إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 496 ـ 510
(496)
السابقة هي الصحّة ، فلو قدّم الاستصحاب على القاعدة في الصورة الثانية يلزم اختصاصها بالصورة الثالثة وهي نادرة جداً ، ولا معنى لتشريع قاعدة على التفصيل لمورد نادر.
    3. انّ لسان القاعدة لسان رفع الشكّ ولسان الاستصحاب هو الحكم بإبقاء اليقين في ظرف الشكّ فيقدّم الأوّل على الثاني.
    أما الأوّل فلقوله : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » . (1) أو قوله ( عليه السلام ) : « فشكك ليس بشيء » . (2) أو « انّه قد ركع » . (3)
    وأمّا الثاني كقوله : « لاتنقض اليقين بالشكّ » فهو « يفترض وجود اليقين والشكّ ثمّ يحكم بإبقاء اليقين لا على إلغاء الشكّ ، فيكون تقدّم القاعدة على الاستصحاب من باب الحكومة كتقدم « لا شكّ لكثير الشكّ » على أحكام الشكوك.
    فإن قلت : إنّ شرط الحكومة هو كون تشريع الحاكم لغواً لولا تشريع المحكوم كما في قوله : « لا ربا بين الزوج والزوجة » بالنسبة إلى أدلّة تحريم الربا ، فلولا التحريم لكان تشريع الربا بين الزوج والزوجة أمراً لغواً.
    قلت : ليست الحكومة مصطلحاً شرعياً حتى نبحث في تحديدها بل يكفي في الحكومة كون أحد الدليلين متصرفاً في موضوع الدليل الآخر بالتوسعة والضيق سواء أكان تشريع الحاكم من دون تشريع المحكوم لغواً أو لا.
    وربما يتصور انّ التقديم من باب التخصيص ، لأنّ أغلب موارد العمل بالقاعدة يكون مورداً لجريان الاستصحاب. (4)
1. تقدّم برقم 1 و11 و16.
2. تقدّم برقم 1 و11 و16.
3. تقدّم برقم 1 و11 و16.
4. مصباح الأُصول : 3/264.


(497)
    يلاحظ عليه : أنّ لسان المخصص لسان إخراج الموضوع عن الحكم مع التحفّظ عليه ؛ كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لاتكرم العالم الفاسق; فالدليل الثاني يسلِّم كون الفاسق عالماً وواقعاً تحت موضوع العام إلاّ أنّه خارج عنه حكماً ، وهذا بخلاف لسان القاعدة ، فانّ لسانها نفي الموضوع بلحاظ نفي حكمه ؛ كما هو الظاهر من قوله : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » .


(498)
القواعد الأربع
3
    والغرض من طرح هذه القاعدة بيان نسبتها إلى الاستصحاب ، ولكن انجرّ الكلام إلى البحث عن مفاد القاعدة ودلائلها وبعض الأُمور المترتبة عليها ، فنقول :
    إنّ تحقيق ما ذكر يستلزم تبيين أُمور :

    الأوّل : ما هي الصلة بين أصالة الصحّة وقاعدة التجاوز ؟
    إنّ حملَ فعل الفاعل المختار على الصحّة ، أصل عقلائي ، فتارة يكون المجْرى فعل الإنسان نفسه فيطلق عليه « قاعدة التجاوز » ، وأُخرى يكون المجرى فعل الغير فيطلق عليه « أصالة الصحّة » ، فكلتا القاعدتين ترجعان في الواقع إلى أصل واحد هو حمل فعل الفاعل المختار على الصحة.
    وأمّا اعتبار التجاوز عن المحل في قاعدة التجاوز دون المقام فلايجعلهما قاعدتين مستقلتين ، لأنّ موضوع الأصل في كلا المقامين هو الشكّ في صحّة العمل وهو فرع غيبوبة صورة العمل عن الذهن ولاتغيب صورة العمل عن النفس في فعل الإنسان نفسه إلاّ بعد التجاوز عنه ؛ وهذا بخلاف فعل الغير ،


(499)
فانّ الغيبة متحقّقة مطلقاً سواء أكان الشكّ في الأثناء أم بعد الانتهاء من العمل لعدم وقوف الإنسان على سرائر الأشخاص.

    الثاني : في مفاد أصالة الصحّة
    إنّ لأصالة الصحّة في حقّ الغير معنيين :
    1. حسن الظن بالمؤمن والاعتقاد الجميل في حقّه من دون أن ينسبه إلى اعتقاد فاسد أو صدور عمل فاسد ، وهذا من التكاليف الإسلامية التي دعا إليها القرآن والسنّة ، قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظَّنّ انَّ بَعْض الظَنِّ إِثْم ). (1)
    وأمّا السنّة فقد ورد في المقام روايات نذكر بعضها :
    أ : روى إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، قال : « إذا اتّهم المؤمنُ أخاه ، انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء » . (2)
    ب : روى الحسين بن المختار ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، قال : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في كلام له : « ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه. ولاتظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً » . (3)
    ج : روي عن أبي الحسن ( عليه السلام ) أنّه قال لمحمد بن فضيل : « يا محمد! كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة ، وقال لك قولاً ، فصدِّقه وكذِّبهم » . (4)
1. الحجرات : 12.
2. الوسائل : 8/613 ، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 1.
3. الوسائل : 8/614 ، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 3.
4. الوسائل : 8/609 ، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 4.


(500)
    وليس المراد من تكذيبهم وتصديق الأخ إلاّ حسن الاعتقاد بالأخ المؤمن بأنّه صادق في تكذيبه مع حسن الاعتقاد بالقسامة ، بالحكم بصدقهم في اعتقادهم; وأمّا ترتيب الأثر على قول الأخ أو القسامة ، فخارج عن مصبّ الروايات ، فهذه الأدلّة ناظرة إلى حكم أخلاقي لا صلة له بالحكم الشرعي.
    2. ترتيب الأثر على الفعل الصادر من الغير بمعنى فرض فعله مطابقاً للواقع ، فإذا فرض دوران العقد الصادر منه بين كونه صحيحاً أو فاسداً لا على وجه قبيح ، بل كان الأمران في حقّه مباحين لكن أحدهما فاسد والآخر صحيح يحمل على القسم الصحيح ، كبيع الراهن العين المرتهنة مع رجوع المرتهن عن إذنه وعدم علم الراهن به ، فدار بين كونه قبل رجوع المرتهن عن الإذن واقعاً أو بعده ، فانّ كلا البيعين بحكم جهل الراهن أمر حسن ، لكن يترتب الأثر على أحدهما ، وهو البيع قبل الرجوع ، لا على الآخر وهو البيع بعد الرجوع ، فيحمل على الفرد الصحيح.
    وفي المقام يفترق المعنيان ، فإنّ أصالة الصحة بالمعنى الأوّل ، أي عدم صدور الفعل القبيح عن الفاعل ، تجري في كلتا الصورتين : البيع قبل الرجوع والبيع بعده ، لفرض جهل الراهن البائع بالرجوع.
    وأمّا أصالة الصحّة بالمعنى الثاني فيختص جريانها بصورة واحدة ، وهي البيع قبل رجوع المرتهن ، وأصالة الصحة بهذا المعنى رهن دليل آخر ، ولايكفيها ما ورد حول المعنى الأوّل. وهذا ما سنحيل دراسته إلى الأمر الثالث.


(501)
    الثالث : الدليل على أصالة الصحّة بمعنى ترتيب الأثر الشرعيّ
    استدلّ الفقهاء منهم المحقّق النراقي في عوائده (1) والشيخ الأعظم في الفرائد على حجّية أصالة الصحة بالمعنى الثاني بوجوه ، غير انّ الدليل الوحيد الذي يمكن أن يتمسّك به هو السيرة العقلائية على حمل فعل الغير على الصحة ، بل مطلق حمل الفعل الصادر عن الفاعل المختار على الصحّة ليعمّ فعل النفس وفعل الغير. والداعي إلى اتخاذ العقلاء هذا الأصل سنّة في الحياة ، هو ملاحظة طبع العمل الصادر عن إنسان مريد يعمل لغاية ، أعني : الانتفاع بعمله آجلاً وعاجلاً ، ومقتضى ذلك إيجاد العمل صحيحاً لافاسداً ، كاملاً لا ناقصاً ، وإلاّ يلزم نقض الغرض والفعل العبث.
    وإن شئت قلت : كما أنّ الصحّة هي الأصل في الطبيعة دون المعيب فإذا بُشِّر أحد برزق الولد يتبادر الولد السويّ ، أو إذا باع دابّة معينة ، يحمل على الصحيح ، لأنّ الأصل في الطبيعة هو الصحّة والنقص أمر طارئ عليه ولايعدل عنه إلاّ بقرينة. هكذا الصحّة هي الأساس في فعل الإنسان فيحمل على الصحة ، وذلك لأنّ الأصل في الفعل الصادر من الفاعل المختار الهادف ، هو صحّة الفعل ، والفاسد أمر طارئ نابع من الغفلة.
    هذا هو الأصل المحقّق بين العقلاء ، وعليه السيرة المتشرّعة بما هم عقلاء ، وعلى ضوئهم مشى الفقهاء في الأحكام الشرعية ، فانّك لاتجد بين القدامى من الفقهاء عنواناً لهذا الأصل : « أصالة الصحّة في فعل الغير » ، لكنّهم بما هم عقلاء تبعوا في أحكامهم الأصلَ الدارج بينهم ، وإليك سرد طائفة من الأحكام المبنيّة على الأصل المذكور :
1. عوائد الأيام : 73.

(502)
    1. إذا قام المسلم بغَسْل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، أو قام بغسل الأواني واللحوم المتنجّسة ، يحمل فعله على الصحة ويسقط التكليف عن الغير ، ولايحتاج إلى إحراز الصحّة بالعلم والبيّنة ، بل لو شكّ يكفي في ترتّب الأثر كون الفعل صادراً عن المسلم.
    2. إذا أذّن أحد المأمومين أو أقام ، يسقط التكليف عن الغير ، وإن شكّ في صحّة ما أتى به ، يحمل على الصحّة.
    3. إذا ناب المسلم عن رجل في الحجّ والعمرة أو في جزء من أعمالهما ، وشُكّ في صحّة العمل المأتي به يُحمل على الصحة.
    4. يحمل خرص الجابي في مورد الصدقات على الصحة إذا شكّ في صحّته.
    5. يحمل ذبح الذابح على الصحّة.
    6. يحمل عمل الوكلاء في الزواج والصلاة والبيع والشراء والإجارة عليها ، ومثله فعل الأولياء كالأب والجدّ في النكاح ، كما يحمل اتجارهم بمال اليتيم على الصحّة ، ومثله حمل عمل المتولّي للأوقاف عليها ، إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع في الفقه ، كيف ، والأصل في باب التنازع هو الصحّة ، والبيّنة على من يدّعي الخلاف ، ويؤيد إجماع الفقهاء والسيرة ما ورد في بعض الأبواب.
    1. ما ورد في ذم الخوارج لكثرة السؤال.
    روى البزنطي مضمراً قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشري جبّة فرا ، لايدرى أذكيّة هي أم غير ذكيّة ، أيصلّي فيها ؟ فقال : « نعم. ليس عليكم المسألة ، انّ أبا جعفر ( عليه السلام ) كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، انّ الدّين


(503)
أوسع من ذلك » . (1)
    2. ما ورد في الجلود المشتراة من السوق.
    روى إسماعيل بن عيسى ، قال : سألت أبا الحسن ( عليه السلام ) عن جلود الفرا يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف ؟ قال : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلاتسألوا عنه » . (2)
    وربما يتوهّم انّ جواز الاشتراء مستند إلى سوق المسلم أو يده ولا صلة للرواية بأصالة الصحة.
    يلاحظ عليه : أنّ السوق واليد إشارة إلى حال البائع بما انّه مسلم ، وهو لايقوم إلاّ بعمل صحيح ، فإذا جُرّد المورد عن اليد والسوق يجوز الاشتراء أيضاً لكون البائع مسلماً.
    ثمّ إنّ المحقّق النراقي ممّن رفض كلّية القاعدة وذهب إلى أنّ العمل في بعض الموارد لأدلّة خاصّة واستدل على مقصوده بالروايتين التاليتين :
    أ : صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : سئل عن رجل جمّال اسْتُكري منه إبل وبُعث معه بزيت إلى أرض ، فزعم أنّ بعض زقاق الزيت انخرق فاهراق ما فيه ؟ فقال : « إن شاء أخذ الزيت ، وقال : إنّه انخرق ، ولكنّه لايصدّق إلاّ ببيّنة عادلة » . (3)
    قال المحقّق النراقي : يعني انّ الجمّال يمكن أن يأخذ الزيت ، ويقول انخرق
1. الوسائل : 2/1071 ، الباب 50 في أبواب النجاسات ، الحديث 3.
2. الوسائل : 2/1072 ، الباب 50 من أبواب النجاسات ، الحديث 7.
3. الوسائل : 13/276 ، الباب 30 من أبواب أحكام الإجارة ، الحديث 1.


(504)
الزُّقّ فلايُصدَّق قوله إلاّ مع البيّنة ، وهذا صريح في عدم حمل قوله على الصدق. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ مورد الأصل فيما إذا صدر من الفاعل فعل له وجهان : الصحّة والفساد. فيحمل على الأوّل دون الثاني ، وليس مورده تصديق ادّعاء كلّ من يدّعي شيئاً ينتهي إلى ضرر الغير ، فليس الأصل صحّة قول كلِّ مسلم ولو انتهى إلى ضرر الغير.
    على أنّ هناك أصلاً آخر هو أخصّ من حمل فعل الغير على الصحة وهو ضمان الأجير إلاّ إذا ثبتت أمانته والمقام داخل في هذا الأصل ، وبما انّه أخصّ يقدّم على أصالة الصحّة.
    روى أبو بصير ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : « كان علي ( عليه السلام ) يضمن القصّار والصائغ يحتاط به على أموال الناس ، وكان أبو جعفر ( عليه السلام ) يتفضّل عليه إذا كان مأموناً » . (2)
    وروى معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : سألته عن الصبّاغ والقصّار ؟ فقال : « ليس يضمنان » .
    قال الشيخ : يعني إذا كانا مأمونين ، فأمّا إذا اتُّهما ضمنا حسب ما قدمنا. (3)
    وقد ظهر بذلك انّ مورد الرواية خارج عن مصبّ قاعدة أصالة الصحة في فعل الغير أوّلاً ، ومحكوم بقاعدة أُخرى من ضمان الأجير.
    ب : ما رواه عمّار ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) في حديث أنّه سئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول : هذا مطبوخ على الثلث ؟ قال : « إن كان مسلماً ورعاً مؤمناً فلا
1. عوائد الأيّام : 78.
2. الوسائل : 13/274 ، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة ، الحديث 12.
3. الوسائل : 13/274 ، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة ، الحديث 14.


(505)
بأس أن يشرب » . (1)
    يلاحظ عليه : أنّ اشتراط الإسلام والورع والإيمان لأجل كون الفاعل متّهماً وإلاّ فيقبل ، وتدلّ على ذلك عدّة من الروايات المفصّلة بين المستحلّ وغيره ، فيشرب في الثاني دون الأوّل ، وإليك بعضها.
    عن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : الرجل يهدي إليّ البختج من غير أصحابنا ؟ فقال : « إن كان ممّن يستحلُّ المسكر فلاتشربه ، وإن كان ممّن لايستحل فاشربه » . (2)
    ومثله رواية معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ). (3)

    كلمة أخيرة للمحقّق النراقي
    قال : ويكفيك في عدم الكلية ما ترى من اشتراطهم في الشهادة ، العدالة ، والتعدّد ، وانضمام الحلف والاكتفاء في سقوط الدعوى عن ورثة الميت بيمين نفي العلم ، والحكم بسقوطها مع عدم دعوى العلم على الوارث ، وبلزوم الحلف فيما يدّعيه أحد ممّا هو موقوف على قصده ، ونحو ذلك ، ولايعلم في الموارد التي يكون الحكم فيها موافقاً للقاعدة انّه لأجل ما تقتضيه تلك القاعدة ، بل لعلّه إنّما هو لخصوص المورد أو علة أُخرى. (4)
    يلاحظ عليه : أنّ مصبّ القاعدة ليس هو تصديق كلّ مدّع في عامّة الحالات عادلاً كان أم فاسقاً ، واحداً كان أو متعدّداً ، انضم الحلف إلى قوله أو لا ، بل المراد
1. الوسائل : 17/235 ، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث 6.
2. الوسائل : 17/233 ، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث 1.
3. الوسائل : 17/234 ، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث 4.
4. عوائد الأيام : 78.


(506)
انّه إذا صدر فعل عن إنسان مختار لغاية خاصة فيحمل على الفرد الصحيح منه دون الفاسد.
    وما ذكره من الأمثلة خارج عن هذا الموضوع ، إذ ليس المدّعى انّه يُسمع دعوى كلّ مدّع في حقّ الآخرين بمجرّد الشهادة ، وإنّما موردها فعل صادر من فاعل مختار له وجهان صحيح وغير صحيح ، فيحمل على الصحيح من دون أن يقع ذريعة لتصديق أحد وتكذيب الآخر.
    وبالجملة : فإنكار هذا الأصل بين العقلاء والمتشرّعة والفقه غير تامّ.

    الأمر الرابع
هل المراد هو الصحّة عند الفاعل أو الحامل ؟
    هل أصالة الصحّة تثبت كون العمل صحيحاً عند الفاعل والعامل ، أو تثبت كونه صحيحاً عند الحامل ؟ ويعبر عن الأوّل بالصحّة الفاعلية ، وعن الثاني بالصحّة الواقعية ، لأنّ الحامل يتصور انّ ما يعتقده هو الواقع ، فهنا وجهان :
    الأوّل : انّ مقتضى التعليل هو الصحّة عند الفاعل لما قرّر من أنّ الفاعل المريد الهادف لايترك ما هو المؤثر في العمل عمداً لكونه نقضاً للغرض ، ولاسهواً لكونه نادراً ، فلو اعتمدنا في أصالة الصحّة على هذا التعليل ، فلايثبت إلاّ كون العمل صحيحاً عند الفاعل.
    الثاني : انّ الغرض الذي لأجله أُسِّس الأصل هو ترتيب الآثار الواقعية عند الحامل ، والمفروض انّ الأثر مترتب على العمل الصحيح عنده لاعند الفاعل.
    وبذلك يظهر وجود التنافي بين التعليل والغرض الذي أُسِّس لأجله


(507)
الأصل ، ومع ذلك لامحيص إلاّ عن تقديم الثاني وإلاّ يكون الأصل قاصراً غير مفيد.
    وعلى ذلك تختلف أحكام الصور من حيث إثبات الصحّة وعدمه.
    1. إذا وقف الحامل على أنّ العامل جاهل بأحكام عمله من حيث الصحّة والفساد لأجل الجهل بالحكم أو الموضوع ، فلو جاء به صحيحاً فإنّما وقع ذلك صدفة لالكون الصحّة مقتضى طبع العمل الصادر عن الفاعل المريد الهادف ، فلاتجري هنا أصالة الصحّة.
    2. أن يجهل الحامل بحال العامل من حيث العلم بالحكم والموضوع وعدمه ، والظاهر جريان أصالة الصحّة لوجود السيرة حيث إنّ بناء الناس على حمل عمل الآخرين على الصحّة من دون تفحّص وتفتيش عن علمهم بالموضوعات والأحكام ، وعدمه.
    3. أن يعلم الحامل بعلم العامل بعمله حكماً وموضوعاً ، وله صور :
    أ : أن تُعلم الموافقة بينهما في موارد الصحّة والبطلان.
    ب : أن يجهل حاله من حيث الموافقة والمخالفة.
    ج : أن تعلم مخالفته مع الحامل.
    فيجري في الأُولى لوجود الموافقة ، كما يجري في الصورة الثانية للجهل بالمخالفة ، وقد علمت أنّ الناس يحملون عمل الآخرين على الصحّة من دون تفتيش عن كونهم عالمين أو جاهلين ، وعلى فرض كونهم عالمين كونهم موافقين للحامل أو مخالفين.
    لكنّه لايجري في الصورة الثالثة ، لأنّ الصحّة هنا ليست مقتضى طبع إرادة


(508)
الفاعل المريد ، بل لو صحّت وكان العمل موافقاً للصحيح عند الحامل فإنّما هو من باب الصدفة.
    إذا كان بين عقيدتي الحامل والفاعل تباين ، كما إذا اعتقد العامل بوجوب القصر في السفر أي أربعة فراسخ وإن لم يرجع ليومه واعتقد الآخر وجوب الإتمام في هذه الصورة فلاتجري أصالة الصحّة ، وذلك لأنّ وقوع العمل صحيحاً حسب نظر الحامل : « الصلاة تامة » رهن السهو والغفلة ، وإلاّ فهو بطبع الحال يصلّي قصراً حسب ما يعتقد.
    وإذا كان بين العقيدتين تخالف لابالتباين ، كما إذا اعتقد الفاعل بجواز الجهر والمخافتة في صلاة ظهر يوم الجمعة ، واعتقد الحامل بوجوب خصوص المخافتة ، فهل تجري أصالة الصحّة أو لا ؟ الظاهر هو الثاني ، لأنّ وقوع العمل صحيحاً حسب نظر الحامل ليس نتيجة إرادة الفاعل المريد الهادف ، بل نتيجة الصدفة بأن يختار من طرفي التخيير ما هو الموافق لنظر الحامل.
    وعلى ضوء الإحاطة بأحكام هذه الصور تُميّز الموارد التي تجري فيها أصالة الصحّة عمّا لاتجري.


(509)
    الأمر الخامس
عدم جريان الأصل إلاّ بعد إحراز الموضوع
    نقل الشيخ الأعظم عن المحقّق الثاني انّ الأصل في العقود ، الصحة ، لكن بعد استكمال أركانها ليتحقّق وجود العقد ، أمّا قبله فلا وجود له ، وخصّ جريانها على ما إذا حصل الاتفاق على حصول جميع الأُمور المعتبرة في العقد من الإيجاب والقبول الكاملين وجريانهما على العوضين المعتبرين ، ووقع الاختلاف في شرط مفسد ، فالقول قول مدّعي الصحّة بيقينه ، لأنّه الموافق للأصل. (1)
    وعلى ضوء ذلك فلايجري الأصل في المسائل التالية :
    1. لو ادّعى المشتري أنّه اشترى العبد ، والبائع أنّه باع الحرّ.
    2. لو قال الضامن : ضمنت وأنا غير بالغ ، وقال المضمون له : ضمنتَ وأنت بالغ.
    3. لو قال الضامن : ضمنتُ وأنا مجنون ، وقال المضمون له : ضمنتَ وأنت عاقل.
    يلاحظ على ما ذكره بأنّه إذا كان مصبُّ الأصل ما إذا أحرز الموضوع بتمام قيوده وحدوده وكان الشكّ ممحَّضاً في الاشتراط بالشرط الفاسد يكون الأصل عديم الفائدة ، إذ يكفي عندئذ الاستصحاب ، وهو أصالة عدم الاشتراط صحيحاً كان الشرط أم فاسداً.
    هذا وقد أورد الشيخ على نظريّة المحقّق الثاني بوجوه :
1. فرائد الأُصول : 417.

(510)
    الأوّل : بالنقض بما إذا شكّ المشتري في أنّ الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره أو لا ؟ فهو يبني على الصحّة اتفاقاً ، مع أنّه شكّ قبل العلم باستكمال العقد.
    الثاني : بالحلّ بأنّه ماذا يريد من قوله : إنّه لا وجود للعقد قبل استكمال أركانه ؟ فإن أراد الوجود الشرعي فهو عين الصحّة ، وإن أراد الوجود العرفي فهو متحقّق مع الشكّ بل مع القطع بعدم البلوغ.
    الثالث : انّ ما ذكره إنّما يتمّ إذا شكّ في بلوغ الفاعل ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ تستلزم صحّةُ فعله ، صحّةَ فعل هذا الفاعل ، كما إذا كان قائماً بطرف واحد كالإبراء والإيصاء فشكّ في أنّه صدر في حال البلوغ أو قبله. وأمّا إذا كان قائماً بشخصين فشكّ في ركن العقد كأحد العوضين أو في أهليّة أحد طرفي العقد ، فيمكن أن يقال : إنّ الظاهر من الفاعل في الأوّل ، ومن الطرف الآخر في الثاني أنّه لايتصرّف فاسداً.
    وأمّا مسألة الضمان ، فلو فرض وقوعه بغير إذن من المديون ولاقبول من الغريم فشك في بلوغ الضامن حينه وعدمه فلايصحّ استكشاف صحّته من الطرف الآخر لعدم وجوده ، وأمّا إذا كان مع إذن واحد منهما أوكليهما فيصحّ استكشاف صحّته ، من الحكم بصحّة عمل الطرف الآخر. (1)
    أقول : قد وقفت على مختار المحقّق الثاني كما عرفت خيرة الشيخ الأنصاري ، وبين القولين بون شاسع ، حيث إنّ الأوّل لايقول بجريان الأصل إلاّ بعد إحراز الموضوع للصحّة عند الشرع بعامة قيوده وشروطه ، وكان الشكّ نابعاً من اشتراط شرط مفسد وعدمه ، ومن المعلوم انّ تخصيص الأصل بهذه الصورة
1. فرائد الأُصول : 418.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس