إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 166 ـ 180
(166)
    ولكنّه دقة فلسفية والعرف لايفرّق بين القضيتين ، فقول القائل : العنب المغلي حرام ، كقوله : العنب حرام إذا غلى ، فهو يتخذ العنب موضوعاً والغليان شرطاً من دون فرق بين التعبيرين المصرَّح والمؤول.
    وبذلك يعلم ضعف ما أفاده الشيخ في كتاب الخيارات فيما إذا باع فرساً عربياً فبان فرساً غير عربي ، فتارة حكم ببطلان المعاملة ، وهذا فيما إذا قال البائع بعتك الفرس العربي ، وأُخرى بجواز المعاملة ووجود الخيار وذاك فيما إذا قال : بعتك الفرس بشرط كونه عربياً ، وتصور انّ التخلّف في المثال الأوّل من قبيل تخلّف الموضوع ، كما إذا باع قطناً فبان حديداً ، وفي الثاني من قبيل تخلّف الشرط فيكون المشتري ذا خيار.
    وقد ذكرنا في محله أنّ هذا التفسير ليس عرفياً وانّ العرف يتلقى القضيتين بمعنى واحد ، وانّ ما ذكره دقة عقلية لايلتفت إليها العرف الذي هو المدار في فهم الأدلّة.
    وثالثاً : أنّ محط البحث هو بقاء القضية التعليقية بحالها ، وانّه هل يجوز استصحابها أو لا ؟ وأمّا منع الاستصحاب لأجل إرجاع القضايا التعليقية إلى التنجيزية ، وجعل الشرط جزء الموضوع وبالتالي عدم فعلية الحكم لعدم تمامية الموضوع فهو خروج عن طور البحث ، لأنّ المستصحَب حسب الفرض هو الحكم الشرعي التعليقي لاالحكم التنجزي حتى يعتذر بعدم الفعلية لأجل فقدان بعض أجزاء الموضوع.
    ورابعاً : أنّ ما ذكره ردَّاً للمحقّق الخراساني بأنّه لا معنى لكلامه « إلاّ أنّ العنب لو انضم إليه الغليان لترتب عليه الحرمة وهو أمر عقلي أوّلاً ، ومقطوع البقاء ثانياً » غير تام.


(167)
    أمّا الأوّل : فلأنّه خلط بين المُنشأ والمنتزع ، والمنشأ هو الحكم الشرعي الشرطي ، أي حرمة العنب عند الغليان ، وهو أمر حقيقي ، وأمّا ما ذكره من أنّ معناه أنّ العنب لو انضم إليه الغليان لترتب عليه الحرمة فهو أمر انتزاعي من الحكم الشرعي.
    وأمّا الثاني : فلأنّ مقطوع البقاء هو الحكم الكلّي ( العنب إذا غلى يحرم ) ، وأمّا عند التطبيق على الخارج وطروء بعض الحالات على القضية فتصبح مشكوكة ، كما إذا جفّ العنب المعين وصار زبيباً ، فحينئذ يشك في بقاء الحكم الشرعي ، فيستصحب.
    إجابة أُخرى عن إشكال صاحب المناهل
    ثمّ إنّ المشايخ أجابوا عن إشكال المناهل بجواب آخر ، وهو : أنّ المستصحب ليس هو الحكم التكليفي ، أعني : الحرمة ، حتى يقال بأنّه لا وجود للمعلّق ، وإنّما المستصحب هو الحكم الوضعيّ ، أي الملازمة بين الغليان والحرمة ، فنقول كانت الملازمة بين العنب والغليان موجودة فنشك في بقائها عند تبدّل العنب بالزبيب وهي محقّقة وليست بمعدومة.
    وأورد عليه المحقّق النائيني : بأنّ الملازمة والسببية لاتنالها يد الجعل الشرعي فلايجري الاستصحاب فيها ، لأنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي وليست الملازمة منهما.
    يلاحظ عليه : بأنّه يشترط في المستصحب أن يكون أمره بيد الشارع وضعاً ورفعاً ، والمقام كذلك ، لأنّ الملازمة منتزعة من حكم الشارع بالحرمة عند الغليان ، وهذا المقدار كاف في كون المستصحب من الأُمور الشرعية كاستصحاب الجزئية


(168)
والشرطية والمانعية من الأحكام المتعلّقة بالشرط والجزء والمانع.

    2. الاستصحاب التعليقي معارض للتنجيزي
    هذا هو الإشكال الثالث في كلام الشيخ الأعظم ، والإشكال الثاني في « الكفاية » وحاصله : انّ استصحاب الحرمة المعلّقة بعد صيرورة العنب زبيباً ، يعارضه استصحاب الطهارة والحلّية الثابتتين للعنب قبل الغليان حيث كان العنب قبله حلالاً ، فصار زبيباً وغلى ، فنشك في بقاء الحلية السابقة والأصل بقاؤه.
    وقد أُجيب عنه بوجهين :
    الأوّل : ما أجاب به الشيخ وحاصله :
    انّ استصحاب الحرمة على تقدير الغليان حاكم على استصحاب الإباحة قبل الغليان. (1) لكون الأصل الأوّل سببياً والثاني مسببياً.
    توضيحه : أنّ الشكّ في بقاء الحلّية السابقة وعدمها نابع عن الشكّ في كيفية جعل الحرمة للعنب المغليّ وانّ الشارع هل رتبها على العنب المغلي بجميع مراتبه التي منها صيرورته زبيباً ، أو رتبها على بعض مراتبه وهو كونه عنباً غير جافّ ؟ فإذا ثبت بالاستصحاب التعليقي بقاء الحرمة وانّها مترتبة على العنب بعامة مراتب وجوده ، لايبقى شكّ في ارتفاع الحلية السابقة.
    وأورد عليه : بأنّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على المسببي إذا كان الترتب بينهما شرعياً ويكون التعبّد بالسببيّ تعبّداً بنقض الأصل المسببي ، مثلاً إذا غسل ثوب نجس بماء مستصحب الطهارة فالتعبد بطهارة الماء ، يلازم شرعاً ، بطهارة الثوب ونقض النجاسة المستصحبة ، لما دلّ الدليل على أنّ كلّ نجس
1. الفرائد : 380.

(169)
غُسل بماء طاهر فهو طاهر ، بخلاف المقام إذ لم يدل دليل شرعي على أنّ كلّ ما حكم عليه بالحرمة فهو غير محكوم بالحلية ، وإن كانت الملازمة ثابتة عقلاً.
    ويمكن أن يقال : انّ التعبد بوجود أحد الضدين وإن كان لايلازم التعبد بعدم الضد الآخر ، لكن يستثنى منه ما إذا كان التعبّد بوجود الضد ، عين التعبد بعدم الآخر عرفاً كما في المقام ، فانّ التعبّد ببقاء الحرمة المعلّقة عين التعبّد بإلغاء احتمال الحلية إذ لا معنى لكون الشيء حراماً ، مع احتمال كونه حلالاً. ففي مثله يكون الأصل المثبت حجّة.
    الثاني : ما أجاب به المحقّق الخراساني وحاصله : أنّه لاتعارض بين الاستصحابين.
    توضيحه انّ الزبيب عندما كان عنباً كان محكوماً بحكمين غير متعارضين.
    1. الحلية قبل الغليان ، 2. الحرمة بعده ، فكما أنّ الغليان شرط للحرمة ، هكذا هو غاية للحلية ، فإذا صار زبيباً يكون محكوماً أيضاً بنفس الحكمين فالزبيب حلال إلى أن يغلى ، وحرام إذا غلى ، فإذا حصلت الغاية لايبقى مجال لاستصحاب الحلية وتكون الساحة خاصة لاستصحاب الحرمة.
    و إن شئت قلت : إنّ الحلية مغيّاة بعدم الغليان ، والحرمة مشروطة به أيضاً ، فما كان كذلك لايضر ثبوت الأمرين بالقطع فضلاً عن الاستصحاب لعدم التضاد بينهما فيكونان بعد صيرورته زبيباً ، كما كانا معاً بالقطع بلا منافاة غير انّ المتكفل لإثبات الحلية المغياة ، والحرمة المعلقة مادام كونه عنباً هو الدليل الاجتهادي ، والمتكفل لإثباتهما كذلك عندما صار زبيباً هو الاستصحاب.
    وبالجملة : حكم الزبيب ـ حلية وحرمة ـ نفس حكم العنب ، فكما لاتعارض بينهما مادام عنباً فهكذا لاتعارض بينهما إذا صار زبيباً.


(170)
    فإن قلت : إنّ حلية العنب كانت مغياة بالغليان لاحلية الزبيب ولم يثبت كونها مغيّاة به حتى يحكم بارتفاعها بحصول الغاية.
    قلت : لا شكّ انّ حلية الزبيب ليست أمراًجديداً طرأ عليه بل هي استمرار للحلية السابقة العارضة على العنب وعليه تكون الحلية في كلتا المرحلتين مغيّاة ، واحتمال كونها مغياة حدوثاً ( مادام عنباً ) لابقاء ( إذا صار زبيباً ) يدفعه الاستصحاب إذ الأصل بقاؤه على ما كان عليه من الحكم المغيّى.
    3. تبدل الموضوع
    هذا هو الإشكال الثالث الذي تعرض به الشيخ الأعظم دون المحقّق الخراساني ، وهو أُمّ الإشكالات المتوجهة إلى استصحاب الحكم الشرعي الكلّي ، مطلقاً.
    قال الشيخ : وربّما يناقش الاستصحاب التعليقي بانتفاء الموضوع وهو العنب.
    ثمّ أجاب عنه بوجه موجز وقال : إنّه لادخل له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل والثابتة له على تقدير دون آخر. (1)
    والحقّ انّ المشايخ استسهلوا هذا الإشكال مع أنّه من أهم الإشكالات ، وعليه بنى الأمين الاسترابادي ، إنكار الاستصحاب في الحكم الشرعي الكلي وقال : إنّه من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر وهو أشبه بالقياس ، وذلك لأنّ العنب والزبيب مفهومان متغايران وكيف يمكن أن يقال إنّ الثاني عين الأوّل مفهوماً ؟
1. الفرائد : 2 / 654 ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

(171)
    وما ربّما يقال انّه يشترط في جريان الاستصحاب وحدة الموضوع عرفاً لاعقلاً ، والزبيب نفس العنب حقيقة وماهية غير أنّه جفّ ، فإنّما يصحّ في استصحاب الحكم الجزئي ، للعنب المشخص ، فيقال : هذا كان كذا والأصل بقاؤه فيكون الموضوع هو « هذا » ، وأمّا إذا كان المستصحب الحكم الشرعي ، فالموضوع في القضية المتيقّنة هو مفهوم العنب ، وفي القضية المشكوكة هو مفهوم الزبيب فكيف يصحّ لأحد أن يدّعي وحدة المفهومين عرفاً مع أنّ المفاهيم والماهيات مثار الكثرة ؟ ومن هنا يظهر الإشكال في سائر الموارد من استصحاب الحكم الشرعي الكلّي كالماء المتغيّر وجرّ حكمه إلى الماء غير المتغيّر ، والماء النجس غير الكرّ وجر حكمه إلى المتمم كراً ، والحائض ، وجرّ حكمها إلى ما إذا نقت من الدم وهكذا.
    والجواب : انّ لاستصحاب الحكم الشرعي الكلّي صورتين لاتشذ إحداهما عن القياس قيد شعرة ، والأُخرى موافقة لضوابط الاستصحاب.
    الصورة الأُولى : اتخاذ المفاهيم والعناوين مصبّاً للاستصحاب وإسراء حكم عنوان إلى عنوان آخر ، وهذا نظير إسراء حكم العنب والماء المتغيّر والحائض ، إلى الزبيب ، والماء غير المتغير ، والنقية من الدم إذا لم تغتسل ، والاستصحاب بهذا المعنى نفس القياس ولذلك تلقّاه الأمين الاسترابادي قياساً.
    وما ربّما يقال من أنّ المرجع في تشخيص وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة هو العرف لاالعقل ، لايفيد في المقام لأنّ العرف مهما تسامح أو تساهل لايرى المفهومين مفهوماً واحداً ، والعنوانين عنواناً فارداً ، فلذلك لو باع سلفاً العنبَ ودفع الزبيب عند حلول الأجل ، لم يف بواجبه وللمشتري الرد ، قائلاً بأنّ المبيع غير المقبوض.


(172)
    الصورة الثانية : اتخاذ المصاديق الخارجية مصبّاً للاستصحاب ، وهذا النوع يتوقف على تحقّق أمرين :
    أ : الدليل الاجتهادي.
    ب : الأصل العملي.
    والحاجة إلى الأوّل إنّما هو في فترة خاصّة وهو مادام الموضوع موصوفاً بالعنبية ، كما أنّ الحاجة إلى الأصل العملي بعد صيرورته زبيباً.
    إذا عرفت ذلك ، فللمستنبط أن يستفيد من كلا الدليلين واحداً تلو الآخر ، فيقول : هذا عنب ، وكلّ عنب إذا غلى يحرم ، فهذا إذا غلى يحرم.
    فتكون النتيجة انقلاب الموضوع من كونه عنباً إلى كونه هذا ، ولذلك قلنا في النتيجة : « هذا إذا غلى يحرم » .
    وبعبارة أُخرى : انّ الموضوع في لسان الدليل ـ أي الكبرى ـ وإن كان هو العنب لكن بعد تطبيقه على الخارج ، يكون الموضوع للحرمة الجزئية هو هذا الموجود الخارجي الذي هو أمامنا ونشير إليه بهذا ، ونقول : « هذا إذا غلى يحرم » .
    إلى هنا تمّت رسالة الدليل الأوّل ، وبعد تمامية الاستنتاج لانرجع إلى ذلك الدليل أبداً.
    ثمّ إذا كان الموضوع الخارجي موصوفاً بأنّه إذا غلى يحرم ، فإذا مضت أيّام وجفّ ماؤه وصار زبيباً ، فالقول باستمرار الحكم وجر الحكم السابق إلى اللاحق فرع حفظ الهوية الخارجية ( لاالعنوان ) ، وكون المشار إليه بهذا في الفترة الأخيرة نفس المشار إليه بهذا في الفترة المتقدمة.
    فان وافقه العرف على هذه الوحدة كما هو الموافق للتحقيق يجري


(173)
الاستصحاب من دون رائحة قياس ، فيقال : هذا كان في السابق إذا غلى يحرم ، والأصل بقاؤه على ما عليه ، فيكون المرجع هو الأصل العملي في الفترة الأخيرة مادام كونه زبيباً.
    وبهذا يظهر كيفية جريان الاستصحاب في الماء المتغيّر الذي زال تغيره بنفسه ، أو المرأة الحائض إذا نقت من الدم ولم تغتسل ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، فلو اتخذنا العناوين والمفاهيم مصبّاً للاستصحاب فهو أشبه بالقياس ، ولا صلة له بالاستصحاب. وأمّا لو اتخذنا الموضوع الخارجي مصبّاً له بعد تطبيق الدليل الاجتهادي عليه ، يكون من مقولة الاستصحاب ، فيشار إلى الماء المحكوم بالنجاسة والمرأة المحكومة بحرمة المسّ ، فيقال : هذا كان نجساً أو هذه كانت محرّمة المس فالأصل بقاؤه ، والموضوع في كلتا الحالتين هو المشار إليه بـ « هذا » الباقي في كلتا الحالتين.
    هذه عصارة ما نقله سيدنا الأُستاذ عن شيخه العلاّمة الحائري في درسه الشريف ، فاعلم قدره واغتنمه.


(174)
التنبهات
8
    إذا ثبت حكم شرعي في إحدى الشرائع السابقة فهل يصحّ استصحابه ، في الشريعة اللاحقة أو لا ؟ وقبل الخوض في المقصود نقدّم بحثاً حول الشكّ في بقاء الأحكام في الشريعة الإسلامية.
    إنّ الشكّ في بقاء الحكم تارة يرجع إلى الشكّ في سعة الجعل وضيقه ، وأُخرى إلى الشكّ في مدخلية بعض القيود في بعض الآثار وإن كان الحكم مجعولاً إلى يوم القيامة.
    أمّا الصورة الأُولى : أي الشك في سعة الجعل وضيقه فالمرجع هو إطلاق الدليل اللفظي ، وإلاّ فاستصحاب عدم النسخ ، فلو شككنا في سعة جعل الحلية للمتعة بعد عام الفتح ، فإن كان هناك إطلاق لفظي كقوله : ( فَما استَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورهُنَّ فَريضَة ) (1) ، فيحكم بفضل الإطلاق على بقاء الحكم ، وإن لم يكن هناك إطلاق لفظي بل إجماع على الحكم لم تُعلم سعة جعله وضيقه ، فيستصحب عدم النسخ.
    وأمّا الصورة الثانية : أي الشكّ في مدخلية بعض القيود في فعلية الحكم وإن كان التشريع عاماً إلى يوم القيامة ، فهذا ما يعبّر عنه بالشكّ في سعة المجعول في
1. النساء : 24.

(175)
بعض الفترات. هذا كما إذا شككنا في فعلية وجوب صلاة الجمعة عند الغيبة لأجل الشكّ في أنّ الحضور شرط لفعلية الحكم ، فلو كان كذلك يصير الحكم إنشائياً إلاّ عندما يظهر الإمام وأخذ بزمام الأمر ، ففي هذا المقام ربما يستصحب وجوب الجمعة إلى زمان الغيبة. إذا لم يكن للدليل اللفظي إطلاق ينفي شرطية الحضور ، كما إذا كان مهملاً من هذه الجهة فيرجع إلى الأصل العملي وهو الاستصحاب.
    ثمّ إنّ هنا إشكالاً ذكره صاحب الفصول في استصحاب أحكام الشرائع السابقة ، وهو مشترك بينه وبين المقام فنذكره هنا ويُعلم حاله هناك أيضاً.
    قال : إنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لايمكن إثباته في حقّ آخرين لتغاير الموضوع ، فانّ ما ثبت في حقّهم مثلُه لانفسُه ، ولذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين والمعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على الشركة لابالاستصحاب. (1)
    وأجاب عنه الشيخ الأعظم بوجهين :
    الأوّل : انّا نفرض الشخص الواحد مدركاً للشريعتين (2) ، فإذاحرم في حقّه شيء سابقاً وشكّ في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة ، فلا مانع من الاستصحاب أصلاً [ إذ الموضوع واحد ويتم الحكم في الباقي بقيام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة ].
    يلاحظ عليه : أنّ الأحكام الواقعيّة مشتركة بين عامة المكلّفين ، وأمّا الحكم الظاهري الثابت في حقّ شخص فإنّما يحكم بالاشتراك في حقّ من يكون مثل الفرد
1. الفرائد : 381.
2. أو للعصرين لينطبق على المقام.


(176)
السابق في الصفات والخصوصيات ( أي يكون على يقين بالحكم فيشك ) ، فمن أدرك عصري الحضور والغيبة يحكم عليه بالوجوب ، ويشاركه كلّ من حاز على هذا الوصف دون غيره كالمدرك لعصر الغيبة فقط. وما هذا إلاّ لأنّ الأوّل ذو يقين وشك ، بخلاف الثاني فهو شاك فقط.
    وإلى هذا الإشكال أشار المحقّق الخراساني بقوله : إنّ قضية الاشتراك ليست إلاّ أنّ الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشكّ لا انّه حكم الكلّ ولو لم يكن كذلك.
    الثاني : ما ذكره هو ( قدَّس سرَّه ) أيضاً انّ المستصحب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لامدخل لأشخاصهم فيه ، إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمّهم الحكم قطعاً غاية الأمر احتمال مدخلية بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم ، ومثل هذا لو أثّر في الاستصحاب ، لقدح في أكثر الاستصحابات ، فتسرية الحكم من الموجودين إلى المعدومين تصحُّ بالاستصحاب باعتبار انّ المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لامدخل لأشخاصهم فيه.
    وأورد عليه المحقّق الخوئي ما هذا حاصله : انّ كون الأحكام موضوعاً على نحو القضايا الحقيقية ، معناه عدم مدخلية خصوصية الأفراد في ثبوت الحكم ، لاعدم اختصاص الحكم بحصّة دون حصة ، فانّا نشك في أنّ التكليف مجعول لجميع المكلّفين أو مختص بمدركي زمان الحضور ، فيكون احتمال التكليف بالنسبة إلى غير المدركين شكاً في ثبوت التكليف لا في بقائه ، فإن كان لدليل الحكم عموم أو إطلاق فهو المّتبع ، أو كان هناك دليل من الخارج يدل على


(177)
استمرار الأحكام فيؤخذ به ، وإلاّ فلايمكن إثبات الاستمرار باستصحاب عدم النسخ.
    يلاحظ عليه : أنّ الاشكال مبني على تفسير القضايا الخارجية والحقيقية بجعل الحكم على الأفراد المحقَّقة كما في الأُولى ، أو الأعم منها ومن المقدَّرة كما في الثانية ، فعندئذ يصحّ ما ذكره من أنّ جعل الحكم على بعض الحصص يكون شكاً في ثبوت التكليف لا في بقائه ، ولكنّه خلاف التحقيق ، بل الحكم في كلتا القضيتين موضوع على العنوان ، غير أنّه في الأُولى لايصدق إلاّ على المحققة ، وفي الثانية على الأعم من المحقّقة والمقدرة.
    فإن قلت : إنّ العنوان بما هو عنوان ، أمر ذهني ، لايتَحمَّل الحكم كما في القضايا الخارجية ، مثل قولك : قتل كلّ من في العسكر ؛ ولا في القضايا الحقيقية ، كما في قولك : أكرم كلّ عالم ، أو يحرم كلّ خمر ، وإنّما المتحمل له هو الأفراد فيعود الإشكال.
    قلت : فكم فرق بين الموضوع وما هو المقصود من جعل الحكم على الموضوع ، فالموضوع في الدليل هو الأوّل وإن كان المقصود منه هو ما ينطبق عليه الأفراد به ، نظير تعلّق الأحكام بالطبائع دون الأفراد ، فالموضوع هو ذات الطبيعة وإن كانت الغاية من تعلّقه بها ، هو إيجادها وتكوينها.
    وعلى هذا فالحكم الموضوع على عنوان « كلّ مكلّف » شامل لمن أدرك عصر الحضور ، ومن أدرك عصر الغيبة ، فنستصحب. نعم لو قلنا بأنّ الموضوع هو الافراد الخارجية المحقّقة أو المقدرة ينقسم الموضوع إلى متيقّن الحكم ومشكوكه ، ولكنّه كما ترى ، بل الموضوع العنوان الكلّي ، مثلاً « الذين آمنوا » في قوله سبحانه : ( يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَومِ الجُمُعَة فَاسعَوا إِلى


(178)
ذِكْرِ اللّه ). (1)
    ثمّ إنّ المحّقق الخراساني لمّا ذهب في مبحث اجتماع الأمر والنهي إلى الامتناع بحجة أنّ الأحكام تتعلّق بالمصاديق الخارجية ومعه يمتنع أن يكون الفرد الخارجي متعلّقاً للأمر والنهي ، حاول تفسير القضية الحقيقية في المقام بما اتخذه المحقّق الخوئي ذريعة للإشكال وقال : إنّ الحكم الثابت في الشريعة السابقة كان ثابتاً لأفراد المكلّف ، كانت محقّقة وجوداً أو مقدرة كما هو قضية القضايا المتعارفة المتداولة ، وهي قضايا حقيقية لاخصوص الأفراد الخارجية كما هو قضية القضايا الخارجية ، وإلاّ لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها ، كان (2) الحكم في الشريعة السابقة ثابتاً لعامة أفراد المكلّف مما وجد أو يوجد. (3)
    ثمّ إنّه حاول أن يطبق ما ذكره الشيخ في مقام الجواب على ما ذكره.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الحكم في كلتا القضيتين : الحقيقية والخارجية ، على العنوان لا على الأفراد ، وعدم صدق الخارجية إلاّ على الأفراد المحقّقة لايكون دليلاً على تعلّق الحكم بالأفراد ، بل الحكم متعلّق بالعنوان ، غير انّ العنوان على قسمين : قسم له سعة ، وقسم له ضيق.
    وثانياً : لو صحّ ما ذكره لتوجه إليه الإشكال الماضي في كلام المحقّق الخوئي من انحلال القضية إلى أفراد محكومة بالحكم قطعاً ، وأفراد مشكوكة. فتجري البراءة في الثاني مكان الاستصحاب لعدم سبق اليقين السابق.
1. الجمعة : 9.
2. جواب لقوله « حيث كان » .
3. الكفاية : 2 / 234 ـ 235.


(179)
    وثالثاً : أنّ كلام الشيخ أكثر انطباقاً على ما ذكرنا دون ما ذكره.
    إلى هنا تمّ بيان الإشكال المشترك بين استصحاب أحكام شريعتنا وأحكام الشرائع السابقة ، وحاصل هذا الاشكال هو : عدم القضية المتيقّنة بالنسبة إلى المستصحب في كلا المقامين ، وقد عرفت كيفية تصحيح وجودها.

    استصحاب أحكام الشرائع السابقة
    إنّ استصحاب أحكام الشرائع السابقة يشارك استصحاب أحكام شريعتنا فيما تقدّم إشكالاً وجواباً ، فها نحن نذكر جميع ما أورد عليه من الإشكالات من غير فرق بين المشترك بين المقامين والمختص بهذا المقام.
    الأوّل : عدم اليقين بالحكم السابق
    هذا الاشكال هو الذي قدّمنا ذكره عند البحث في استصحاب أحكام شريعتنا ، وقد قلنا : إنّه إشكال مشترك بين البابين ، وقد عرفت مفاد الإشكال والجواب فلانعيد.
    الثاني : عدم الشكّ في البقاء
    إنّ الشريعة الإسلامية لمّا كانت ناسخة لجميع الشرائع السابقة فلايجوز الحكم بالبقاء بعد العلم بالنسخ.
    يلاحظ عليه : إن أُريد من النسخ ، نسخ كلّ حكم إلهي في الشريعة السابقة ، فهو ممنوع ، لبقاء قسم من تلك الأحكام في شريعتنا.
    وإن أُريد نسخ بعض الأحكام ، فهذا لايمنع إلاّ استصحاب ما علم كونه


(180)
منسوخاً لا ما كان مشكوك النسخ ، فيبقى غير المعلوم على حاله.
    الثالث : العلم الإجمالي مانع من جريان الاستصحاب
    كان الجواب عن الاشكال الثاني مبنياً على أنّ الأحكام بين متيقّن النسخ ومشكوكه ، فيجري الاستصحاب في الثاني دون الأوّل.
    فأورد عليه المستشكل بأنّ في القسم الثاني ما علم كونه منسوخاً بالإجمال ، ومعه كيف يجري استصحاب النسخ في كلّ واحد واحد منه مع ذلك العلم الإجمالي ؟
    والجواب ما ذكرناه في باب الاشتغال من أنّ العلم الإجمالي إنّما يمنع عن جريان الأصل إذا كانت جميع الأطراف مورداً للابتلاء ، وأمّا إذا خرجت بعض الأطراف قبل العلم الإجمالي عن محل الابتلاء فلايمنع عن جريان الأصل في مورد الابتلاء وذلك لعدم تعارض الأصلين حين ما لايجري في الفرد الخارج عن الابتلاء لعدم ترتب الأثر عليه ويجري في الداخل بلا معارض.
    والمقام أيضاً من هذا القبيل حيث نفترض أنّ عدد الأحكام قرابة ألف حكم وقد علمنا بطروء النسخ على 100 حكم تفصيلاً ، فناهز ما لم يعلم تفصيلاً إلى 900.
    ثمّ إنّ 850 حكماً من هذه الأحكام معلوم لنا بالتفصيل من طريق القرآن والسنة سواء أوافق الشريعة السابقة أم خالف ، ولأجل ذلك لانحتاج إلى أصالة عدم النسخ فيها فيبقى في المقام 50 حكماً ولانعلم بوجود النسخ فيها لا إجمالاً ولا تفصيلاً ، فيكون مجرى لأصالة عدم النسخ ، وذلك لأنّ العدد الكبير غني عن أصالة عدم النسخ للعلم بالتفصيل بحكم اللّه فيها وإن لم نعلم كونها موافقة أو
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس