فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: 16 ـ 30
(16)
على ما دريت صار هذا العلم منتقلا من الغابرين إلى المعاصرين ، فلله در المجتهدين من العلماء ، وجزاهم الله عن الاسلام والعلم خير الجزاء.
    هذا ما قصدنا ايراده على سبيل الاستعجال وطريق الاجمال مقدمة على الكتاب ، حسب ما أشار على بذلك من عنى بطبع هذا المجلد الأول وهو صديقي الممجد المبجل العالم العامل والفاضل الكامل حجة الاسلام الشيخ نصر الله المشتهر بالخلخالي بين الاعلام أدام الله بركاته وزاد ، تبارك وتعالى ، في حسناته.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا
طهران 20 ربيع الثاني 1368
محمود الشهابي الخراساني


(17)
الجزء الأول من كتاب
فوائد الأصول
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف بريته وعلى اله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
    وبعد ، فيقول العبد المذنب الراجي عفو ربه محمد على الكاظمي ابن المرحوم الشيخ حسن الكاظمي قدس سره : انى لما حضرت مجلس بحث المولى خاتمة المجتهدين فريد عصره وفقيه زمانه ، من إليه انتهت الرياسة العامة ، شيخنا و ملاذنا آية الله حضرة الميرزا محمد حسين الغروي النائيني متع الله المسلمين ببقائه ، رأيت أن بحثه الشريف ذو فوائد جليلة ، بحيث ينتفع منه المنتهى من أهل العلم فضلا عن المبتدي ، ويستفيد منه من كثر باعه فضلا عمن قصر ، فأحببت تزيين هذه الأوراق بما استفدته من إفاداته الشريفة حسبما يسعني ويؤدى إليه فهمي القاصر.
    فأقول : ومن الله استمد.
    القول في أصول الفقه
    وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى رسم مقدمة ، ومقاصد ، وخاتمة.
    اما المقدمة : ففي بيان نبذة من مباحث الألفاظ
    ولما كان داب أرباب العلوم عند الشروع في العلم ذكر موضوع العلم ، و تعريفه ، وغايته ، فنحن أيضا نقتفي أثرهم. وينبغي قبل ذلك بيان مرتبة علم


(18)
الأصول وموقعه ، إذ لعله بذلك يظهر تعريفه وغايته.
    فنقول : لا اشكال في أن العلوم ليست في عرض واحد ، بل بينها ترتب و طولية ، إذ رب علم يكون من المبادئ لعلم اخر ، ولأجل ذلك دون علم المنطق مقدمة لعلم الحكمة ، وكذلك كان علم النحو من مبادئ علم البيان ، ومن الواضح ان جل العلوم تكون من مبادئ علم الفقه ومن مقدماته حيث يتوقف الاستنباط على العلوم الأدبية : من الصرف ، والنحو ، واللغة ، وكذا يتوقف على علم الرجال ، وعلم الأصول ، ولكن مع ذلك ليست هذه العلوم في عرض واحد بالنسبة إلى الفقه ، بل منها ما يكون من قبيل المقدمات الاعدادية للاستنباط ، ومنها ما يكون من قبيل الجزء الأخير لعلة الاستنباط. وعلم الأصول هو الجزء الأخير لعلة الاستنباط بخلاف سائر العلوم ، فإنها من المقدمات ، حتى علم الرجال الذي هو أقرب العلوم للاستنباط ، ولكن مع هذا ليس في مرتبة علم الأصول بل علم الأصول متأخر عنه ، وعلم الرجال مقدمة له.
    والحاصل
    ان علم الأصول يقع كبرى لقياس الاستنباط وسائر العلوم تقع في صغرى القياس. مثلا استنباط الحكم الفرعي من خبر الواحد يتوقف على عدة أمور فإنه يتوقف على معرفة معاني الألفاظ التي تضمنها الخبر ، ويتوقف أيضا على معرفة أبنية الكلمات ومحلها من الاعراب ليتميز الفاعل عن المفعول والمبتدأ عن الخبر ، و يتوقف أيضا على معرفة سلسلة سند الخبر وتشخيص رواته وتمييز ثقتهم عن غيره ، و يتوقف أيضا على حجية الخبر ، ومن المعلوم : ان هذه الأمور مترتبة من حيث دخلها في الاستنباط حسب ترتبها في الذكر والمتكفل لاثبات الامر الأول هو علم اللغة ، ولاثبات الثاني هو علم النحو والصرف ، ولاثبات الثالث هو علم الرجال ، و لاثبات الرابع الذي به يتم الاستنباط هو علم الأصول ، فرتبة علم الأصول متأخرة عن جميع العلوم ، ويكون كبرى لقياس الاستنباط. فيقال : الشيء الفلاني مما قام على وجوبه خبر الثقة ، وكلما قام على وجوبه خبر الثقة يجب ، بعد البناء على حجية خبر الواحد الذي هو نتيجة البحث في مسألة حجية خبر الواحد ، فيستنتج من تأليف


(19)
القياس وجوب الشيء الفلاني.
    بما ذكرنا من مرتبه علم الأصول يظهر الضابطة الكلية لمعرفة مسائل علم الأصول ، وحاصل الضابط : ان كل مسألة كانت كبرى لقياس الاستنباط فهي من مسائل علم الأصول.
    وبذلك ينبغي تعريف علم الأصول ، بان يقال : ان علم الأصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعى كلي ، فان ما عرف به علم الأصول : من أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الخ ـ لا يخلو عن مناقشات عدم الاطراد وعدم الانعكاس ، كما لا يخفى على من راجع كتب القوم.
    وهذا بخلاف ما عرفنا به علم الأصول ، فإنه يسلم عن جميع المناقشات ، و يدخل فيه ما كان خارجا عن تعريف المشهور مع أنه ينبغي ان يكون داخلا ، و يخرج منه ما كان داخلا في تعريف المشهور مع أنه ينبغي ان يكون خارجا.
    ثم إن المايز بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية بعد اشتراكهما في أن كلا منهما يقع كبرى لقياس الاستنباط ، هو ان المستنتج من المسألة الأصولية لايكون الا حكما كليا ، بخلاف المستنتج من القاعدة الفقهية ، فإنه يكون حكما جزئيا وان صلحت في بعض الموارد لاستنتاج الحكم الكلي أيضا الا ان صلاحيتها لاستنتاج الحكم الجزئي هو المايز بينها وبين المسألة الأصولية ، حيث إنها لا تصلح الا لاستنتاج حكم كلي ، كما يأتي تفصيله في أوايل مباحث الاستصحاب (1) انشاء لله ، ويأتي هناك أيضا ان المسألة الأصولية قد تقع أيضا صغرى لقياس الاستنباط وتكون كبراه مسألة أخرى من مسائل علم الأصول ، الا انه مع وقوعها صغرى لقياس الاستنباط تقع في مورد اخر كبرى للقياس.
    وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم ، فإنها لا تقع كبرى لقياس الاستنباط أصلا فراجع. وعلى كل حال ، فقد ظهر لك مرتبة علم الأصول وتعريفه.
1 ـ الجزء الرابع من فوائد الأصول ، الامر الثاني

(20)
    واما غايته
    فهي غنية عن البيان ، إذ غايته هي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية عن مداركها.
    بقى الكلام في بيان موضوعه
    وقد اشتهر ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وقد أطالوا الكلام في البحث عن العوارض الذاتية والفارق بينها وبين العوارض الغريبة ، وربما كتب بعض في ذلك ما يقرب من الف بيت أو أكثر.
    وقد يفسر العرض الذاتي بما يعرض الشيء لذاته ، أي بلا واسطة في العروض وان كان هناك واسطة في الثبوت. والمراد من الواسطة في العروض ، هو ما كان العرض أولا وبالذات يعرض نفس الواسطة ويحمل عليها ، وثانيا وبالعرض يعرض لذي الواسطة ويحمل عليه ، كحركة الجالس في السفينة ، فان الحركة أولا وبالذات تعرض السفينة وتستند إليها ، وثانيا وبالعرض تعرض الجالس وتستند إليه وتحمل عليه ، من قبيل الوصف بحال المتعلق.
    وهذا بخلاف ما إذا لم يكن هناك واسطة في العروض ، سواء لم يكن هناك واسطة أصلا ـ كادراك الكليات بالنسبة إلى الانسان ، فان ادراك الكليات من لوازم ذات الانسان وهويته ، ويعرض على الانسان بلا توسيط شيء أصلا ، وليس ادراك الكليات فصلا للانسان ، بل الفصل هو الصورة النوعية التي يكون بها الانسان انسانا ، ومن لوازم ذلك ادراك الكليات ، الا انه لازم نفس الذات بلا واسطة ـ أو كان هناك واسطة الا انها لم تكن واسطة في العروض ، بل كانت واسطة في الثبوت ، سواء كانت تلك الواسطة منتزعة عن مقام الذات ، كالتعجب العارض للانسان بواسطة ادراكه الكليات الذي هو منتزع عن مقام الذات ، حيث كان ذات الانسان يقتضى الادراك كما عرفت ، أو كانت الواسطة أمرا خارجا عما يقتضيه الذات كالحرارة العارضة للماء بواسطة مجاورة النار.
    والسر في تفسير العرض الذاتي بذلك ، أي بان لايكون هناك واسطة في العروض ، مع أن هذا خلاف ما قيل في معنى العرض الذاتي : من أن العرض الذاتي


(21)
ما كان يقتضيه نفس الذات ، ومنتزعا عن مقام الهوية ، فمثل حرارة الماء من العرض الغريب لان عروض الحرارة على الماء يكون بواسطة امر خارج مباين ، بل ما كان يعرض الشيء بواسطة امر خارج مط ، سواء كان أعم أو أخص أو مباينا ، يكون من العرض الغريب اتفاقا ، وانما المختلف فيه ما كان يعرض الشيء بواسطة امر خارج مساوي ، كالضحك العارض للانسان بواسطة التعجب ، حيث ذهب بعض إلى أنه من العرض الذاتي ، وبعض اخر إلى أنه من العرض الغريب ، فالعبرة في العرض الذاتي عندهم هو كونه بحيث يقتضيه نفس الذات ، لاما لايكون له واسطة في العرض ، هو ان البحث في غالب مسائل العلوم ليس بحثا عن العوارض الذاتية لموضوع تلك المسألة على وجه يقتضيه ذات الموضوع ، بداهة ان خبر الواحد مثلا بهوية ذاته لا يقتضى الحجية ، إذ الحجية انما هي من فعل الشارع.
    فالبحث عن حجية خبر الواحد ليس بحثا عن العوارض الذاتية للخبر ، و كذا الكلام في سائر المسائل لعلم الأصول وغيره من العلوم ، كقولنا : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، فان الرفع والنصب ليسا مما يقتضيه نفس ذات الفاعل و المفعول بهويتهما ، بل لمكان لسان العرب ، حيث إنهم يرفعون الفاعل وينصبون المفعول ، فيلزم بناء على ما قيل في تفسير العرض الذاتي ان يكون البحث في غالب العلوم بحثا عن العوارض الغريبة لموضوع العلم ، فلا بد من توسعة العرض الذاتي ، حتى يكون البحث في مسائل العلوم بحثا عن العوارض الذاتية لموضوعاتها ، بان يق : ان العرض الذاتي هو ما كان يعرض نفس الذات بلا واسطة في العروض وان كان لأمر لا يقتضيه نفس الذات. وعلى هذا يكون البحث في جميع مسائل العلوم بحثا عن العوارض الذاتية ، بداهة ان الحجية عارضة لذات الخبر وان كان ذلك بواسطة الجعل الشرعي ، وكذلك الرفع والنصب يعرضان لذات الفاعل والمفعول ، و ان كان ذلك لأجل لسان العرب.
    فالضابط الكلي للعرض الذاتي ، هو ان لا يتوسط بينه وبين الموضوع امر يكون هو معروض العرض أولا وبالذات ، كما هو الشأن في الوسائط العروضية.
    إذا عرفت ذلك فالكلام في المقام يقع من جهات :


(22)
    الأولى : في نسبة موضوع كل علم إلى موضوع كل مسألة من مسائله.
    الثانية : في المايز بين العلوم بعضها من بعض.
    الثالثة : في موضوع علم الأصول.
اما الجهة الأولى
    فنسبة موضوع كل علم إلى موضوع كل مسألة من مسائله ، هو نسبة الكلي لافراده والطبيعي لمصاديقه ، بداهة ان الفاعل في قولنا كل فاعل مرفوع مصداق من مصاديق كلي الكلمة ، التي هي موضوع لعلم النحو.
    فان قلت :
    ان الرفع انما يعرض الفاعل ، وبتوسطه يعرض الكلمة ، وليس هو عارضا لذات الكلمة من حيث هي ، فيكون الرفع بالنسبة إلى الكلمة من العوارض الغريبة وان كان بالنسبة إلى الفاعل من العوارض الذاتية.
    وبعبارة أخرى :
    الموضوع للرفع هي الكلمة بشرط الفاعلية ، وموضوع علم النحو هو نفس الكلمة من حيث هي ، ومن المعلوم مغايرة الشيء بشرط شيء مع الشيء لا بشرط ، فيلزم اختلاف موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، ويلزم ان يكون المبحوث عنه في مسائل العلم من العوارض الغريبة لموضوع العلم. وهذا ينافي قولكم : موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وان موضوع العلم عين موضوعات المسائل. و هذا الاشكال سيأتي في جميع العلوم.
    قلت :
    الفاعلية علة لعروض الرفع على نفس الكلمة ، لا ان الرفع يعرض للفاعلية أولا وبالذات ، فالواسطة في المقام انما تكون واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض ، وقد تقدم ان الواسطة الثبوتية لا تنافى العرض الذاتي.
    والحاصل :
    ان ما يعرض الفاعل من الرفع يعرض الكلمة بعين عروضه الفاعل من دون


(23)
واسطة.
    وتوضيح ذلك
    هو ان الموضوع في علم النحو مثلا ليس هو الكلمة من حيث هي لا بشرط ، بل الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، كما أن الكلمة من حيث لحوق الصحة والاعتلال لها موضوع لعلم الصرف ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لان الموضوع في قولنا : كل فاعل مرفوع أيضا ، هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، بداهة ان البحث عن الفاعل ليس من حيث صدور الفعل عنه ، أو من حيث تقدم رتبته عن رتبة المفعول ، بل من حيث لحوق الاعراب له ، و المفروض ان الكلمة من هذه الحيثية أيضا تكون موضوعا لعلم النحو ، وكذا يق في مثل الصلاة واجبة ، حيث إن الموضوع في علم الفقه ليس هو فعل المكلف من حيث هو ، بل من حيث عروض الأحكام الشرعية عليه ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لان كلا من موضوع العلم مع موضوعات المسايل يكون ملحوظا بشرط شيء وهو قيد الحيثية.
    وربما يستشكل
    في اخذ قيد الحيثية ، بأنه يلزم اخذ عقد الحمل في عقد الوضع ، إذ الموضوع في قولنا : الكلمة اما معربة أو مبنية ليس هو مطلق الكلمة حسب الفرض ، بل الكملة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، فيلزم ان يكون قولنا : كل كلمة اما معربة أو مبنية ، بمنزلة قولنا : الكلمة المعربة أو المبنية ، اما معربة أو مبنية. وهذا كما ترى يلزم منه اخذ المحمول في الموضوع ، وهو ضروري البطلان ، لاستلزامه حمل الشيء على نفسه. هذا.
    ولكن لا يخفى عليك ضعف الاشكال ، بداهة ان المراد من قولنا : الكلمة من حيث البناء والاعراب موضوع لعلم النحو ، ليس الكلمة المتحيثة بحيثية الاعراب والبناء فعلا المتلونة بذلك حالا ، بل المراد الكلمة القابلة للحوق الاعراب والبناء لها ، والتي لها استعداد وقوة لحوق كل منهما لها ، فهذه الكلمة اما معربة فعلا ، واما مبنية فعلا.


(24)
    والحاصل :
    ان الكلمة من حيث ذاتها قابلة للحوق كل من الاعراب والبناء لها ، كما انها قابلة للحوق كل من الصحة والاعتلال والفصاحة والبلاغة لها ، فتارة : تلاحظ الكلمة من حيث قابليتها لقسم خاص من هذه العوارض ، كالاعراب والبناء ، فتجعل موضوعا لعلم النحو. وأخرى : تلاحظ من حيث قابليتها لقسم آخر من هذه العوارض ، كالصحة والاعتلال ، فتجعل موضوعا لعلم الصرف وهكذا.
    فتحصل :
    ان اعتبار قيد الحيثية بهذا المعنى يوجب ارتفاع اشكال تغاير موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، ويتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل اتحادا عينيا ، و يكون ما به يمتاز موضوع كل مسألة عن موضوع مسالة أخرى هو عين ما به يشتركان ، لان الموضوع في قولنا : كل فاعل مرفوع ، هو الكلمة القابلة للحوق الاعراب لها ، وتكون الفاعلية علة لعروض الرفع عليها ، كما أن الموضوع في قولنا : كل مفعول منصوب هو ذلك ، وتكون المفعولية علة لعروض النصب عليها ، فيحصل الاتحاد بين موضوعات المسائل وموضوع العلم.
    وبما ذكرنا من اعتبار قيد الحيثية في موضوع العلم يظهر لك البحث عن الجهة الثانية ، وهو المايز بين العلوم.
    وتوضيح ذلك :
    ان المشهور ذهبوا إلى أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وذهب بعض إلى أن تمايز العلوم بتمايز الاغراض والجهات التي دون لأجلها العلم ، كصيانة المقال عن الألحان في علم النحو ، والفكر عن الخطاء في علم المنطق ، واستنباط الأحكام الشرعية في علم الأصول.
    ووجه العدول عن مسلك المشهور : هو انه يلزم تداخل العلوم بعضها مع بعض لو كان المايز بينها هو الموضوع ، وهذا الاشكال انما يتوجه بناء على أن يكون ما يعرض الشيء لجنسه من العوارض الذاتية ، كالتحرك بالإرادة العارض للانسان


(25)
بواسطة كونه حيوانا ، أو العارض للجنس بواسطة الفصل ، كالتعجب العارض للحيوان بواسطة كونه ناطقا ، فان كلا من هذين القسمين وقع محل الكلام في كونه من العرض الذاتي ، حيث ذهب بعض إلى أن ما يعرض الشيء لجزئه الأعم أو الأخص يكون من العرض الغريب ، كما أن من العرض الغريب ما كان لأمر خارج أعم أو أخص أو مباين على مشرب المشهور ، فيلزم ان يكون البحث عن كل ما يلحق الكلمة ولو بواسطة فصولها بحثا عن عوارض الكملة ، فيتداخل علم النحو و الصرف واللغة ، لان البحث في الجميع يكون عن عوارض الكلمة التي هي موضوع في العلوم الثلاثة ، وان اختلفت جهة البحث ، حيث إن جهة البحث في النحو هي الاعراب والبناء ، وفي الصرف هي الصحة والاعتلال ، وفي اللغة هي المعاني و المفاهيم ، الا ان الجميع يكون من العوارض الذاتية لجنس الكلمة حسب الفرض ، و ان كان عروضها لها باعتبار ما لها من الفصول : من الفاعل والمفعول ، والثلاثي و المزيد فيه ، الا ان الجميع يعرض جنس الكلمة ، والمفروض ان عوارض الجنس عوارض ذاتية للكلمة ، فيلزم تداخل العلوم الثلاثة.
    ولأجل ورود هذا الاشكال زيد قيد الحيثية ، وقيل : ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات.
    وقد أشكل على زيادة الحيثية : بأنها مما لا تسمن ولا تغنى من جوع ، كما لا يخفى على المراجع في المطولات هذا.
    ولكن الانصاف
    انه يمكن حسم مادة الاشكال بما ذكرناه من معنى الحيثية التي اخذت قيدا في موضوع العلم ، فإنه هب ان هذه العوارض من العوارض الذاتية للكلمة ، الا ان المبحوث عنه في علم النحو ليس مطلق ما يعرض الكلمة من العوارض الذاتية لها ، بل من حيث خصوص قابليتها للحوق البناء والاعراب لها ، على وجه تكون هذه الحيثية هي مناط البحث في علم النحو ، فالحيثية في المقام حيثية تقييدية ، لا تعليلية ، ولا الحيثية التي تكون عنوانا للموضوع كالحيثية في قولنا : الماهية من حيث هي هي ليست الا هي. فإذا صار الموضوع في علم النحو هي الكلمة من حيث خصوص لحوق


(26)
البناء والاعراب لها ، والموضوع في علم الصرف هي الكلمة من حيث خصوص لحوق الصحة والاعتلال لها ، فيكون المايز بين علم النحو والصرف هو الموضوع المتحيث بالحيثية الكذائية.
    وبعد ذلك ، لا موجب لدعوى ان تمايز العلوم بتمايز الاغراض ، مع أن هناك مايز ذاتي في الرتبة السابقة على الغرض.
    وما يقال : من أن الموضوع في علم المعاني هو الكلمة القابلة للحوق البناء و الاعراب لها ، فيرتفع المايز بين علم النحو وعلم المعاني فضعفه ظاهر ، إذا لموضوع في علم المعاني ، ليس هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، بل هو الكلمة من حيث لحوق الفصاحة والبلاغة لها ، وان كان لحوق الفصاحة والبلاغة لها في حال لحوق البناء والاعراب لها ، الا ان كون الكملة في حال كذا موضوعا لعلم لايكون البحث في ذلك العلم عن ذلك الحال غير كون الكلمة موضوعا بقيد ذاك الحال فتأمل.
    وبما ذكرنا من قيد الحيثية يظهر :
    ان البحث في جل مباحث الأوامر والنواهي مما يرجع البحث عن مفاهيم الألفاظ ومداليل صيغ الأمر والنهي ، يكون بحثا عما يلحق موضوع علم الأصول و ليس من المعاني اللغوية ، إذ البحث في تلك المباحث انما يكون من حيثية استنباط الحكم الشرعي ، وان كان عنوان البحث أعم ، الا ان قيد الحيثية ملحوظ فتأمل.
    وإذا عرفت ما ذكرناه : من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات ، فلا يهمنا البحث عن أن عوارض الجنس من العوارض الذاتية أو العوارض الغريبة ، ونفصل القول في اقسام كل منها ، فليطلب من المطولات.
بقى في المقام البحث عن الجهة الثالثة
    وهي البحث عن موضوع خصوص علم الأصول.
    فقيل :
    ان موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بذواتها ، أو بوصف كونها أدلة.


(27)
    والاشكالات الواردة على اخذ الموضوع ذلك مما لا تخفى على المراجع. وكفى في الاشكال هو انه لو كان موضوع علم الأصول ذلك يلزم خروج أكثر مباحثه : من مسألة حجية خبر الواحد ، ومسألة التعادل والتراجيح ، ومسألة الاستصحاب ، و غير ذلك مما لا يرجع البحث فيها عما يعرض الأدلة الأربعة ، بل يلزم خروج جل من مباحث الألفاظ ، كالمباحث المتعلقة بمعاني الأمر والنهي ، ومثل مقدمة الواجب ، واجتماع الأمر والنهي ، حيث تكون من المبادئ التصورية أو التصديقية ، أو من مبادئ الاحكام التي زادها القوم في خصوص علم الأصول ، حيث أضافوا إلى المبادئ التصورية والتصديقية مبادئ أحكامية.
    وتوضيح ذلك :
    هو ان لكل علم مبادئ تصورية ، ومبادي تصديقية. والمراد من المبادئ التصورية هو ما يتوقف عليه تصور الموضوع واجزائه وجزئياته وتصور المحمول كذلك. والمراد من المبادئ التصديقية هو مما يتوقف عليه التصديق والاذعان بنسبة المحمول إلى الموضوع. فمسألة العلم تكون حينئذ ، هي عبارة عن المحمولات المنتسبة ، أو مجموع القضية ـ على الخلاف. والمراد من المبادئ الأحكامية هو ما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية : من التكليفية والوضعية بأقسامهما ، وكذا الأحوال والعوارض للأحكام : من كونها متضادة ، وكون الأحكام الوضعية متأصلة في الجعل ، أو منتزعة عن التكليف ، وغير ذلك من حالات الحكم. ووجه اختصاص المبادئ الأحكامية بعلم الأصول ، هو ان منه يستنتج الحكم الشرعي وواقع في طريق استنباطه.
    ثم إن البحث عن المبادئ بأقسامها ، وليس من مباحث العلم ، بل كان حقها ان تذكر في علم اخر ، مما كانت المبادئ من عوارض موضوعه ، الا انه جرت سيرة أرباب العلوم على ذكر مبادئ كل علم في نفس ذلك العلم ، لعدم تدوينها في علم آخر.
    وعلى كل تقدير يلزم بناء على أن يكون موضوع علم الأصول هو خصوص الأدلة الأربعة كون كثير من مباحثه اللفظية مندرجة في مبادئ العلم :


(28)
المبادئ الأحكامية ، أو المبادئ التصديقية ، أو التصورية ، على اختلاف الوجوه التي يمكن البحث عنها ، مضافا إلى لزوم خروج كثير من مهمات مسائله عنه ، كمسألة حجية خبر الواحد ، وتعارض الأدلة ، وغير ذلك.
    وما تكلف به الشيخ قده
    في باب حجية (1) خبر الواحد ، من ادراج تلك المسألة في مسائل علم الأصول على وجه يكون البحث فيها بحثا عن عوارض السنة بما لفظه : « فمرجع هذه المسألة إلى أن السنة أعني قول الحجة أو فعله أو تقريره هل يثبت بخبر الواحد ، أم لا يثبت الا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة ، ومن هنا يتضح دخولها في مسائل أصول الفقه ، الباحثة عن أحوال الأدلة الخ » .
    لا يخلو عن مناقشة
    فان البحث عن ثبوت الموضوع بمفاد كان التامة ، ليس بحثا عن عوارض الموضوع ، فان البحث عن العوارض يرجع إلى مفاد كان الناقصة ، أي البحث عن ثبوت شيء لشيء ، لا البحث عن ثبوت نفس الشيء.
    هذا ان أريد من السنة ، نفس قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره ، كما هو ظاهر العبارة. وان أريد من السنة ، ما يعم حكايتها ، بان يكون خبر الواحد قسما من اقسام السنة ، فهو واضح البطلان ، بداهة ان السنة ليست الا نفس قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره.
    وبالجملة : لا داعي إلى جعل موضوع علم الأصول ، خصوص الأدلة الأربعة ، حتى يلتزم الاستطراد ، أو يتكلف في الأدراج ، بل الأولى ان يق : ان موضوع علم الأصول ، هو كل ما كان عوارضه واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي ، أو ما ينتهى إليه العمل ان أريد من الحكم الحكم الواقعي ، وان أريد الأعم منه ومن الظاهري ، فلا يحتاج إلى قيد ( أو ما ينتهى إليه العمل ) لان المستفاد
1 ـ فرائد الأصول ـ مباحث الظن ـ بحث خبر الواحد ـ بعد قوله قدس سره : « اما المقدمة الأولى .. » ص.

(29)
من الأصول العملية أيضا هو الحكم الشرعي الظاهري ، اللهم الا ان يكون المراد من القيد ، بعض الأصول العقلية فتأمل جيدا.
    ولا يلزمنا معرفة الموضوع بحقيقته واسمه ، بل يكفي معرفة لوازمه وخواصه. فموضوع علم الأصول هو الكلي المتحد مع موضوعات مسائله ، التي يجمعها عنوان وقوع عوارضها كبرى لقياس الاستنباط ، وهذا المقدار من معرفة الموضوع يكفي و يخرج عن كون البحث عن امر مجهول.
    فظهر من جميع ما ذكرنا : رتبة علم الأصول ، وتعريفه ، وغايته ، وموضوعه. حيث كانت رتبته : هي الجزء الأخير من علة الاستنباط. وتعريفه : هو العلم بالكبريات التي لو انضم إليها صغرياتها يستنتج حكم فرعى. وغايته : الاستنباط. وموضوعه : ما كان عوارضه واقعة في طريق الاستنباط. وإذ فرغنا من ذلك فلنشرع في المقدمة التي هي في مباحث الألفاظ ، وفيها مباحث :
المبحث الأول في الوضع
    اعلم : انه قد نسب إلى بعض ، كون دلالة الألفاظ على معانيها بالطبع ، أي كانت هناك خصوصية في ذات اللفظ اقتضيت دلالته على معناه ، من دون ان يكون هناك وضع وتعهد من أحد ، وقد استبشع هذا القول ، وأنكروا على صاحبه أشد الانكار ، لشهادة الوجدان على عدم انسباق المعنى من اللفظ عند الجاهل بالوضع ، فلا بد من أن يكون دلالته بالوضع.
    ثم أطالوا الكلام في معنى الوضع وتقسيمه إلى التعييني والتعيني ، مع ما أشكل على هذا التقسيم ، من أن الوضع عبارة عن الجعل والتعهد واحداث علقة بين اللفظ والمعنى ، ومن المعلوم ان في الوضع التعيني ليس تعهد وجعل علقة ، بل اختصاص اللفظ بالمعنى يحصل قهرا من كثرة الاستعمال ، بحيث صار على وجه ينسبق المعنى من اللفظ عند الاطلاق.
    وربما فسر الوضع بمعناه الاسم المصدري ، الذي هو عبارة عن نفس العلقة و الاختصاص الحاصل تارة : من التعهد وأخرى : من كثرة الاستعمال هذا.


(30)
    ولكن الذي ينبغي ان يق :
    ان دلالة الألفاظ وان لم تكن بالطبع ، الا انه لم تكن أيضا بالتعهد من شخص خاص على جعل اللفظ قالبا للمعنى ، إذ من المقطوع انه لم يكن هناك تعهد من شخص لذلك ولم ينعقد مجلس لوضع الألفاظ ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الألفاظ والمعاني على وجه لا يمكن إحاطة البشر بها ؟ بل لو ادعى استحالة ذلك لم تكن بكل البعيد بداهة عدم تناهى الألفاظ بمعانيها ، مع أنه لو سلم امكان ذلك ، فتبليغ ذلك التعهد وايصاله إلى عامة البشر دفعة محال عادة.
    ودعوى : ان التبليغ والايصال يكون تدريجا ، مما لا ينفع ، لان الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ يكون ضروريا للبشر ، على وجه يتوقف عليه حفظ نظامهم ، فيسئل عن كيفية تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهد إليهم ، بل يسئل عن الخلق الأول كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ ، مع أنه لم يكن بعد وضع وتعهد من أحد.
    وبالجملة : دعوى ان الوضع عبارة عن التعهد واحداث العلقة بين اللفظ والمعنى من شخص خاص مثل يعرب بن قحطان ، كما قيل ، مما يقطع بخلافها. فلا بد من انتهاء الوضع إليه تعالى ، الذي هو على كل شيء قدير ، وبه محيط ، ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه للأحكام على متعلقاتها وضعا تشريعيا ، و لا كوضعه الكائنات وضعا تكوينيا ، إذ ذلك أيضا مما يقطع بخلافه. بل المراد من كونه تعالى هو الواضع ان حكمته البالغة لما اقتضت تكلم البشر بابراز مقاصدهم بالألفاظ ، فلا بد من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شانه بوجه ، اما بوحي منه إلى نبي من أنبيائه ، أو بالهام منه إلى البشر ، أو بابداع ذلك في طباعهم ، بحيث صاروا يتكلمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسب فطرتهم ، حسب ما أودعه الله في طباعهم ، ومن المعلوم ان ايداع لفظ خاص لتأدية معنى مخصوص لم يكن باقتراح صرف وبلا موجب ، بل لابد من أن يكون هناك جهة اقتضت تأدية المعنى بلفظه المخصوص ، على وجه يخرج عن الترجيح بلا مرجح. ولا يلزم ان تكون تلك الجهة راجعة إلى ذات اللفظ ، حتى تكون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية ، كما ينسب
فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس