إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 181 ـ 195
(181)
مخالفة للشريعة الإسلامية.
    الرابع : النسخ إبطال للشريعة السابقة
    ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين أنّ معنى نسخ الشريعة هو نسخ جميع أحكامها سواء أكانت مخالفة لما في الشريعة الناسخة أو موافقة ، وعلى هذا لايبقى مجال لاستصحاب أحكام الشرائع السابقة ، فانّه فرع احتمال بقاء بعض الأحكام السابقة ، وقد عرفت أنّ معنى النسخ هدم الشريعة وبناء شريعة جديدة ، وافقت الأولى أم خالفتها ، فالنسخ أشبه بتغيير نظام إلى نظام آخر ، لاإحلال دولة محل أُخرى.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره هو نفس الإشكال الثاني لكن بثوب جديد ، غير أنّ اللائح من الذكر الحكيم أنّ دور الشريعة اللاحقة تتجلّى تارة في بيان موارد الاختلاف وأُخرى في نسخ بعض دون بعض.
    أمّا الأوّل : فكقول المسيح عندما بعث رسولاً إلى بني إسرائيل : ( وَلَمّا جاءَ عِيسى بِالبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الّذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ ). (1)
    فأين بيان موارد الاختلاف من محق الشريعةوبناء شريعة أُخرى ؟ ولذلك لاتجد في الأناجيل حكماً شرعياً ويذكر وما ذلك إلاّ لأنّ المسيح لم يبعث إلاّ لبيان مواضع الاختلاف بين بني إسرائيل.
    وأمّا الثاني : أي نسخ بعض وإبقاء بعض آخر ، فهو الظاهر من كون النبي مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ، قال سبحانه : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ
1. الزخرف : 63.

(182)
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ). (1)
    فمعنى التصديق هو إبقاء ما ثبت في الشريعة السابقة غاية الأمر لا كلّها بل بعضها ، ويؤيد ذلك وجود المشتركات في المحرمات والواجبات في عامّة الشرائع.
    وما ربّما يقال من أنّ تشريع هذه المشتركات في الشريعة الإسلامية دليل على محق الشريعة السابقة وهدمها ، غير تام ، لأنّ الهدف من التشريع هو بيان الأحكام وإغناء المسلمين عن الرجوع في المشتركات إلى العهدين وغيرهما ، وليس هذا دليلاً لهدم الشريعة السابقة.
    الخامس : بناء الاستصحاب على الحسن الذاتي
    هذا الإشكال طرحه المحقّق القمّي وقال : إنّ جريان الاستصحاب مبني على القول بالحسن والقبح الذاتي ، وهو ممنوع ، بل الحسن والقبح بالوجوه والاعتبار.
    يلاحظ عليه : أنّ الاستصحاب مبني على وجود الملاك السابق في الآن اللاحق سواء أكان الملاك هو الحسن الذاتي أم الوجوه والاعتبار.
    السادس : عدم سعة الشرائع السابقة
    هذا الإشكال نفس الإشكال الأوّل لكن بصيغة أُخرى ، وحاصله : انّ الظاهر من بعض الآيات انّ الشرائع السابقة كانت مختصة بأقوام خاصة.
1. المائدة : 48.

(183)
    أمّا شريعة موسى ( عليه السلام ) فكانت لقومه لقوله تعالى : ( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ يا قَومِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقد تَعْلَمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ ) (1) ، وأمّا شريعة عيسى ( عليه السلام ) فكانت مختصة لبني إسرائيل لقوله : ( وَإِذْ قالَ عِيسى ابنُ مَرْيَم يا بَنِي إِسْرائيلَ إنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوراةِ ... ). (2)
    ويؤيده قوله سبحانه : ( وَعَلى الّذينَ هادُوا حَرّمنا كُلَّ ذِي ظُفُر ومِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الحَوَايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْم ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنّا لَصادِقُون ). (3)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ورد في هذه الآيات لايخلو من إشعار بالاختصاص ولايعد مثل ذلك دليلاً عليه بعد اتّفاق المسلمين على عموم شريعتهما وشمولها لعامة البشر.
    هذا ما ذكر في المقام من الإشكال حول استصحاب أحكام الشرائع السابقة وقد عرفت انتفاءها.
    بقي الكلام في التطبيقات التي ذكرها الشيخ الأنصاري في فرائده ، وإليك البيان :

    تطبيقات
    ذكر الشيخ الأعظم في المقام تطبيقات ستة ، ولكن ثمرات البحث أكثر ممّا ذكر ، ولنأت بما هو المهم من الثمرات :
1. الصف : 5.
2. الصف : 6.
3. الأنعام : 146.


(184)
    1. زواج غير المعينة بمهر غير معين
    ذهب المشهور إلى لزوم تعيين المرأة عند التزويج أوّلاً ، وتحديد مهرها بما يخرجه عن الجهالة ثانياً ، وانّ المهر ملك للبنت لا للأب ثالثاً ، ولكن المستفاد مما دار بين شعيب وموسى ـ بعد ما ورد ماء مدين ـ غيرها ، قال سبحانه حاكياً عن لسان شعيب : ( قالَ إِنِّي أُريدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَني ثَمانِيَ حِجَج فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُريد أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُني إِنْ شاءَ اللّه مِنَ الصالِحين * قالَ ذلِكَ بَيْني وَبَيْنَكَ أَيَّما الأَجلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدوانَ عليَّ وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيل ). (1)
    فقد زوّج إحدى بنتيه بلا تعيين أوّلاً ، وجعل المهر غير محدَّد بل مردّداً بين ثماني أو عشر حجج ، وانتفع شعيب بمهر بنته وهو عمل موسى ورعيه غنمَ شعيب ، بل يستفاد من ذلك أمر رابع وهو جواز كون العمل مهراً.
    يلاحظ عليه : أنّ في دلالة الآية على الحكم الأوّل والثالث خفاء دون الثاني والرابع ، وذلك لاحتمال أن يكون الترديد في مراسم الخطوبة والتعيين في مراسم عقد الزواج ، فلايكون الترديد دليلاً على جوازه في العقد.
    نعم الظاهر بقاء الترديد في مقدار المهر إلى آخر الأجل بشهادة قول موسى : ( أَيَّما الأَجلَين قضيتُ فَلا عُدوانَ عليَّ ) ، فانّ الظاهر انّ الترديد إنّما يزول عند اختتام العمل.
    وأمّا انتفاع الأب بمهر البنت فلأجل انّه لم يكن انتفاعه منفكاً عن انتفاع البنت باعتبارهما من أعضاء أُسرة واحدة. ولعلّ ما كان يصرف الأب على البنت لم
1. القصص : 27 ـ 28.

(185)
يكن أقلّ ممّا ينتفع بمهرها ، مضافاً إلى إذن الفحوى ، وأمّا الحكم الرابع فلا بأس به فقد ورد فيه النصّ في رواياتنا.
    2. الجهل بالعوض في الجعالة وضمان ما لم يجب
    ذهب المشهور إلى لزوم تعيين العوض في الجعالة كذهابهم إلى بطلان ضمان ما لم يجب ، ومع ذلك فربما يستفاد من بعض الآيات جواز كلا الأمرين في الشرائع السابقة. قال سبحانه حاكياً عن لسان أحد عمال يوسف ( عليه السلام ) حيث اتّهم العيرَ الذي جاء من كنعان بالسرقة ، وقال : ( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤذِّنٌ أَيَّتُهَا العِيُر إِنَّكُمْ لَسارِقُون ) فعند ذلك ضجت العير ، فسألوهم عما يفقدون فأجيبوا بقولهم : ( نَفْقِدُ صُواعَ المَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِملُ بَعِير وأنا بِهِ زَعِيم ) (1). فالآية الأخيرة مركبة من فقرات ثلاث :
    أ : ( نفقد صواع الملك ) وتتعرض هذه الفقرة إلى المال المفقود.
    ب : ( ولمن جاء به حمل بعير ) وهو كعقد جعالة يشير إلى أنّ العوض حمل بعير وهو مجهول المقدار.
    ج : ( وَأنا به زعيم ) فهذه الفقرة تشير إلى ضمان شخص ثالث عن هذا الحمل ، ولذلك تغيّرت صيغة الكلام الوارد في قوله : ( نفقد ) إلى قوله : ( أنا به زعيم ) ، وهذا دليل على أنّ عاقد الجعالة غير ضامن العوض.
    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على أنّ قوله : ( وَلِمن جاء به حمل بعير ) من باب الجعالة ولعلّه من باب الوعد ، فلا محذور في ما وعد به.
    وعلى فرض جعالته ، فالظاهر تعيّن حمل بعير يومذاك خصوصاً في عام
1. يوسف : 70 و72.

(186)
المجاعة فقد كانوا يقتسمون البرَّ باحمال البعير والأكيسة المعينة.
    هذا كلّه حول مجهولية العوض ، وأمّا جواز الضمان بما لم يجب ، فقد فصل المشهور بين ما إذا لم يكن هناك مقتض للضمان فلايجوز ، وما يكون هناك مقتض وسبب وإن لم يكن هناك علّة تامة ، ولذلك جوّزوا ضمان الدرك وهو تضمين المشتري المتاع الذي يشتريه من البائع حيث يضمنه شخص ثالث لاحتمال كونه مالاً للغير ، فالمقتضي موجود ، وهو العقد وشراء المال ، وهذا المقدار يكفي في صحة التضمين ، والمقام أيضاً من هذا القبيل ، لأنّ عقد الجعالة صار مقتضياً لاشتغال ذمة الجاعل بالأُجرة فيصح أن يضمنه شخص ثالث.
    3. جواز الضرب بالضغث مكان الضرب بالسوط
    روى المفسرون أنّ أيّوب ( عليه السلام ) حلف على امرأته لأجل إبطائها « لئن عوفي ليضربنّها مائة جلدة » فلما عوفي ( عليه السلام ) ، خوطب بقوله : ( خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضرِب بِهِ وَلا تَحْنَثْ إنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوّاب ). (1)
    والضغث ملء الكف من الحشيش والشماريخ وما أشبه ذلك ، فاستدل بالآية على أنّه يجوز لمن حلف أن يضرب مائة سوط ، أن يبدلها إلى ضغث من الحشيش والشماريخ.
    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على سدّ باب بعض الاحتمالات ، وهو انّ إجراء الحد مشروط بقابلية المحدود عليه ، فلو انتهى إجراء الحد إلى موته أو إلحاق الضرّ الكثير به سقط الحد ، ولعلّ زوجة أيّوب كانت من هذا الصنف ، إذ عند ما حلف أيّوب لم يكن بأس من إجراء الحدّ عليها ، وبما انّ مرضه قد طال فصارت
1. ص : 44.

(187)
الزوجة طاعنة في السنّ فلربما أدى إجراء الحد إلى موتها. فلذلك بدله سبحانه بالضغث ، وأمّا عدم سقوط الحدّفلأجل صيانة حرمة الحلف باللّه سبحانه.
    ويدل على ذلك ما رواه العياشي باسناده : انّ عبّاد المكي قال : قال لي سفيان الثوري : إنّي أرى لك من أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) منزلة فأسأله عن رجل زنا وهو مريض ، فان أُقيم عليه الحد خافوا أن يموت ، ما تقول فيه ؟ فقال لي : « هذه المسألة من تلقاء نفسك ، أو أمرك بها إنسان ؟ » فقلت : إنّ سفيان الثوري أمرني أن أسألك عنها ، فقال : « إنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أوتي برجل أحبن (1) قد استسقى بطنه وبدت عرق فخذيه وقد زنا بامرأة مريضة ، فأمر رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فأوتي بعرجون فيه مائة شمراخ فضربه به ضربة ، وضربها به ضربة ، وخلّى سبيلهما ، وذلك قوله : ( خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِهِ وَلا تَحْنَث ) » . (2)
    وهناك احتمال آخر وهو أن يكون ذلك من خصائص أيوب وبما أنّ زوجته قد تحملت مشقة كبيرة في طول مرضه عفا اللّه سبحانه عنها فبدّل الحدّ إلى ضغث ، ومع هذه الاحتمالات لايصح الاحتجاج بالآية.
    4. جواز إجراء القصاص على من له عين واحدة
    اختلف الفقهاء في أنّ الجاني إذا كان ذا عين واحدة وقد جنى على من له عينان ، وفقأ إحدى عينيه ، فهل يجوز القصاص أو لا ؟ فمن قائل بجوازه ، إلى قائل آخر بالانتقال إلى الدية ، إلى ثالث قائل بجواز القصاص مع دفع نصف الدية.
    فيمكن الاحتجاج على القول الأوّل بقوله سبحانه : ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ
1. الأحبن الّذي عظم بطنه وورم.
2. مجمع البيان : 4 / 448.


(188)
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُروحَ قِصاص ) (1) ، فإطلاق الآية يدل على جواز القصاص وإن انتهى إلى فقد بصر المجني عليه من رأسها.
    يلاحظ عليه : بأنّ الآية في مقام أصل التشريع وليس في مقام بيان الخصوصيات حتى يتمسك بإطلاقها ، ولو غض النظر عن ذلك فيمكن الاستدلال عليه بقوله : ( فََمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين ). (2)
    على أنّه لو تمّت دلالة الآيات فلاحاجة إلى الاستصحاب ، فانّ نقل هذه التشريعات بلا رد عليها يتضمن إمضاءً وتصويباً لها ، إذ ليس القرآن بصدد سرد القصص والحكايات وإنّما هو كتاب هداية للبشر وحكمة ، فكلّ ما ينقل ويذكر فهو حجّة عينا إلاّ إذا ما ردّ عليه.
    مشروعية القرعة
    تدل بعض الآيات على انّ بني إسرائيل ونبيهم زكريا كانوا يعملون بالقرعة حيث شارك زكريا معهم في تعيين كافل مريم فخرجت القرعة باسمه ، يقول سبحانه : ( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذ يُلْقُونَ أَقلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون ). (3)
    وبالتالي خرجت القرعة باسم زكريا فتكفل مريم قال سبحانه : ( وَكَفَّلَها
1. المائدة : 45.
2. البقرة : 194.
3. آل عمران : 44.


(189)
زَكَريا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْراب وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ). (1)
    يلاحظ عليه : انّ دلالة الآية على كونها أمراً مشروعاً عندهم لاخفاء فيها ، بل يظهر من بعض الآيات أنّ القرعة كانت أمراً شائعاً بين البشر حيث ينقل في قصة يونس عندما استقل بسفينة وكادت تغرق بهم إلاّ بتفريغ السفينة من أحد الركاب ، فاقترعوا وخرجت القرعة باسم يونس ، قال سبحانه : ( إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ المَشْحُون * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِين ). (2)
    وبما انّ الروايات الدالة على مشروعية القرعة في الشريعة الإسلامية تغنينا عن استصحاب هذه الأحكام ، على أنّك قد عرفت انّا في غنى عن الاستصحاب في عامّة هذه الموارد ، بل يكفي ورودها في القرآن الكريم.
    بقيت هناك تطبيقات أُخرى تعرض إليها الشيخ الأعظم في الفرائد فراجع.
1. آل عمران : 37.
2. الصافات : 140 ـ 141.


(190)
تنبيهات
9
    قد اشتهر على لسان المتأخرين عدم حجية الأصل المثبت ، وحجية مثبات الأمارة ، والمسألة من المسائل المعنونة في عصر المحقّق البهبهاني ( 1118 ـ 1206 هـ ) أو بعده بقليل ، ونجد في ثنايا أجزاء الجواهر (1) إشارات إلى تلك المسألة ، وما ربما يتوهم كونها من مبتكرات الشيخ الأعظم ليس بصحيح.
    مضافاً إلى أنّ الشيخ ينقل أنّه اشتهر على ألسنة أهل العصر نفي الأُصول المثبتة. (2)
    وتحقيق هذه المسألة يستدعي الكلام في مقامات خمسة :
    المقام الأوّل : تعريف الأصل المثبت.
    المقام الثاني : الدليل على عدم حجّية الأُصول المثبتة.
    المقام الثالث : موارد الاستثناء في كلمات الفقهاء.
    المقام الرابع : في حجّية مثبتات الأمارات دون الأُصول.
    المقام الخامس : التطبيقات.
1. لاحظ الجواهر : 30 / 354 ؛ 31 / 134 و264 ؛ 32 / 156 و270.
2. الفرائد : 383.


(191)
    المقام الأوّل : تعريف الأصل المثبت
    عرّف الشيخ الأعظم الأصل المثبت : بأنّه إثبات أمر في الخارج حتى يترتّب عليه حكمه الشرعي.
    توضيحه : انّ الأمر الخارج عن صميم المستصحب ، إمّا أن يكون من لوازمه ، أومن ملازماته ، أو ملزوماً له ، كاستصحاب الحياة وإثبات نبات لحية زيد الذي هو لازمه ، أو إثبات ضربان القلب الذي هو ملازم للحياة. واستصحاب بقاء الدخان لإثبات ملزومه وهو النار.
    وباختصار ما يعد مترتباً على المستصحب بحكم العقل والعادة دون حكم الشرع.
    نعم لو كان نفس اللازم أو الملازم مصبّاً للاستصحاب كما إذا كان ملتحياً وشككنا في بقائه في هذه الحالة ، يصحّ استصحاب كونه كذلك ، لترتيب الأثر الشرعي كالتصدق على الفقير إذا نذر.

    المقام الثاني : الدليل على عدم حجّية الأُصول المثبتة
    إنّ القول بحجّية الأصل المثبت وعدمها متفرّع على تحديد مفاد أخبار الاستصحاب.
    وبعبارة أُخرى : البحث في المقام إثباتي مبنيّ على تحديد دلالة الروايات بعد الفراغ عن إمكانه ثبوتاً ، إذ لا مانع للشارع أن يعبِّدنا باستصحاب الحياة على كلا الأمرين ، نبات اللحية ووجوب الصدقة ، غير انّ الظاهر من الشيخ انّ البحث ثبوتي وانّ التعبّد على النحو الذي ذكرناه أمر غير معقول.


(192)
    وعلى كلّ تقدير فقد استدل على عدم الحجيّة بوجوه :
    الوجه الأوّل : ما استدل به الشيخ وقال : إنّ معنى عدم نقض اليقين والمضيّ عليه هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقن. ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لايُعقل إلاّ في الآثار الشرعية المجعولة من الشارع لذلك الشيء لأنّها القابلة للجعل ، دون غيرها من الآثار العقلية والعادية ، فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد ، ترتيب آثار الحياة في زمان الشك ، هو حكمه بحرمة تزويج زوجته والتصرّف في ماله ، لاحكمه بنموّه ونبات لحيته ، لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع.
    نعم لو وقع نفس النمو ونبات اللحية مورداً للاستصحاب أو غيره من التنزيلات الشرعية أفاد ذلك جعلَ آثارهما الشرعية دون العقلية والعادية ، لكن المفروض ورود الحياة مورداً له. (1)
    حاصله : انّ الغاية من إبقاء المتيقن في حالة الشكّ جعل الأثر له في تلك الحالة وهناك آثار ثلاثة :
    أ : الأثر الشرعي المترتب عليها بلا واسطة كحرمة التصرّف في مال المستصحب.
    ب : الأثر العقلي أو العادي المترتب عليه بلا واسطة كنموِّه ونبات لحيته.
    ج : الأثر الشرعي المترتب على الأثرين : العقلي والعادي كالتصدّق إذا نذر دفع شيء للفقير ، في صورة نبات اللحية.
    فالأوّل يترتّب بلا إشكال.
1. الفرائد : 383 ، طبعة رحمة الله.

(193)
    والثاني لايترتب ، لأنّه أمر تكويني غير قابل للجعل الاعتباري.
    والثالث وإن كان قابلاً للجعل لكنّه ليس أثراً للمتيقن بل أثر الواسطة ، والمفروض أنّ الواسطة غير قابلة للجعل ولم تقع مورداً للتنزيل.
    يلاحظ عليه : أنّ ظاهر كلامه وجود الاستحالة في عالم الثبوت بالتقرير الذي عرفت ، ولكن الظاهر بل المتيقّن إمكان التعبّد بالأصل المثبت ثبوتاً ، وإنّما الكلام في دلالة الأخبار عليها ، وذلك لأنّ تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن يتصوّر على قسمين :
    أ : تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن بما له من أثر شرعي مترتب عليه بلا واسطة.
    ب : تنزيله منزلة المتيقّن في مطلق الأثر وطبيعته ، سواء ترتب عليه بلا واسطة أو مع واسطة الأثر العادي أو العقلي ، وهذا من الإمكان بمكان ، وعلى ذلك فنجب الدقة في كلام الشيخ وتعيين وجه المغالطة فيه ، وبذلك يعلم أنّ البحث إثباتي لاثبوتي ، ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني ويقول : إنّ مفاد الاستصحاب هل هو تنزيل المستصحب بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة ، أو بلحاظ مطلق الأثر ولو بالواسطة ؟
    الوجه الثاني : ما استدل به المحقّق الخراساني (1) من أنّ القدر المتيقن هو التعبّد بما كان على يقين منه فشك بلحاظ ما لنفسه بلا واسطة من الآثار الشرعية ، قال ( قدَّس سرَّه ) :
    إنّ الأخبار إنّما تدل على التعبد بما كان على يقين منه فشكّ بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه ، ولا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه التي لاتكون كذلك ، ولا
1. أعرضنا عمّا ذكره في ذيله فانّه غير مقبول عندنا كما سيوافيك.

(194)
على تنزيله بلحاظ ما له من الأثر الشرعي مطلقاً ولو بالواسطة ، فانّ المتيقّن هو لحاظ آثار نفسه ، وأمّا آثار لوازمه ، فلا دلالة هناك على لحاظها أصلاً.
    وأمّا حجّية مثبتات الأمارة فلأنّها تحكي عن الواقع وتشير إليه ، وعليه فهي تحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ، ولذلك كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها ، لزوم تصديقها في حكايتها وحجّية مثبتاتها ، وهذا بخلاف الاستصحاب إذ لا دلالة له إلاّ على التعبّد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره. (1)
    أقول : انّ ظاهر كلامه ربّما يشير إلى ما سنذكره من الوجه الرابع ، غير أنّ ذيل كلامه صريح في أنّه اعتمد في عدم حجّية الأُصول المثبتة على عدم الإطلاق في أحاديث الباب ، وذلك لوجود المتيقّن في المقام ، وهو ترتيب آثار نفس المستصحب لاآثار لوازمه العادية والعقلية ولاآثارهما الشرعية.
    يلاحظ عليه : أنّ القدر المتيقّن إنّما يزاحم الإطلاق إذا كان موجوداً في مقام التخاطب ، فيكون كالقرينة المتصلة مانعة عن انعقاد الإطلاق ويصحّ للمتكلّم أن يعتمد عليه في عدم سعة موضوع الحكم ، لا القدر المتيقن الخارج عن مقام التخاطب ، إذ لو كان ذلك لبطل التمسك بالإطلاق إذ ما من مطلق إلاّ وفيه قدر متيقن. ولكن إثبات وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مشكل جداً ، لأنّ تقسيم الأثر إلى المترتب على المستصحب والمترتب على لازمه العقلي تقسيم حادث ظهر عصر المحقّق البهبهانى أو بعده بقليل ، وأين هذا من عصر صدور الروايات التي لم يكن فيه أثر لهذا التقسيم ؟ إلاّ أن يقال انّه يكفي في كونه قدراً متيقناً عدم انتقال زرارة إلاّ إلى المترتب على نفس المستصحب.
    الوجه الثالث : ما أفاده شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري وحاصله انصراف
1. كفاية الأُصول : 2 / 326 ، 327 ، 329.

(195)
أخبار الباب إلى الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بلا واسطة ، لأنّ الإبقاء العملي ينصرف إلى ترتيب ما يقتضي ذلك بلا واسطة.
    يلاحظ عليه : أنّه قريب ممّا ذكره المحقّق الخراساني ، وإثبات الانصراف مشكل كإثبات القدر المتيقّن ، لأنّ سبب الانصراف إمّا كثرة الوجود ، أوكثرة الاستعمال ، والثاني منتف إذ لم يستعمل قوله : « لاتنقض اليقين ... » في لسان الإمام كثيراً في الأثر المترتب على نفس المستصحب ، كما أنّ الأوّل غير ثابت.
    الوجه الرابع : ما يمكن استفادته من صدر كلام المحقّق الخراساني.
    وحاصله : انّ الظاهر من الأخبار هو إبقاء ما تعلّق به اليقين بما له من الأثر الشرعي لا ما لم يتعلّق به اليقين وإن كان ربما يترتب عليه الأثر الشرعي.
    توضيحه : انّ هنا موضوعين تعلّق بأحدهما اليقين دون الموضوع الآخر.
    أمّا الأوّل : فهو الحياة تعلّق به اليقين فيجب إبقاؤه لأجل أثره الشرعي.
    وأمّا الثاني : وهو نبات اللحية ، فلم يتعلّق به اليقين حتى يبقى لأجل أثره الشرعي وهو الصدقة.
    فإن قلت : التعبد ببقاء الحياة تعبّد ببقاء أثره الشرعي وهو حرمة تقسيم أمواله ، وتعبد بنبات لحيته بلحاظ أثره الشرعي ، أعني : الصدقة ، فإذا كان كذلك يترتب عليه وجوب الصدقة.
    قلت : إنّ الشارع إنّما يحكم ببقاء الحياة بما هو شارع أو مبيّن للشرع ، ومن المعلوم أنّ مناسبة الموضوع والحكم هو إبقاء الحياة لغاية أثره الشرعي لا التكويني ، فلايكون التعبّد بالحياة دليلاً بالتعبد بنبات اللحية الذي هو خارج عن إطار تعبد الشارع.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس