عصمة الانبياء و الرسل
تاليف : السيد مرتضى العسكري
( و اذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال
اني جاعلك للناس اماما قال و من ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين ) (1) الوحدة حول مائدة الكتاب و السنة بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين ، و الصلاة على محمد و آله الطاهرين ، والسلام على
اصحابه البرره الميامين.
و بعد : تنازعنا معاشر المسلمين على مسائل الخلاف في
الداخل ففرق اعداء الاسلام من الخارج كلمتنامن حيث لانشعر ، وضعفنا عن الدفاع عن
بلادنا ، و سيطر الاعداء علينا ، وقد قال سبحانه و تعالى : ( واطيعوا الله و رسوله و
لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم ) (2) .
و ينبغي لنا اليوم و في كل يوم ان نرجع الى الكتاب و
السنة في ما اختلفنا فيه و نوحد كلمتنا حولهما ، كماقال تعالى : ( فان تنازعتم في شي ء
فردوه الى الله و الرسول ) (3) .
و في هذه السلسلة من البحوث نرجع الى الكتاب والسنة
ونستنبط منهما ما ينير لنا السبيل في مسائل الخلاف ، فتكون باذنه تعالى وسيلة
لتوحيد كلمتنا.
راجين من العلماء ان يشاركونا في هذا المجال ، ويبعثوا الينا
بوجهات نظرهم على عنوان : بيروت ـ ص.
ب 124/24 ـ العسكري
خبر
الله سبحانه في سورة الحجر ان ابليس لا سلطان له على عباده المخلصين ، في ذكره
ما داربينه و بين ابليس من محاورة ، وذلك في قوله تعالى : قال ... ( رب بما
اغويتني لا زينن لهم في الا رض و لا غوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين ان
عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين ) (4) .
و اخبر تعالى عما جرى بين يوسف و زليخا ، و كيف يعصم
الله المخلصين من اغواء الشيطان ، حيث قال تعالى في سورة يوسف : ( و لقد همت به و هم
بها لولا ان راءى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء انه من عبادنا المخلصين
) (5) و عرفنا ان الوصف المذكور من شروط الامامة في ما
اخبر الله عما دار بينه و بين خليله ابراهيم (ع) في سورة البقرة ، و قال : ( و اذ
ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال اني جاعلك للناس اماما قال و من ذريتي قال
لاينال عهدي الظالمين ) (6) و ذكر في سورة الانبياء ان الذين جعلهم ائمة ، يهدون بامره
، و قال تعالى : ( و جعلناهم ائمة يهدون بامرنا ... ) (7) و ذكر منهم في تلك السورة نوحا و ابراهيم و لوطا و
اسماعيل و ايوب و ذا الكفل و يونس وموسى و هارون و داود و سليمان وزكريا و يحيى و
عيسى (ع) .
و كان في من وصفهم بالامامة في هذه السورة : النبي والرسول و الوزير
و الوصي.
اذا فقد بان لنا ان الله تبارك و تعالى اشترط لمن جعله اماما ان يكون
غير ظالم.
و قد وصف الله الامام بانه خليفته في الارض ، كما ورد في خطابه
لداود (ع) في سورة ص : ( يا داود انا جعلناك خليفة في الا رض ) (8) و ورد في وصفه لادم (ع) في خطابه للملائكة في سورة البقرة
: ( واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الا رض خليفة ... ) (9) كما سنشرحه بعد تفسير كلمات الايات ان شاء الله تعالى.
شرح الكلمات :
ا ـ اغويتني ، و لاغوينهم ، و الغاوين : غوى فهو غاو : انهمك في
الغي.
و اغواه : اضله و اغراه ، و قصد اللعين بقوله اغويتني : انه تعالى
بلعنه و قوله له قبل هذه الاية : ( وان عليك اللعنة الى يوم الدين ) ، ابعده عن
رحمته جزاء تمرده و امتناعه عن السجود لادم ، كماقال تعالى في سورة البقرة : ( يضل
به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به الا الفاسقين ) (10)
ب ـ لازينن لهم : اي : اءحسن لهم سوء اءعمالهم ، كما قال
سبحانه و تعالى : ( زين لهم الشيطان اعمالهم ) (11) و ( زين لهم سوء اعمالهم ) (12)
ج ـ المخلصين : المخلصون : هم الذين اخلصهم الله لنفسه
بعدما اخلصوا انفسهم للّه ، فليس في قلوبهم محل لغيره.
د ـ ابتلى : بلاه بلاء و
ابتلاه ابتلاء : امتحنه و اختبره بالخير و الشر والنعمة و النقمة.
ه ـ بكلمات :
المقصود من الكلمات هنا قضايا امتحن الله بها ابراهيم (ع) ، مثل ابتلائه بعباد
الكواكب و الاصنام ، و احراقه بالنار ، و تضحيته بابنه ، و امثالها.
و ـ فاتمهن :
اي : اكمل اداءهن.
ز ـ جاعلك : وردت جعل بمعنى : خلق و اوجد و حكم و شرع و قرر
وصير ، و الاخير هو المقصود هنا.
خ ـ اماما : الامام : هو المقتدى للناس في
الاقوال و الافعال.
ط ـ الظالمين : الظلم : وضع الشي ء في غير موضعه ، و الظلم
ـ ايضا ـ تجاوز الحق.
و الظلم ثلاثة انواع : اولا : ظلم بين الانسان و ربه
، و اعظمه الشرك و الكفر ، كما قال سبحانه في سورة لقمان : ( ان الشرك لظلم عظيم ) (13) و في سورة الانعام : ( فمن اظلم ممن كذب بيات الله ... ) (14) ثانيا : ظلم بين الانسان و غيره ، كما قال سبحانه و تعالى
في سورة الشورى : ( انما السبيل على الذين يظلمون الناس ) (15) ثـالثـا : ظلم الانسان نفسه ، كما قال سبحانه و تعالى في
سورة البقرة : ( ... و من يفعل ذلك فقدظلم نفسه ) (16) و في سورة الطلاق : ( و من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه
) (17) و كل نوع من الظلم ظلم للنفس.
يقال لمن اتصف بالظلم
في اي زمان من عمره المتقدم منه او المتاخر : ظالم.
ي ـ همت به و هم بها : هم
بالامر : عزم على القيام به و لم يفعله.
ك ـ راى : راى بالعين : نظر ، و بالقلب :
ابصر ، و ادرك.
ل ـ برهان : البرهان : اوكد الادلة ، و الحجة البينة الفاصلة ، و
ما رآه يوسف اكثر من هذا.
تاويل الايات : قال ابليس لرب العالمين : رب بما
لعنتني و ابعدتني عن رحمتك لازينن للناس في دار الدنياالاعمال السيئة ، كما قال
سبحانه :
ا ـ في سورة النحل : ( لقد ارسلنا الى اءمم من قبلك فزين لهم الشيطان
اعمالهم ) (18)
ب ـ في سورة الانفال : ( و اذ زين لهم الشيطان اعمالهم
وقال لا غالب لكم اليوم ... ) (19)
ج ـ في سورة النمل : ( ... يسجدون للشمس من دون الله
وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل ... ) (20) و قال الشيطان : لازينن للناس اعمالهم و لاغوينهم اجمعين
الا عبادك الذين اصطفيتهم لنفسك.
و قال الله في جوابه : انك لا سلطة لك
على من اتبعك من المنهمكين في الغي و الضلالة ، و اخبرتعالى عن شان عباده
المخلصين في ما حكاه عن خبر يوسف (ع) و زليخا ، حيث قال : ( و لقدهمت به و هم بها
لولا ان راءى برهان ربه ) في بيت خلا عن كل انسان ما عدا يوسف (ع) .
و زليخا
عزيزة مصر و مالكة يوسف ، همت ان تنال ماربها من يوسف ، و لولا ان يوسف راى برهان
ربه لهم بقتلها و هو السوء ، او هم بالفحشاء كما هو مقتضى طبيعة الحال التي كان
عليهاالفتى مكتمل الرجولة غير المتزوج مع مالكته الفتاة مكتملة الانوثة المترفة
في بيت خلا من كل احد ، و لكنه راى برهان ربه و استعصم ، فقد كان ممن اخلصه الله
لنفسه.
فما هو البرهان الذي رآه يوسف (ع) ؟ و كيف رآه ؟ ان يوسف (ع) راى آثار
العملين على نفسه كالاتي بيانه :
امعرفة معنى عصمة الانبياء ينبغي ان ندرس كيفية
انتشار البركة و الشؤم على الزمان و المكان وآثار اعمال الانسان في الدنيا و الاخرة
، فنستعين الله و نقول : قال الله سبحانه و تعالى :
ا ـ في سورة البقرة : ( شهر
رمضان الذي اءنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان فمن شهد منكم
الشهر فليصمه ) (21)
ب ـ في سورة القدر : ليلة القدر خير من الف شهرو ما
ادريك ما ليلة القدر ( انا انزلناه في ليلة القدر سلام هي حتى مطلع
الفجر ) .
تنزل الملائكة و الروح فيها باذن ربهم من كل امر انزل الله القرآن
على خاتم انبيائه في ليلة من ليالي شهر رمضان ، فاصبحت تلك الليلة ليلة
القدر تنزل الملائكة و الروح فيها كل سنة بامر ربهم ابد الدهر ، و انتشرت البركة من
تلك الليلة الى كل شهر رمضان كذلك ابد الدهر.
و ان الجمعة اصبحت مباركة منذ عهد
آدم (ع) ، و ان عصر التاسع من ذي الحجة اصبح مباركايغفر الله ذنوب عباده فيه بمنى
لنزول المغفرة على آدم (ع) فيه ، و اصبحت اراضي عرفات والمشعر و منى اراضي مباركة
في التاسع و العاشر كم ذي الحجة على كل بني آدم (ع) بعد ذلك ، وبقي اثرها كذلك ابد
الدهر.
و كذلك اصبح اثـر قدمي ابراهيم (ع) في البيت على تلك الكتلة من
الطين التي رقى عليها ابراهيم (ع) لبناء جدار البيت مباركا ، فامرنا الله
باتخاذها مصلى بعد ذلك ابد الدهر و قال : ( واتخذوامن مقام ابراهيم مصلى ) .
و
كذلك الشان في انتشار الشؤم كما كان من امر بيوت عاد في الحجر بعد نزول العذاب
عليهم ، كما اخبرنا رسول الله (ص) عنها عند مروره عليها في غزوة تبوك ، و
جاء خبره في كتب الحديث والسيرة ، و قالوا ما موجزه : لما سار رسول الله (ص)
الى غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة مر بالحجر ـ ديار ثمود بوادي القرى في
طريق الشام من المدينة ـ فنزل قبل ان يمر بها ، فاستقى الجيش من بئرها ، فنادى
منادي النبي ان : لا تشربوا من ماء بئرهم ، و لا تتوضاوا منه للصلاة ، فجعل الناس
يهريقون ما في اسقيتهم و قالوا : يا رسول الله قد عجنا ، قال : اعلفوها الابل خوف ان
يصيبكم مثل ما اصابهم.و لما ارتحل و مر بالحجر ، سجى ثوبه على وجهه واستحث (22) راحلته و فعل الجيش كذلك ، وقال رسول الله (ص) : لا
تدخلوا بيوت الذين ظلموا الا و انتم باكون.
و جاء رجل بخاتم وجده في الحجر في
بيوت المعذبين ، فاعرض عنه و استتر بيده ان ينظر اليه ، و قال : القه (23) .
و وقع نظير ذلك للامام علي (ع) كما رواه
نصر بن مزاحم وغيره ،
و اللفظ لنصر في كتابه وقعة صفين بسنده ، قال : كان مخنف بن
سليم يساير عليا ببابل (24) ، فقال الامام علي (ع) : ان ببابل ارضا خسف بهافحرك
دابتك لعلنا نصلي العصر خارجا منها.
قال : فحرك دابته و حرك الناس دوابهم في
اثره ، فلما جاز جسر الصراة نزل فصلى بالناس العصر (25) .
و في رواية راو آخر : قطعنا مع امير المؤمنين جسر
الصراة في وقت العصر ، فقال : ان هذه ارض معذبة لا ينبغي لنبي ولا وصي نبي ان يصلي
فيها (26) .
1 ـ البقرة : 124.
2 ـ الانفال / 46.
3 ـ النساء / 59.
4 ـ الايات 30 ـ 42.
5 ـ الاية 24.
6 ـ الاية 124.
7 ـ الاية 73.
8 ـ الاية 26.
9 ـ الاية 30.
10 ـ الاية 26.
11 ـ الانفال /48 , النحل
/24 , العنكبوت /37.
12 ـ التوبة /37.
13 ـ الاية 13.
14 ـ الاية 157.
15 ـ الاية 42.
16 ـ الاية 231.
17 ـ الاية 1.
18 ـ الاية 63.
19 ـ الاية 48.
20 ـ الاية 24 .
21 ـ الاية 185.
22 ـ سجى ثوبه على وجهه :
غطاه , و استحث راحلته : استعجلها.
23 ـ الخبر في مادة
الحجر في معجم البلدان , و خبر غزوة تبوك في سيرة ابن هشام
24 ـ بابل في العراق بين الكوفة و بغداد, و جسر الصراة كان على نهر
الصراة بالقرب من بغداد.
25 ـ صفين : 135 .
26 ـ في البحار 41 : 168 , عن علل الشرائع : 124 , و بصائر الدرجات : 58.