤه ، فالمغلي هو الماء الخارجي الذي يختلط مع أجزاء الزبيب ومثله خارج عن محط النص.
    ففي صحيحة عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : « كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » . (1)
    وفي صحيحة حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : « لايحرم العصير حتى يغلي » . (2) فلم يقع العنب موضوعاً للحكم حتى يستصحب حكمه وإن صار زبيباً.
    ومع ذلك فالمثال غير عزيز : فلو هدم المسجد وصار شارعاً يقع الكلام في حرمة تنجيسه ووجوب ازالة نجاسته. فإن قلنا : إنّ أحكام المسجد مترتبة على ما يقال انّه مسجد بالفعل ، فإذا أُزيل عنوانه ، لايترتب عليه شيء من أحكامه فيجوز تنجيسه ولاتجب إزالة نجاسته ، كما يجوز جلوس الجنب والحائض فيه.
    وإن قلنا : إنّها مترتبة على ما كان مسجداً وإن لم يكن بالفعل كذلك ، فتترتّب عليه عامة الأحكام. إنّما الكلام إذا شككنا فيما هو الموضوع فيرجع فيه إلى الأصل ومقتضاه هو حرمة التنجيس تنجيزاً ، ووجوب الإزالة تعليقاً ، فيقال في الأوّل كان تنجيس هذا المكان حراماً والأصل بقاؤه ، وفي الثاني ، كان هذا المكان ـ إذا تنجس ـ وجب تطهيره والأصل بقاؤه ، ولأجل كون الاستصحاب في الأوّل تنجيزياً وفي الثاني تعليقيّاً ، ذهب المحقّق النائيني في تعليقته إلى حرمة التنجيس ،
1. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة ، الحديث 1.
2. الوسائل : الجزء 17 ، الباب 3 من أبواب الأشربة المحرمة ، الحديث 1.


(162)
وعدم وجوب الإزالة. (1) لعدم حجية الاستصحاب التعليقي عنده.
    5. انّ جريان الاستصحاب مبني على جريانه في الأحكام الشرعية الكلّية وعدم اختصاصه بالشبهات الموضوعية ، وأمّا جريانه في الموضوعات فربّما يعطف عليه أيضاً ، فيقال في الصلاة في اللباس المشكوك : لو صلّى المصلي قبل لبس هذا اللباس لكانت صلاته صحيحة ، فالأصل بقاء الموضوع على ما كان عليه.
    والظاهر عدم صحة العطف ، إذ التعليق ليس في كلام الشارع وإنّما هو بتعمل وتدقيق من المستصحِب.
    6. العصير العنبي إذا غلى بنفسه أو بالشمس فهو مسكر لايطهر ولايحل بالتثليث ، إلاّ إذا انقلب خلاّ وهذا النوع من الغليان خارج عن مصب البحث ، وأمّا إذا غلى بالنار ونحوه فهو طاهر وشربه حرام إلى أن يذهب ثلثاه ويقلّ ماؤه ، لئلاّ يتبدل على مرّ الزمان مسكراً.
    7. انّ أوّل من تمسّك بالاستصحاب التعليقي في حرمة العصير العنبي هو السيد الطباطبائي المعروف بـ « بحر العلوم » ، وردّ عليه تلميذه السيد علي صاحب الرياض في درسه كما نقله ولده السيد محمد المجاهد في « المناهل » ، وبما انّ الموافق والمخالف اتخذ العصير العنبي مثالاً للبحث ، فنحن نقتفيه ، وقد عرفت خروجه عن كونه مثالاً للمقام.
    إذا عرفت هذه الأُمور ، فاعلم أنّ الشيخ الأعظم ذهب إلى جريانه وتبعه المحقّق الخراساني وخالفهما المحقّق النائيني. واستدل القائل بجريانه بتمامية أركانه من اليقين السابق ، والشكّ اللاحق ، وبقاء الموضوع فانّ عنوان العنبية من الحالات لا من المقومات.
    احتج المخالف بوجوه نذكرها على الترتيب الذي ذكره صاحب الكفاية.
1. العروة الوثقى : أحكام النجاسات ، فصل « لايشترط في صحة الصلاة إزالة النجاسة عن البدن » المسألة 13 ، تعليقة النائيني وتلميذه جمال الدين الگلپايگاني.

(163)
    1. لا وجود للمعلَّق قبل وجود ما عُلِّق عليه
    نقل الشيخ عن صاحب المناهل أنّه ردّ الاستصحاب التعليقي بأنّه يشترط في حجّية الاستصحاب ثبوتُ أمر أو حكم وضعيّ أو تكليفيّ في زمان من الأزمنة قطعاً ثمّ حصول الشك في ارتفاعه بسبب من الأسباب ، ولايكفي مجرد قابلية الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، فالاستصحاب التقديري باطل. (1)
    وقد أجاب عنه الأعاظم بما هذا حاصله :
    ماذا يريد من عدم وجوب المستصحب ( الحرمة المعلّقة ) ؟ فإن أراد انّه ليس بموجود فعلاً فهو حق ، ولايشترط في الاستصحاب أن يكون موجوداً بالفعل ، بل يكفي أن يكون له نوع ثبوت وتحقّق حتّى يصح معه التعبد بالبقاء ، وإن أراد انّه ليس بموجود أصلاً لافعلاً ولاتعليقاً ، فهو غير صحيح ، إذ المفروض انّ الحرمة المعلَّقة وقعت تحت الإنشاء وتعلّق بها اليقين ، ثمّ الشكّ ببقائها. وقد قلنا في محله انّ واقع الأحكام المشروطة هو إنشاء حكم على فرض وجود الشرط ، فالشارع ينظر إلى صفحة الوجود ويرى أنّ العصير العنبي على قسمين : قسم غير مغليّ ، وقسم منه مغليّ فيُنشأ الحرمة عليه على ذلك الفرض ، ومعه كيف يمكن أن يقال : انّه لا وجود للمعلّق. وإلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني بقوله : إنّ المعلّق قبل الغليان إنّما لايكون موجوداً فعلاً لاانّه لايكون موجوداً أصلاً ولو بنحو التعليق ....

    نظرية صاحب المناهل بثوبها الجديد
    إنّ المحقّق النائيني ممن وافق صاحب المناهل وأنكر الاستصحاب
1. الفرائد : 380.

(164)
التعليقي وقال بعدم الوجود للحرمة التعليقية حتى يُستصحب في زمان الشك ، والأساس لإنكاره هو إرجاع عامّة الشروط إلى الموضوع ، فالاستطاعة والغليان وإن أخذا في لسان الدليل شرطين للوجوب والحرمة ، لكن القيدين يرجعان إلى الموضوع ، فكأنّه قال : المستطيع يجب عليه الحج ، والعصير المغليّ يحرم ، وقد كان من شعاره ( قدَّس سرُّه ) : « كل شرط موضوع » .
    وعلى هذا الأساس أنكر الاستصحاب التعليقي وقال ـ بعد تسليم أنّ الشرط يرجع إلى الموضوع ـ ، انّ نسبة الموضوع إلى الحكم ، نسبة العلّة إلى المعلول ، ولايعقل أن يتقدّم الحكم على موضوعه ، والموضوع للنجاسة والحرمة في مثال العنب إنّما يكون مركباً من جزءين : العنب والغليان ، فقبل فرض الغليان لايمكن فرض وجود الحكم ، ومع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحاب بقائه ، لأنّه يعتبر في المستصحب نوع تقرر له ، فوجود أحد جزئي الموضوع المركب كعدمه لايترتب عليه الحكم الشرعي ما لم ينضمّ إليه الجزء الآخر.
    ثمّ إنّه ( قدَّس سرَّه ) ردّ على المحقّق الخراساني بقوله : وما ربما يقال : انّ العنب قبل غليانه وإن لم يكن معروضاً للحرمة والنجاسة الفعلية ـ لعدم تحقّق الموضوع ـ إلاّ أنّه معروض للحرمة والنجاسة التقديرية ، لأنّه يصدق على العنب عند وجوده قبل غليانه ، انّه حرام ونجس على تقدير الغليان ، فالحرمة والنجاسة التقديرية ثابتتان للعنب قبل غليانه ، فيشك في بقاء النجاسة والحرمة التقديرية عند صيرورة العنب زبيباً.
    مدفوع : بأنّ الحرمة والنجاسة التقديرية من العنب غير المغلي عبارة أُخرى عن أنّ العنب لو انضمّ إليه الغليان لترتبت عليه الحرمة والنجاسة ، وهو ـ مضافاً إلى أنّها أمر عقلي ـ مقطوعة البقاء لا معنى لاستصحابه. (1)
1. فوائد الأُصول : 4 / 467 ـ 469.

(165)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره مبني على إرجاع القيود كلّها إلى الموضوع ، وإرجاع القضايا الشرطية إلى القضايا الحملية ، فلايكون الحكم الشرعي ( الحرمة ) فعلياً إلاّ بعد تحقق عامة أجزاء الموضوع ومنه الغليان ، والمفروض عدمه.
    لكن التحقيق أنّ الشروط على أقسام ثلاثة حسب كيفية دخالتها في المصالح والمفاسد :
    1. ما هو قيد للحكم كدلوك الشمس في وجوب الظهرين.
    2. ما هو قيد للمتعلَّق ، كما في قولك : في سائمة الغنم زكاة.
    3. ما هو قيد المكلَّف كما في الشرائط العامة من العقل والبلوغ والقدرة.
    ومع ذلك فلا وجه لإرجاع عامة القيود إلى الموضوع سواء فُسر بالمكلّف ، أو بالمتعلّق ، حيث إنّه ( قدَّس سرُّه ) ارجعه في المقام إلى المتعلَّق وقال : العنب المغلي ، وفي غير هذا المورد ارجعه إلى المكلف ، وقال : العاقل البالغ المستطيع ، يجب عليه الحج.
    و على كلّ تقدير فبما انّ مدخلية الشروط مختلفة ، فتارة تكون مؤثراً في فعليّة الحكم ، وأُخرى في كون المتعلّق ذا مصلحة أو مفسدة ، أو كون المكلّف صالحاً للخطاب ، تكون الشروط من حيث المرجع مختلفة ولاتكون على وزان واحد ـ كما زعم ـ.
    وثانياً : أنّ المستفاد من كلامه : انّه لو كان الشرط في لسان الشارع جزءاً للموضوع كما إذا قال : العنب المغليّ حرام ، لايكون للمعلَّق أيّ تحقّق قبل تحقّق الشرط.
    وإن كان قيداً للمعلّق وشرطاً له في لسان القائل كما إذا قال : العنب حرام إذا غلى ، يكون له تحقق وواقعية
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس