|
|||
(31)
ذلك إلى سليمان بن عباد ، بل لابد وأن يكون هنا جهة ما اقتضت تأدية معنى الانسان بلفظ الانسان ، ومعنى الحيوان بلفظ الحيوان.
وعلى كل حال : فدعوى ان مثل يعرب بن قحطان أو غيره هو الواضع مما لا سبيل إليها ، لما عرفت من عدم امكان إحاطة البشر بذلك. ثم انه قد اشتهر تقسيم الوضع : إلى الوضع العام والموضوع له العام ، والى الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، والى الوضع العام والموضوع له الخاص. وربما زاد بعض على ذلك الوضع الخاص والموضوع له العام ، ولكن الظاهر أنه يستحيل ذلك ، بداهة ان الخاص بما هو خاص لا يصلح ان يكون مرآة للعام. ومن هنا قيل : ان الجزئي لايكون كاسبا ولا مكتسبا ، وهذا بخلاف العام ، فإنه يصلح ان يكون مرآة لملاحظة الافراد على سبيل الاجمال. نعم ربما يكون الخاص سببا لتصور العام وانتقال الذهن منه إليه ، الا انه يكون حينئذ الوضع عاما كالموضوع له ، فدعوى امكان الوضع الخاص والموضوع له العام ، مما لا سبيل إليها. وهذا بخلاف بقية الأقسام ، فان كلا منها بمكان من الامكان إذ يمكن ان يكون الملحوظ حال الوضع عاما قابل الانطباق على كثيرين ، أو يكون خاصا. ثم ما كان عاما ، يمكن ان يوضع اللفظ بإزاء نفس ذلك العام ، فيكون الموضوع له أيضا عاما على طبق الملحوظ حال الوضع ، كما أنه يمكن ان يوضع اللفظ بإزاء مصاديق ذلك العام وافراده المتصورة اجمالا بتصور ما يكون وجها لها وهو العام وتصور الشيء بوجهه بمكان من الامكان ، فيكون الموضوع له ح خاصا ، هذا. ولكن لا يخفى عليك ، ان هذا صرف امكان لا واقع له ، بداهة ان الوضع العام والموضوع له الخاص ، يتوقف تحققه على أن يكون هناك وضع وجعل من شخص خاص ، حتى يمكنه جعل اللفظ بإزاء الافراد ، وقد عرفت المنع عن تحقق الوضع بهذا الوجه ، وانه لم يكن هناك واضع مخصوص ، وتعهد من قبل أحد ، بل الواضع هو الله تعالى بالمعنى المتقدم. وح فالوضع العام والموضوع له الخاص بالنسبة إلى الألفاظ المتداولة التي وقع النزاع فيها مما لا واقع له. نعم يمكن ذلك بالنسبة إلى (32)
المعاني المستحدثة والأوضاع الجديدة.
ثم لا يذهب عليك ان الوضع العام والموضوع له الخاص يكون قسما من اقسام المشترك اللفظي ، بداهة ان الموضوع له في ذلك انما يكون هي الافراد ، ومن المعلوم تباين الافراد بعضها مع بعض ، فيكون اللفظ بالنسبة إلى الافراد من المشترك اللفظي ، غايته انه لم يحصل ذلك بتعدد الأوضاع ، بل بوضع واحد ، ولكن ينحل في الحقيقة إلى أوضاع متعددة حسب تعدد الافراد. وبالجملة : لافرق بين الوضع العام والموضوع له الخاص ، وبين قوله : كلما يولد لي في هذه الليلة فقد سميته عليا ، فكما ان قوله ذلك يكون من المشترك اللفظي ، إذ مرجع ذلك إلى أنه قد جمع ما يولد له في الليلة في التعبير ، وسماهم بعلي ، فيكون من المشترك اللفظي ، إذ لا جامع بين نفس المسميات ، لتباين ما يولد له في هذه الليلة ، فكذلك الوضع العام والموضوع له الخاص. بل يمكن ان يق : ان قوله كلما يولد لي في هذه الخ يكون من الوضع العام و الموضوع له الخاص أيضا ، غايته ان الجامع المتصور حين الوضع ، تارة يكون ذاتيا للأفراد كما إذا تصور الانسان وجعل اللفظ بإزاء الافراد ، وأخرى يكون عرضيا جعليا ، كتصور مفهوم ما يولد فتأمل جيدا ، هذا. ولكن يظهر (1) من الشيخ قده ـ على ما في التقرير ـ في باب الصحيح و الأعم عند تصور الجامع بناء على الصحيح ، الفرق بين الوضع العام والموضوع له 1 ـ واليك نص ما افاده صاحب التقريرات : « ان المتشرعة توسعوا في تسميتهم إياها صلاة ، فصارت حقيقة عندهم لا عند الشارع من حيث حصول ما هو المقصود من المركب التام من غيره أيضا. كما سموا كلما هو مسكر خمرا وان لم يكن مأخوذا من العنب مع أن الخمر هو المأخوذ منه وليس بذلك البعيد ، ونظير ذلك لفظ الاجماع .. إلى أن قال : « فكان مناط التسمية بالصلاة موجود عندهم في غير ذلك المركب الجامع ، فالوضع فيها نظير الوضع العام والموضوع له الخاص ، دون الاشتراك اللفظي » . مطارح الأنظار ـ ص 5 ـ في تصوير الجامع بناء على القول بوضع الألفاظ للصحيح. (33)
الخاص وبين المشترك اللفظي هذا. ولكن يمكن ان يكون مراده من المشترك اللفظي في ذلك المقام ، هو ما تعدد فيه الوضع حقيقة ، لا ما كان التعدد بالانحلال ، كما في الوضع العام والموضوع له الخاص.
وعلى كل حال ، لا اشكال في ثبوت الوضع العام والموضوع له العام كوضع أسماء الأجناس ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الاعلام. واما الوضع العام والموضوع له الخاص ، فقيل : انه وضع الحروف وما يلحق بها ، وقيل : ان الموضوع له فيها أيضا عام ، كالوضع. وربما قيل : ان كلا من الوضع والموضوع له فيها عام ، ولكن المستعمل فيه خاص. وينبغي بسط الكلام في ذلك ، حيث جرت سيرة الاعلام على التعرض لذلك في هذا المقام. فنقول : البحث في الحروف يقع في مقامين : المقام الأول : في بيان معاني الحروف والمايز بينها وبين الأسماء. المقام الثاني : في بيان الموضوع له في الحروف ، من حيث العموم و الخصوص. اما البحث عن المقام الأول
فقد حكى في المسألة أقوال ثلاثة.
القول الأول هو انه لا مايز بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى في هوية ذاته وحقيقته ، لا في الوضع ولا في الموضوع له ، بل المعنى الحرفي هو المعنى الأسمى ، وكل من معنى لفظة ( من ) ولفظة ( الابتداء ) متحد بالهوية ، وان الاستقلالية بالمفهومية المأخوذة في الأسماء ، وعدم الاستقلالية المأخوذة في الحروف ، ليس من مقومات المعنى الأسمى والمعنى الحرفي. فمرجع هذا القول في الحقيقة إلى أن كلا من لفظ ( من ) ولفظ ( الابتداء ) موضوع للمعنى الجامع بين ما يستقل بالمفهومية ، وما لا يستقل ، فكان كل منهما في حد نفسه يجوز استعماله في مقام الاخر ، الا ان الواضع لم يجوز ذلك ، ووضع لفظة ( من ) لان تستعمل فيما لا يستقل بان يكون قائما بغيره ، ولفظة ( الابتداء ) لان تستعمل فيما يستقل وما يكون قائما بذاته ، فكأنه شرط من قبل الواضع ، مأخوذ في (34)
ناحية الاستعمال من دون ان يكون مأخوذا في حقيقة المعنى.
القول الثاني هو انه ليس للحروف معنى أصلا ، بل هي نظير علامات الاعراب من الرفع والنصب والجر ، حيث إن الأول علامة للفاعلية ، والثاني علامة للمفعولية ، و الثالث علامة للمضاف إليه ، من دون ان يكون لنفس الرفع والنصب والجر معنى أصلا ، فكذلك الحروف ، حيث وضعت لمجرد العلامة لما أريد من مدخولها حسب تعدد ما يراد من الدخول ، مثلا الدار تارة : تلاحظ بما لها من الوجود العيني ، التي هي موجودة كسائر الموجودات التكوينية ، وأخرى : تلاحظ بما لها من الوجود الأيني الذي هو عبارة عن المكان الذي يستقر فيه الشيء ، وكذلك البصرة مثلا تارة : تلاحظ بما لها من الوجود العيني ، وأخرى : تلاحظ بما لها من الوجود الأيني ، و ثالثة : تلاحظ بما انها مبدء السير ، ورابعة : تلاحظ بما انها ينتهى إليها السير. ومن المعلوم : انه في مقام التفهيم والتفهم لا بد من علامة ، بها يقتدر على تفهيم المخاطب ما أريد من الدار والبصرة من اللحاظات ، فوضع الاعراب علامة لملاحظة الدار بوجودها العيني ، فتقع ح مبتداء أو خبرا فيقال : الدار كذا ، أو زيد في الدار ، ووضعت كلمة ( من ) للعلامة على أن الدار أو البصرة لوحظت كونها مبدء السير ، و ( إلى ) علامة كونها ملحوظة منتهى السير ، وكلمة ( في ) علامة لكونها ملحوظة بوجودها الأيني المقابل لوجودها العيني ، فليس لكلمة ( من ) و ( إلى ) و ( في ) معنى أصلا ، بل حالها حال أداة الاعراب ، من كونها علامة صرفة لما يراد من مدخولاتها ، من دون ان يكون تحت قوالب ألفاظها معنى أصلا. وهذان القولان نسبا إلى الرضى ره لان اختلاف عبارته يوهم ذلك. القول الثالث هو ان للحروف معاني ممتازة بالهوية عن معاني الأسماء ، ويكون الاختلاف بين الحروف والاسم راجعا إلى الحقيقة ، بحيث تكون معاني الحروف مباينة لمعاني الأسماء تباينا كليا ، لا ان معانيها متحدة مع معاني الأسماء ، ولا انها علامات صرفة ليس لها معاني. وهذا القول هو الموافق للتحقيق الذي ينبغي البناء عليه. و (35)
توضيح ذلك يقضى رسم أمور :
الامر الأول : في شرح ما قيل في معنى الاسم : من أنه ما دل على معنى في نفسه أو قائم بنفسه ، والحرف ما دل على معنى في غيره أو قائم بغيره ، وقبل ذلك ينبغي الإشارة إلى ما يراد من المعنى والمفهوم. فنقول : المراد من المعنى والمفهوم هو المدرك العقلاني ، الذي يدركه العقل من الحقائق ، سواء كان لتلك الحقايق خارج يشار إليه ، أو لم يكن ، وذلك المدرك العقلاني يكون مجردا عن كل شيء وبسيطا غاية البساطة ، بحيث لايكون فيه شائبة التركيب ، إذ التركيب من المادة والصورة انما يكون من شأن الخارجيات ، واما المدركات العقلية فليس فيها تركيب ، بل لا تركيب في الأوعية السابقة على وعاء العقل من الواهمة والمتخيلة بل الحس المشترك أيضا ، إذ ليس في الحس المشترك الا صورة الشيء مجردا عن المادة ، ثم يرقى الشيء المجرد عن المادة إلى القوة الواهمة ، ثم يصعد إلى أن يبلغ صعوده إلى المدركة العقلانية ، فيكون الشيء في تلك المرتبة مجردا عن كل شيء حتى عن الصورة ، فالمفهوم عبارة عن ذلك المدرك العقلاني الذي لا وعاء له الا العقل ، ولا يمكن ان يكون ذلك الشيء في ذلك الوعاء مركبا من مادة و صورة ، بل هو بسيط كل البساطة. وما يقال : من أن الجنس والفصل عبارة عن الاجزاء العقلية ، فليس المراد ان المدركات العقلية مركبة من ذلك ، بل المراد ان العقل بالنظر الثانوي إلى الشيء يحكم : بأن كل مادي لابد وأن يكون له ما به الاشتراك الجنسي ، وما به الامتياز الفصلي ، والا فالمدرك العقلي لايكون فيه شائبة التركيب أصلا ، فمرادنا من المعنى والمفهوم في كل مقام ، هو ذلك المدرك العقلي. إذا عرفت ذلك فنقول : في شرح قولهم : ان الاسم ما دل على معنى في نفسه ، أو قائم بنفسه ، هو ان المعنى الأسمى مدرك من حيث نفسه ، وله تقرر في وعاء العقل ، من دون ان يتوقف ادراكه على ادراك امر اخر ، حيث إنه هو بنفسه معنى يقوم بنفسه في مرحلة التصور و (36)
الادراك ، وله نحو تقرر وثبوت ، سواء كان المعنى من مقولة الجواهر ، أو من مقولة الاعراض ، إذ الاعراض انما يتوقف وجودها على محل ، لا ان هويتها تتوقف على ذلك ، حتى الاعراض النسبية ، كالأبوة والبنوة ، فان تصور الاعراض النسبية وان كان يتوقف على تصور طرفيها ، الا انه مع ذلك لها معنى متحصل في حد نفسه عند العقل ، و له نحو تقرر وثبوت في وعاء التصور والادراك.
والحاصل : ان المراد من كون المعنى الأسمى قائما بنفسه ، هو ان للمعنى نحو تقرر و ثبوت في وعاء العقل ، سواء كان هناك لافظ ومستعمل ، أو لم يكن ، وسواء كان واضع ، أو لم يكن ، كمعاني الأسماء : من الأجناس والاعلام ، من الجواهر المركبة و المجردات والاعراض وكل موجود في عالم الامكان ، فإنه كما أن لكل منها نحو تقرر و ثبوت في الوعاء المناسب له من عالم المجردات وعالم الكون والفساد ، فكذلك لكل منها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل عند تصورها وادراكها ، من دون ان يكون لاستعمال ألفاظها دخل في ذلك ، بل معاني تلك الألفاظ بأنفسها ثابتة ومتقررة عند العقل في مقام التصور ، كما يشاهد ان للفظة الجدار مثلا معنى ثابتا عند العقل في مرحلة ادراكه وتصوره على نحو ثبوته العيني التكويني ، من دون ان يتوقف ادراكه على وضع ولفظ واستعمال ، كما لا توقف لوجوده العيني على ذلك ، فهذا معنى قولهم : ان الاسم ما دل على معنى قائم بنفسه ، إذ معنى كونه قائما بنفسه هو ثبوته النفسي ، وتقرره عند العقل. واما معنى قولهم : ان الحرف ما دل على معنى في غيره ، أو قائم بغيره ، فالمراد منه : هو ان المعنى الحرفي ليس له نحو تقرر وثبوت في حد نفسه ، بل معناه قائم بغيره ، لا بمعنى انه ليس له معنى ، كما توهمه من قال إنه ليس للحروف معنى بل هي علامات صرفه ، بل بمعنى ان معناه ليس قائما بنفسه وبهوية ذاته ، بل قائم بغيره ، نظير قيام العرض بمعروضه وان لم يكن من هذا القبيل ، الا انه لمجرد التنظير والتشبيه ، والا فللعرض معنى قائم بنفسه عند التصور ، وان كان وجوده الخارجي يحتاج إلى محل يقوم به. (37)
والحاصل : ان المعنى الحرفي يكون قوامه بغيره ، ونحو تقرره وثبوته بتقرر الغير وثبوته ، كالنسبة الابتدائية والظرفية القائمة بالبصرة والدار عند قولنا : سرت من البصرة وزيد في الدار. ولعل من توهم انه ليس للحروف معنى اشتبه من قولهم في تعريف الحرف : بأنه ما دل على معنى في غيره ، فتخيل ان مرادهم من ذلك هو انه ليس له معنى ، ولكن قد عرفت : انه ليس مرادهم ذلك ، بل مرادهم ان المعنى الحرفي ليس قائما بنفسه نظير قيام المعنى الأسمى بنفسه.
والفرق بين كونه علامة صرفة ، وبين كون معناه قائما بغيره ، هو انه بناء على العلامة يكون الحرف حاكيا عن معنى في الغير متقرر في وعائه ، كحكاية الرفع عن الفاعلية الثابتة لزيد في حد نفسه ، مع قطع النظر عن الاستعمال. وهذا بخلاف كون معناه قائما بغيره ، فإنه ليس فيه حكاية عن ذلك المعنى القائم بالغير ، بل هو موجد لمعنى في الغير ، على ما سيأتي توضيحه انشاء الله تعالى. الامر الثاني : لا اشكال في أن المعاني المرادة من الألفاظ على قسمين منها : ما تكون اخطارية ، ومنها : ما تكون ايجادية. اما الأولى : فكمعاني الأسماء حيث إن استعمال ألفاظها في معانيها يوجب اخطار معانيها في ذهن السامع واستحضارها لديه ، والسر في ذلك هو ما ذكرناه من أن المفاهيم الاسمية لها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل ، الذي هو وعاء الادراك ، فيكون استعمال ألفاظها موجبا لاخطار تلك المعاني في الذهن. واما الثانية : فكمعاني الحروف حيث إن استعمال ألفاظها موجب لايجاد معانيها من دون ان يكون لمعانيها نحو تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال ، بل توجد في موطن الاستعمال ، وذلك ككاف الخطاب وياء النداء ، وما شابه ذلك ، بداهة انه لولا قولك يا زيد وإياك ، لما كان هناك نداء ولا خطاب ، ولا يكاد يوجد معنى ياء النداء وكاف الخطاب الا بالاستعمال وقولك يا زيد وإياك ، فنداء زيد وخطاب عمرو انما يوجد ويتحقق بنفس القول ، فتكون ياء النداء وكاف الخطاب موجدة لمعنى لم يكن له سبق تحقق ، بل يوجد بنفس الاستعمال ، لوضوح انه (38)
لا يكاد توجد حقيقة المخاطبة والنداء بدون ذلك ، فواقعية هذا المعنى وهويته تتوقف على الاستعمال ، وبه يكون قوامه. وهذا بخلاف معنى زيد ، فان له نحو تقرر وثبوت في وعاء التصور مع قطع النظر عن الاستعمال ، ومن هنا صار استعماله موجبا لاخطار معناه ، بخلاف معنى ياء النداء وكاف الخطاب ، فإنه ليس له نحو تقرر و ثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال. نعم مفهوم النداء ومفهوم الخطاب له تقرر في وعاء العقل ، الا انه لم توضع لفظة يا وكاف الخطاب بإزائه بل الموضوع بإزاء ذلك المفهوم هو لفظة النداء ولفظة الخطاب ، لا لفظة يا وكاف الخطاب ، بل هما وضعتا لايجاد النداء والخطاب ، وهذا في الجملة مما لا اشكال فيه. انما الاشكال في أن جميع معاني الحروف تكون ايجادية أولا. ظاهر كلام المحقق (1) صاحب الحاشية : هو اختصاص ذلك ببعض الحروف ، وكان منشأ توهم الاختصاص ، هو تخيل ان مثل ( من ) و ( إلى ) و ( على ) و ( في ) وغير ذلك من الحروف تكون معانيها اخطارية ، حيث كان استعمالها موجبا لاخطار ما وقع في الخارج من نسبة الابتداء والانتهاء ، مثلا في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة تكون لفظة ( من ) و ( إلى ) حاكية عما وقع في
1 ـ هداية المسترشدين في شرح معالم الدين. الفائدة الثانية من الفوائد التي وضعها في تتمة مباحث الألفاظ. ص 22. واليك نص ما افاده قدس سره في هذا المقام : « الثانية : الغالب في أوضاع الألفاظ ان تكون بإزاء المعاني التي يستعمل اللفظ فيها ، كما هو الحال في معظم الألفاظ الدائرة في اللغات ، وحينئذ فقد يكون ذلك المعنى أمرا حاصلا في نفسه مع قطع النظر عن اللفظ الدال عليه ، فليس من شأن اللفظ الا احضار ذلك المعنى ببال السامع ، وقد يكون ذلك المعنى حاصلا بقصده من اللفظ من غير أن يحصل هناك معنى قبل أداء اللفظ ، فيكون اللفظ آلة لايجاد معناه وأداة لحصوله ويجرى كل من القسمين في المركبات والمفردات. » إلى أن قال : « والنوع الأول من المفردات معظم الألفاظ الموضوعة ، فإنها انما تقضى باحضار معانيها ببال السامع من غير أن تفيد اثبات تلك المعاني في الخارج فهي أعم من أن تكون ثابتة في الواقع أولا. والنوع الثاني منها كأسماء الإشارة والافعال الانشائية بالنسبة إلى وضعها النسبي ، وعدة من الحروف كحروف النداء والحروف المشبهة بالفعل و نحوها ، فان كلا من الإشارة والنسبة الخاصة والنداء والتأكيد حاصل من استعمال هذا ، واضرب ، ويا ، وان ، في معاينها .. » (39)
الخارج كحكاية لفظة زيد عن معناه هذا.
ولكن الذي يقتضيه التحقيق ان معاني الحروف كلها ايجادية وليس شيء منها اخطارية. وتوضيح ذلك يستدعى بسطا من الكلام في معنى النسبة وأقسامها. فنقول : ان النسبة عبارة عن العلقة والربط الحاصل من قيام إحدى المقولات التسع بموضوعاتها ، بيان ذلك هو انه لما كان وجود العرض ـ في نفسه و لنفسه ـ عين وجوده ـ لموضوعه وفي موضوعه ـ لاستحالة قيام العرض بذاته ، فلا بد ان تحدث هناك نسبة وإضافة بين العرض وموضوعه ، بداهة ان ذلك من لوازم قيام العرض بالموضوع ، وعينية وجوده لوجوده الذي يكون هو المصحح للحمل ، فإنه لولا قيام البياض بزيد واتحاد وجوده بوجوده لما كاد ان يصح الحمل ، فلا يقال : زيد ابيض ، الا بلحاظ العينية في الوجود ، إذ لولا لحاظ ذلك لكان البياض أمرا مباينا لزيد ، ولا ربط لأحدهما بالآخر ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ، إذ ملاك الحمل هو الاتحاد في الوجود في الحمل الشايع الصناعي ، فالإضافة الحاصلة من قيام العرض بموضوعه هي المصحح للحمل ، إذ بذلك القيام يحصل الاتحاد والعينية في الوجود ، بل الإضافة تحتاج إليها في كل حمل ، وان لم يكن من الحمل الشايع الصناعي ، كقولك : الانسان حيوان ناطق ، وزيد زيد ، غايته ان في مثل هذا الحمل لابد من تجريد الموضوع بنحو من التجريد حتى لايكون من حمل الشيء على نفسه ، الا ان التجريد يكون بضرب من الجعل والتنزيل ، إذ لا يمكن تجريد الشيء عن نفسه حقيقة ، بل لابد من اعتبار التجريد حتى يصح الحمل ، ويخرج عن كونه من حمل الشيء على نفسه. وهذا بخلاف التجريد في الحمل الشايع الصناعي ، فان التجريد فيه يكون حقيقيا ذاتيا ، لتغاير ذات زيد و حقيقته عن حقيقة الأبيض ، ولا ربط لأحدهما بالآخر لولا الاتحاد الخارجي. وعلى كل حال ، فلا اشكال في أنه عند قيام كل عرض من أي مقولة بمعروضه تحدث إضافة بينهما ، و تلك الإضافة هي المعبر عنها بالنسبة. ثم انه ، لما كان قيام العرض بموضوعه وعينية وجوده لوجوده فرع وجوده ، بداهة ان وجوده لنفسه كان عين وجوده لموضوعه ، ومن المعلوم : ان عينية الوجود لموضوعه متأخرة بالرتبة عن أصل وجوده ، كان أول نسبة تحدث هي النسبة (40)
الفاعلية التي هي واقعة في رتبة الصدور والوجود ، إذ الفاعل ما كان يوجد عنه الفعل على اختلاف الافعال الصادرة عنه ، فنسبة الفعل إلى الفاعل هي أول النسب ، ومن ذلك تحصل الافعال الثلاثة من الماضي والمضارع والامر ، على ما هي عليها من الاختلاف ، الا ان الجميع يشترك في كون النسبة فيه نسبة التحقق و الصدور ، وإيجاد المبدء ، فهذه أول نسبة تحدث بين العرض والموضوع ، ثم بعد ذلك تحدث نسبة المشتق ، لان المشتق انما يتولد من قيام العرض بالموضوع والاتحاد في الوجود الموجب للحمل ، فيقال : زيد ضارب ، ومن المعلوم : ان هذا الاتحاد لمكان صدور الضرب عنه ، فالنسبة الأولية الحادثة هي النسبة الفاعلية ، وفي الرتبة الثانية تحدث نسبة المشتق ، ثم بعد ذلك تصل النوبة إلى نسبة الملابسات من المفاعيل الخمسة ، من حيث إن وقوع الفعل من الفاعل لابد وأن يكون في زمان خاص ، و مكان مخصوص ، في حالة خاصة ، فالنسبة الحاصلة بين الفعل وملابساته انما هي بعد نسبة الفعل إلى الفاعل وقيامه به واتحاده معه المصحح للحمل ، فهذه النسب الثلاث هي التي تتكفلها هيئات تراكيب الكلام ، من قولك : ضرب زيد عمرا ، و زيد ضارب ، وغير ذلك.
ثم إن هناك أدوات اخر تفيد النسبة ، إذ لا يختص ما يفيد النسبة بهيئات التراكيب ، بل الحروف أيضا تفيد النسبة ك ( من ) و ( إلى ) و ( على ) و ( في ) وغير ذلك من الحروف الجارة ، فإنه ( من ) مثلا تفيد نسبة السير الصادر من السائر إلى المكان المسير عنه ، و ( إلى ) تفيد النسبة إلى المكان الذي يسير إليه ، فيقال : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فلولا كلمة ( من ) و ( إلى ) لما كاد يكون هناك نسبة بين السير و البصرة والكوفة. وكذا الكلام في كلمة ( في ) حيث إنها تفيد النسبة بين الظرف و المظروف ، فيقال : زيد في الدار ، وضرب زيد في الدار ، غايته انها تارة : تفيد نسبة قيام العرض بالموضوع ، فيكون الظرف مستقرا ، وأخرى : تفيد نسبة ملابسات الفعل ، فيكون الظرف لغوا ، فمثل زيد في الدار يكون من الظرف المستقر ، إذ معنى قولك : زيد في الدار ، هو ان زيدا موجود في الدار وكائن فيها ، وهذا معنى قول النحاة في تعريف الظرف المستقر بأنه ما قدر فيه : كائن ، ومستقر ، وحاصل ، وما شابه (41)
ذلك. وليس مرادهم ان هناك لفظا منويا في الكلام ومقدرا فيه ، بل الظرف المستقر هو بنفسه يفيد ذلك من دون ان يكون هناك تقدير في الكلام ، إذ معنى قولك : زيد في الدار ، هو وجود زيد في الدار ، وانه كائن فيها. وهذا بخلاف قولك : ضرب زيد في الدار ، فإنه يفيد نسبة الضرب الحاصل من زيد إلى الدار ، فالظرف اللغو ما أفاد نسبة المبدء إلى ملابسات الفعل بعد فرض تحقق المبدء وصدوره عن الفاعل. و هكذا الكلام في كلمة ( على ) حيث إنها تارة : تفيد نسبة قيام العرض ، وأخرى : تفيد نسبة الملابسات ، فيقال زيد على السطح ، وضرب زيد على السطح ، وكذا الكلام في كلمة ( من ) فإنها تارة يكون الظرف فيها مستقرا كقوله (ص) : حسين منى وانا من حسين ، وأخرى : يكون لغوا كقولك : سرت من البصرة ، حيث إنها تفيد نسبة السير إلى ملابسه من المكان المخصوص.
وحاصل الفرق بين الظرف اللغو والمستقر ، هو ان الظرف المستقر ما كان بنفسه محمولا كقولك : زيد في الدار ، والظرف اللغو يكون من متممات الحمل. فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان النسبة على اقسام ، والمتكفل لبيانها أمور : من هيئات التراكيب ، والحروف الجارة. وليكن هذا على ذكر منك لعله ينفعك في مبحث المشتق. إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من أن الهيئات والحروف المفيدة للنسبة أيضا تكون معانيها ايجادية لا اخطارية. فنقول : قد تقدم ان منشأ توهم ذلك هو تخيل ان هذه الحروف انما تكون حاكية عن النسبة الخارجية المتحققة من قيام إحدى المقولات بموضوعاتها ، ومن هنا تتصف بالصدق والكذب ، إذ لولا حكايتها عن النسبة الخارجية لما كانت تتصف بذلك ، بداهة ان الايجاديات لا تتصف بالصدق والكذب ، بل بالوجود والعدم ، وما يتصف بالصدق والكذب هي الحواكي ، حيث إنه ان طابق الحاكي للمحكي يكون الكلام صادقا ، والا فلا ، فكلمة ( من ) في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة تكون حاكية عن النسبة الخارجية الواقعة بين السير والبصرة ومخطرة لها في ذهن (42)
السامع.
هذا ولكن التحقيق : ان معاني الحروف كلها ايجادية حتى ما أفاد منها النسبة. وبيان ذلك : هو ان شأن أدوات النسبة ليس الا ايجاد الربط بين جزئي الكلام ، فان الألفاظ بما لها من المفاهيم متباينة بالهوية والذات ، لوضوح مباينة لفظ زيد بما له من المعنى للفظ القائم بما له من المعنى ، وكذا الفظ السير مباين للفظ الكوفة والبصرة بما لها من المعنى ، وأداة النسبة انما وضعت لايجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم ، على وجه يفيد المخاطب فائدة تامة يصح السكوت عليها ، فكلمة ( من ) و ( إلى ) انما جيئ بهما لايجاد الربط ، واحداث العلقة بين السير والبصرة والكوفة الواقعة في الكلام ، بحيث لولا ذلك لما كان بين هذه الألفاظ ربط وعلقة أصلا. ثم بعد ايجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم ، يلاحظ المجموع من حيث المجموع ، أي يلاحظ الكلام بما له من النسبة بين اجزائه ، فان كان له خارج يطابقه يكون الكلام صادقا ، أي كانت النسبة الخارجية على طبق النسبة الكلامية ، والا يكون الكلام كاذبا ، وذلك فيما إذا لم تطابق النسبة الكلامية للنسبة الخارجية ، وأين هذا من كون النسبة الكلامية حاكية عن النسبة الخارجية ؟ بل النسبة الكلامية انما توجد الربط بين اجزاء الكلام ، والمجموع المتحصل يكون اما مطابقا للخارج ، أو غير مطابق. وفرق واضح بين كون النسبة الكلامية حاكية عن النسبة الخارجية ومخطرة لها في ذهن السامع وبين ان تكون النسبة موجدة للربط بين اجزاء الكلام ، ويكون المجموع المتحصل من جزئي الكلام بما لهما من النسبة له خارج يطابقه أو لا يطابقه ، فظهر : ان الحروف النسبية أيضا تكون معانيها ايجادية لا اخطارية. الامر الثالث : قد ظهر مما ذكرنا وجه المختار من امتياز معاني الحروف بالهوية عن معاني الأسماء تمايزا كليا ، لما تقدم : من أن معاني الأسماء متقررة في وعاء العقل ، ثابتة (43)
بأنفسها ، مع قطع النظر عن الاستعمال ، بخلاف معاني الحروف ، فإنها معان ايجادية تتحقق في موطن الاستعمال ، من دون ان يكون لها سبق تحقق قبل الاستعمال ، نظير المعاني الانشائية التي يكون وجودها بعين انشائها ، كايجاد الملكية بقوله بعت ، حيث إنه لم يكن للملكية سبق تحقق مع قطع النظر عن الانشاء ، ومعاني الحروف تكون كذلك بحيث كان وجودها بنفس استعمالها ، وان كان بين الانشائيات و الايجاديات فرق على ما سيأتي بيانه ، فالحروف وضعت لايجاد معنى في الغير ، على وجه لايكون ذلك الغير واجدا للمعنى من دون استعمال الحرف ، كما لايكون زيد منادى من دون قولك يا زيد ، ويكون النسبة بين ما يوجده الحرف من المعنى وبين المعاني الاسمية المتقررة في وعاء العقل نسبة المصداق إلى المفهوم.
مثلا يكون النداء مفهوم متقرر عند العقل مدرك في وعاء التصور وهو من هذه الجهة يكون معنى اسميا ، وقد جعل لفظة النداء بإزائه ، واما الندا الحاصل من قولك يا زيد ، فهو انما يكون مصداقا لذلك المفهوم ، ويتوقف تحققه على التلفظ بقولك يا زيد ، بحيث لا يكاد يوجد مصداق النداء وصيرورة زيد منادى الا بقولك يا زيد ، فلفظة ( ياء النداء ) انما وضعت لايجاد مصداق النداء ، لا انها وضعت بإزاء مفهوم النداء ، كما يدعيه من يقول بعدم الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى ، وكذا الحال في سائر الحروف ، حيث إنها بأجمعها وضعت لايجاد المصاديق. مثلا لفظة ( الابتداء ) وضعت بإزاء المفهوم المتقرر عند العقل ، واما لفظة ( من ) فلم توضع بإزاء ذلك المفهوم ، بل وضعت لايجاد نسبة ابتدائية بين المتعلقين. وقول النحاة : من أن ( من ) وضعت للابتداء لا يخلو عن تسامح ، بل حق التعبير ان يق : ان لفظة ( من ) وضعت لايجاد النسبة الابتدائية ، وتلك النسبة الابتدائية التي توجدهما لفظة ( من ) لا يكاد يمكن ان يكون لها سبق تحقق في عالم التصور نعم يمكن تصورها بوجه ما ، أي بتوسط المفاهيم الاسمية ، كان يتصور الواضع النسبة الابتدائية الكذائية التي توجد بين السير والبصرة ، وهذه كلها مفاهيم اسمية قد توصل بها إلى معنى حرفي فوضع لفظة ( من ) بإزاء ذلك المعنى الحرفي المتصور بتلك المفاهيم. فتحصل : ان النسبة بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية ، هي النسبة بين (44)
المصداق والمفهوم ، وكم بين المفهوم والمصداق من الفرق ، بداهة تغاير المفهوم و المصداق بالهوية ، وبالاثر والخاصية ، إذ المفهوم لا موطن له الا العقل ، وموطن المصداق هو الخارج ، ولا يعقل اتحاد ما في العقل مع ما في الخارج الا بالتجريد و القاء الخصوصية ، ولا يمكن القاء الخصوصية في الحرف ، لان موطنه الاستعمال و هو قوامه ، فالتجريد والقاء الخصوصية يوجب خروجه عن كونه معنى حرفيا ، هذا بحسب الهوية. وكذا الحال في الآثار والخواص ، فان الرافع للعطش مثلا مصداق الماء ، لا مفهومه ، والمحرق هو مصداق النار ، لا مفهومها.
وحاصل الكلام : ان الحروف بأجمعها ، وما يلحق بها مما يتكفل معنى نسبيا رابطيا ، انما وضعت لايجاد مصاديق الربط والنسبة ، على ما بين النسب والروابط من الاختلاف من النسبة الابتدائية والانتهائية والظرفية وغير ذلك ، والأسماء وضعت بإزاء مفاهيم تلك الروابط ، فلا ترادف بين لفظة ( ياء ) النداء وبين لفظة ( النداء ) بما لهما من المعنى ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ، لان لفظة ( يا ) موجدة لمعنى في الغير ، ولفظة ( النداء ) حاكية عن معنى متقرر في وعائه. ولا يتوهم انه لو كانت نسبة المعنى الحرفي للمعنى الأسمى نسبة المصداق إلى المفهوم لكان اللازم صحة حمل أحدهما على الاخر ، كصحة حمل الانسان على زيد ، فلازمه صحة حمل ( النداء ) على ( ياء ). وذلك لان صحة الحمل في قولك زيد انسان انما هو لأجل حكاية زيد عن معنى متحد في الخارج مع الانسان ، وهذا بخلاف ( يا ) فإنها ليست حاكية عن معنى متحد مع ( النداء ) بل هي موجدة لمعنى في الغير. نعم ما يوجد بياء النداء يحمل عليه انه نداء من باب حمل الكلي على المصداق فتأمل في المقام جيدا. الامر الرابع : قد ظهر مما ذكرنا ان قوام المعنى الحرفي يكون بأمور أربعة : الأول : ان يكون المعنى ايجاديا ، لا اخطاريا. الثاني : ان يكون المعنى قائما بغيره لا بنفسه ، كالمعاني الموجدة في باب العقود (45)
والايقاعات ، على ما يأتي بيانه.
الثالث : ان لايكون لذلك المعنى الايجادي نحو تقرر وثبوت بعد ايجاده ، بل كان ايجاده في موطن الاستعمال ، ويكون الاستعمال مقوما له ، ويدور حدوثه و بقائه مدار الاستعمال. الرابع : ان يكون المعنى حين ايجاده مغفولا عنه غير ملتفت إليه ، وهذا لازم كون المعنى ايجاديا وكون موطنه الاستعمال ، بداهة انه لو كان المعنى الحرفي بما انه معنى حرفيا ملتفتا إليه قبل الاستعمال أو حين الاستعمال لما كان الاستعمال موطنه ، بل كان له موطن غير الاستعمال ، إذ لا يمكن الالتفات إلى شيء من دون ان يكون له نحو تقرر في موطن ، فحيث انه ليس للمعنى الحرفي موطن غير الاستعمال ، فلا بد من أن يكون غير ملتفت إليه ومغفولا عنه حين الاستعمال ، نظير الغفلة عن الألفاظ حين تأدية المعاني بها لفناء اللفظ في المعنى وكونه مرآة له ، ولا يمكن الالتفات إلى ما يكون فانيا في الشيء حين الالتفات إلى ذلك الشيء ، كما لا يمكن الالتفات إلى الظل حين الالتفات إلى ذي الظل والمرآة حين الالتفات إلى المرئي. وبالجملة : لما كان قوام المعنى الحرفي هو الاستعمال ، ولا موطن له سواه ، فلا بد من أن يكون المعنى غير ملتفت إليه ، بل يوجد مصداق النداء بنفس قولك يا زيد مثلا ، من دون ان يكون هذا المصداق ملتفتا إليه عند القول ، إذ قوامه بنفس القول ، فكيف يكون له سبق التفات. نعم ما يكون ملتفتا إليه هو تنبيه زيد واحضاره وما شابه ذلك ، وهذه كلها معاني اسمية ، والمعنى الحرفي هو ما يتحقق بقولك يا زيد ، ولا يمكن سبق الالتفات إلى ما لا وجود له الا بالقول كما لا يخفى. فهذه أركان أربعة بها يتقوم المعنى الحرفي ويمتاز عن المعنى الأسمى. وبذلك يظهر الفرق بين المعاني الايجادية في باب الحروف ، والمعاني الايجادية في باب المنشآت بالعقود والايقاعات. وتوضيح ذلك : هو ان للصيغ الانشائية كبعت وطالق جزء ماديا وجزء صوريا. اما |
|||
|