إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 226 ـ 240
(226)
بين اليقين والشكّ.
    يلاحظ عليه
    أوّلاً : أنّ مفاد استصحاب « عدم الكرّية إلى زمان وجود الملاقاة » ليس بمعنى استصحابه إلى زمان العلم بالملاقاة حتى لايتحقق الشكّ بهذا النحو إلاّ في الساعة الثالثة فتكون الساعة الثانية خالية عنه. بل المراد استصحابه في كلّ زمان احتمل فيه تحقّق الملاقاة ، ومن المعلوم أنّه كما يحتمل تحقّق وجودها في الساعة الثالثة كذلك يحتمل تحقّقها في الساعة الثانية.
    وبعبارة أُخرى : نحن نحتمل فرض وجود كلّ منهما في الساعة الثانية ، فيكون الشكّ في كلّ من الحادثين متصلاً بيقينه ، ويجري استصحاب عدم كلّ منهما في زمان الشكّ في كلّ من الحادثين.
    ثانياً : انّه لا دليل على اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، فلو أيقن إنسان بطهارة ثوبه ثمّ أغشي عليه ، فلما أفاق شك في بقاء طهارة ثوبه ، واحتمل أنّه صار نجساً عندما أغشي عليه ، فظرف الشكّ غير متصل بظرف اليقين مع أنّه لا شكّ في استصحابه.
    ولذلك نقول بجريان الاستصحاب في الأمثلة التالية إذا كان الأثر متعلّقاً بالعدم التام.
    أ : إذا أذن المرتهن لبيع العين المرهونة ثمّ رجع عن إذنه ، وشكّ في تاريخ كلّ من البيع والرجوع عن الاذن ، فيجري استصحاب العدم في كلّ منهما فيقال أصالة عدم البيع إلى زمان الإذن أو أصالة عدم صدور الرجوع إلى زمان البيع.
    ب : نفس المثال السابق ، أي استصحاب عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة ، أو استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية.


(227)
    ثمّ إنّ المحقّق الخوئي قد أضاف شيئاً إلى بيان أُستاذه ، وقال : إنّه لما كان المستصحب في ظرف الشك وهو يوم السبت متيقناً بحدوث الكرّية ، ومعه كيف يمكن استصحاب عدمها إلى الزمان الذي يعلم بحدوثها ؟ وعليه لايجري الاستصحاب ، لوجهين : انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين أوّلاً ، وتبدّل الحالة السابقة إلى أمر مقطوع به ثانياً ، ومعه لايكون رفع اليد نقضاً لليقين بالشكّ ، بل نقضاً بيقين مثله. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الساعة الثالثة ظرف اليقين بنقض الحالة السابقة ، ولكنّه لايضر بالاستصحاب ، إذ لايعني الاستصحاب الحكمَ بعدم الكرّية في الساعة الثالثة ، بل الهدف هو إسراؤه إلى الساعة الثانية ، وهو يجتمع مع العلم في الكرية في الثالثة.
    وبعبارة أُخرى : أنّ الغاية من الاستصحاب هو زمان الملاقاة حسب ظرفه الواقعي لا العلم بالملاقاة ، فالخلط حصل بين كون استصحاب عدم الكرّيّة إلى حصول العلم بوجود الملاقاة ، وبين استصحابه إلى زمان تحقّق الملاقاة ، وغاية الاستصحاب هو الثاني دون الأوّل ، وليس فيه علم بحصول الكرّيّة.
    وعلى كلّ تقدير : هذا التقرير الذي جنح إليه المحقّق النائيني يطابق عبارات الكفاية الواردة بصيغة الإشكال والجواب ، ولكنّه لاينطبق على العبارات الواردة قبل الإشكال والجواب فالذي ينطبق عليه هو تقرير المحقّق المشكيني ، حيث قال ما هذا إيضاحه :
    تقرير المحقّق المشكيني لعدم الاتصال
    انّ الظاهر من قوله : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت » ، هو
1. مصباح الأُصول : 3 / 200.

(228)
اعتبار اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين في حرمة نقضه بالشك ، فلايصحّ التمسّك به في الموارد التي لم يحرز فيها اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، سواء أحرز عدم الاتصال بأن توسط يقين ثان بين اليقين الأوّل والشكّ الطارئ ، أم شكّ في توسطه.
    أمّا الصورة الأُولى : فواضح ، لأنّه يكون من قبيل نقض اليقين بمثله ، ولأجل ذلك لو أذعن بوجوب الجلوس إلى الزوال ، ثمّ شك في بقائه بعده فلايصحّ عند القوم استصحاب عدم الوجوب المعلوم أزلاً ، لفصل اليقين الثاني بين اليقين الأوّل والشكّ الطارئ.
    وأمّا الصورة الثانية : فلأنّ احتمال توسّط يقين ثان بين الأوّل والثاني ، يجعله من قبيل الشبهة المصداقية ، لقوله : « لاتنقض اليقين بالشكّ » ويكون مآله إلى الشكّ في أنّه هل هو نقض اليقين باليقين أو بالشكّ ومع هذا لايصحّ التمسك بالعام ، ومورد المثال من قبيل الصورة الثانية ، وذلك لأنّ زمان الملاقاة لو كان هو الساعة الثانية لكان زمان الشك في بقاء عدم الكرّيّة متصلاً بزمان اليقين به ، وأمّا لو كان هي الساعة الثالثة فلا اتصال في البين ، لتخلّل وجود الكرّية حينئذ بين المتيقّن والمشكوك.
    وعلى هذا الوجه ينطبق قول المحقّق الخراساني حيث يقول : لعدم إحراز اتصال زمان شكه وهو زمان حدوث الآخر ( أي الملاقاة ) بزمان يقينه أي اليقين بعدم كلّ من الحادثين ، لاحتمال انفصال زمان المشكوك عن زمان المتيقّن باتصال حدوثه أي وجود الكرّيّة.
    يلاحظ عليه : انّه لو تم ذلك يلزم سدّ باب الاستصحاب بتاتاً ، إذ ما من استصحاب إلاّ ويحتمل معه انقلاب المتيقّن فيه إلى ضده في زمان الشكّ ، ولولا


(229)
هذا الاحتمال لما حصل الشكّ ، فاحتمال حدوث الكرّيّة في الساعة الثانية وانقلاب عدمها إلى نقيضه ، لايضرّ به إذ ليس أزيد من احتمال عدم بقاء المتيقّن وانقلابه إلى ضدّه أو نقيضه الذي هو الحاكم في جميع الموارد.
    وبالجملة : المعتبر في الاستصحاب وجود يقين وشكّ فعلي ، وأنّه لو رجع المستصحب القهقرى لايقف على متيقّن متضادّ مع المتيقّن السابق ، لا أن لايحتمله ، وهذا الشرط حاصل ، واحتمال تقدّم الكرّيّة وإن كان حاصلاً لكنّه ليس بأمر متيقّن ، بل محتمل ، فلايعتنى به ، إذ الاعتناء يستلزم رفع اليد عن الأمر اليقيني بأمر مشكوك.
    ولعلّ منشأ هذا الاشتباه ، شدّة اتصال اليقين بالمتيقّن فيكون احتمال انفصال المتيقّن بين زمان اليقين والشكّ ، موجباً لزعم احتمال انفصال اليقين.
    على أنّ ما ذكره لاينطبق على أكثر عبارات الكفاية خصوصاً ما ذكره من الإشكال والجواب.
    وعلى كلّ تقدير فقد رفض المحقّق الخراساني الاستصحاب في مجهولي التاريخ في عامّة الأقسام إلاّ الصورة الأُولى من القسم الأوّل ، وقد عرفت جريانه في عامة صور القسم الأوّل إذا لم يعلم السبق ، وجريانه في القسم الثاني والرابع.

    الموضع الثاني : فيما إذا علم تاريخ أحدهما
    إذا كان أحد الحادثين معلوم التاريخ والآخر مجهوله ، فقد قسّمه المحقّق الخراساني إلى أقسام أربعة على غرار مجهولي التاريخ ، وإليك البيان :
    القسم الأوّل : أن يكون الأثر مترتباً على حالة من وجود الشيء على نحو مفاد كان التامة ، كإرث الولد المترتب على سبق موت الوالد ، فإذا كان موت الولد


(230)
معلوم التاريخ ، كما إذا تُوفِّي يوم الجمعة ، وموت الوالد مجهوله ، فذهب المحقّق الخراساني إلى جريان الاستصحاب فيما إذا كان لأحد الوجودين أثر دون الوجود الآخر ولحالة واحدة منه على النحو الذي سبق في مجهولي التاريخ.
    وبعبارة أُخرى : إذا كان الأثر لواحد من الوجودين ، ولحالة واحدة منه يجري الاستصحاب فيه فقط ، وفي غيره يتعارضان فيتساقطان.
    إلاّ أنّ في جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ إشكالاً ، وهو : انّه إذا كان موت الولد معلوماً من حيث الزمان فلا إبهام في الخارج ، وليس للاستصحاب دور إلاّ في رفع الإبهام ، ومع عدمه لا مورد للاستصحاب.
    اللّهمّ إلاّ أن يقال : انّ موت الولد وإن كان معلوماً من حيث الزمان ولكنّه بالإضافة إلى زمان الآخر ـ أعني : موت الوالد ـ مجهول ، فيكفي في صحّة التعبّد ترتب الأثر عليه. ولكن الاعتماد على هذا أمام الارتكاز العرفي مشكل ، فانّ العرف يستخدم الاستصحاب لكشف الواقع وهو في المقام واضح لاسترة فيه وكونه مجهولاً بالنسبة إلى حادث آخر ، لايجعله مجهولاً.
    القسم الثاني : إذا ترتّب الأثر على حالة لأحد الحادثين بالنسبة إلى الحادث الآخر على نحو كان الناقصة ، كترتب الإرث على موت الوالد السابق على موت الولد ، فقد تقدّم أنّ المحقّق الخراساني قال بعدم جريان الاستصحاب لعدم الحالة السابقة.
    وقد قلنا هناك : إنّ في كلامه خلطاً بين موضوع الأثر والمستصحب ، فالأوّل عبارة عن الموجبة المحصلة كقولنا : موت الوالد السابق على موت الولد ، ومن المعلوم أنّه فاقد للحالة السابقة.


(231)
    وأمّا المستصحب ، فهو عبارة عن نقيض الموجبة المحصلة ، أعني : السالبة المحصلة ، بأن يقال : لم يكن موت الوالد السابق على موت الولد ، ومن الواضح أنّ السالبة المحصلة تصدق مع عدم الموضوع ، مثلاًعندما كان كلّ من الوالد والولد حيّين ، يصدق لم يكن موت الوالد سابقاً على موت الولد. غير انّه انتقضت الحالة السابقة في الموت وبقي الشك في انتقاضها في السبق. فيصحّ الاستصحاب.
    القسم الثالث : ما إذا ترتب الأثر على عدم الشيء بصورة النفي الناقص ، كالماء غير الكرّ إلى زمان الملاقاة ، فإذا كان هناك ماء قليل تعاقب عليه حالتان : الكرّيّة والملاقاة بالنجس ، وكان زمن الملاقاة يوم الجمعة ، فلايجري الاستصحاب في جانب الكرّيّة ، وذلك لعدم الحالة السابقة أي الماء غير الكر إلى وقت الملاقاة ، والفرق بين هذا القسم وما سبق واضح ، لأنّ الموضوع هناك أمر إيجابي يتوجه إليه السبق فيكون المستصحب السالبة المحصّلة ، وهذا بخلاف المقام فانّ السلب جزء للموضوع وهو نفس المستصحب ، أعني : الماء غير الكر.
    وبعبارة أُخرى : ما يترتب عليه الأثر شيء والمستصحب شيء آخر بخلاف المقام فكلاهما واحد.
    والعجب انّ المحقّق الخراساني لم يذكر هذا القسم اقتصاراً بما ذكره في القسم الثاني ، وقد عرفت الفرق بينهما.
    القسم الرابع : إذا ترتب الأثر على الحالة الخاصة من عدم الحادث على وجه النفي التام ، كعدم سبق الكرّيّة على الملاقاة التي علم تاريخها ، فقد فصل المحقّق الخراساني بين معلوم التاريخ ومجهوله. فقال : بعدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ لعدم اتصال الشك بزمان اليقين ، وجريانه في مجهول التاريخ لاتصال


(232)
الشكّ به.
    أمّا الأوّل أي عدم اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين إذا كان أجري الاستصحاب في معلوم التاريخ.
    وذلك لأنّ هناك ساعات وفترات من الزمان.
    الساعة الأُولى : لم يكن هناك كرّيّة ولاملاقاة.
    الساعة الثانية : مبهمة غير معلومة يحتمل فيه حدوث الكرّية.
    الساعة الثالثة : نعلم بملاقاة النجس بالماء.
    أمّا الساعة الرابعة : فيحتمل حدوث الكرّيّة فيها أو الساعة الثانية.
    فاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة إنّما ينفع في صورة واحدة ، وهو إذا حدثت الكرّيّة في الساعة الثانية ، فيقال : بأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة ، وأمّا إذا حدثت في الساعة الرابعة ، فكيف يمكن أن يقال بعدم حدوث الملاقاة إلى زمان الكرّيّة ، أعني : الساعة الرابعة ، مع حدوثها قطعاً في الساعة الثالثة ؟
    فعلى الاحتمال الأوّل لم تنتقض الحالة السابقة في الملاقاة ، بخلاف الفرض الثاني حيث نعلم بانتقاضها في الساعة الثالثة ، ومع ذلك نستصحبه إلى الساعة الرابعة.
    أقول : لو صحّ هذا البيان مع قطع النظر عمّا ذكرنا من الإشكال يجري نفس هذا البيان في مجهول التاريخ أيضاً ، سواء اعتمدنا في تفسير مراد الكفاية على ما ذكره المحقّق النائيني ، أو ما ذكره المحقّق المشكيني.
    أمّا الأوّل : فيقال : انّ الشكّ فرع حصول العلم بكلا الحادثين : الكرّيّة والملاقاة ، ولايحصل العلم بهما إلاّ في الساعة الرابعة ، فيكون الشكّ في تلك الفترة


(233)
مع كون اليقين في الساعة الأُولى ، فيلزم الفصل بين زماني اليقين والشك.
    وأمّا الثاني : فلأنّ الكرّية لو حدثت في الساعة الرابعة صحّ أن يقال : أصالة عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة الذي هو الساعة الثالثة ، وأمّا لو حدثت في الساعة الثانية ، كيف يمكن أن يقال الأصل عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في الساعة الثانية ؟
    وعلى كلّ تقدير : انّ المحقّق الخراساني يعود ويخلّص كلامه ، بأنّه لا فرق في الصور بين المعلوم والمجهول ، وإنّما الفرق بين التام والناقص سواء أكان وجودياً أو عدمياً.
    إلى هنا تم ما أردنا من استعراض الأقسام الثمانية التي تعرض إليها المحقّق الخراساني ، بقيت هنا تطبيقات :


(234)
    تطبيقات
    يترتب على مسألة تأخّر الحادث فروع مختلفة نذكر قسماً منها ، وقبل الإشارة إليها نشير إلى ما أوضحنا حاله في مبحث الاشتغال ، وهو :
    إنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه مؤثراً على كلّ تقدير ، وموجباً للأثر على كلّ فرض ، وإلاّ فلو كان مؤثراً على فرض دون فرض آخر ، فلايكون مثل ذلك العلم منجِّزاً للتكليف ، لعدم العلم به على كلّ تقدير بل العلم به على تقدير دون تقدير ، وهو يساوق الشك دون العلم.
    وعلى ضوء ذلك فلندرس الفروع التالية :
    الفرع الأوّل : إذا كان ثوبه نجساً بالدم ، وعلم بطروء دم آخر عليه مع غسل الثوب بالماء الطاهر ، وتردّد الدم بين كونه بعد الدم الأوّل ، أو بعد الغَسْل ، فالثوب يكون محكوماً بالطهارة المستصحبة ، لأنّ العلم بطروء الدم على الثوب ليس علماً بالسبب المؤثِّر وإنّما هو علم بالسبب المردّد بين الفعلي والشأني ، وذلك لأنّه لو طرأ قبل الغسل لايكون سبباً مؤثراً ، لأنّ طروء الدم بعد الدم لايحدث تكليفاً وإن كان متأخراً عن الغسل فهو مؤثر ، فيدور أمره بين المؤثر وغير المؤثر ، فلايكون منجزاً للتكليف.
    وأمّا الطهارة فقد علمنا بطروئها على الثوب بعد الدم مؤثرة سواء كانت


(235)
بين الدمين أو بعد الدم الثاني فنشكُّ في انتفائها فيحكم بالبقاء ويكون الثوب محكوماً بالطهارة.
    الفرع الثاني : إذا كان ثوبه نجساً بالدم ، ثمّ علم بطروء نجاسة شديدة كالبول الذي يحتاج إلى الغَسْل مرّتين ، وافترضنا غَسْل الثوب مرّة واحدة ، وهذا الفرع يختلف عما سبق ، لأنّ كلاً من شقِّي العلم الإجمالي مؤثر ، وذلك امّا في جانب البول فلأنّه لو كان طرأ على الثوب بعد عروض الدم فقد شدّد حكم الغسْل ، لأنّ ملاقي الدم لو غسل مرّة واحدة يطهر ، بخلاف ملاقي البول فيحتاج إلى غسلتين ، فكذلك لو طرأ البول بعد غسل الثوب مرة واحدة يؤثر أيضاً فيجب غسل الثوب مرتين.
    هذا هو حكم البول ، وأمّا الغسل فلو توسط بين الدم والبول فقد ارتفع أثره بطروء البول ، ولو تأخّر بعد طروء البول يجب غسل الثوب مرة أُخرى.
    فالأصلان ـ أي أصالة عدم تقدّم البول على الغسل وأصالة عدم تقدم الغسل على البول ـ لأجل ترتب الأثر عليهما يتعارضان فيتساقطان ، ولكن لما كان العلم بوجود النجاسة المشدّدة حاصلاً فلايرتفع اليقين بالنجاسة بالغسل مرّة واحدة ، بل يجب الغسل مرتين.
    الفرع الثالث : لو كان هناك ماء طاهر قليل ، ثمّ علم بعروض كلّ من الكرّيّة والنجاسة عليه ، وشكّ في تقدّم عروض الكرّية على عروض النجاسة حتى يكون طاهراً ، أو تقدّم عروض النجاسة على الكرية حتى يحكم بنجاسته ، لأنّ تتميم الماء النجس كرّاً لايوجب طهارته.
    فالظاهر جريان الاستصحابين وتساقطهما ، لأنّ لكلّ من العلمين أثراً شرعياً ، فلو كان عروض الكرّيّة متقدّماً على الملاقاة تثبتت له العاصمية ، ولو


(236)
تأخرت تكون الملاقاة مؤثرة ، وكذلك لو كانت الملاقاة متقدمة أثَّرت في النجاسة ، ولو كانت متأخرة كان الماء معتصماً لاينجسه شيء ، وهو حكم شرعي لقوله : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجسه شيء » ، فيتعارضان ويتساقطان ، ويرجع في مورد الماء إلى قاعدة الطهارة ، في جميع الصور سواء أكانا مجهولي التاريخ أو كان أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً.
    والمقام من أمثلة ما يكون الأثر مترتباً على وجود الشيء حسب مفاد كان التامة.
    غير أنّ المحقّق النائيني ذهب إلى نجاسة الماء في جميع الصور ، وحاصل ماأفاده :
    إنّ الظاهر من قوله ( عليه السلام ) : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لاينجسّه شيء » هو انّه يعتبر في العاصمية وعدم تأثير الملاقاة ، سبقُ الكرّيّة ولو آناً ما ، لأنّ الظاهر منه كون الكرّيّة موضوعاً للحكم بعدم تنجيس الملاقاة ، وكلّ موضوع لابدّ وأن يكون مقدَّماً على الحكم ، فيعتبر في الحكم بعدم تأثير الملاقاة ، إحرازُ سبق الكرية.
    إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ هنا أصلين :
    أ : أصالة عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة.
    ب : أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة.
    أمّا الأصل الأوّل فيكفي في الحكم بالانفعال ، لأنّ مدلوله عدم إحراز الكرّيّة إلى زمان الملاقاة ، فتكون النتيجة عدم الموضوع للعاصمية إلى زمانها ويكون مقتضاه نجاسة الماء.
    وأمّا الأصل الثاني فهو عقيم لايثبت عاصمية الماء من التأثر ، لأنّها من آثار


(237)
سبق الكرّيّة على الماء كما هو اللائح من الحديث ، ولايثبت بهذا الأصل ، سبقُ الكرّيّة عليها ولاتأخر الملاقاة عن الكرّيّة.
    وبعبارة أُخرى : الأثر مترتب على مفاد كان الناقصة « الماء الموصوف بالكرّيّة لاينجس بالملاقاة » وأصالة عدم الملاقاة إلى حين الكرّيّة لايثبت وصف الماء بها حين الملاقاة. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الحديث بصدد بيان انّ الكرّيّة تعصم الماء عن الانفعال ، وأمّا لزوم سبقها على النجاسة فلايستفاد من أمثال هذا التركيب. مثلاً يقال : الرطوبة تمنع من اشتعال الحطب ، أو انّ الريح تمنع عن اشتعال المصباح ، فالمقصود هو بيان التضاد بينهما ، لاشرطية سبق الرطوبة والريح.
    وعلى هذا فكما أنّ أصالة عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة تستلزم الحكم بنجاسة الماء ، هكذا أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة تستلزم عاصمية الماء من التأثر بالملاقاة ، فيتعارضان ويتساقطان ، ويكون المرجع جريان قاعدة الطهارة في الماء.
    الفرع الرابع : إذا تطهّر عن حدث وأحدث ولم يعلم حال كلّ منهما من التقدّم والتأخّر ، فيقع البحث في مقامين :
    أ : أن تكون الحالة السابقة على عروض الحالتين مجهولة.
    ب : أن تكون الحالة السابقة على عروضهما معلومة.
    وعلى كلّ تقدير فإمّا أن يكونا مجهولي التاريخ ، أو يكون أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً ، فيقع الكلام في مقامين :
1. فوائد الأُصول : 4 / 528 ـ 530 ، بتصرف يسير.

(238)
    المقام الأوّل : فيما إذا كانت الحالة السابقة مجهولة
    إذا كانت الحالة السابقة مجهولة وعلم بالطهارة والحدث ، فالظاهر جريان الاستصحاب في كلتا الحالتين ، سواء أكانتا مجهولتي التاريخ ، أو كانت إحداهما معلومة والأُخرى مجهولة ، وقد عرفت جريانه في جانب معلوم التاريخ على قول ، ويكون المرجع بعد التعارض لزوم إحراز الطهارة الحدثية للصلاة.
    المقام الثاني : فيما إذا كانت الحالة السابقة معلومة
    إذا كانت الحالة السابقة على عروض الحالتين معلومة ، فهناك صور :
    الصورة الأُولى : إذا كانت الحالة السابقة معلومة وكانت الحالتان مجهولتي التاريخ.
    الصورة الثانية : فيما إذا كانت الحالة السابقة معلومة ، وكان تاريخ إحدى الحالتين معلوماً.
    فلنأخذ الصورة الأُولى بالبحث ، فنقول :
    اختلفت كلمتهم في حكمها إلى قولين :
    1. لزوم إحراز الطهارة الحدثية للدخول في الصلاة لتعارض الاستصحابين فلامناص عن لزوم إحراز الطهارة للدخول فيها. وهذا هو المشهور.
    2. يؤخذ بضد الحالة السابقة. وهو خيرة المحقّق في المعتبر ، وحكي عن المحقّق الثاني وجماعة المختار عندنا.
    وذلك لأنّه إذا كان في أوّل النهار متطهّراً ثمّ علم بطروء الحالتين من الطهارة والنوم يحكم عليه بكونه محدثاً ، وذلك للعلم التفصيلي بالحدث وانتقاض


(239)
الطهارة قطعاً بلا إشكال ، إمّا بتوسط النوم بين الطهارتين ، أو بوقوعه بعد الطهارة الثانية ، وعلى كلّ تقدير يعلم بعروض الحدث ، ويشك في ارتفاعه ، فيستصحب.
    وأمّا استصحاب الطهارة فلاعلم بها لا تفصيلاً ولا إجمالاً ، فانّ الطهارة المعلومة أوّل النهار قد زالت يقيناً فهو قطعي الارتفاع ، وأمّا عروضها مجدّداً بعد النوم فهو مشكوك بالشكّ البدوي ، لأنّه يحتمل أن تكون الطهارة الثانية بعد الطهارة الأُولى بلا فاصل زماني ، فارتفاع الطهارة قطعي وعروضه مجدداً مشكوك وهو فرع أن تكون الطهارة بعد النوم.
    وتختلف النتيجة عمّا سبق إذا عكسنا المثال السابق بأن كان أوّل النهار محدثاً ثمّ علم بطروء الحالتين من الطهارة والنوم ، فيحكم بطهارته للعلم بالطهارة تفصيلاً ، وذلك للعلم بأنّ الحالة الأُولى قد زالت وانقلبت إلى الحالة الأُخرى أي الطهارة ، فهي محقّقة الحدوث ، وإنّما الشكّ في ارتفاعها.
    وأمّا الحالة الحدثية فلاعلم تفصيلي بها ولاإجمالي للعلم بانّها زالت بالعلم بطروء الطهارة ، وعروضها بعد الطهارة مشكوك بدوي ، لأنّه رهن أن يكون النوم بعد الطهارة ، وهو غير ثابت لاحتمال أن يكون النوم بعد النوم بلا فاصل زماني ، وقدعرفت في مقدمة البحث انّ العلم الإجمالي إنّما ينجِّز إذا كان منجزاً على كلّ تقدير ، فالنوم في المثال الأوّل منجز على كلّ تقدير سواء وقع بين الطهارتين أو بعد الطهارة الثانية ، ولذلك نأخذ به ، وقلنا إنّه فيها محدث.
    كما أنّ الطهارة في المثال الثاني محدثة للأثر على كلّ تقدير سواء وقع بين النومين أو بعد النوم الثاني.
    فعلى غرار هذه القاعدة يجب أن نأخذ بالشق المؤثر على كلّ تقدير للعلم الإجمالي ، وليس هو إلاّ ضدّ الحالة السابقة.


(240)
    فإن قلت : إنّ هناك استصحاباً آخر لايمكن إنكاره ، مثلاً في المثال الثاني يعلم إجمالاً بوجود الحدث بعد السبب ، وإن لم يعلم أنّه من السبب الأوّل أو الثاني ، فيستصحب ، ومثله في الصورة الأُولى حرفاً بحرف.
    قلت أولاً : إنّ هنا علماً بالسبب ، لاعلماً بالسبب المؤثر ، إذ لو كان السببان متعاقبين لما كان للسبب الثاني تأثير.
    وثانياً : إنّ العلم الإجمالي ( العلم الإجمالي بالحدث بعد السبب الثاني ) ينحل إلى : علم تفصيلي وشك بدوي ، إذ الحدث الذي دلّ السبب على وجوده لو كان هو الحدث السابق فقد ارتفع قطعاً وحدوثه بعد الوضوء مشكوك فيه.
    والقول بأنّه يعلم بوجود الحدث بعد السبب الثاني مرجعه إلى القول بأنّه يعلم بطروء الحدث إمّا قبل الوضوء أو بعده ، فلو طرأ قبله فقد ارتفع قطعاً ، ولو طرأ بعده يكون مؤثراً ولكنّه مشكوك جداً.
    ونظير ذلك انّه لو رأى الجنب المغتسل عن جنابته ، أثرَ الجنابة في ثوبه ، فلايجب عليه الاغتسال وإن كان يعلم بحدوث الجنابة بعد هذا الأثر ، وذلك لأنّ الأثر الحاصل في ثوبه إن كان من الجنابة السابقة فقد ارتفع ، وإن كان من الجنابة الجديدة ، فهو وإن كان مؤثراً لكنّه مشكوك الحدوث ، فليس هناك علم بالجنابة الحادثة بعد ذلك الأثر.
    الصورة الثانية : فيما إذا كانت الحالة السابقة معلومة ، وكان تاريخ أحدهما معلوماً ، فالأقوى أنّ حكمها حكم الصورة الأُولى على غرار ما ذكرنا من انحلال العلم الإجمالي ، مثلاً : إذا كان في أوّل النهار محدثاً وعلم بالطهارة في أوّل الظهر وعلم بالنوم امّا قبل الطهارة أو بعدها ، فبما أنّ العلم بالنوم ليس علماً بالسبب الفعلي بل اقصاه العلم بوجود الحدث بعده إمّا من السبب السابق أو منه نفسه ،
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس